طبيعة الهندسة
مر العلم، منذ موت «كانت» في عام 1804م، بتطور كان تدريجيا في البداية، ثم ازداد معدله سرعة بالتدريج، وفي هذا التطور تخلى العلم عن كل الحقائق المطلقة والأفكار المسبقة؛ فقد اتضح أن تلك المبادئ التي كان «كانت» يعدها مبادئ ذات طبيعة غير تحليلية، ولا غناء عنها للعلم، إنما هي مبادئ لا تصح إلا بقدر محدود فحسب، وتبين أن القوانين الهامة للفيزياء الكلاسيكية لا تنطبق إلا على الظواهر التي تحدث في بيئتنا العادية. أما بالنسبة إلى الأبعاد الفلكية وما دون المجهرية، فقد كان لا بد من الاستعاضة عن هذه القوانين الكلاسيكية بقوانين للفيزياء الجديدة. وهذه الحقيقة وحدها تكفي لإثبات أنها قوانين تجريبية، وليست قوانين يفرضها علينا العقل ذاته. وسأوضح الآن انحلال المعرفة التركيبية القبلية هذا من خلال تتبع تطور الهندسة.
إن الأصل التاريخي للهندسة، الذي يرجع إلى أيام المصريين القدماء، إنما هو واحد من الأمثلة العديدة لكشوف عقلية نشأت عن حاجات مادية ؛ فقد كانت الفيضانات السنوية لنهر النيل، الذي يروي تربة مصر، تجلب المتاعب لملاك الأرض؛ إذ كانت حدود أراضيهم الزراعية تضيع معالمها كل عام، وكان لا بد من إقامتها من جديد بواسطة قياسات هندسية؛ ولذلك اضطر المصريون، نتيجة لظروف بلادهم الجغرافية والاجتماعية، إلى اختراع فن المساحة. وهكذا نشأت الهندسة بوصفها علما تجريبيا، كانت قوانينه نتائج لملاحظات. مثال ذلك أن المصريين عرفوا بالخبرة العملية أنهم لو صنعوا مثلثا تساوي أضلاعه ثلاث وأربع وخمس وحدات على التوالي، لكان ذلك مثلثا قائم الزاوية. أما البرهان الاستنباطي على هذه النتيجة فلم يكتشف إلا في وقت متأخر على يد فيثاغورس، الذي تفسر نظريته المشهورة كشوف المصريين على أساس أن مجموع مربعي 3 و4 يساوي مربع 5.
1
وتوضح نظرية فيثاغورس طبيعة الدور الذي أسهم به اليونانيون في الهندسة، وأعني به اكتشاف إمكان بناء الهندسة على نسق استنباطي، يكون من الممكن استخلاص كل نظرية فيه، بطريقة دقيقة، من مجموعة البديهيات (انظر الفصل الخامس). وسوف يظل بناء الهندسة في صورة نسق للبديهيات يرتبط إلى الأبد باسم إقليدس، وقد ظل عرضه المنظم منطقيا للهندسة، هو موضوع كل برنامج دراسي في الهندسة، واستمر حتى عهد قريب يدرس كما هو في مدارسنا.
ولقد بدت بديهيات نسق إقليدس طبيعية وواضحة إلى حد بدت معه حقيقتها أمرا لا يتطرق إليه الشك. وفي هذا الصدد كان نسق إقليدس مؤيدا لمفاهيم سابقة قبل أن تتخذ مبادئ الهندسة صورة نسق منظم؛ ذلك لأن الوضوح الذاتي الظاهر للمبادئ الهندسية أدى بأفلاطون، الذي عاش قبل جيل من عصر إقليدس، إلى القول بنظرية المثل. وقد أوضحنا في الفصل الثاني أنه كان يعتقد أن بديهيات الهندسة تتكشف لنا في فعل رؤية يبين لنا أن العلاقات الهندسية إنما هي خواص لموضوعات مثالية، وقد انتهى ذلك التطور الطويل الذي بدأ بأفلاطون، والذي لم يدخل على هذا الفهم تغييرا جوهريا، إلى نظرية «كانت» التي تتميز بأنها أدق، وإن كانت أقل شاعرية، والتي ترى أن البديهيات تركيبية قبلية. وكمان الرياضيون يشاركون في هذا الرأي بدرجات متفاوتة، ولكن اهتمامهم لم يكن ينصب على المناقشة الفلسفية للبديهيات، بقدر ما كان ينصب على تحليل العلاقات الرياضية التي تسري بينها؛ فقد حاولوا رد البديهيات إلى حد أدنى، عن طريق إيضاح أن بعضها يمكن استخلاصه من البعض الآخر.
ولقد كانت هناك بديهية واحدة، هي بديهية التوازي. لم تكن تروق لهم، وكانوا يحاولون استبعادها. وتنص هذه البديهية على أن من الممكن، من نقطة معينة، رسم مواز واحد، وواحد فقط، لمستقيم معين؛ أي إن هناك خطا مستقيما واحدا، وواحدا فقط، لا يتقاطع آخر الأمر مع خط معين، وإن ظل معه على نفس المسطح. ولسنا ندري لماذا لم ترق هذه البديهية للرياضيين، ولكن الذي نعلمه أن محاولات متعددة، ترجع في بدايتها إلى العصور القديمة، قد بذلت لتحويل هذه البديهية إلى نظرية؛ أي لاستخلاصها من بديهيات أخرى. وقد اعتقد الرياضيون مرارا أنهم اهتدوا إلى طريقة لاستخلاص القضية المتعلقة بالتوازي من بديهيات أخرى. ومع ذلك فقد كان يتضح فيما بعد، في كل الأحوال، أن براهينهم باطلة؛ إذ كان هؤلاء الرياضيون يقحمون دون وعي منهم مسلمة معينة لم تكن متضمنة في البديهيات الأخرى، ولكن كانت لها فعالية مساوية لبديهية التوازي. وإذن فقد كانت نتيجة هذا التطور هي أن هناك مسلمات مكافئة لهذه البديهية، غير أن الرياضي لم يكن له الحق في قبول هذه المسلمات أكثر مما له في قبول بديهية إقليدس. فمن الأمثلة المكافئة لبديهية التوازي، المبدأ القائل إن مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين، وكان إقليدس قد استخلص هذا المبدأ من بديهيته، ولكن اتضح أن مبدأ التوازي، بدوره، يمكن استخلاصه إذا ما اتخذ المبدأ المتعلق بمجموع زوايا المثلث بديهية. وهكذا فإن ما هو بديهية في نسق، يصبح نظرية في نسق آخر، والعكس بالعكس.
ولقد ظلت مشكلة التوازي تشغل الرياضيات طوال ما يزيد على ألفي عام قبل أن يتم التوصل إلى حل لها؛ فبعد حوالي عشرين عاما من وفاة «كانت»، اكتشف رياضي مجري شاب، هو جون بولياي
Bolyai (1802-1860م)، أن بديهية التوازي ليست عنصرا ضروريا في الهندسة، فشيد هندسة تخلى فيها عن بديهية التوازي، وأحل محلها مسلمة جديدة هي القائلة إن هناك أكثر من مواز واحد لمستقيم معين من نقطة معينة. وقد تم نفس الكشف في نفس الوقت تقريبا على يد الرياضي الروسي ن. إ. لوباتشفسكي
N. I. Lobachevski (179-1856م) والرياضي الألماني ك. ف. جاوس
ناپیژندل شوی مخ