إهداء الكتاب
تمهيد
الكتاب الأول: الخلافة والإسلام
1 - الخلافة وطبيعتها
2 - في حكم الخلافة
3 - الخلافة من الوجهة الاجتماعية
الكتاب الثاني: الحكومة والإسلام
1 - نظام الحكم في عصر النبوة
2 - الرسالة والحكم
3 - رسالة لا حكم، ودين لا دولة
الكتاب الثالث: الخلافة والحكومة في التاريخ
1 - الوحدة الدينية والعرب
2 - الدولة العربية
3 - الخلافة الإسلامية
إهداء الكتاب
تمهيد
الكتاب الأول: الخلافة والإسلام
1 - الخلافة وطبيعتها
2 - في حكم الخلافة
3 - الخلافة من الوجهة الاجتماعية
الكتاب الثاني: الحكومة والإسلام
1 - نظام الحكم في عصر النبوة
2 - الرسالة والحكم
3 - رسالة لا حكم، ودين لا دولة
الكتاب الثالث: الخلافة والحكومة في التاريخ
1 - الوحدة الدينية والعرب
2 - الدولة العربية
3 - الخلافة الإسلامية
نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم
نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم
تأليف
محمد الخضر حسين
إهداء الكتاب
إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم
تلقيت علوم الشريعة الإسلامية عن أساتيذ لهم غوص في أسرار التشريع، فعرفت أن في كل حلقة من سلسلة حياة محمد
صلى الله عليه وسلم
معجزة، فإن أساليب دعوته وحكمة شريعته لا تربطها بالأمية إلا يد فوق يد الطبيعة البشرية.
رأيت وأنا بتونس أن القيام بحق الإسلام يستدعي مجالا واسعا، وسماء صافية، فهاجرت منها والعيش رغيد، والأمة في إقبال، والإخوان في مصافاة، وأنزلت رحلي بدمشق الشام، فمدت لنا الأيام من الأمل طرفا، فإذا رحى الحرب العامة تدور، وحامل رايتها ينجد ويغور.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأخذت البلاد العربية والتركية هيئة غير هيئتها، هبطت مصر فلقيت على ضفاف وادي النيل علما زاخرا، وأدبا جما، فلم ألبث قليلا حتى شهدت من حضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم غيرة على دين الحق، وعناية برفع شأن المعاهد العلمية الإسلامية، فقلت: إن في هذه الغيرة والعناية لحماية للدين الحنيف من نزعة ترمي حوله بشرر الكيد والأذى.
تلك المزية التي أصبح بها صاحب الجلالة واسطة عقد ملوك الأمم الشرقية قد أخذت في نفسي مأخذ الإكبار والإجلال، ودعتني إلى أن أقدم إلى خزانته الملكية مؤلفا قمت فيه ببعض حقوق إسلامية وعلمية؛ وهو: «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»، ورجائي أن يتفضل عليه بالقبول، والله يحرس ملكه المجيد، ويثبت دولته على دعائم العز والتأييد.
المخلص في الطاعة
محمد الخضر حسين
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله على الهداية، وأسأله التوفيق في البداية والنهاية، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد المبعوث بأكمل دين وأحكم سياسة، وعلى آله وصحبه وكل من حرس شريعته بالحجة أو الحسام وأحسن الحراسة.
وقع في يدي كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق فأخذت أقرؤه قراءة من يتغاضى عن صغائر الهفوات، ويدرأ تزييف الأقوال بالشبهات، وكنت أمر في صحائفه الأولى على كلمات ترمز إلى غير هدى، فأقول: إن في اللغة كناية ومجازا، ومعميات وألغازا، ولعلها شغفته حبا حتى تخطى بها المقامات الأدبية إلى المباحث العلمية، وما نشبت أن جعلت المعاني الجامحة عن سواء السبيل تبرح عن خفاء، وتناديها قوانين المنطق فلا تعبأ بالنداء.
وكنت - بالرغم من كثرة بوارحها - أصبر نفسي على حسن الظن بمصنفها، وأرجو أن يكون الغرض الذي جاهد في سبيله عشر سنين حكمة بالغة، وإن خانه النظر فأخطأ مقدماتها الصادقة، وما برحت أنتقل من حقيقة وضاءة ينكرها، إلى مزية مجاهد خطير يكتمها، حتى أشرفت على خاتمته، وبرزت نتائجه، وهي أشبه بمقدماته من الماء بالماء، أو الغراب بالغراب!
فوق المؤلف سهامه في هذا الكتاب إلى أغراض شتى، والتوى به البحث من غرض إلى آخر، حتى جحد الخلافة وأنكر حقيقتها، وتخطى هذا الحد إلى الخوض في صلة الحكومة بالإسلام، وبعد أن ألقى حبالا وعصيا من التشكيك والمغالطات زعم أن النبي عليه السلام ما كان يدعو إلى دولة سياسية، وأن القضاء وغيره من وظائف الحكم ومراكز الدولة ليست من الدين في شيء، وإنما هي خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، ومس في غضون البحث أصولا لو صدق عليها ظنه لأصبحت النفوس المطمئنة بحكمة الإسلام وآدابه مزلزلة العقيدة مضطربة العنان.
كنا نسمع بعض مزاعم هذا الكتاب من طائفة لم يتفقهوا في الدين، ولم يحكموا مذاهب السياسة خبرة، فلا نقيم لها وزنا، ولا نحرك لمناقشتها قلما؛ إذ يكفي في ردها على عقبها صدروها من نفر يرون الحط في الأهواء حرية، والركض وراء كل جديد كياسة!
كنا نسمع هذه المزاعم فلا نزيد أن نعرض عمن يلغطون بها حتى يخوضوا في حديث غيرها. أما اليوم وقد سرت عدواها إلى قلم رجل ينتمي للأزهر الشريف ويتبوأ في المحاكم الشرعية مقعدا، فلا جرم أن نسوقها إلى مشهد الأنظار المستقلة، ونضعها بين يدي الحجة، وللحجة قضاء لا يستأخر، وسلطان لا يحابي ولا يستكين.
لا أقصد في هذه الصحف إلى أن أعجم الكتاب جملة، وأغمز كل ما ألاقي فيه من عوج، فإن كثيرا من آرائه تحدثك عن نفسها اليقين، ثم تضع عنقها في يدك، دون أن تعتصم بسند أو تستتر بشبهة، وإنما أقصد إلى مناقشته في بعض آراء يتبرأ منها الدين الحنيف، وأخرى يتذمر عليه من أجلها التاريخ الصحيح، ومتى أميط اللثام عن وجه الصواب في هذه المباحث الدينية التاريخية، بقي الكتاب ألفاظا لا تعبر عن معنى، ومقدمات لا تتصل بنتيجة. •••
والكتاب مرتب على ثلاثة كتب، وكل كتاب يحتوي على ثلاثة أبواب، وموضوع الكتاب الأول: الخلافة والإسلام، وموضوع الكتاب الثاني: الحكومة والإسلام، وموضوع الكتاب الثالث: الخلافة والحكومة في التاريخ.
وطريقتنا في النقد أن نضع في صدر كل باب ملخص ما تناوله المؤلف من أمهات المباحث، ثم نعود إلى ما نراه مستحقا للمناقشة من دعوى أو شبهة فنحكي ألفاظه بعينها، ونتبعها بما يزيح لبسها، أو يحل لغزها، أو يجتثها من منبتها.
وتخيرنا هذا الأسلوب لتكون هذه الصحف قائمة بنفسها، ويسهل على القارئ تحقيق البحث، وفهم ما تدور عليه المناقشة ولو لم تكن بين يديه نسخة من هذا الكتاب المطروح على بساط النقد والمناظرة.
