قلب فقير، وحكاية فقيرة! نعم للفقيرات قلوب - كما لذوات القصور - تهيم وتشتاق، وتتفجع وتلتاع، وتحن وتئن ... كذلك لهن حكايات تبكي الأصلاد لو كان لها شعور، ولكنها حكايات مهملة منسية. ولعل الفقيرات من هذه الوجهة أقل شقاء من ذوات الحياة المبتورة اللائي يتسلى بهن الناس في سهراتهم، فيسردون وقائعهن ويضربون بهن الأمثال، وبعد أن يشبعوهن صفعا وجلدا وصلبا، يعودون فيجودون عليهن بشيء من فضلات الشفقة، كما يفعل الصبية الأشرار بأعمى مسكين إذ ينهالون عليه ثم يطرحون على أقدامه شظايا عكازه المحطمة ...
هيفاء أمية لا تعرف سبك الألفاظ ولا تجسيم المصيبة؛ لأنها لم تدخل إلى ساحة الحياة عن طريق الروايات العصرية؛ حيث العواطف المشتبكة، والأميال المتطاحنة.
إنها جاهلة، ولكن ما أبلغها عندما تصف وحدتها، وعذابها، وشوقها إلى من يحميها، وحنينها إلى ولد يدرج في الدار، وخوفها من الهرم الموحش، يوم تلزم البيت المظلم حيث لا نار تدفئ، ولا قلب يحنو، ولا رفيق تستند إليه، ولا ابنة تعطف، ولا أحفاد يمرحون ويلعبون ويضحكون!
كم هي شديدة التعلق بأولاد أسيادها! وكم تقبلهم وتدغدغهم فيطربون، وترن أصوات سرورهم في جوانب المنزل! يجلسون مساء إلى دروسهم فتأتي وتجلس القرفصاء، وتبدأ بشغل الشال الصوف الطويل فيكفون عن الدرس، ويضرعون إليها: «دخيلك يا هيفاء، احكي لنا حكاية.» فتضع شغلها إلى جانب وتأخذ بقص حكايات حسن الشاطر، والسبع العجائز، والأربعين لصا، وابنة السلطان.
قيل لها يوما: يا هيفاء، احكي لي حكاية. - حكاية من يا ستي؟ - حكايتك أنت يا هيفاء. - ... - ما بالك؟ احكي فأشاركك في همك.
وأخذت تلك المرأة الضحوك تتكلم عن ماضيها، وتصف خدمتها في بيروت، ثم موت أمها ورجوعها إلى البيت، ثم تعرفها إلى بطرس بن حنا، مختار الضيعة، وتعلقه بها، وغضب أبيه وأمه وكل أهله ، وإصراره على الزواج بها رغم الكبير والصغير. كانت تتكلم وتضحك إذ تذكر مروره أمام البيت وأغانيه الجبلية وقد تضمنت ما يريد إفهامها إياه. ولجهله الكتابة كانا يتفقان على طريقة للتفاهم، فصليب واحد على الحائط كان يعني أن تلاقيه إلى العين، وصليبان إلى الفرن، وثلاثة إلى الكنيسة، وهكذا ...
هنا أغربت هيفاء في الضحك، فلمعت عيناها، واستدارت الغمزة في ذقنها، وامتلأ البيت برنين طربها.
ثم تكلمت عن هربه من بيت أبيه، وإرساله أربعة من «الجدعان» لاختطافها في «ليلة ما فيها ضوء قمر»، وامتناع الكاهن عن تكليلهما، وانقسام القرية إلى حزبين، وفوزها في نهاية الأمر بمداخلة المطران. - إذن لماذا هجرك بعد كل هذا التعلق؟ - لم يكن لنا بيت، وقد حرمه أبوه فبقينا في بيت أبي، ولكن أهله ما زالوا يضمرون لي الشر، فتجمهروا عليه وزينوا له السفر إلى أميركا حتى ينتقموا مني - وكان قد ضجر من قلة الشغل - فذهب وترك لي ابنا صغيرا بعد أن حلف لي أمام «الأيقونة» أنه حال وصوله يرسل لي أجرة الطريق.
هنا هبط صوت هيفاء إلى قرار واطئ كئيب، فكانت دموعها تتدحرج ببطء على خديها، فتمسحها بطرف ثوبها وتتابع الحديث:
لم يتوفق في أول الأمر، فبقيت أنتظر في القرية وأنا أغسل لهذا، وأخبز لذاك، وأشتغل حينا في معمل الحرير، وحينا في موسم القز، إلى أن جاءت الحرب فتصالحت مع أهله وسلمتهم ابني، وذهبت إلى حوران وبدأت أشتغل في الحقول وأرسل لهم ما أحصله كي يطعموا لي الولد ... ولكنهم أكلوا أتعابي وأماتوا ابني جوعا.
ناپیژندل شوی مخ