كان العرض الذي قدمناه في الباب الثاني من هذا الكتاب متعلقا حتى الآن بمسائل المعرفة، وقد بينا بوجه خاص كيف استبعدت المبادئ التركيبية القبلية ميدان المعرفة. أما الفصل الحالي فسوف ينصب الاهتمام فيه على القيام بتحليل مماثل في ميدان الأخلاق؛ ذلك لأن فكرة المبادئ التركيبية القبلية لم تطبق على المعرفة فحسب، بل طبقت أيضا على الأخلاق، بل إن القول بوجود موازاة بين مجالي المعرفة والأخلاق كان أحد المصادر التي انبثقت منها فكرة التركيبية القبلية. وقد قدمنا في الفصل الرابع دراسة تاريخية للاتجاه الفكري الباطل الناشئ عن فكرة الموازاة هذه. أما في الفصل الحالي فإن المشكلة التي سنهتم بها هي مشكلة الاستعاضة عن الفهم المعرفي والقبلي للأخلاق بفهم يتمشى مع نتائج الفلسفة العلمية.
وهناك نتيجة نستطيع أن نستخلصها فورا من تحليل العلم الحديث - تلك هي أن الأخلاق لو كانت ضربا من المعرفة، لما كانت على نحو ما أرادها الفلاسفة الأخلاقيون أن تكون، أي لما كانت تقدم توجيهات أخلاقية. فالمعرفة تنقسم إلى قضايا تركيبية وقضايا تحليلية، والقضايا التركيبية تنبئنا عن الأمور الواقعة، أما القضايا التحليلية فهي فارغة. فأي نوع من المعرفة تكون الأخلاق؟ إنها لو كانت تركيبية، لكانت تنبئنا بمعلومات عن الأمور الواقعة. وإلى هذا النوع تنتمي بالفعل الأخلاق الوصفية التي تنبئنا عن العادات الأخلاقية لمختلف الشعوب والطبقات الاجتماعية، ومثل هذه الأخلاق تعد جزءا من علم الاجتماع، ولكن طبيعتها ليست معيارية. أما لو كانت الأخلاق معرفة تحليلية، لكانت فارغة، ولما استطاعت أيضا أن تدلنا على ما ينبغي عمله، مثال ذلك أننا لو عرفنا الرجل الفاضل بأنه رجل يختار دائما قاعدة سلوكه على نحو من شأنه أن يكون من الممكن اتخاذها مبدأ لتشريع عام، لعرفنا ما نعنيه بلفظ «الرجل الفاضل»، ولكننا لا نستطيع أن نثبت ضرورة سعينا إلى أن نكون أشخاصا فضلاء؛ فعندما تعرف عبارة رجل فاضل على هذا النحو، تكون مجرد اختصار للصيغة الكانتية المعقدة الخاصة بقاعدة السلوك. ومن الممكن الاستعاضة عنها بأي اسم آخر، أي بلفظ «الكانتي» مثلا، ولكن لم كان ينبغي أن نحاول أن نصبح كانتيين؟ إن القضايا الأخلاقية إذا كانت تحليلية، فإنها لن تكون توجيهات أخلاقية.
والواقع أن التحليل الحديث للمعرفة يجعل الأخلاق المعرفية مستحيلة؛ فالمعرفة لا تشتمل على أية أجزاء معيارية، وبالتالي لا تستطيع تفسير الأخلاق. ومن هنا فإن الموازاة بين الأخلاق والمعرفة تضر بالأخلاق؛ إذ إنه لو كان من الممكن المضي فيها، أعني لو كانت الفضيلة معرفة، لأدى ذلك إلى سلب القواعد الأخلاقية طابعها الآمر، وإذن فالبرنامج الذي يرجع إلى ألفي عام، والذي يرمي إلى إقامة الأخلاق على أساس معرفي، إنما هو نتيجة لسوء فهم للمعرفة، وللرأي الباطل القائل إن المعرفة تنطوي على جانب معياري. ولقد كان سوء تفسير الرياضة هو السبب الأول في هذا الخطأ، فقد رأينا أن الرياضة، منذ عهد أفلاطون حتى عهد «كانت»، كانت تعد نسقا من قوانين العقل يتحكم في العالم الفيزيائي، ولم يكن الأمر يحتاج إلا إلى خطوة بسيطة للانتقال من هذا الرأي القائل بمعرفة تركيبية قبلية، إلى القول بأن في استطاعة العقل أن يملي علينا توجيهات أخلاقية ذات صحة موضوعية، كتلك التي نسبت إلى قوانين الرياضيات. فإذا اتضح أن الرياضة ليست من هذا النوع، وأنها لا تقدم قوانين للعالم الفيزيائي، وإنما تقتصر على صياغة علاقات فارغة تسري على كل عالم ممكن، فعندئذ لا يعود هناك أي مجال لأخلاق معرفية. فالمعرفة لا تستطيع أن تمدنا بصورة الأخلاق لأنها لا تستطيع أن تقدم توجيهات.