الكتاب الأول
الخلافة والإسلام
الباب الأول
الخلافة وطبيعتها
مناقشة المؤلف في جمل أوردها للدلالة على أن المسلمين يتغالون في احترام الخليفة - بحث في قولهم: «طاعة الأئمة من طاعة الله» - بحث في قولهم: «النصح للأئمة لا يتم إيمان إلا به» - بحث في قولهم: «السلطان ظل الله في الأرض» - مناقشة المؤلف في زعمه أن ولاية الخليفة عند المسلمين كولاية الله ورسوله - من أين يستمد الخليفة سلطته؟ - مناقشة المؤلف فيما استشهد به من أقوال الشعراء - الفرق بين مذهب «هبز» وحق الخليفة في الإسلام. ***
ملخص الباب
تعرض المؤلف في فاتحة هذا الباب إلى معنى الخلافة وأورد ما قاله بعض علماء الإسلام في تعريفها، وأردفه بنقل كلمات أهل العلم في الحث على نصح الخليفة ولزوم طاعته، وأضاف إليها كلمة من خطبة تعزى لأبي جعفر المنصور، وصاغ خلال ذلك وعقب ذلك جملا صور بها منزلة الخليفة في نظر المسلمين، بزعم أنها منتزعة من تعريفهم للخلافة أو مما يقولونه في الندب إلى طاعة الأمراء، ولم يتمالك بعد هذا أن طالب المسلمين بأن يبينوا له مصدر تلك القوة التي أفاضوها على الخليفة، وخرج في البحث إلى دعوى أن للمسلمين في سلطة الخليفة مذهبين:
أحدهما:
أنها مستمدة من سلطان الله.
وثانيهما:
أنها مستمدة من الأمة.
وضرب المثل لهذين المذهبين بمذهبي «هبز» الألماني «ولوك» الإنكليزي.
المناقشة
افتتح صاحب الكتاب البحث بحكاية كلمات وردت في تعريف الخلافة، وهي قول الشيخ عبد السلام: «رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي
صلى الله عليه وسلم .» وقول البيضاوي: «الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول عليه السلام في إقامة القوانين الشرعية وحفظ حوزة الملة.» وقول ابن خلدون: «الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها.»
ثم أخذ ينحت في تفسير هذه الكلمات جملا تشعر - بما انطوت عليه من غلو وإسهاب - أن منشئها سيتخذها سلما لدعوى إفراط المسلمين في إكبار مقام الخليفة وتوسيع سلطته!
وإليك نبذة من هذه الجمل ذات الكلمات المطلقة والمعاني المكررة: قال المؤلف في ص3: «فالخليفة عندهم ينزل من أمته بمنزلة الرسول
صلى الله عليه وسلم
من المؤمنين، له عليهم الولاية العامة، والطاعة التامة، والسلطان الشامل.» ثم قال: «وعليهم أن يحبوه بالكرامة كلها؛ لأنه نائب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وليس عند المسلمين مقام أشرف من مقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فمن سما إلى مقامه فقد بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر.»
شغل المؤلف مقدار صحيفتين أو أزيد بتكرار معان تعد من المعلومات الموضوعة على ظاهر اليد؛ ليلمح بتأكيد إلى أن المسلمين يقررون لمقام الخلافة سلطانا ومكانة فوق ما يستحقه رئيس حكومة عادلة، ثم هو لم يقف في بيان عبارات أولئك العلماء على حد ما تحتمله ألفاظهم كما هو شأن طلاب الحقيقة بإنصاف؛ بل أخذ يرمي الكلم على عواهنه، ويعدل عن الألفاظ المطابقة إلى غيرها من الألفاظ التي ربما قدحت في الذهن معاني غير صحيحة.
فعلماء الإسلام يقولون: «تجب طاعة الخليفة فيما يأمر به من معروف» والمؤلف يقول: له عليهم الطاعة التامة، فيحذف ما اشترطوه للطاعة من الاقتصار بها على المعروف، ويضع بدله كلمة تذهب بها إلى أن تتناول الطاعة العمياء!
وهم يقولون: «يجب أن يكون مكرما بين الناس - أي غير مهان - ليكون مطاعا.»
1
والمؤلف يقول: وعليهم أن يحبوه بالكرامة كلها! فيصرف القلم عن تعليلهم الذي يأخذ به المعنى قوة الحقائق، ويضع مكانه لفظ الشمول الذي يذهب بنفس القارئ إلى أقصى غاية.
وهذا النوع من التصرف في أقوال أهل العلم مما يغمز في أمانة صاحبه، وقد يغمض عنه الطرف في المقالات الأدبية أو في مقام الوعظ، أما الباحث في العلم فإنه حقيق بأن يؤاخذ به، وبالأحرى حيث يكون بصدد بيان رأي أو حكم انتصب لمناقشته أو نقضه.
وأعجب من هذا قوله بعد: لأنه نائب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وليس عند المسلمين مقام أشرف إلخ. فإنه ساق هذه الكلمة مساق التعليل لما عزاه إلى المسلمين في حق الخلافة، ومقتضى نسج الكلام أن المسلمين يرون أن الخليفة بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر! وهذه الكلمات إنما هي من مصوغات قلم المؤلف، وعليها طابع مبالغته الشعرية. والميزان الذي يرجع إليه المسلمون في المفاضلة بين البشر إنما هي الأعمال الصالحة المشار إليها بقوله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ؛ فمنزلة القائد الخطير ينقذ الأمة من سطوة عدو هاجم، والعالم الحكيم يحميها من ضلالات مبتدع خليع، هي أسمى في نظر المسلمين من منزلة الخليفة إذا لم يكن له من العمل ما يساوي عملهما في عظم الأثر وشرف الغاية.
ولم يزد أولئك العلماء أن قالوا في الخليفة: إنه نائب رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وهذا لا يقتضي أن يقال: سما إلى مقام رسول الله عليه السلام، وبلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق. ولو جرينا على هذا الضرب من الاستنتاج لقلنا: قال الله تعالى:
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، فداود عليه السلام سما إلى مقام الألوهية، أو بلغ الغاية التي لا مجال فيها لمخلوق. وهذا الضرب من الاستنتاج باطل بالبداهة، فليكن ما صنعه المؤلف خارجا عن الأقيسة الصادقة. •••
وجاء المؤلف بعد هذا بقطع التقطها مما قيل في احترام الخليفة ومحض النصيحة له، وحيث إنه أتى بها كمقدمات بنى عليها استعظام القوة التي توضع في يد الخليفة واستنكارها، حسبما انجر إليه البحث في ص6، وجب أن نطارحه الحديث فيما يراد منها، أو في أهلية قائليها لأن يوثق بهم أو يحتج بأقوالهم.
قال المؤلف
2
عازيا إلى حاشية الباجوري على الجوهرة: «عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ظاهرا وباطنا.» وعلله بقول أبي هريرة - آخذا من «العقد الفريد»: «إن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.»
نتحدث مع المؤلف فيما عزاه إلى أبي هريرة، فنذكره بأن «العقد الفريد» كتاب أدب لا يليق برجل يبحث في موضوع ديني أن يستند إلى شيء مما ينقله ذلك الكتاب عن صحابي أو غيره، وإذا أباح لنفسه الاستشهاد بما بين دفتي العقد الفريد؛ فلا يحق له بعد هذا أن يعمد إلى أحاديث في صحيحي البخاري ومسلم يراها واقفة في سبيل بعض آرائه فيقول: لنا أن ننازع في صحتها. وأصل خبر أبي هريرة في الصحيفة التي رمز إليها المؤلف من العقد الفريد: «لما نزلت هذه الآية:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
أمرنا بطاعة الأئمة، وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله، وقد تصرف المؤلف في الخبر بحذف كلمة «أمرنا». ولفظ أمرنا في قول الصحابي إما أن يجعل الخبر حديثا نبويا، كما هو رأي جمهور أهل العلم؛ إذ الظاهر أن الآمر هو صاحب الشريعة، وإما أن يبقى محتملا لأن يكون الآمر بعض الخلفاء والأمراء. وعلى كلا المذهبين فأبو هريرة راو إما لحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وإما لأثر عن بعض الخلفاء أو الأمراء.
