مقدمة
...
النقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح
تأليف الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي، المتوفى سنة ٧٦١هـ
تحقيق وتعليق: الدكتور عبد الرحيم محمد أحمد القشقري الأستاذ المساعد بكلية الحديث والدراسات الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وبعد:
فإن الله ﷾ حينما تكفل بحفظ كتابه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ تكفل أيضًا بحفظ سنة نبيه بأن خلق لها رجالًا يذبون عنها، ويكشفون زيف الزائفين. وذلك بتدوينها في الدواوين سواء كانت تلك الدواوين على حسب المسانيد كمسند الطيالسي وأحمد بن حنبل وابن راهوية أو على الأبواب كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن.
وقد اتبع كل إمام منهج في التأليف، فمنهم من اشترط الصحة في أحاديثه كما فعل الإمام البخاري ومسلم دون أن يستوعبا جميع الأحاديث الصحيحة، لأن في ذلك مشقة وعناء، بل اختارا ما أجمع العلماء على صحته، وتركا من الصحاح مخافة الطول.
ومنهم من لم يشترط الصحة، بل أورد كل ما عنّ له وحكم على ما رأى أنه لازم، كما صنع الترمذي وأبو داود وأن ما سكت عنه صالح، بل وفيها بعض الأحاديث الضعيفة.
وقد أراد البغوي – ﵀ – أن يجمع كتابًا شاملًا لنوعي
1 / 5
الصحيح والحسن، فما كان في الصحيحين فهو صحيح، وما كان في السنن فهو حسن، وإن كان هناك ضعيف أو غريب، أشار إليه، وإن كان منكرًا أو موضوعًا، أعرض عنه.
وقد جاء العلماء بعده فوضعوا كلام البغوي في ميزان النقد العلمي، فخرجوا بما يلي:
١- أنه لم يميز بين النوعين – الصحيح والحسن- وكأنه سكت عن البيان لاشتراكهما في الاحتجاج به لا في القوة.
٢- ردوا قوله بأن الحسان ما في السنن لأن فيها غيره من الصحيح والضعيف الذي يجبر، لا سيما عند أبي داود لأن الضعيف عنده أحب إليه من رأي الرجال، وقد يقال عن صنيع البغوي بأنه اصطلاح له، ولا مشاحة في الإصطلاح إلا أنه قول ضعيف، لأن الواقع يرده.
فالإصطلاح يكون حينئذ مردودًا وقد اهتم الأئمة الذين جاؤوا بعده بكتاب المصابيح شرحًا وتخريجًا لأحاديثه فشرحه البيضاوي وسماه تحفة الأبرار وقاسم بن قطلوبغا، والتور بشتى وغيرهم.
وخرّج أحاديثه جملة من العلماء منهم: الإمام المناوي في كتابه كشف المناهيج.
ومن العلماء من أكمله وهذبه وزاد عليه.
ذكر ذلك حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون عند الكلام على كتاب المصابيح ٢/١٦٩٨.
وكان للعلائي دور في خدمة هذا الكتاب الجليل حيث دافع عنه وعن الأحاديث التي رميت بالوضع، وهي ليست موضوعة كما أشار إليها في كتابه. وقد كان بعمله هذا ممن أسدى خدمة جليلة
1 / 6
لمحبي هذا الكتاب، لا سيما طلاب العلم في الباكستان والهند والتركستان، حيث اعتمادهم يكاد يكون كليًا على هذا الكتاب.
وفي الختام أود أن أترك القارئ يجول مع العلائي في كتابه ليرى مدى تمكنه من علم الحديث. فهذا الكتاب غيض من فيض بالنظر إلى ما ألّف من مؤلفات في فنون شتى.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
المحقق
تحريرًا في ٤/١٢/١٤٠٤هـ
1 / 7
ترجمة العلائي
هو الشيخ صلاح الدين العلائي الحافظ المفيد. المحدث الفقيه الأصولي الأديب، خليل بن كيكلدي بن عبد الله الدمشقي الشافعي.
ولد في أحد الربيعين سنة أربع وتسعين وستمائة بدمشق.
