وفي استطاعتنا أيضا أن نستخدم في تحديد مقياس الزمان ساعات طبيعية أخرى، كالذرات الدوارة أو الأشعة الضوئية السائرة، بدلا من استخدام الحركة البادية للنجوم. ومن الأمور الواقعة أن مقاييس الزمان هذه جميعا تتطابق نتائجها، وهذا هو مصدر الأهمية العملية للتعريف الفلكي للتجانس؛ إذ إن هذا التعريف مماثل لذلك الذي تقدمه كل الساعات الطبيعية. وهكذا فإن الساعة الطبيعية تقوم، في قياس الزمان، بدور مشابه لذلك الذي يقوم به الجسم الصلب في قياس المكان.
ولننتقل الآن من مشكلة قياس الزمان إلى مشكلة أخرى تهم الرياضي؛ تلك هي مشكلة ترتيب الزمان. فمشكلة التعاقب الزمنى، أو السابق واللاحق، أو الترتيب الزمني، أهم حتى من مشكلة قياس الزمان؛ فكيف يمكننا أن نحدد إن كان حادث معين أسبق من حادث آخر؟ لو كانت لدينا ساعة، لكان التدفق المتجانس للزمان فيها منطويا على تحديد للترتيب الزمني، غير أن علاقة الترتيب الزمني ينبغي أن تكون خاضعة لتعريف مستقل عن قياس الزمان. فلا بد أن يكون الترتيب الزمني واحدا بالنسبة إلى مختلف مقاييس الزمان؛ وبالتالي ينبغي أن يكون من الممكن تعريف التعاقب الزمني بطريقة أخرى غير الإشارة إلى الأرقام المدونة على الساعات.
ولو استعرضنا الوسائل التي نحكم بها على الترتيب الزمني لوجدنا أنه يشترط فيها دائما معيار أساسي للتعاقب الزمني، فلا بد أن يسبق السبب النتيجة؛ وبالتالي فإننا إذا عرفنا أن حادثا معينا هو سبب حادث آخر، فلا بد أن يكون الأول أسبق من الثاني. مثال ذلك أنه إذا اكتشف شرطي في بقعة خفية ثروة من الذهب ملفوفة في ورقة جرائد، فإنه يعلم أن لف الثروة لم يتم قبل التاريخ المدون على الجريدة، ما دام طبع الجريدة هو السبب الذي أدى إلى ظهور نسختها هذه. وعلى ذلك فإن علاقة الترتيب الزمني يمكن أن ترد إلى علاقة سبب ونتيجة.
ولسنا بحاجة إلى أن ندرس علاقة السبب والنتيجة (أو العلة والمعلول) في هذا الموضع؛ لأننا سندرسها في فصل تال. وحسبنا أن نقول إن الارتباط السببي يعبر عن علاقة من نوع «إذا كان ... فإن ...»، وهي علاقة يمكن اختبارها عن طريق تكرار وقوع حوادث من نفس النوع. غير أن ما ينبغي علينا تفسيره هو كيفية التمييز بين السبب والنتيجة، فلن يعيننا على هذا التمييز أن نقول إن السبب هو أسبق الحادثين المرتبطين؛ إذ إننا نود تعريف الترتيب الزمني على أساس الترتيب السببي، فلا بد إذن أن يكون لدينا معيار مستقل لتمييز السبب من النتيجة.
