نشأت حقوق انسان
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
ژانرونه
39
خلال سبعينيات وثمانينيات نفس القرن أيضا، نالت الحملة المنادية بإلغاء التعذيب واعتدال العقاب دفعة محفزة عندما قدمت المجتمعات المثقفة في الولايات الإيطالية، والأقاليم السويسرية، وفرنسا، الجوائز لأفضل مقالات حول الإصلاح الجنائي. وجدت الحكومة الفرنسية نبرة النقد المتنامية مقلقة للغاية، حتى إنها أصدرت أوامرها إلى أكاديمية «شالون سير مارن» لوقف طبع نسخ من المقال الفائز لعام 1780 الذي كتبه جاك بيير بريسو دي مارفيل؛ فقد أطلقت بلاغة بريسو في النقد اللاذع إنذارات الخطر أكثر من أي مقترحة جديدة أخرى:
لا تزال تلك الحقوق المقدسة التي يكتسبها الإنسان من الطبيعة، والتي ينتهكها المجتمع كثيرا بجهازه القضائي، تتطلب الحد من العقوبات المشوهة، وتخفيف العقوبات التي لا بد من الاحتفاظ بها. لا يمكن تصور أن أمة لطيفة [رصينة]، تعيش في مناخ معتدل في ظل حكومة معتدلة، يمكنها أن تجمع ما بين الشخصية اللطيفة والعادات السلمية وبين وحشية أكلة لحوم البشر؛ إذ إن عقوباتنا القضائية لا تستنشق سوى دم وموت، وتنفث غضبا وقنوطا في قلب المتهم.
لم يرق للحكومة الفرنسية أن ترى نفسها في موضع مقارنة مع أكلة لحوم البشر، لكن بحلول ثمانينيات القرن الثامن عشر، غدت البربرية التي تشوب التعذيب القضائي والعقوبات القاسية هي شعار الإصلاح. في عام 1781، أطرى جوزيف ميشيل أنطوان سرفان - الذي كان له باع طويل في الإصلاح الجنائي - على إلغاء الملك لويس السادس عشر للتعذيب بغرض انتزاع الاعترافات من المدان، فقال في وصف التعذيب: «هذا التعذيب المشين الذي اغتصب لقرون عديدة هيكل العدالة نفسه وأحاله إلى مدرسة للمعاناة، حيث احترف الجلادون تمحيص الألم.» ومن وجهة نظره كان التعذيب القضائي: «كائنا خرافيا ... حيوانا خرافيا لا مأوى له إلا وسط الشعوب الهمجية البربرية.»
40
عندئذ تعهد بريسو - الذي تشجع بالمصلحين الآخرين بالرغم من حداثة سنه وقلة خبرته - بنشر العمل المكون من عشرة مجلدات: «المكتبة الفلسفية للمشرع، والسياسي، والقانوني» (1782-1785)، الذي كان لا مفر من طبعه في سويسرا وتهريبه إلى فرنسا، وكان هذا العمل يضم كتابات بريسو نفسه وكتابات أخرى حول الإصلاح، ومع أنه لم يكن سوى مجمع للأفكار، فقد ربط بريسو بوضوح بين التعذيب وحقوق الفرد: «هل يعد المرء صغيرا عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الحقوق المنتهكة للبشرية؟» وظهرت لفظة «البشرية» (على سبيل المثال في عبارة «مشهد البشرية التي تئن») مرارا وتكرارا في صفحاته. وفي عام 1788، أسس بريسو «جمعية أصدقاء السود»، أول جمعية فرنسية لإلغاء الرق. وهكذا باتت حملة الإصلاح الجنائي وثيقة الصلة بالدفاع العام عن حقوق الإنسان.
41
استخدم بريسو نفس الاستراتيجيات البلاغية التي كان يستخدمها المحامون الذين يحررون المذكرات في «القضايا الفرنسية الشهيرة» المختلفة في ثمانينيات القرن الثامن عشر؛ فهم لم يدافعوا عن موكليهم المتهمين زورا فحسب، بل أشاروا أيضا على نحو مطرد إلى النظام القانوني ككل. وعادة كان يستخدم محررو المذكرات أولئك ضمير المتكلم نيابة عن موكليهم بغرض صياغة قصص روائية أدبية تثير المشاعر وتعزز حججهم. وهذه الاستراتيجية البلاغية بلغت أوجها في مذكرتين كتبهما أحد مراسلي بريسو، وهو تشارلز مارجريت دوباتي - قاض من بوردو يعيش في باريس - الذي ترافع نيابة عن ثلاثة رجال حكم عليهم بالسحق على عجلة السحق بتهمة السرقة. المذكرة الأولى لدوباتي التي حررها في عام 1786 والتي بلغ عدد صفحاتها 251 صفحة، لم تندد فقط بكل هفوة في العملية القضائية، وإنما اشتملت أيضا على سرد مفصل لاجتماعه بالرجال الثلاثة في السجن. وفي المذكرة ينتقل دوباتي ببراعة فائقة من استخدام ضمير المتكلم في وصفه للمشهد إلى استخدام صيغة الغائب للسجناء: «عندئذ قال برادير [أحد المدانين]: وأنا تورم نصف جسدي طيلة ستة أشهر. وقال لاردويز [مدان آخر]: وأنا بفضل الله استطعت أن أقاوم [المرض الوبائي في السجن]؛ غير أن ضغط الأصفاد (وأنا [أي دوباتي] أؤمن جدا بما يمكن أن تفعله الأصفاد بعد ثلاثين شهرا!) جرح رجلي جرحا شديدا، حتى إن الغرغرينا بدأت تتملك منها، وكادوا يضطرون إلى بترها.» وينتهي المشهد بدوباتي باكيا، وبذا يحقق المحامي أقصى استفادة من مشاعر المشاركة الوجدانية مع السجناء.
42
عندئذ يحول دوباتي وجهة النظر مرة أخرى، لكنه هذه المرة يخاطب القضاة مباشرة: «يا قضاة شومو، يا قضاة التحقيقات، يا فقهاء القانون الجنائي، أتسمعون؟ ... إنها صرخة العقل، والحق، والعدل، والقانون.» وأخيرا يخاطب دوباتي الملك مباشرة كي يتدخل، فيترجاه أن ينصت إلى دماء الأبرياء، من كالاس إلى اللصوص الثلاثة المتهمين الذين يدافع عنهم: «تفضل من علو عرشك، تفضل وألق نظرة على كل الثغرات الدموية في تشريعاتك الجنائية، حيث قد فنينا، حيث يفنى أبرياء بهذه الثغرات مع كل يوم جديد!» وتنتهي المذكرة بصفحات عديدة يستجير فيها دوباتي بلويس السادس عشر كي يصلح القانون الجنائي بما يتفق مع العقل والإنسانية.
ناپیژندل شوی مخ