بدأ العلم صغيرًا حيث ورد أنه سمع صحيح الإمام مسلم سنة ثلاث وسبعمائة على الشيخ شرف الدين الفزاري، وسمع البخاري على ابن مشرف سنة أربع وسبعمائة، وفيها ابتدأ بقراءة العربية وغيرها على الشيخ نجم الدين القحفازي، والفقه والفرائض على الشيخ زكي الدين زكوي.
ثم جد في طلب الحديث سنة عشر وسبعمائة وقرأ بنفسه على القاضي سليمان الحنبلي وأبي بكر بن عبد الدائم، وعيسى المطعم ومن بعدهم حتى بلغ شيوخه بالسماع نحو سبعمائة شيخ، ومن مسموعاته الكتب الستة وغالب دواوين الحديث١.
_________
١ الدراس ١/٦٠.
1 / 9
أقوال النقاد فيه:
قال السبكي: كان حافظًا ثقة ثبتًا عارفًا بأسماء الرجال والعلل والمتون١.
وقال ابن كثير: كانت له يد طولى بمعرفة العالي والنازل، وتخريج الأجزاء والفوائد، وله مشاركة قوية في الفقه واللغة، والعربية والأدب٢.
ولو انتقلنا إلى رحلاته فمصنفنا كان من أولئك الذين ارتحلوا للسماع والأخذ عن الشيوخ، وقد ذكر من ترجم له أنه حج مرارًا، واستقر به المقام في مدينة القدس مدرسًا للحديث في التنكزية. إلى جانب الفتوى والتصنيف، حتى وافاه الأجل المحتوم في المحرم سنة إحدى وستين وسبعمائة، ودفن بمقبرة باب الرحمة إلى جانب سور المسجد٣.
مؤلفاته:
لقد خلف الإمام العلائي مجموعة كبيرة من المؤلفات العلمية التي كان لها الأثر الكبير في إثراء المكتبة الإسلامية، وكانت جل تلك المصنفات في علم الحديث والرجال وعلوم الفقه وأصوله، وكانت لمؤلفاته صدى واسعًا بين العلماء لا سيما في عصره.
فمن مؤلفاته التي خلفها لنا بعد وفاته ما يلي:
١- إتمام الفوائد الموصولة في الأدوات الموصولة٤.
_________
١ طبقات الشافعية ١٠/٣٦.
٢ البداية والنهاية ١٤/٢٦٧.
٣ الأنس الجليل ٢/١٠٧.
٤ ذكره د. عمر حسن في مقدمة المراسيل ١/١٣.
1 / 10
٢- إجمال الإصابة في أقوال الصحابة١.
٣- الأحكام الكبرى.
ذكره صاحب الأنس وقال: علق منها قطعة نفيسة٢.
٤- الأربعين في أعمال المتقين٣.
٥- الأربعين الإلهية.
٦- الأربعين المغنية بفنونها عن المعين٤.
٧- الأشباه والنظائر٥.
٨- برهان التيسير في عنوان التفسير٦.
٩- بغية الملتمس في سباعيات حديث الإمام مالك بن أنس٧.
١٠- تحفة القادم من فوائد أبي القاسم.
١١- تحقيق الكلام في نية الصيام٨.
١٢- تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد٩.
١٣- تفصيل الإجمال في تعارض بعض الأقوال والأفعال١٠.
_________
١ منه نسخة في مكتبة عارف حكمت المجموع رقم ١١٧، من ٣٥-٤٧ كما ذكر في المصدر السابق.
٢ الأنس الجليل ٢/١٠٧.
٣ هكذا ذكره الحافظ ابن حجر في الدرر ٢/٩١.
٤ ذكرهما د. عمر فلاته في مقدمة المراسيل ١/١٣.
٥ ذكره السبكي في طبقاته ١٠/٣٥، ووقفت على نسخة مصورة من مكتبة الجامعة العثمانية تحت رقم (قع ش) ٣٦٢، ٢٩٧، وعدد أوراقه ٢١٩.
٦ ذكره د. عمر فلاته في مقدمة المراسيل ١/١٣.
٧ منه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم ١٥٧٩ من ورقة ٥٦-٩٧.