إن دراسة أمثلة بسيطة للعلاقة السببية تبين لنا أن هناك عمليات طبيعية يتميز فيها السبب عن النتيجة تميزا واضحا. ومن هذا القبيل عمليات المزج وما شابهها من العمليات التي تنتقل من حالة منظمة إلى حالة غير منظمة. فعالم الفيزياء يتحدث عن عمليات لا يعكس ترتيبها
irreversible . فلتتخيل مثلا أن لديك «فيلما» مأخوذا بآلة تصوير سينمائية، وتريد أن تعرف في أي اتجاه تلفه، وفي إحدى صور الفيلم ترى فنجانا من القهوة باللبن، وإلى جانبه إبريق صغير فارغ، وفي صورة أخرى لا تبعد عن الأولى كثيرا، ترى نفس الفنجان مليئا بالقهوة «السادة» والإبريق الصغير إلى جانبه مليئا باللبن؛ عندئذ تعرف أن الصورة الثانية أخذت قبل الأولى، وتعرف الاتجاه الذي تلف فيه شريط «الفيلم»؛ ذلك لأن من الممكن مزج القهوة باللبن، ولكن ليس من الممكن فصلهما بعد مزجهما. أو لنفرض أن ملاحظا أنبأك بأن رأى الأنقاض المحترقة لبيت ما، بينما أنبأك ملاحظ آخر أنه رأى البيت سليما؛ فعندئذ تعلم أن الملاحظة الثانية كانت أسبق من الأولى؛ ذلك أن الاحتراق عملية لا تعكس، وفي استطاعتنا أن نستبعد احتمال كون البيت قد أعيد بناؤه بنفس الشكل الذي كان عليه؛ وذلك لأننا نعلم أن الفترة الزمنية الواقعة بين الملاحظتين لا تتجاوز بضعة أيام. ولعل من الأمثلة الواضحة للعلاقة بين عدم القابلية للانعكاس وبين الترتيب الزمني، سلسلة الصور التي نراها عندما يعرض فيلم سينمائي عرضا عكسيا؛ فالشكل الغريب للسجائر وهي تزداد طولا أثناء احتراقها، أو لقطع الخزف التي تنهض من الأرض إلى المائدة وتتجمع في أطباق وفناجين سليمة، هو دليل على أننا نحكم على الترتيب الزمني على أساس العمليات الفيزيائية غير القابلة للانعكاس (وسوف نقدم في الفصل العاشر اختبارا أدق لصفة عدم القابلية للانعكاس).
والواقع أن قيام علاقة السببية بإيجاد ترتيب متسلسل للحوادث الفيزيائية هو سمة من أهم سمات العالم الذي نعيش فيه، وعلينا ألا نعتقد أن وجود هذا الترتيب المتسلسل ضرورة منطقية؛ إذ إننا نستطيع تخيل عالم لا تؤدي فيه السببية إلى ترتيب متسق للسابق واللاحق. في مثل هذا العالم لن يكون الماضي والمستقبل منفصلين انفصالا قاطعا، وإنما يمكن أن يتلاقيا في حاضر واحد، ونستطيع أن نتقابل مع أنفسنا كما كنا منذ عدة سنوات ونتحدث معها. على أن من الوقائع التجريبية أن عالمنا ليس من هذا النوع، وإنما هو يقبل نظاما متسقا على أساس علاقة متسلسلة مبنية على ارتباط سببي، تسمى بالزمان. فالترتيب الزمني يعكس الترتيب السببي في الكون.
وهناك تعريف مقابل لتعريف التعاقب الزمني، هو تعريف التزامن (أو المعية)
simultaneity ؛ فنحن نسمي الحادثين متزامنين إذا لم يكن أحدهما سابقا أو لاحقا للآخر، وتؤدي مشكلة التزامن إلى نتائج غريبة عند المقارنة بين حوادث في أمكنة مختلفة، وهي مشكلة أصبحت مشهورة بفضل تحليل أينشتين لها.
فعندما نرغب في معرفة زمن حادث بعيد، نستخدم إشارة تنقل إلينا رسالة وقوع الحادث، ولكن لما كانت الإشارة تستغرق زمنا لكي تنتقل في مسارها، فإن لحظة وصول الإشارة إلى مكاننا ليست هي ذاتها وقت وقوع الحادث الذي نود التأكد منه. هذه الواقعة مألوفة عند استخدام الإشارات الصوتية، فعندما نسمع الرعد، تكون قد مرت عدة ثوان على وقوعه في سحابة بعيدة. أما الشعاع الضوئي الذي يحدثه وميض البرق فإن سرعته أكبر بكثير، بحيث إن لحظة ظهور البرق يمكن أن تعد، بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية، هي ذاتها لحظة حدوث البرق في السحاب. أما إذا بحثنا الأمر من وجهة نظر القياس الأكثر دقة، لكان التحديد الزمني لوميض البرق من نفس نوع التحديد الزمني لقصف الرعد، ولكان علينا أن نأخذ في اعتبارنا الوقت الذي يستغرقه الشعاع الضوئي لكي ينتقل من السحابة إلى أعيننا.
ناپیژندل شوی مخ