لم تنزل اللغة العربية عليها وحيا، فهي تعلمتها وأشربت حبها في زياراتها السنوية إلى لبنان؛ لأن أباها - رغم البحور الفاصلة - كان يرسلها كل سنة إلى كسروان؛ فتقضي الصيف متنقلة بين ميروبا وغسطا وريفون وفيترون.
ولكن نفسها الطماحة كانت تشبعت بالأفكار العصرية والنهضة الفكرية الجديدة، فأصبحت، وهي بنت الشرق الصميمة، تتصرف وتتكلم وتفتكر وتكتب بعقلية غربية صرفة، وتميل - رغما عنها - إلى كل ما هو غربي.
كانت لم تزل «مس دجاك» يوم زارت باريس، فتعرفت في بيت السفير العثماني إلى شاب مصري سمحت له ثروة أبيه أن يسكن قصرا - هو متحف بما حوى من النفائس الشرقية والغربية - وأن يجمع حوله حلقة من أهل الأدب والفن، وأن يدرس فن النحت ويبرع فيه إلى أن تعرض تماثيله في المتاحف إلى جنب تماثيل مشاهير العصر.
نبوغ، وعلم، وفن، وفكر واسع منطلق، وتلبس تام بكل جديد، بهذه الصفات تسلط هذا الرجل على حياتها فما لبثت أن خلعت اسمها القديم، فأخذت اسمه وصارت مدام غنام.
أما أيام خطبتها فمرت كحلم ذهبي جميل ... وأما أيام زواجها الأولى فمرت كالبرق لا تكاد ترى لمعانه حتى يختفي.
كانت تزور خطيبها في قصره، فتدخل القاعة الكبيرة الملأى بجميل المرسوم والنحوت، وتتيه بين التماثيل الرخام الصامت، فيأتي ويأخذ بيدها إلى مقعد كبير فرش بالوسائد الجميلة، وهنالك يجلس عند قدميها ويقول لها - فيما يقول : إنها أجمل من كل تمثال صنعه النحات.
كان يهمس بلغة عذبة ما سمعتها في كسروان، ولا في صالون أمها، ولا في قاعة التدريس ... كانت لغته حينا تشابه هينمة النسيم، وابتسامة الطفل، وأنغام الموسيقى في الكنيسة يوم آلام يسوع، وخرير المياه في منعطفات لبنان، وحينا كان حبه يقصف كالرعد، ويزأر كالعاصفة، فيهز روحها هزة عذبة كالحياة، ومخيفة كالهاوية. •••
وتزوجت فأصبحت آلة لا إدراك لها ولا بصر ولا بصيرة، كل ذاتيتها الطيبة غرقت في ذاتية الرجل الذي اتخذته رفيقا من بين الكثيرين ...
استعارت لهجته لتتكلم، وفكره لتعبر عن رأي هو رأيه أبدا.
كانت تفيق من نومها لتحضير فطوره بيديها، وتلبس لتروق في عينه، وتتنزه في الهواء المطلق لاكتساب لون يزيدها رواء، وتنام لتأخذ قوة تساعدها على الإبداع؛ لأنها - في سبيل إرضائه - انقطعت إلى الفن وصارت من كبار الرسامين. •••
ناپیژندل شوی مخ