٨ ذكرهما د. عمر حسن في مقدمة المراسيل ١/١٤.
٩ منه نسخة مصورة في الجامعة الإسلامية تحت رقم ٦٥.
١٠ منه نسخة مصورة في الجامعة الإسلامية تحت رقم: ١٣٠٤.
1 / 11
١٤- تلقيح الفهوم في صيغ العموم١.
١٥- التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة٢.
١٦- تهذيب الأصول إلى مختصر جامع الأصول٣.
١٧- توفة الكيل لمن حرم لحوم الخيل٤.
١٨- تيسير حصول السعادة في تقرير شمول الإرادة٥.
١٩- جامع التحصيل لأحكام المراسيل٦.
٢٠- الدرة السنية في مولد خير البرية.
٢١- رفع الإشتباه عن حكم الإكراه٧.
٢٢- رفع الأشكال عن حديث صيام ستة أيام من شوال٨.
٢٣- شفاء المسترشدين في حكم اختلاف المجتهدين٩.
٢٤- العدة في أدعية الكرب والشدة١٠.
٢٥- عقيلة الطالب في أشرف الصفات والمناقب١١.
٢٦- فصل القضاء في أحكام الأداء والقضاء١٢.
_________
١ منه نسخة مصورة في الجامعة الإسلامية تحت رقم ٦٤٧/٦٤٨.
٢ منه نسخة مصورة في الجامعة الإسلامية تحت رقم: ٨٧٨.
٣ منه نسخة مصورة في الجامعة الإسلامية تحت رقم: ٢٥١٠.
٤ منه نسخة مصورة في الجامعة الإسلامية تحت رقم: ٨٧٨.
٥ ذكره د. عمر حسن في مقدمة المراسيل ١/١٤.
٦ حققه د. عمر حسن لنيل شهادة الماجستير وطبعه الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي.
٧ ذكره د. عمر حسن في مقدمة المراسيل ١/١٥.
٨ ذكره د. عمر حسن في مقدمة المراسيل ١/١٥ وقال موجود في القاهرة.
٩ منه نسخة في كوبريللي تحت رقم ٣٨٦/٢.
١٠ منه نسخة في كوبريللي تحت رقم ٣٣٤ ب م ٤١٤٨.
١١ ذكره صاحب الأنس ٢/١٠٧ وقال جمع الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي ﷺ.
١٢ ذكره د. عمر حسن في مقدمة المراسيل ١/١٥.
1 / 12
٢٧- الفصول المفيدة في الواو المزيدة١.
٢٨- الفوائد المجموعة في الفرائد المسموعة٢.
٢٩- حديث قطع في مجن وما يتعلق به٣.
٣٠- كتاب القواعد٤.
٣١- كشف النقاب عما روى الشيخان للأصحاب٥.
٣٢- الكلام على حديث ذي اليدين٦.
٣٣- الكلام في بيع الفضولي٧.
٣٤- المائة المنتقاة من الترمذي.
٣٥- المائة المنتقاة من صحيح مسلم.
٣٦- المائة المنتقاة من مشيخة الفخر.
٣٧- المباحث المختارة في تفسير آية الدم والكفارة.
٣٨- المجالس المبتكرة٨.
٣٩- المجموع المذهب في قواعد المذهب٩.
٤٠- المدلسين١٠.
_________
١ منه نسخة في مكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم ٢٧٠٩ (١٠٩-١٢٦) .
٢ ذكره الحافظ ابن حجر في الدرر ٢/٩١، وقال: عبارة عن فهرست لمسموعاته من شيوخه.
٣ منه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم: ٥٤٢.
٤ ذكره صاحب الأنس ٢/١٠٧، وقال: كتاب نفيس يشتمل على علمي الأصول والفروع.
٥ منه نسخة مصورة في الجامعة الإسلامية تحت رقم ١٧٧٠.
٦ ذكره صاحب الأنس ٢/١٠٧ وقال: في مجلد.
٧ منه نسخة مصورة في الجامعة الإسلامية تحت رقم: ٨٧٨.
٨ ذكره د. عمر حسن في مقدمة المراسيل ١/١٥.
٩ منه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم ١٧٩٠.