وقد جاء في معنى خبر أبي هريرة حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة؛ وهو: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني.»
وليس في هذا الحديث ولا ذلك الخبر ما يدعو إلى غرابة ما دمنا نعلم أن الأمير الذي يقال: إن طاعته من طاعة الله وعصيانه من عصيان الله، هو الأمير المسلم الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكذلك تكون طاعته ظاهرا وباطنا؛ لأنه لم يكن سوى لسان يعبر عن أحكام الشريعة الثابتة بنص جلي أو استنباط صحيح. •••
قال المؤلف في ص4 عازيا إلى العقد الفريد: «فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.» ساق المؤلف هذه الجملة، ولا داعي لمساقها - فيما يظهر - إلا أن يطلع قراء كتابه على مقالة للمسلمين تجعل تمام الإيمان وثبات الإسلام موقوفين على نصح الإمام ولزوم طاعته. وهذا في رأيه موضع غرابة وإنكار؛ فإنه أورده في نسق ما رتب عليه قوله في ص6: «كان واجبا عليهم إذ أفاضوا على الخليفة تلك القوة إلخ.»
ونص عبارة العقد الفريد في الصحيفة التي رمز إليها: وقال
صلى الله عليه وسلم : «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ورسوله ولأولي الأمر منكم.» فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.
فصاحب العقد الفريد أورد العبارة كالبيان للحديث النبوي ، وهو بيان لا غبار عليه؛ لأنه إذا كانت النصيحة للأمراء معدودة في حقائق الدين، وبالغة مبلغ ما يقرن بالنصح لله ورسوله كانت بلا ريب من قبيل ما لا يكمل إيمان إلا به، ولا يستقيم إسلام إلا عليه. ولا يبقى معنا سوى أن العقد الفريد كتاب أدب لا يحل لنا الاعتماد عليه في شيء من المباحث الشرعية، فلا بد من الرجوع إلى كتب السنة لنعلم مبلغ هذا الحديث من الصحة. وهو مروي في صحيح مسلم
3
عن تميم الداري، ولفظه: أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.» •••
قال صاحب الكتاب في ص4: «وجملة القول: أن السلطان خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهو أيضا حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده، ومن كان ظل الله في أرضه، وخليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فولايته عامة ومطلقة كولاية الله تعالى وولاية رسوله الكريم.»
أورد المؤلف هذه الجمل على طريق الحكاية لما يقول المسلمون وهو غير مؤمن بها، ثم أضاف إليها أسفل الصحيفة نبذة من خطبة ألقاها أبو جعفر المنصور بمكة، وموضع إنكاره منها كما دل عليه في ص7 قوله في مستهلها: «إنما أنا سلطان الله في أرضه.» ودل في تلك الصحيفة أيضا على عدم رضاه عن قولهم: «ظل الله الممدود».
فقوله: حمى الله في بلاده. لم يعزه المؤلف إلى قائل بعينه، ومعناه قريب المأخذ بعيد عن مواقع اللبس، فإن الحمى يقال على المكان الذي يحميه الشخص ويمنع غيره من أن يدانيه، فيرجع إلى معنى الحرم والكنف، ومعنى كون السلطان حمى الله أنه الحرم الذي يأمن به كل خائف، والكنف الذي يضرع إليه كل ذي خصومة.
وقوله: وظله الممدود على عباده. ليس بمستنكر؛ إذ قد روي في معناه حديث نبوي، وهو: «السلطان ظل الله في الأرض.» والمعنى أنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى حر الشمس.
4
وقوله: فولايته عامة ومطلقة كولاية الله تعالى ورسوله الكريم. هذا من مبالغاته التي تضع للخلافة في نفوس المستضعفين من الناس صورة مكروهة، ولو كان المؤلف يمشي في بحثه على صراط سوي لتحرى فيما ينطق به عن المسلمين أقوالهم المطابقة، وهم لم يقولوا: إن ولاية الخليفة عامة ومطلقة كولاية الله؛ فإن الله يفعل ما يشاء فيمن يشاء، ولا يسأل عما يفعل، والخليفة مقيد بقانون الشريعة ومسئول عن سائر أعماله، وكذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم
له خصائص لا يحوم عليها الطير ولا يبلغها مدى البصر، منها أن تصرفاته نافذة ولا تتلقى إلا بالتسليم، وتصرفات الخليفة قد تقابل بالمناقشة والنقض والإنكار، فإن عنى بالعموم والإطلاق مجرد تناولها للرقاب والأموال والأبضاع، قلنا له: إن نزاهة البحث والأخذ فيه بفضيلة الإنصاف يقضيان عليه بطرح هذه العبارة المرهقة بالعموم والإطلاق وتشبيه المخلوق بالخالق
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون .
قال المؤلف
5
عازيا إلى طوالع الأنوار وشرحه مطالع الأنظار: «ولا غرو أن يكون له حق التصرف في رقاب الناس وأموالهم وأبضاعهم.» قطف المؤلف هذه الجملة من أصلها وأطلقها خالية من الروح التي تجعلها حكمة جلية، فإن صاحب المطالع إنما ألقاها في نسق التعليل لأخذ العدالة شرطا من شروط الإمامة فقال: «الرابعة: أن يكون عدلا؛ لأنه يتصرف في رقاب الناس وأموالهم وأبضاعهم.» وقال شارحه في المطالع: «لو لم يكن - يعني الإمام - عدلا لم يؤمن تعديه، وصرف أموال الناس في مشتهياته، وتضيع حقوق المسلمين.»
فالمراد من التصرف في الأموال والرقاب والأبضاع التصرف بحق؛ وهو التصرف بنحو القضاء، أو بعمل مشروع كاستخلاص الأموال المفروضة، وحمل الناس على أمر الجندية، وولاية نكاح من لا ولي لها. •••
ثم ذهب المؤلف في نحو من صحيفة يكيل للخليفة من إطلاق اليد وسعة السلطان ما كففنا طغيان بعضه فيما سلف، وسنتولى تهذيب بعضه فيما يأتي، وقد شعر وهو منفلت العنان بأن الحقيقة تصيح به من كل جانب، وتضرب بأشعتها على رأس قلمه، فوقف بمقدار ما اعترف بأن الخليفة عند المسلمين مقيد بحدود الشرع، ثم انقلب يصف السبيل التي رسمتها الشريعة بكلام له باب باطنه فيه النقد ، وظاهره من قبله الرضاء! وإنما قلت: باطنه فيها النقد؛ لأنه سيصرح بإنكار الخلافة، وإنكار أن يكون للإسلام شأن في السياسة، دون أن تأخذه فيما أنكر أناة أو هوادة.
ثم قال في ص5: «نعم، هم يعتبرون الخليفة مقيدا بقيود الشرع، ويرون ذلك كافيا في ضبطه يوما إن أراد أن يجمح، وفي تقويم ميله إذا خيف أن يجنح.»
