وإذن، فلو أتاك فيلسوف ينبئك بأنه اهتدى إلى الحقيقة النهائية، فلا تثق به. وإن قال لك إنه يعرف الخير الأسمى، أو لديه ما يثبت أن الخير لا بد أن يصبح حقيقة واقعة، فلا تثق به أيضا، فهو إنما يردد أخطاء ظل أسلافه يرتكبونها طوال ألفي عام. ولقد حان الوقت لوضع حد لهذا النوع من الفلسفة. فلتطلب إلى الفيلسوف أن يكون متواضعا كالعالم، وعندئذ قد يحرز من النجاح ما أحرزه رجل العلم. ولكن لا تطلب إليه أن ينبئك بما ينبغي عليك عمله، بل أنصت جيدا إلى صوت إرادتك، وحاول أن توحد بين إرادتك وبين إرادة الآخرين. فليس في العالم من الغايات أو من المعاني أكثر مما تضعه أنت ذاتك فيه.
الفصل الثامن عشر
مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة
أود في هذا الفصل أن ألخص النتائج الفلسفية التي أسفر عنها تحليل العلم، وأن أقارنها بالمفاهيم التي نادت بها الفلسفة التأملية.
فقد كانت الفلسفة التأملية تسعى إلى اكتساب معرفة بالعموميات، أي بأهم المبادئ التي تحكم الكون. وأدى بها ذلك إلى تشييد مذاهب فلسفية تتضمن وصولا ينبغي أن نعدها اليوم محاولات ساذجة لتكوين فيزياء شاملة، أعني فيزياء تقوم فيها تشبيهات بسيطة بتجارب الحياة اليومية بمهمة التفسير العلمي. وقد حاولت هذه الفلسفة أن تقدم تفسيرا لمنهج المعرفة باستخدام تشبيهات مماثلة، وأجابت على الأسئلة الخاصة بنظرية المعرفة باستخدام لغة مجازية، لا باستخدام التحليل المنطقي. أما الفلسفة العلمية فإنها تترك للعالم مهمة تفسير الكون بأسرها، وتبني نظرية المعرفة عن طريق تحليل نتائج العلم، وتدرك عن وعي أن من المستحيل فهم فيزياء الكون أو فيزياء الذرة من خلال تصورات مستمدة من الحياة اليومية.
ولقد كانت الفلسفة التأملية تسعى إلى اليقين المطلق. فإن كان من المحال التنبؤ بالحوادث الفردية، فإن القوانين العامة المتحكمة في جميع الحوادث، على الأقل، تعد في نظرها قابلة للمعرفة، ومن الواجب استخلاص هذه القوانين بقوة العقل الخالص. فالعقل، وهو مشرع الكون، قد كشف للذهن البشري الطبيعة الكامنة للأشياء جميعا - ذلك رأي يكمن في أساس المذاهب التأملية بكل صورها. أما الفلسفة العلمية فهي ترفض أن تقبل أية معرفة بالعالم الفيزيائي على أنها تتصف باليقين المطلق. فليس من الممكن التعبير عن الحوادث الفردية، ولا عن القوانين التي تحكمها، بصورة مطلقة. بل إن المجال الوحيد الذي يمكن بلوغ اليقين فيه هو مبادئ المنطق والرياضة، غير أن هذه المبادئ، تحليلية وفارغة. فيقين أي مبدأ إذن لا ينفصل عن كونه فارغا، وليس ثمة معرفة تركيبية قبلية.
ولقد كانت الفلسفة التأملية تسعى إلى إقامة التوجيهات الأخلاقية بنفس الطريق التي تشيد بها معرفة مطلقة. فكانت تنظر إلى العقل على أنه هو الذي يسن القانون الأخلاقي مثلما يضع القانون المعرفي، ومن الواجب في نظرها كشف القواعد الأخلاقية بعملية تبصر، مشابه لذلك التبصر الذي يكشف القواعد النهائية للكون. أما الفلسفة العلمية فقد تخلت نهائيا عن خطة وضع قواعد أخلاقية. فهي تنظر إلى الغايات الأخلاقية على أنها نواتج لأفعال إرادية، لا للمعرفة، وكل ما يمكن أن تتناوله المعرفة هو العلاقات بين الغايات، أو بين الغايات والوسائل. أما القواعد الأخلاقية الأساسية فلا يمكن تبريرها من خلال المعرفة، وإنما السبب الوحيد للأخذ بها هو أن أناسا يريدون هذه القواعد ويريدون من الآخرين أن يتبعوها. فالإرادة لا يمكن استخلاصها من المعرفة، بل إن الإرادة البشرية هي التي تولد ذاتها وتحكم على ذاتها.