١٠ ذكره السبكي في طبقاته ١٠/٣٥.
1 / 13
٤١- المسلسلات١.
٤٢- مقدمة كتاب نهاية الأحكام٢.
٤٣- منحة الرائض بعلوم آيات الفرائض٣.
٤٤- النفحات القدسية٤.
٤٥- النقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح.
وهو كتابنا هذا وسيأتي الكلام عليه بعد هذا الفصل.
٤٦- الوشي المعلم في من روى عن أبيه عن جده٥.
٤٧- منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة٦.
_________
١ ذكره د. عمرحسن في مقدمة كتابه ١/١٥.
٢ ذكره المؤلف في مقدمة كتابه نقد الصحيح.
٣ ذكره صاحب الأنس ٢/١٠٧.
٤ ذكره د. عمر حسن في مقدمة المراسيل ١/١٦.
٥ ذكره صاحب الأنس ٢/١٠٧، وقد وقفت على قطعة مصورة لدى الشيخ حماد بن محمد الأنصاري.
٦ قمت بتحقيقه معتمدًا على نسختين أولاهما من الأسكوريال، والأخرى من مكتبة خدابخش.
1 / 14
الكلام على الكتاب
...
النقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح
هكذا اسم الكتاب في عنوان النسخة التي وقفت عليها، وقد تناول المصنف ﵀ الأحاديث التي انتقدت على المصابيح تبعًا لحكم ابن الجوزي على تلك الأحاديث بالوضع.
وقد حاول المصنف ﵀ إخراج تلك الأحاديث من حيز الوضع إلى حيز آخر أقوى، معتمدًا على أقوال العلماء وبحث طرق الأحاديث الواردة.
ومن خلال دراستي للكتاب وجدته قد حسن أحد عشر حديثًا من ضمن الأحاديث التي أوردها في كتابه. وهي تسعة عشر حديثًا وحكم على باقيها بالضعف الذي لا ينتهي إلى الوضع.
وقد ابتدأ كتابه بذكر جملة من القواعد المعتبرة في التصحيح والتحسين، وذكر شيئًا من شروط أصحاب الكتب الستة.
ولعلي لا أغالي إذا قلت إنه استطاع بهذا الجزء أن يبين لنا إمامته في فن التخريج والتصحيح والتضعيف.
ومن العجب أن يقوم الحافظ ابن حجر بتأليف كتاب يتناول نفس الموضوع الذي تناوله العلائي. وكان الدافع للحافظ في تأليفه الكتاب هو سؤال وجهه إليه بعض المستفتين، وهذا الدافع نفسه
1 / 15
الذي حمل العلائي على تأليف الجزئ الذي بين أيدينا.
والناظر لهذين الجزئين يرى مدى التشابه في إطلاق الحكم على الأحاديث الواردة حتى ليخيل أن أحدهما نقل الكتاب عن الآخر بنصه. إلا أنني لا أستطيع الجزم بذلك لأن وجدت السيوطي قد عزا بعض النقول إلى كتاب الأجوبة للحافظ ابن حجر١، إلى جانب ما ذكره المؤلف نفسه٢.
وقد انفرد كتاب العلائي بزيادة حديث واحد وهو الحديث العاشر ولفظه "للسائل حق وإن جاء على فرس"، إذ لم يذكره الحافظ ابن حجر تبعًا لعدم وروده في السؤال الموجه إليه.
فمهما يكن من أمر، فالكتابين متلازمين، ولا بد لطالب العلم أن يقف عليهما عند الإهتمام بأحاديث المصابيح.
نسبة الكتاب للمؤلف:
أثناء بحثي في كتاب المعتبر للإمام الزركشي، وقفت على حديث صنفان من أمتي٣ ... الحديث، حيث نقل عن العلائي رد ما أورده ابن الجوزي في موضوعاته، وبعد المقارنة بين النصين وجدتهما متطابقين تمامًا.
وقد سبق الزركشي إلى ذكر كتاب العلائي الإمام ابن القيم ﵀ في الكلام على حديث أقيلوا ذوي الهيآت٤.
_________
١ اللالئ المصنوعة ١/٣٣٤.