يرى المسلمون أن الخليفة مقيد بقانون الشريعة على الوجه الذي سنحدثك عنه في نقض الكتاب الثاني، وأن الإسلام قرر لهم من الحقوق أن تقوم حول الخليفة أمة من الذين أوتوا العلم يتقصون أثره، فيأمرونه بالمعروف إن تهاون، وينهونه عن المنكر إن طغى، فإذا ركب غارب الاستبداد وأعياهم تقويم أوده خلعوه غير مأسوف عليه.
وقد كان بعض الخلفاء يرعى هذا الحق بصدق كما أن الأمة في الصدر الأول كانت تعمل عليه بقوة، فانتظمت السياسة وأشرق محيا العدالة، وقامت قاعدة المساواة على وجهها. •••
قال المؤلف في ص6: «قد كان واجبا عليهم إذ أفاضوا على الخليفة كل تلك القوة، ورفعوه إلى ذلك المقام، وخصوه بكل هذا السلطان، أن يذكروا لنا مصدر تلك القوة التي زعموها للخليفة: أنى جاءته؟ ومن الذي حباه بها وأفاضها عليها؟!»
ألقى المؤلف هذا السؤال المشبع بالإنكار بعد أن قرر على لسان المسلمين واجبات الخليفة، وكساها صبغة غير الصبغة التي فطرها الله عليها، ولم يخرج هذا السؤال على قارئ الكتاب فجأة حتى يتلجلج لسانه في الجواب عنه دهشة، بل روح الصحف السابقة والثوب الفضفاض الذي كانت تتبرج فيه جملها يشعران بأن المؤلف سيذهب في أمر الخلافة مذهب الجاحدين، ويتبع غير سبيل المسلمين. وقد عرفت إذ ناقشناه في أقواله ومنقولاته أن الإسلام لم يجئ في أمر الخليفة ببدع من القول، ولم يملكه سلطة تبخس المسلمين شيئا من حريتهم، أو تجعله يتصرف في شئونهم حسب أهوائه، فالقوة المشروعة للخليفة لا تزيد على القوة التي يملكها رئيس دولة دستورية، وانتخابه في الواقع إنما كان لأجل مسمى؛ وهو مدة إقامته قاعدة الشورى على وجهها، وبذله الجهد في حراسة حقوق الأمة ، وعدم وقوفه في سبيل حريتها. •••
قال المؤلف في ص7: «على أن الذي يستقرئ عبارات القوم المتصلة بهذا الموضوع يستطيع أن يأخذ منها بطريق الاستنتاج أن للمسلمين في ذلك مهذبين: المذهب الأول: أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى، وقوته من قوته.»
الاستمداد من سلطان الله وقوته يجيء لمعنيين؛ أحدهما: الاستمداد بطريق الاستقامة والعدل، وهو معنى صحيح وحقيقة واقعة، ومن شواهده قوله تعالى:
ولينصرن الله من ينصره ، وقوله تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، فالخليفة قد يستمد من سلطان الله وقوته متى كان طيب السريرة، مستقيم السيرة، ينفق العزيز من أوقاته في إصلاح شئون الأمة، ولا يألو جهدا في الدفاع عن حقوق البلاد بحكمة وثبات. ثانيهما: الاستمداد من قوة الله وسلطانه بطريق غيبي ليس له من سبب سوى كونه خليفة. وهذا ما يقصد المؤلف إلى جعله أحد مذهبين في الإسلام، وقد جاءت هذه الدعوى مكبة على وجهها، ولم يسعفها المؤلف بما يبل ظمأها.
قال المؤلف في ص7: «ذلك رأي تجد روحه سارية بين عامة العلماء وعامة المسلمين أيضا، وكل كلماتهم عن الخلافة ومباحثهم فيها تنحو ذلك النحو، وتشير إلى هذه العقيدة.»
شد ما عنينا بأمر الخلافة وأنفقنا في مطالعة الكتب الممتعة بالبحث عنها نظرا طويلا ووقتا واسعا، فلم نعثر مع هذا على كلمة تنبئ - ولو بطريق التلويح - أن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله، وقصارى ما يستنتج من كلماتهم عنها ومباحثهم فيها أن الله أوجب على الناس إقامة إمام، وأن ولايته تنعقد إما بمبايعة أهل الحل والعقد، وإما بعهد من الخليفة قبله، وأنه إذا سعى في السياسة فسادا كان للأمة انتزاع زمام الأمر من يده، ووضعه في يد من هو أشد حزما، وأقوم سبيلا.
والذي يؤخذ بطريق الاستنتاج أن المؤلف عرف أن للغربيين في سلطة الملك مذهبين، فابتغى أن يكون للمسلمين مثلهما، ولما لم يجد في كلام أهل العلم عن الخلافة ما يوافق أو يقارب القول بأن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله تلمسه في المدائح من الشعر أو النثر، وادعى أنه ظفر ببغيته، وساقها كالشواهد على تقرير مذهب ليس له بين الراسخين في العلم من مبتدع ولا تبيع. ولا أظن المؤلف يجد في مباحث الخلافة ما يشتم منه رائحة هذا المذهب، ويتركه إلى الاستشهاد بأقوال الشعراء أو كلمات صدرت على وجه المبالغة في الثناء.
ولو رمى هذا المذهب على كتف الفرقة الغالية من الشيعة لكان له من بعض مقالاتهم متكأ، ولكن حديث هذه الطائفة لا مساس له بالخلافة التي طرح عليها بحثه وسلقها بكلماته الحداد.
قال المؤلف في ص7: «وقد رأيت فيما نقلنا لك آنفا أنهم جعلوا الخليفة ظل الله تعالى، وأن أبا جعفر المنصور زعم أنه سلطان الله في أرضه.»
إذا جعلوا الخليفة ظل الله تعالى؛ فللحديث المروي: «السلطان ظل الله.» وسبق شرحه بأنه خرج مخرج التشبيه؛ حيث إنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى حر الشمس عمن يأوي إليه، وإضافته إلى الله؛ لأنه أمر بإقامته وإطاعته. وأين هذا من معنى استمداد السلطان من سلطان الله؟!
وقول أبي جعفر المنصور: إنه «سلطان الله في أرضه.» لا صلة له بالمعنى الذي يتحدث عنه المؤلف، وتأويل معناه - كما عرفت - أن الله أمر بإقامة السلطان وطاعته، ومن هذه الجهة يصح إضافته إلى الله، وبالأحرى حيث يكون قائما على حراسة شرعه، ويسير في سياسة الناس على صراط مستقيم، فإن لم يكن المنصور على هذه السيرة؛ فغاية ما يقال عنه: إنه سمى نفسه سلطان الله وهو غير صادق في هذه التسمية.
قال المؤلف في ص7: «وكذلك شاع هذا الرأي وتحدث به العلماء والشعراء منذ القرون الأولى، فتراهم يذهبون دائما إلى أن الله جل شأنه هو الذي يختار الخليفة، ويسوق إليه الخلافة.»
يعرف العلماء أن بين الخالق جل شأنه وأمر الخلافة صلة القضاء والقدر، وذلك معنى لا يختص بالخلافة؛ بل يتحقق في كل ما يحدث في الكون من محبوب ومكروه. وهناك معنى آخر زائد على القضاء والقدر، وهو الإرادة بمعنى المحبة والرضا. وهذا أيضا يتعلق بكل ما فيه خير وصلاح، ولا يتعلق بأمر الخلافة إلا بتفصيل ، وهو أن يقال: متى كان الخليفة مستقيما عادلا كانت ولايته خيرا وصلاحا، وصح أن يقال: وقعت بإرادة الله؛ أي محبته ورضاه، وإن كان جائرا فاسقا عن أمر ربه كانت ولايته شرا وفسادا، واستحقت أن يقال عليها: إنها لم تكن محبوبة لله ولا مختارة عنده.