ولقد أوضحت من قبل (في الفصل الرابع) أن مصدر التفسير المعرفي للأخلاق هو على الأرجح استخدام المنطق والمعرفة في استخلاص لوازم أخلاقية
moral implications
ومن قبيل هذه اللوازم التي تقبل برهانا معرفيا، إذا أردت هذا الهدف فلا بد لك أن تريد هذا وذاك أيضا. والمقصود بالبرهان المعرفي ذلك الذي يستخدم قوانين المنطق مقترنة بقوانين الفيزياء أو علم الاجتماع أو العلوم الأخرى، فإذا أردت مثلا أن تحصد فعليك أن تبذر، هذا اللزوم يبرهن عليه بمساعدة قوانين علم النبات. وهناك عدد كبير من الخلافات الأخلاقيات يتعلق بأمثال هذه اللوازم، وقد يكون هذا هو سبب الفكرة الباطلة القائلة إن جميع الاعتبارات الأخلاقية من النوع المعرفي. وتبدو المسألة في هذه الحالة كما لو كان من الممكن في أثناء مناقشة أخلاقية، أن نزيد بصيرتنا الأخلاقية حدة وعمقا، بنفس الطريقة التي يعتقد بها أفلاطون و«كانت» أننا نزيد بها استبصارنا بطبيعة المكان، وأن من الممكن وجود صور مختلفة للمكان، وأن البرهان الهندسي لا يزيد على كونه استخلاصا لقضايا من نوع «إذا كان ... فإن ...» أو علاقات بين البديهيات والنظريات. فليس ثمة ضرورة هندسية، بل هناك فقط ضرورة منطقية تتعلق بالنتائج التي تلزم من مجموعة معينة من البديهيات، وليس في استطاعة الرياضي أن يثبت أن البديهيات صحيحة.
ولو كان «اسبينوزا» قد تكهن بهذه النتيجة التي توصلت إليها فلسفة الرياضة الحديثة، لما حاول أن يشيد أخلاقه على نمط الهندسة. ولقد كان حريا بأن يجزع للفكرة القائلة بإمكان تشييد أخلاق غير اسبينوزية تتصف بنفس الأحكام الذي يتصف به مذهبه، وأنه إذا كانت بديهياته لها طبيعة البديهيات الهندسية، فإنها مما لا يمكن البرهنة عليه. ولم يكن مما يفيده أن يحولها إلى نتائج للتجربة، كبديهيات الهندسة؛ إذ لم يكن ما يريده هو الحقيقة التجريبية، وإنما أراد أن يضع بديهيات أخلاقية لا يتطرق إليها الشك، أي أنه أراد بديهيات ضرورية.
ولكن إذا أردنا أن يكون معنى لفظ «الضروري» مشابها على أي نحو لمعنى الضرورة المنطقية، فلا يمكن أن تكون هناك عندئذ ضرورة أخلاقية، فعندما نشعر أن بصيرتنا قد ازدادت حدة وعمقا خلال مناقشة أخلاقية، فمن الواجب ألا تعد هذه النتيجة دليلا على وجود بصيرة أخلاقية؛ فالأمر الذي ندركه على نحو أفضل بعد تحليل للمشكلات الأخلاقية، هو العلاقة بين الغايات والوسائل؛ إذ نكتشف أننا إذا أردنا تحقيق أهداف أساسية معينة، فلا بد أن نكون على استعداد للسعي وراء أهداف أخرى معينة تخضع للأولى بنفس المعنى الذي تخضع به الوسيلة لغاية. ومثل هذا الإيضاح له طبيعة منطقية، فهو يبين أنه، نظرا إلى قوانين فيزيائية ونفسية معينة، فإن الغاية تقتضي الوسيلة منطقيا. وليست هذه الحجة مجرد حجة موازية للبرهان المنطقي - بل إنها هي ذاتها. برهان منطقي. فالفلاسفة الذين يتحدثون عن بصيرة أخلاقية يخلطون بين الوضوح المنطقي لعلاقة اللزوم بين الغايات والوسائل، وبين الوضوح الذاتي المزعوم للبديهيات.
ومع ذلك، فعندما يتعين اتخاذ قرارات، لا تكون علاقة اللزوم بين الغايات والوسائل كافية لتحديد اختيارنا، وإنما ينبغي أولا أن نقرر اتخاذ غاية معينة. مثال ذلك أننا قد نتمكن من إثبات علاقة اللزوم الآتية: لو كانت السرقة مباحة، لما كان هناك مجتمع بشري مزدهر. فلكي نستخلص النتيجة القائلة إن السرقة ينبغي أن تمنع، فيجب أولا أن نقرر أننا نريد مجتمعا بشريا مزدهرا. ولهذا السبب كان علم الأخلاق في حاجة إلى مقدمات أو بديهيات ذات طبيعة أخلاقية. وتحدد الأهداف الأولية، على حين أن الوسائل تمثل الأهداف الثانوية. وعندما نسمي هذه بديهيات، فإننا ننظر إلى علم الأخلاق على أنه نسق منظم يمكن استخلاصه من هذه البديهيات، على حين أن البديهيات ليست مستخلصة في النسق. أما عندما نقصر البحث على حجة محددة، فإننا نستخدم لفظا أكثر تواضعا، هو «المقدمة». ولا بد أن تكون هناك قاعدة أخلاقية واحدة لا تستخلص من هذه الحجة. وقد تكون هذه المقدمة نتيجة لحجة أخرى، ولكننا حين نواصل السير في هذا الطريق، نظل في كل خطوة مرتبطين بمجموعة محددة من المقدمات الأخلاقية. فإذا نجحنا في ترتيب مجموع القواعد الأخلاقية في نسق سترابط. لوصلنا على هذا النحو إلى بديهيات علم الأخلاق الذي نضعه. ونستطيع أن نلخص هذا التحليل في الفكرة الآتية؛ إن الضرورة المنطقية لا تتحكم إلا في علاقات اللزوم بين البديهيات الأخلاقية وبين القواعد الأخلاقية الثانوية، ولكنها لا تستطيع أن تثبت صحة البديهيات الأخلاقية.
ولكن إذا لم تكن بديهيات الأخلاق حقائق ضرورية أو واضحة بذاتها فماذا تكون إذن؟
ناپیژندل شوی مخ