٢ أشار في صلاة التسبيح إلى كتابه تخريج الأحاديث الواردة في الأذكار. مشكاة ٣/٣٠٦.
٣ المعتبر ٢/٤٥٤.
٤ عون المعبود ١٢/٣٩.
1 / 16
ولعل إيراد هذين الإمامين لهذا الكتاب ونقلهما عنه يقطع يقينًا بأن هذا الكتاب للمصنف.
ومن الأدلة في ذلك ما ذكره السخاوي في الكلام على حديث أنا مدينة العلم١، حيث أورد فيه ما قاله الإمام العلائي، والكلام موجود في الكتاب.
وكذلك ما أورده الإمام السيوطي في اللالئ٢.
وصف المخطوط:
لقد اعتمدت في تحقق الكتاب على نسخة واحدة، ولعلها نسخة فريدة فيما أعلم، حيث اجتهدت في العثور على نسخة أخرة دون جدوى، إلا أن النسخة كانت في غاية الوضوح، إلاّ في مواضع نبهت عليها أثناء التحقيق.
وتقع هذه المخطوطة في عشرة أوراق ذات وجهين، وقد صورت من مكتبة الأسكوريال حيث رقمها هناك ١٦١٢، ورقمها في مكتبة الجامعة الإسلامية هو ٨٧٨، ضمن مجموعة كلها للإمام العلائي.
_________
١ المقاصد الحسنة: ٩٧.
٢ اللالئ ١/٣٣٢.
1 / 17
مقدمة العلائي
...
«بسم الله الرحمن الرحيم وبالله التوفيق»
أما بعد: حمدًا لله على ما هدى إليه من معرفة السنن. ووفق في اقتفاء معالمها لسلوك أقصد السنن. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث بالمعجز الخارق، فصاحة اللسن، المنعوت بالعقل القويم والخلق الحسن، وعلى آله وصحبه الذين لهم على كل من بعدهم جزيل النعم.
فقد وقع السؤال عن عدة أحاديث مما عده الإمام أبو محمد البغوي –﵀ – في كتابه الموسوم بالمصابيح من الحسان أوردها عليه بعض المتأخرين اعتمادًا على ذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي لها في كتابه الذي جمع فيه على زعمه الأحايث الموضوعة، وحكم بأنها كذلك، فنظرت فيها، فإذا غالبها ليس كما ذكر١.
فعلقت هذه الأوراق مبينًا ما هو الصواب في الحكم على تلك
_________
١ عبر المؤلف بهذه العبارة، لأن العلماء أخذوا على ابن الجوزي إدخاله بعض الأحاديث الصحيحة والحسنة في موضوعاته. وقد ألف الحفاظ كتبًا للرد على ابن الجوزي، منهم:
الحافظ العلائي في كتابه هذا.
والحافظ ابن حجر في كتابه القول المسدد في الذب عن المسند.
وللسيوطي كتاب التعقبات على الموضوعات. الذي طبع في الهند طبعة حجرية قديمة.
1 / 21
الأحاديث مستيعنًا بالله تعالى، ومتوكلًا عليه في جميع الأمور، وبالله التوفيق.
أقسام الحديث المحتج به ... وقبل الكلام على هذه الأحاديث – نقدم – مقدمات تمهيدًا لما يأتي من البيان بحالها. الأولى: أن الحديث المحتج به ينقسم إلى صحيح وحسن، وذلك بحسب تفاوت رجال إسناده في الحفظ والإتقان، وآداء ما تحملوه، كما أن الحديث الذي لا يحتج به ينقسم إلى ضعيف ومنكر وموضوع، بحسب تفاوت رواته في (الوهم) ١ والغلط والتساهل وتعمد الكذب. فمن كان في أعلى درجات الإتقان والحفظ كان ما تفرد به صحيحًا مركونًا إليه. ومن نزل عن هذه الدرجة تكون أفراده حسنة. وما تابعه غيره فيه صحيحًا. ومن نزل عن ذلك يكون ما رواه منكرًا أو شاذًا، ومن نقص عن ذلك يكون حديثه ضعيفًا. والمرجع في ذلك كله إلى ما حرره الأئمة الحفاظ من أحوال الرجال، وبينوا من صفاتهم، أو تعرضوا له من الأحاديث بالتنصيص عليه مع النقد الصحيح، والتصرف الجاري على قواعدهم. _________ ١ في الأصل: ما صورته الوهمة.