وممن نبه على حقيقة هذه الإرادة واختصاصها بما هو خير ومأمور به: أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته،
6
وشيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الأمر والإرادة،
7
فدعوى أن العلماء يذهبون دائما إلى أن الله هو الذي يختار الخليفة ويسوق إليه الخلافة لا نجد في أقوال العلماء ما يحوم عليها، وما هي إلا كلمة سقطت من قلم المؤلف قبل أن تأخذ حظها من البحث وإمعان الفكر.
قال المؤلف في ص7: على نحو ما ترى في قوله:
جاء الخلافة أو كانت له قدرا
كما أتى ربه موسى على قدر
وقول الآخر:
ولقد أراد الله إذ ولاكها
من أمة إصلاحها ورشادها
وقال الفرزدق:
هشام خيار الله للناس والذي
به ينجلي عن كل أرض ظلامها
وأنت لهذا الناس بعد نبيهم
سماء يرجى للمحول غمامها
البيت الأول من قصيدة لجرير يهنئ بها عمر بن عبد العزيز بالخلافة، ولو كان المؤلف يقدر الخلفاء المستقيمين حق قدرهم لأتينا في الاستشهاد على صحة معنى هذا البيت بأن جريرا أنشده بين يدي عمر بن عبد العزيز، بعد أن قال له: «اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقا.» وأقره عليه.
أما حيث يقول في ص36: «إن الخلافة نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد!» فنخشى أن يعد إقرار عمر بن عبد العزيز لجرير على هذا البيت شرارة من تلك النكبة، أو قطرة من ذلك الينبوع، فلا مندوحة حينئذ عن أن ندخل إلى نقض كلامه من باب تحرير معنى البيت وشرحه على مقتضى الاستعمال العربي.
قوله:
جاء الخلافة أو كانت له قدرا
وقعت «أو» هنا موقع الواو، وفي رواية:
إذ كانت له قدرا
8
وهذا الشطر وارد على ما يفيده قوله تعالى:
ثم جئت على قدر يا موسى ، ومعنى الآية : جئت على قدر قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر.
9
وعلى مقتضى هذا التفسير يكون معنى:
جاء الخلافة أو كانت له قدرا
أنه جاء الخلافة على القدر الذي قدره الله لها، ويراد بهذا أنه نالها بغير تعب ولا معاناة، قال الدماميني في شرح المغني:
10 «كانت له قدرا؛ كانت مقدرة لا سعي له فيها.» فليس في البيت الذي أنشد بين يدي عمر بن عبد العزيز ما يدل على أن الله اختاره خليفة وساق إليه الخلافة إلا على معنى القدر الذي لا يغادر حادثا من حوادث الكون إلا أتى عليه.
وأما البيت الثاني وبيت الفرزدق فلا حرج علينا أن نطوي بساط المناقشة دونهما؛ إذ المسألة تقرير مذهب في أحد المباحث العلمية أو الدينية، وحق هذا المقام ألا يوثق فيه بأقوال الشعراء بعد أن عرفنا في فن البديع أن كلامهم ينقسم إلى مبالغة وإغراق وغلو، ومع هذا الوجه الكافي في طرحهما من حساب تلك الشبه الواهية نقول: إن معنى البيتين لم يكن ناشئا عن عقيدة خاصة في الخليفة والخلافة، وإنما هو مبني على العقيدة العامة من أن ما كان خيرا وصلاحا تتعلق به الإرادة على وجه الرضا والمحبة. وهذا ما يدعيه الشاعران في ولاية ممدوحيهما، وقد يقولان ذلك وهما يعتقدان أن مدحهما غير مطابق للواقع، وأين هذا من تلك الدعوى الواسعة وهي الاعتقاد بأن الله هو الذي يختار الخليفة؟! ولو تعلم المؤلف تأويل الأحاديث وتلا قوله تعالى:
وجعلكم ملوكا ، وقوله:
تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ، وقوله:
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث
لم يلتبس عليه قول الشاعر: «إذ ولاكها.» أو يجره إلى شبهة أقرب إلى العدم من سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. •••
قال المؤلف في ص8: «ولقد كان شيوع هذا الرأي وجريانه على الألسنة مما سهل على الشعراء أن يصلوا في مبالغاتهم إلى وضع الخلفاء في مواضع العزة القدسية أو قريبا منها، حتى قال قائلهم:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
وقال طريح يمدح الوليد بن يزيد: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
لو قلت للسيل دع طريقك والمو
ج عليه كالهضب يعتلج
لساخ وارتد أو لكان له
في سائر الأرض عنك منعرج
قبض المؤلف قبضة من أثر جرجي زيدان ونبذها في كتاب الإسلام وأصول الحكم. اقرأ كتاب تاريخ التمدن الإسلامي
11
تجده تعرض إلى ما حدث من الغلو في احترام الخلفاء أيام الدولة العباسية، ثم قال: «فلا غرو إذا سموا الخليفة في أيام المتوكل ظل الله الممدود بينه وبين خلقه»، أو قالوا قول ابن هانئ للمعز الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فهذا البيت ينسب إلى ابن هانئ،
12
كما ترى، ونسبه المعري في رسالة الغفران
13
إلى شاعر يدعى بابن القاضي، فقال: «حضر شاعر يعرف بابن القاضي بين يدي ابن أبي عامر، صاحب الأندلس، فأنشده قصيدة أولها:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
ويقول فيها أشياء، فأنكر عليه ابن أبي عامر وأمر بجلده ونفيه.» فعلى رواية المعري خرج البيت عن أن يكون خطابا لخليفة كما يدعي المؤلف، وعلى كلا الروايتين لم يكن هذا الغلو في الوصف من أثر الاعتقاد بأن الخليفة أو الأمير يستمد سلطانه من سلطان الله، وإنما هو انحلال عقدة الإيمان بالله ينضم إليه الإغراق في التملق وحب العاجلة، فينحدر الشاعر في مديحه طلق العنان، خالعا على ممدوحه من ألقاب العظمة والقوة ما يتخطى به إلى مقام الألوهية. وقد وقع مثل هذا من عضد الدولة في قوله يصف نفسه:
مبرزات الكأس من مطلعها
ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها
ملك الأملاك غلاب القدر
14
فالحق أن علة هذا النوع من الشعر إنما هي تجرد النفس من طبيعة الحياء والأدب مع الخالق، ينضم إليه داعي الطمع أو الفخر أو التباهي بالحذق في صناعة البيان. قال أبو بكر بن العربي في كتاب الأحكام:
15 «إن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب ، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون، ألا ترى إلى قول بعضهم:
ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها
لما كنت أدري علة للتيمم
وهذا كفر صراح نعوذ بالله منه.»
وأما بيتا طريح فأراد بهما المبالغة في مدح الوليد بالسطوة ونفاذ الكلمة، حتى ادعى أنه لو أمر السيل الجارف بالانصراف عن طريقه لم يسعه إلا الإذعان لأمره والخضوع لسلطانه، ولا يصح أن يعد مثل هذا من أثر الاعتقاد بأن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله، وإنما هو من نوع الغلو الذي يرتكبه الشعراء في أكثر فنون الكلام من غزل ومديح وهجاء وحماسة. •••
قال المؤلف في ص8: «وأنت إذا رجعت إلى كثير مما ألف العلماء، خصوصا بعد القرن الخامس الهجري، وجدتهم إذا ذكروا في أول كتبهم أحد الملوك أو السلاطين رفعوه فوق صف البشر، ووضعوه غير بعيد من مقام العزة الإلهية.»
