وإن قيمة الاستنباط لترجع إلى كونه فارغا؛ ذلك لأن كون الاستنباط لا يضيف أي شيء إلى المقدمات، هو ذاته السبب الذي يتيح على الدوام تطبيقه دون خوف من أن يؤدي إلى الإخفاق. وبعبارة أدق، فليست النتيجة بأقل يقينا من المقدمة؛ فالوظيفة المنطقية للاستنباط هي نقل الحقيقة من القضايا المعطاة إلى قضايا أخرى، ولكنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك؛ فهو لا يستطيع أن يثبت الحقيقة التركيبية إلا إذا كنا نعرف من قبل حقيقة تركيبية أخرى.
ومن الملاحظ أن مقدمتي المثال السابق، وهما «كل إنسان فان» «وسقراط إنسان»، هما معا حقيقتان تجريبيتان؛ أي إنهما حقيقتان مستمدتان من الملاحظة؛ ومن ثم فإن النتيجة، وهي «سقراط فان»، هي بدورها حقيقة تجريبية، وليس فيها من اليقين أكثر مما في المقدمتين. ولقد ظل الفلاسفة دائما يحاولون الاهتداء إلى مقدمات من نوع أفضل، لا تتعرض لأي نوع من النقد، وكان ديكارت يعتقد أن لديه حقيقة لا يتطرق إليها الشك في مقدمته «أنا أفكر». وقد أوضحنا من قبل أن لفظ «أنا» في هذه المقدمة يمكن الشك فيه، وأن الاستدلال لا يأتينا بيقين مطلق. ومع ذلك فإن صاحب المذهب العقلي لا يستسلم، وإنما يظل يبحث عن مقدمات لا يتطرق إليها الشك.
على أن هناك بالفعل مقدمات من هذا النوع، هي تلك التي تقدمها لنا مبادئ المنطق؛ فالقول إن كل شيء في هوية مع ذاته، وإن كل جملة إما صادقة وإما كاذبة - أي «أن تكون أو لا تكون» بالمعنى المنطقي - هي مقدمات لا يتطرق إليها الشك، ولكن عيبها أنها بدورها فارغة؛ فهي لا تذكر شيئا عن العالم الفيزيائي، وإنما هي قواعد نستخدمها في وصف العالم الفيزيائي، دون أن تسهم بشيء في مضمون الوصف، فهي تتحكم في صورته وحدها؛ أي في لغة وصفنا؛ وإذن فمبادئ المنطق تحليلية (وقد سبق أن أشرنا إلى هذا اللفظ على أنه يعني «ما هو فارغ ويشرح ذاته بذاته»). وفي مقابل ذلك تكون القضايا التي تنبئنا بواقعة ، كمشاهدات عيوننا، قضايا تركيبية؛ أي قضايا تضيف شيئا إلى معرفتنا، غير أن كل القضايا التركيبية التي تقدمها لنا التجربة معرضة للشك، ولا يمكنها أن تأتينا بمعرفة ذات يقين مطلق.
وقد بذلت محاولة لإثبات اليقين المطلوب بناء على مقدمة تحليلية في البرهان الأنطولوجي المشهور على وجود الله، الذي وضعه «أنسلم، أسقف كنتربري» في القرن الحادي عشر. ويبدأ البرهان بتعريف الله على أنه كائن لا نهائي الكمال. ولما كان مثل هذا الكائن ينبغي أن تكون له كل الصفات الأساسية،
2
فلا بد أن تكون له أيضا صفة الوجود؛ ومن ذلك يستنتج أن الله موجود. والواقع أن المقدمة تحليلية؛ لأن كل تعريف تحليلي. ولما كانت القضية القائلة بوجود الله تركيبية، فإن الاستدلال يمثل خدعة تستخلص فيها نتيجة تركيبية من مقدمة تحليلية.
ومن السهل أن نتبين الطبيعة المغالطة لهذا الاستدلال من نتائجه الممتنعة؛ فإذا كان من حقنا أن نستدل على الوجود من تعريف، لكان في استطاعتنا إثبات وجود قط ذي ثلاثة ذيول، عن طريق تعريف مثل هذا الحيوان بأنه قط له ثلاثة ذيول ويتصف بالوجود. وتنحصر المغالطة، من وجهة النظر المنطقية، في الخلط بين الكليات والجزئيات؛ فمن التعريف لا يمكننا أن نستدل إلا على القضية الكلية القائلة: إنه إذا كان شيء ما قطا ذا ثلاثة ذيول فإنه موجود، وهي قضية صحيحة. أما القضية الجزئية القائلة إن هناك قطا ذا ثلاثة ذيول فلا يمكن أن تستخلص. وبالمثل لا يمكننا أن نستدل من تعرف أنسلم إلا على القضية القائلة إنه إذا كان شيء ما كائنا مطلق الكمال فإنه موجود، لا أن نستدل على أن مثل هذا الكائن موجود (وبهذه المناسبة فإن الخلط الذي وقع فيه أنسلم بين الكليات والجزئيات يشبه خلطا مماثلا وقعت فيه نظرية القياس الأرسططالية).
ولقد كان «إمانويل كانت
lmmanuel Kant » (1724-1804م) هو الذي أدرك أن اليقين ذا الطبيعة التركيبية لا يمكن أن يستمد من مقدمات تحليلية، وإنما يحتاج إلى مقدمات تركيبية لا سبيل إلى الشك في صحتها. ولما كان يؤمن بوجود أمثال هذه القضايا، فقد أسماها ب «القضايا التركيبية القبلية»
synthetic a priori . وكلمة «القبلية» تعني «غير مستمد من التجربة»، أو «مستمدا من العقل وذا صحة مطلقة». وتمثل فلسفة «كانت» محاولة كبرى لإثبات وجود حقائق تركيبية قبلية، وهي من الوجهة التاريخية تمثل آخر بناء هائل لفلسفة عقلية. ولقد تفوق «كانت» على أفلاطون وديكارت، اللذين سبقاه في نفس الاتجاه؛ لأنه تجنب أخطاءهما، فهو لا يلتزم بالقول بوجود المثل الأفلاطونية، كذلك فإنه لا يقدم إلينا خلسة مقدمة ذات ضرورة وهمية عن طريق ارتكاب خدعة كتلك التي ارتكبها ديكارت، وإنما هو يبدأ، مثل أفلاطون، بالمعرفة الرياضية، وإن لم يكن يفسر هذه المعرفة بوجود موضوعات ذات حقيقة أعلى، وإنما بتأويل بارع للمعرفة التجريبية، سنعرض له الآن.
ناپیژندل شوی مخ