كتاب البخاري ومسلم ... الثانية: إن الأئمة اتفقت على أن كل ما أسنده: البخاري أو مسلم، في كتابيهما الصحيحين فهو صحيح، لا ينظر فيه٢. وإنه لا يصل إلى درجتهما في ذلك كتب السنن والمسانيد، بل _________ ٢ قال النووي: هما أصح الكتب بعد القرآن. تدريب الراوي ١/٩١.
أقسام الحديث المحتج به ... وقبل الكلام على هذه الأحاديث – نقدم – مقدمات تمهيدًا لما يأتي من البيان بحالها. الأولى: أن الحديث المحتج به ينقسم إلى صحيح وحسن، وذلك بحسب تفاوت رجال إسناده في الحفظ والإتقان، وآداء ما تحملوه، كما أن الحديث الذي لا يحتج به ينقسم إلى ضعيف ومنكر وموضوع، بحسب تفاوت رواته في (الوهم) ١ والغلط والتساهل وتعمد الكذب. فمن كان في أعلى درجات الإتقان والحفظ كان ما تفرد به صحيحًا مركونًا إليه. ومن نزل عن هذه الدرجة تكون أفراده حسنة. وما تابعه غيره فيه صحيحًا. ومن نزل عن ذلك يكون ما رواه منكرًا أو شاذًا، ومن نقص عن ذلك يكون حديثه ضعيفًا. والمرجع في ذلك كله إلى ما حرره الأئمة الحفاظ من أحوال الرجال، وبينوا من صفاتهم، أو تعرضوا له من الأحاديث بالتنصيص عليه مع النقد الصحيح، والتصرف الجاري على قواعدهم. _________ ١ في الأصل: ما صورته الوهمة.
كتاب البخاري ومسلم ... الثانية: إن الأئمة اتفقت على أن كل ما أسنده: البخاري أو مسلم، في كتابيهما الصحيحين فهو صحيح، لا ينظر فيه٢. وإنه لا يصل إلى درجتهما في ذلك كتب السنن والمسانيد، بل _________ ٢ قال النووي: هما أصح الكتب بعد القرآن. تدريب الراوي ١/٩١.
1 / 22
هذه الكتب مشتملة على الصحيح والحسن والضعيف، وفي يسير منها أحاديث واهية جدًا، وذلك قليل أو نادر في سنن النسائي١، وما كان فيه ضعف في جامع الترمذي فبينه، وتخرج من عهدته٢.
_________
١ انظر مناقشة هذا الموضوع في توضيح الأفكار في بيان شرط النسائي ١/٢١٩.
٢ توضيح الأفكار ١/٢٢٤.
وأما سنن أبي داود وابن ماجه، فلا يبينان شيئًا من ذلك، إلا في بعض منها بينها أبو داود، وذكر أن ما سكت عنه فهو صالح للاحتجاج به٣. ومقتضى ذلك أنه يكون حسنًا عنده، ولكن لا يلزم منه أن يكون حسنًا في نفس الأمر، لا سيما إذا قوي حال رواته في الضعف. ومن هذا الوجه تطرق الاعتراض على الإمام أبي محمد البغوي – ﵀ – في كتابه «المصابيح» حيث وصف الأحاديث التي انفرد بها أصحاب السنن بالحسان، وليس جميعها كذلك، بل فيها ما هو صحيح، وإن لم يكن مخرجًا في الصحيحين، إذ ليس الحديث الصحيح مقصورًا على ما في الكتابين، بل وراء ذلك أحاديث كثيرة صحيحة٤. وفيها – أعني كتب السنن – ما ليس _________ ٣ قال أبو داود في رسالته ص ٢٧: ومالم أذكر فيه شيئًا فهو صالح. وقد اختلف الأئمة في حمل عبارة أبي داود، هل يعني به صالح للاحتجاج أو الاعتبار. ولعل الرأي القوي أنه صالح للاحتجاج، لا سيما وأن أبا داود يحتج بالضعيف إذا لم يكن في الباب غيره.. . ٤ قال البخاري: ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح مخافة الطول.
