ليس يعول في شعر إذا أراد قوله إلا على ذوقه دون الرجوع إليه، فلا يتوكد عند الذي يعلمه صحة ذوق ما تزاحف منه بأن يعرضه عليه، فكان هذا العلم مما يقال فيه: إن الجهل به غير ضائر، وما كانت هذه حاله فليست تدعو إليه ضرورة.
فأما علم جيد الشعر من رديئه، فإن الناس يخبطون في ذلك منذ تفقهوا في العلم، فقليلًا ما يصيبون.
ولما وجدت الأمر على ذلك، وتبينت أن الكلام في هذا الأمر أخص بالشعر من سائر الأسباب الأخر، وأن الناس قد قصروا في وضع كتاب فيه، رأيت أن أتكلم في ذلك بما يبلغه الوسع، فأقول:
الفصل الأول
حد الشعر
إن أول ما يحتاج إليه في العبارة عن هذا الفن: معرفة حد الشعر الحائز له عما ليس بشعر، وليس يوجد في العبارة عن ذلك أبلغ ولا أوجز - مع تمام الدلالة - من أن يقال فيه: إنه قول موزون مقفى يدل على معنى.
فقولنا: قول: دال على أصل الكلام الذي هو بمنزلة الجنس للشعر.
وقولنا: موزون: يفصله مما ليس بموزون، إذ كان من القول موزون وغير موزون.
وقولنا: مقفى: فصل بين ماله من الكلام الموزون قواف، وبين ما لا قوافي له ولا مقاطع.
وقولنا: يدل على معنىً: يفصل ما جرى من القول على قافية ووزن مع دلالة على معنى مما جرى على ذلك من غير دلالة على معنى.
فإنه لو أراد مريد أن يعمل من ذلك شيئًا كثيرًا على هذه الجهة لأمكن وما تعذر عليه.
فإذ قد تبين أن كذلك، وأن الشعر هو ما قدمناه، فليس من الاضطرار إذن أن يكون ما هذه سبيله جيدًا أبدًا ولا رديئًا أبدًا، بل يحتمل أن يتعاقبه الأمران، مرة هذا، وأخرى هذا، على حسب ما يتفق، فحينئذ يحتاج إلى معرفة الجيد وتمييزه من الرديء.
صناعة الشعر
ولما كانت للشعر صناعة، وكان الغرض في كل صناعة إجراء ما يصنع ويعمل بها على غاية التجويد والكمال، غذ كان جميع ما يؤلف ويصنع على سبيل الصناعات والمهن، فله طرفان: أحدهما غاية الجودة، والآخر غاية الرداءة، وحدود بينهما تسمى الوسائط، وكان كل قاصد لشيء من ذلك فإنما يقصد الطرف الأجود، فإن كان معه من القوة في
1 / 3