بدا للمؤلف أن يبتدع للمسلمين في سلطان الخليفة مذهبا لا يعرفونه، ولما لم يجد في مباحث الخلافة ما ينبئ به، ولو بطريق التلويح أو الاقتضاء، صمم على أن يقرره، وصمم على أن يعزوه لعامة العلماء وعامة المسلمين، وعندما أفضت النوبة إلى تلاوة المستندات قام ينشد من شعر جرير والفرزدق وابن هانئ وطريح وغيرهم، كأنه يبحث في حكم لغوي أو سر من أسرار البيان.
ولعله انتبه إلى أن ما أنشده من الشعر أقل من أن يثير شبهة، وأوهى من أن يستهوي النفوس إلى ظن، فأخذ ينبش عما يقوله العلماء في مديح الخلفاء من نثر، عسى أن يجدهم انفلتوا في هذا الصدد، وحام بهم الإغراق والغلو على نحو ما مر لأولئك الشعراء، فلم تقع يده إلا على بعض جمل نسجت على منوال السرف في مديح ملوك ليسوا بخلفاء، وما كان إلا أن أتى بما يوسع نطاق الدعوى حتى يدخل تحت جناحيها الخلافة والملك، ويهيئ للاستشهاد بتلك الجمل موضعا، فقال: وجدتهم إذا ذكروا في أول كتبهم أحد الملوك أو السلاطين رفعوه فوق صف البشر إلخ .» وضرب المثل لهذا جملا انتزعها من خطبة نجم الدين القزويني في أول الرسالة الشمسية، وجملا من خطبة شارحه قطب الدين الرازي، وأخرى من خطبة حاشية السيالكوتي على ذلك الشرح.
ونناقش المؤلف في هذا الصنيع من ناحيتين؛ إحداهما: أن المقال معقود للبحث في سلطان الخليفة، وهؤلاء إنما يصفون ملوكا ليسوا بخلفاء، وثانيهما: أن هذه الكلمات خرجت مخرج المبالغة في المديح والإطراء، وليس هذا من أثر الاعتقاد بأن سلطان الملك مستمد من سلطان الله، وإنما علته أحوال نفسية؛ كالرغبة في إحراز جاه، أو الحرص على متاع هذه الحياة. ومما ينبه على هذا أن كلمات المديح والثناء كثيرا ما تجري على ألسنة قوم وقلوبهم تتبرأ منها. •••
قال المؤلف في ص11: «ويكاد المذهب الأول يكون موافقا لما اشتهر به الفيلسوف «هبز» من أن سلطان الملوك مقدس، وحقهم سماوي.»
يقول هبز:
16 «إن كل فرد في المملكة يجب أن تكون إرادته خاضعة لسلطان الحاكم، وخضوع الحاكم لأي فرد من أفراد الرعية مخالف لمقتضى الطبيعة، والنزوع للخروج عن إرادة الحاكم أو ردها يعتبر ثورة وتمردا، والدين يجب أن يخضع لإرادة الحاكم.»
هذا مذهب هبز الذي يحاول المؤلف ضربه مثلا لمذهب عامة العلماء وعامة المسلمين في سلطان الخليفة.
أقم الوزن بالقسط تر هبز يقول: إن كل فرد يجب أن تكون إرادته خاضعة لسلطان الحاكم، وعلماء الإسلام يقولون: لا يطاع الحاكم إلا حين يأمر بحق. وهو يقول: خضوع الحاكم لأي فرد من أفراد الرعية مخالف لمقتضى الطبيعة، وعلماء الإسلام يقولون: على الحاكم أن يخضع لأدنى الناس منزلة متى أمره بمعروف أو نهاه عن منكر. وهو يقول: رد إرادة الحاكم يعتبر ثورة أو تمردا، وعلماء الإسلام يقولون: إذا أراد الحاكم أن يدير شأنا من شئون الأمة على غير مصلحة، أو يفصل في قضية على وجه يخالف قانون العدل؛ فلا حرج على الأمة أن ترد إرادته بطريق الحكمة، ولا يصح له أن يعد مقاومتهم لهذه الإرادة ثورة أو تمردا.
قال أحد أمراء بني أمية لبعض التابعين: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله:
وأولي الأمر منكم ؟ فأجابه بقوله: أليس قد نزعت عنكم الطاعة إذا خالفتم الحق بقوله:
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله ؟
17
ويقول هبز: الدين يجب أن يخضع لإرادة الحاكم، وعلماء الإسلام يقولون: يجب على الحاكم أن يخضع لقانون الإسلام نصا أو استنباطا، وعليه أن يخلي السبيل للطوائف المخالفة تتمتع بالحرية في أديانها وإقامة شعائرها، ولا يحل له أن يعترضها بحال.
الباب الثاني
في حكم الخلافة
المناقشة - الإجماع على نصب الإمام - التباس حاتم الأصم بحاتم الصوفي على المؤلف - الفرق بين القاعدة الشرعية والقياس المنطقي - ترجيح حمل «أولي الأمر» في الآية على الأمراء - هل نأخذ أحكام الدين عن المستر أرنولد؟! - معنى «ما فرطنا في الكتاب من شيء» - لماذا لم يحتج بعض علماء الكلام في مسألة الخلافة بالحديث؟ - لماذا وضع بحث الخلافة في علم الكلام؟ - بحث في: «أعطوا ما لقيصر لقيصر». ***
ملخص الباب
تعرض المؤلف في هذا الباب لحكم الخلافة وما جرى فيه من اختلاف، وحكى كلام ابن خلدون في انعقاد الإجماع على الوجوب، وشذوذ بعض الطوائف عنه، ثم نقل الدليل النظري على وجوبها من كتاب القول المفيد للأستاذ الشيخ محمد بخيت، وتخلص بعد هذا إلى إنكار أن يكون في الكتاب أو السنة دليل على الوجوب، وأخذ يتكلم في تفسير بعض آيات ليبين عدم اتصالها بشيء من أمر الإمامة، ثم أخذ يناقش الأستاذ السيد محمد رشيد رضا في أحاديث استشهد بها على وجوب الخلافة، فأومأ إلى الارتياب في صحتها، وذهب يتأولها على وجه غريب، ويسوق على هذا التأويل أمثلة ليست جارية على قانون المنطق في كثير ولا قليل.
المناقشة
قال المؤلف في ص12: «ولكنهم لا يختلفون في أنه - يعني نصب الإمام - واجب على كل حال حتى زعم ابن خلدون أن ذلك مما انعقد عليه الإجماع.»
لم ينفرد ابن خلدون بحكاية الإجماع على نصب الإمام، بل تضافر عليها كثير من علماء الكلام؛ كالعضد في المواقف، والسعد في المقاصد، وإمام الحرمين في غياث الأمم، وغيرهم.
وقال ابن حزم في كتاب الفصل:
1
اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، ما عدا النجدات من الخوارج
2
فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم. ثم قال: وقول هذه الفرقة ساقط يكفي في الرد عليه إجماع كل من ذكرنا على بطلانه.
فقول المؤلف: «حتى زعم ابن خلدون أن ذلك مما انعقد عليه الإجماع.» عبارة يصوغها من لم يطلع على الإجماع محكيا في غير مقدمة ابن خلدون، أو من يريد أن يضع في نفس القارئ عقيدة أن هذا الإجماع إنما جاء حديثه في تلك المقدمة. ولا أدري لماذا اختار هذه العبارة وهو يشعر بأنه سينجر به البحث في ص15 و21 إلى الاعتراف بأن الإجماع محكي في كتاب المواقف. •••
نقل المؤلف في ص12 قول ابن خلدون: «وقد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا المنصب رأسا، لا بالعقل ولا بالشرع؛ منهم الأصم من المعتزلة.» وقال في أسفل الصحيفة معرفا بالأصم: «حاتم الأصم الزاهد المشهور البلخي.»