وأما سنن أبي داود وابن ماجه، فلا يبينان شيئًا من ذلك، إلا في بعض منها بينها أبو داود، وذكر أن ما سكت عنه فهو صالح للاحتجاج به٣. ومقتضى ذلك أنه يكون حسنًا عنده، ولكن لا يلزم منه أن يكون حسنًا في نفس الأمر، لا سيما إذا قوي حال رواته في الضعف. ومن هذا الوجه تطرق الاعتراض على الإمام أبي محمد البغوي – ﵀ – في كتابه «المصابيح» حيث وصف الأحاديث التي انفرد بها أصحاب السنن بالحسان، وليس جميعها كذلك، بل فيها ما هو صحيح، وإن لم يكن مخرجًا في الصحيحين، إذ ليس الحديث الصحيح مقصورًا على ما في الكتابين، بل وراء ذلك أحاديث كثيرة صحيحة٤. وفيها – أعني كتب السنن – ما ليس _________ ٣ قال أبو داود في رسالته ص ٢٧: ومالم أذكر فيه شيئًا فهو صالح. وقد اختلف الأئمة في حمل عبارة أبي داود، هل يعني به صالح للاحتجاج أو الاعتبار. ولعل الرأي القوي أنه صالح للاحتجاج، لا سيما وأن أبا داود يحتج بالضعيف إذا لم يكن في الباب غيره.. . ٤ قال البخاري: ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح مخافة الطول.
1 / 23
ولا حسن، بل يكون ضعيفًا أو منكرًا أو واهيًا، كما صرح به الترمذي على قطعة من حديثه، وبيّنه الأئمة النقاد في كثير من أحاديث أبي داود وابن ماجه.
وقد بسطت الكلام على هذا الموضع بسطًا شافيًا في مقدمة كتاب نهاية الأحكام١.
الثالثة: لا يلزم من كون سند الحديث ضعيفًا أن يكون كذلك في نفس الأمر، بل قد يكون له سند آخر رجاله ممن يحتج بهم، وقد ينجبر بسند آخر ضعيف تنتهي بمجموعها إلى درجة الحسن.
وذلك أن ضعف الرواة تارة يكون لاتهامهم بالكذب، وتارة يكون لنقص إتقانهم وحفظهم٢.
فالقسم الأول لا ينجبر بسند آخر فيه مثل رجال الأول، لأنه انضم كذاب إلى مثله، فلا يفيد شيئًا، بل ربما يكون بعضهم سرق ذلك الحديث من بعض، وادعى سماعه٣.
وقال مسلم: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه.
مقدمة ابن الصلاح ص ١٠، تدريب الراوي ١/٩٨.
_________
١ لم أقف عليه.
٢ وبالمقابل لا يلزم من كون السند صحيحًا أن يكون المتن صحيحًا، لأنه قد يصح السند أو يحسن لثقة رجاله، دون المتن لشذوذ أو علة.
تدريب الراوي ١/١٦١.
٣ قال السيوطي: وأما الضعيف لفسق الراوي أو كذبه، فلا يؤثر فيه موافقة غيره له إذا كان الآخر مثله، لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر. نعم يرتقي بمجموع طرقه عن كونه
1 / 24
أما إذا كان النقص دخل من جهة اتهامهم بالغلط والوهم، فإنه إذا جاء ذلك الحديث من وجه آخر عن رجال مقاربين لها، ولا علم أن الوهم بعيد منه انجبر أحد السندين بالآخر، وارتقى الحديث إلى درجة الحسن، وسيأتي في بعض الأحاديث ما هو مثال لهذا.١
وكذلك الحديث الحسن لقصور رجال إسناده عن درجة رجال الصحيح في الحفظ والإتقان. إذا روى ذلك بسند آخر مثله في الحسن، ارتقى بمجموعها إلى درجة الصحة لاعتضاد كل منهما بالآخر.