هذه هي الصورة الختامية المجملة للمقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة. أن الفيلسوف الجديد يتخلى عن الكثير جدا، ولكنه أيضا يكسب الكثير جدا. فما أعظم الفارق بين العلم المبني على أساس التجارب، وبين العلم المستمد من العقل وحده! وما أعظم الضمان الذي تمنحه لنا تنبؤات العالم، على الرغم من افتقارها إلى اليقين، بالقياس إلى تنبؤات الفيلسوف الذي كان يدعي أن لديه استبصارا مباشرا بالقوانين النهائية للكون! وكم يظهر بوضوح سمو الأخلاق التي لا تقيدها قواعد تمليها سلطة عليا مزعومة، عندما تطرأ ظروف اجتماعية جديدة لم تكن تدخل في حسبان المذاهب الأخلاقية القديمة!
ومع ذلك كله، فهناك فلاسفة يأبون أن يعترفوا للفلسفة العلمية بمكانة داخل الفلسفة، ويرون أن نتائجها ينبغي أن تكون منتمية إلى العلم بوصفها فصلا تمهيديا له، ويدعون أن هناك فلسفة مستقلة، لا شأن لها بالبحث العلمي، وتستطيع أن تصل إلى الحقيقة مباشرة. غير أن هذه الادعاءات تكشف، في رأيي، عن افتقار إلى القدرة على الحكم النقدي. فأولئك الذين لا يدركون أخطاء الفلسفة التقليدية لا يرغبون في التخلي عن مناهجها أو نتائجها، ويفضلون مواصلة السير في طريق تخلت عنه الفلسفة العلمية. وهم يحتفظون باسم الفلسفة لمحاولاتهم الباطلة في الوصول إلى معرفة تعلو على العلم، ويأبون الاعتراف بأن المنهج التحليلي الذي وضع على نمط البحث العلمي هو منهج فلسفي.
إن ما يلزم الفلسفة العلمية هو إعادة توجيه رغبات الفيلسوف وأهدافه. فما لم يعترف باستحالة بلوغ أهداف الفلسفة التأملية، فلن تفهم النتائج التي تحققها الفلسفة العلمية. إن لغة الصور هي الطريقة الطبيعية للتعبير عند الشاعر، أما الفيلسوف فينبغي عليه أن يتخلى عن استخدام الصور الإيحائية فيما يقدمه من تفسيرات؛ وذلك إذا شاء أن يفهم الفلسفة العلمية. وقد تبدو لنا الرغبة في بلوغ اليقين المطلق هدفا طموحا جديرا بالإعجاب، ولكن الفيلسوف العلمي ينبغي عليه أن يتجنب مغالطة النظر إلى العادات المألوفة على أنها مصادرات للعقل، ويجب أن يتعلم أن المعرفة الاحتمالية تكون أساسا يبلغ من المتانة حدا يكفي للإجابة عن جميع الأسئلة التي يكون من المعقول سؤالها. كذلك فإن الرغبة في إقامة التوجيهات الأخلاقية على أساس من المعرفة الأخلاقية تبدو رغبة مفهومة، ولكن على الفيلسوف العلمي أن يتخلى عن السعي إلى التوجيه الأخلاقي الذي ضلل الآخرين فجعلهم يتصورون الأخلاق نوعا من المعرفة التي تكتسب بتبصر يكشف لنا عالما أعلى. إن الحقيقة تأتي من الخارج؛ فملاحظة الموضوعات الفيزيائية تنبئنا بما يتصف بصفة الحقيقة. أما الأخلاق فتأتي من الداخل؛ فهي تعبر عما أريده، لا عما هو موجود بالفعل. هذه هي الوجهة الجديدة التي ينبغي أن تتخذهما الرغبات الفلسفية عند الفيلسوف العلمي. ولا بد أن يكتشف أولئك الذين يمكنهم التحكم في رغباتهم، أنهم يكسبون أكثر بكثير مما يخسرون.
ناپیژندل شوی مخ