التبس على المؤلف حال الأصم المعتزلي، وهو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان بحاتم الأصم الصوفي، وقد ذكره السيد في شرح المواقف، والسعد في شرح المقاصد بلقب أبي بكر، وذكره إمام الحرمين في كتاب غياث الأمم باسمه عبد الرحمن بن كيسان، وجمع أحمد بن يحيى المرتضى في طبقات المعتزلة بين اسمه ولقبه فقال: أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم.
3 •••
قال المؤلف في ص13: «لم نجد فيما مر بنا من مباحث العلماء الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم.»
استدل بعض أهل العلم على الإمامة بقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، وقد نقل المؤلف نفسه الاستدلال بهذه الآية عن ابن حزم، وأوردها سعد الدين التفتزاني في شرح المقاصد،
4
فقال: وقد يتمسك بمثل قوله تعالى:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، وقوله
صلى الله عليه وسلم : «من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية.» فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي وجوب الحصول، وقال صاحب مطالع الأنظار
5
بعد أن قرر الدليل النظري على وجوب الإمامة: «قيل: صغرى هذا الدليل عقلية من باب الحسن والقبح، وكبراه أوضح عقلا من الصغرى، والأولى أن يعتمد فيه على قوله تعالى:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم .»
وهذه النصوص تريك قيمة قول المؤلف: لم نجد من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم. •••
قال المؤلف في ص14: «ولكن المنصفين من العلماء والمتكلفين منهم قد أعجزهم أن يجدوا في كتاب الله تعالى حجة لرأيهم؛ فانصرفوا عنه إلى ما رأيت من دعوى الإجماع تارة، ومن الالتجاء إلى أقيسة المنطق وأحكام العقل تارة أخرى.»
سمى المؤلف طريق الاستدلال الذي نحاه الأستاذ الشيخ محمد بخيت ومن تقدمه من علماء الكلام قياسا منطقيا وحكما عقليا. وهذا مما يخيل إلى القارئ أن هذا الضرب خارج عن الأدلة الشرعية، والتحقيق أنه راجع إلى الأدلة السمعية، ويشهد بهذا قولهم: إن نصب الإمام عندنا واجب سمعا لوجهين؛ الوجه الأول: الإجماع، والثاني: هذا الدليل الذي اختار المؤلف أن يسميه حكما عقليا.
وإن شئت بيان ما صرف عنه المؤلف عبارته - من أن ذلك الاستدلال قائم على نظر شرعي - فإليك البيان:
يعتمد استنباط الأحكام على نظرين؛ أحدهما: يتعلق بالأدلة السمعية التي يقع منها الاستنباط، وثانيهما: يرجع إلى وجوه الدلالات المعتد بها في الاستعمال.
أما الأدلة السمعية فهي الكتاب والسنة والإجماع، وأما وجوه الدلالات فدلالة بالمنطوق، ودلالة بالمفهوم، ودلالة بالمعقول. ويندرج في دلالة المعقول ما يسمونه بالقياس.
فانحصرت الأدلة الشرعية العالية في الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وهناك أدلة أخرى ترجع إلى هذه الأصول العالية، وهي القواعد المقطوع بصحتها كقاعدة «الضرر يزال»، و«المشقة تجلب التيسير»، و«العادة محكمة»؛ فإن مثل هذه القواعد لم يقررها العلماء بمحض العقل، بل رجعوا في كل قاعدة إلى استقراء موارد كثيرة من كليات الشريعة وجزئياتها حتى تحققوا قصد الشارع إليها، وأصبحت بمنزلة الخبر المتواتر في وقوعها موقع اليقين الذي لا تخالجه ريبة، قال أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته: إن المجتهد إذا استقرأ معنى عاما من أدلة خاصة، واطرد له ذلك المعنى، لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تظهر، بل يحكم عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة.
فالذين يستدلون على وجوب نصب الإمام بأن ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم عن الباطل وازع؛ يفضي إلى تبدد الجماعة، وإضاعة الدين، وانتهاك حرمة الأموال والنفوس والأعراض؛ إنما يطبقون قاعدة شرعية وهي قاعدة «الضرر يزال»، وقاعدة «ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا فهو واجب».
قال المؤلف في ص15: «وغاية ما يمكن إرهاق الآيتين به أن يقال: إنهما تدلان على أن للمسلمين قوما منهم ترجع إليهم الأمور، وذلك معنى أوسع كثيرا وأعم من تلك الخلافة بالمعنى الذي يذكرون، بل ذلك معنى يغاير الآخر ولا يكاد يتصل به!»
عبر بالإرهاق ليخيل إليك أن حمل أولي الأمر في الآيتين على قوم ترجع إليهم الأمور هو من باب صرف اللفظ إلى ما فيه عسر وتكلف. لندع مناقشته في آية:
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم
جانبا؛ فإن الصواب ما قاله المحققون من أن المراد بها كبار الصحابة البصراء في الأمور، ونأخذ بأطراف الحديث معه في آية:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فنقول: إن حمل الآية على الأمراء راجح من وجوه:
أحدها:
سبب النزول؛ ففي صحيح الإمام البخاري رواية عن ابن عباس أن
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي
صلى الله عليه وسلم
في سرية.
ثانيها:
ورودها بعد آية:
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ، قال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، ولم يكن أحد بالمدينة يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ، فقال: هذه في الولاة.
6
ثالثها:
تعقيبها بقوله تعالى:
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله ، فإن الخطاب للمؤمنين عامة، ومن بينهم أهل الحل والعقد من العلماء. وشأن عامة المؤمنين أن ينازعوا أولي الأمر في بعض تصرفاتهم، وليس لهم أن ينازعوا العلماء فيما يصدرونه من الفتاوى؛ إذ يراد من العلماء المجتهدين، ومن أين لغيرهم من عامة الأمة أن ينازعهم في تقرير حكم؟ أو العرف كيف يرده معهم إلى كتاب الله وسنة رسوله؟
وإذا ترجح حمل الآية على الأمراء لم تكن دلالتها على أن للمسلمين قوما ترجع إليهم الأمور، مما يستحق أن يسمى إرهاقا.
وقول المؤلف: «وذلك معنى أوسع كثيرا وأعم من تلك الخلافة.» مما نتلقاه بتسليم، ولا يفوت الآية مع هذا أن تبعث من ناحية عمومها ما يشد ركن الإمارة العامة، ويعزز شواهدها على الوجه الذي سنقص عليك تحريره عندما يقتضيه الحال.
وأما قوله: «بل ذلك معنى يغاير الآخر ولا يكاد يتصل به.» فمن الكلم المبهم الذي لا ينطق به الباحث عن الحق دون أن ينفخ فيه روحا من الشرح والبيان، اللهم إلا أن ينوي محاربة الخلافة ولو بهمزات التشكيك فيما يعده الناس من مؤيدات سلطانها. •••
قال المؤلف في ص15: «وإذا أردت مزيدا في هذا البحث فارجع إلى «كتاب الخلافة» للعلامة السير تومس أرنولد؛ ففي الباب الثاني والثالث منه بيان ممتع مقنع.»
بحثنا عن هذا الكتاب في كثير من المكاتب لنطلع على ما انفرد به العلامة الإنكليزي في تحرير حكم الخلافة؛ فلم نهتد السبيل لإحراز نسخة منه، وما سلوناه إلا حين ذكرنا أن المؤلف قد أحاط بذينك البابين خبرا، وعرفنا من نظره إلى الخلافة بعين عابسة أنه لا يجد فيهما ما يشد عضده على تقويض صرحها إلا وينقله دون أن يكتفي بالإحالة عليه.