_________
١ منكرًا أو لا أصل له. صرح به شيخ الإسلام، قال: بل ربما كثرت الطرق حتى أوصلته إلى درجة المستور السيء الحفظ، بحيث إذا وجد له طريق آخر فيه ضعف قريب محتمل ارتقى بمجموع ذلك إلى درجة الحسن. تدريب الراوي ١/١٧٧.
1 / 25
قد صححه بعض الأئمة كما سيأتي في حديث صلاة التسبيح١.
وفيها ما له طريقين أخرى يقوى بها الحديث، لم يطلع عليها، كما سيأتي – إن شاء الله تعالى – في بعض الأحاديث.
فدخلت الآفة عليه من هذه الوجوه وغيرها.
ويجيء بعده من لا يد له في علم الحديث فيقلده فيما حكم به من الوضع.
وهذا بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث، والتوسع في حفظه كشعبة ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ونحوهم.
ثم أصحابهم مثل أحمد بن حنبل وعلي بن المديني٢، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهوية، وطائفة منهم.
ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي.
وكذلك إلى زمن الدارقطني والبيهقي ممن لم يجيء بعدهم مساو لهم بل ولا مقارب – رحمة الله عليم.
فمتى وجد في كلام أحد من المتقدمين الحكم على حديث بشيء كان معتمدًا لما أعطاهم الله من الحفظ العظيم، والإطلاع الغزير، وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح، وهذا التعذر إنما يجيء في الأحاديث المحتملة، وإلا فكثير من الأحاديث جدًا يشهد القلب بوضعها، ويسهل الحكم عليها بذلك، ممن كثرت ممارسته لهذا الفن.
وهو حال كتاب الموضوعات لابن الجوزي، والله أعلم.
_________
١ الحديث رقم: ٣.
٢ في الأصل: المقدسي، وهو خطأ، والصواب ما أثبته.
1 / 26
الحكم على الحديث بالوضع
...
الرابعة: الحكم على الحديث بكونه موضوعًا من المتأخرين عسر جدًا، لأن ذلك لا يتأتى إلا بعد جمع الطرق وكثرة التفتيش، وإنه ليس لهذا المتن سوى هذه الطريق الواحد، ثم يكون في رواتها من هو متهم بالكذب إلى ما ينضم إلى ذلك من قرائن كثيرة، يقتضي للحافظ المتبحر الجزم بأن هذا الحديث كذب.
ولهذا انتقد العلماء على الإمام أبي الفرج بن الجوزي في كتابه الموضوعات، وتوسعه بالحكم بذلك على كثير من الأحاديث ليست بهذه المثابة، بل فيها ما فيه ضعف يحتمل ويمكن التمسك به في الترغيب والترهيب، وفيها ما هو حديث حسن، أو
1 / 24
ومن هنا نشرع في بيان الأحاديث التي انتقدت على صاحب المصابيح، وما ينبغي الحكم عليها به، ومن الله العون١.
فمنها حديث:
١-" صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية".
وهذا الحديث ذكره أبو الفرج في الموضوعات بسند فيه مأمون – أحد الكذابين، وذكره في كتابه الذي سماه العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، من طريق سلام بن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس، ومن طريق علي بن نزار بن حبان عن أبيه عن عكرمة.
وضعف الأول بأن سلام بن أبي عمرة قال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء.
وبأن علي بن نزار راوي الثانية واه٢.
ثم قال: ورواه النضر بن سلمة، وهو متروك عن محمد بن بكر، وذكر سندًا إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس – ﵄-٣.
وحديث علي بن نزار رواه الترمذي في جامعه، ولم
_________
١ من دراستي لمقدمة الحافظ ابن حجر لأجوبته التي أجاب بها السائل عن الأحاديث المنتقدة في المصابيح، وجدت الفرق بين هاتين المقدمتين طفيفًا.
٢ لم يذكر العلائي نص ما قاله ابن الجوزي في علله، حيث قال:
هذا حديث لا يصح عن رسول الله ﷺ. ونزار وعلي بن نزار والقاسم ابن حبيب وسلام، كلهم ليس بشيء.
العلل المتناهية ١/١٥٢.
٣ المصدر السابق ١/١٥٣.
1 / 27