ولو أحالنا المؤلف على كتاب السير أرنولد في بحث تاريخي أو اجتماعي له مساس بالخلافة لأخذ منا الأسف على أن فاتنا الاطلاع عليه مأخذا بليغا، ولكنه أحالنا على كتاب السير أرنولد في تحقيق حكم شرعي فقلنا: لعله أراد خلط الجد بشيء من الهزل، أو إخراج أحكام الشريعة من دائرة الراسخين في علومها.
يجب أن تكون قيمة الأحكام الشرعية في نظر المؤلف فوق هذا التقدير، وما ينبغي له أن يخيل إلينا أنا في حاجة إلى الاقتداء بعقول الغربيين حتى في أمور الدين من واجب وحرام. وإذا كان المؤلف يدري أن للشريعة أصولا ومقاصد لم يدرسهما السير أرنولد حق دراستهما، فإن إحالتنا على كتابه ليست سوى عثرة في سبيل البحث تعترض السذج من الأحداث؛ فتكبو بهم في تردد وارتياب. •••
قال المؤلف في ص16: «إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيدك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس فترى فيه تصريف كل مثل، وتفصيل كل شيء من أمر هذا الدين
ما فرطنا في الكتاب من شيء ، ثم لا تجد فيه ذكرا لتلك الإمامة العامة أو الخلافة! إن في ذلك لمجالا للمقال.»
في القرآن بيان كل شيء من أمور الدين وأحكام الوقائع، وليس معنى هذا التبيان أنه يذكر أحكام الأشياء على وجه التفصيل، حتى إذا رجعنا إليه في قضية ولم نجد لها حكما مفصلا خالطت قلوبنا الريبة من حكمها الذي دلت عليه السنة، أو انعقد عليه إجماع أهل العلم، أو شهدت به القواعد المسلمة.
وإنما معنى تبيانه لكل شيء أنه أتى بكليات عامة، وهي معظم ما نزل به، وفصل بعض أحكام، وأحال كثيرا من آياته على بيان السنة النبوية، ثم إن الكتاب والسنة أرشدا إلى أصول أخرى كالإجماع والقياس وغيرهما من القواعد المستفادة من استقراء جزئيات كثيرة كقاعدة «المصالح المرسلة» وقاعدة «سد الذرائع»، قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب الموافقات: «تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي
7 ... فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينات، ومكمل كل واحد منها. وهذا كله ظاهر أيضا، فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو: السنة ، والإجماع، والقياس، وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن.»
8
فإن لم ينص القرآن على حكم الخلافة؛ فإن في أيدينا من طرق تبيانه السنة والإجماع والقياس والقواعد التي لا يأتيها الريب من بين يديها ولا من خلفها. •••
قال المؤلف في ص16: «ولو وجدوا لهم في الحديث دليلا لقدموه في الاستدلال على الإجماع.»
لما انتقل مبحث الخلافة إلى علم الكلام ودارت المناظرة فيها مع طائفة ألقت عليها شيئا من صبغة العقائد، رأى أهل العلم أن هذه الطائفة لا يكف بأسها ويسد عليها طرق المشاغبة إلا الأدلة الحاسمة؛ ولهذا وقعت عنايتهم على الاحتجاج بالإجماع والقواعد النظرية الشرعية لكونهما من قبيل ما يفيد العلم.
ومن لم يستند من علماء الكلام في هذا المبحث إلى الحديث؛ فلأنه اكتفى بذينك الدليلين، أو لأن أخبار الآحاد في نفسها لا تتجاوز مراتب الظنون، ولا يكبر على ذوي الأهواء الغالبة أن ينسلخوا منها ويخترعوا منفذا للطعن في صحتها، أو صرفها عن وجه دلالتها. •••
قال المؤلف في ص18: «لا نريد أن نناقشهم في صحة الأحاديث التي يسوقونها في هذا الباب، وقد كان لنا في مناقشتهم في ذلك مجال فسيح.»
لا ندري ما هو الميزان الذي يرجع إليه المؤلف في قبول الحديث وعدم قبوله حتى ننظر كيف ينفتح أمامه مجال فسيح للطعن في حديث: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.» وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم، وحديث: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.» وحديث: «من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه؛ فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر.» وكلا الحديثين في صحيح الإمام مسلم.
تفضل المؤلف بطرح المناقشة في صحة هذه الأحاديث، ونحن نعلم أنه لو دخل في المناقشة لا يخلو حاله من سبيلين: فإما أن يذهب إلى الطعن فيها من الطرق التي أحكم السلف وضعها، وميزوا بها صحيح الأخبار من سقيمها، ولا نمتري حينئذ في أنه سينقطع به القول دون أن يمسها بوهن أو يزحزحها عن مرتبتها فتيلا، وإما أن يأخذ للطعن فيها مذهبا يبتدعه لنفسه ، فلا نراه إلا أن يخلقه من طينة هذه الآراء المترددة في ريبها، الفاتنة للنفوس الزاكية عن أمر ربها. ولعل الواقع أنه رمى هذه الكلمة محافظة على خطة التشكيك متى حبط عمله في رواية: «أعطوا ما لقيصر لقيصر.» وما جرى على شاكلتها.
قال المؤلف في ص18: «ثم لا نناقشهم في المعنى الذي يريده الشارع من كلمات: إمامة، وبيعة، وجماعة إلخ، وقد كانت تحسن مناقشتهم في ذلك ليعرفوا أن تلك العبارات وأمثالها في لسان الشرع لا ترمي إلى شيء من المعاني التي استحدثوها بعد، ثم زعموا أن يحملوا عليها لغة الإسلام.»
من ذا يصدق أن المؤلف أبصر هؤلاء العلماء ارتكبوا في تفسير البيعة والإمام والجماعة خطة جهل وضلال، ويترك مناقشتهم في ذلك التفسير إلى التشبث بمغالطات يملك أمثالها من أحب أن يقول: إن هذا النهار ليل، أو إن باقلا أفصح من سحبان.
وماذا أعجل المؤلف عن أن يبين للناس خطأ أهل العلم في فهم البيعة والجماعة والإمام، وما باله لم ينفق ساعة من نهار في شرح ثلاثة مفردات أو أربعة ينكث بها الأيدي من التمسك بأحاديث يصعب عليه الطعن في صحتها، أو تحريفها عن وجه دلالتها؟
يستخف المؤلف أحيانا يما يحكيه عن أهل العلم فلا يصوغ عبارته على قدر كلامهم، وكذلك صنع عقب تلك الجمل فذكر أن معنى جماعة المسلمين في حديث: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.» عند أولئك العلماء: حكومة الخلافة الإسلامية. ولم يكن بين العلماء من يذهب إلى أن جماعة المسلمين هي حكومة الخلافة، وإنما يحملون جماعة المسلمين على معنى أهل الحل والعقد الذين بيدهم نصب أمير المؤمنين، قال القسطلاني في شرح صحيح البخاري:
9 «والمراد - كما قال الطبري - من الخبر: الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة.» •••
قال المؤلف في ص18: «لا نجد في تلك الأحاديث بعد كل ذلك ما ينهض دليلا لأولئك الذين يتخذون الخلافة عقيدة شرعية وحكما من أحكام الدين.»
يقول المؤلف: إنهم اتخذوا الخلافة عقيدة شرعية وحكما من أحكام الدين، وما كان له أن يطلق عليها اسم عقيدة شرعية وهو يراهم كيف يصرحون بأنها ليست من قبيل العقائد، وإنما هي فرع من فروع الشريعة كسائر أحكامها العملية.
قال سعد الدين التفتزاني في شرح المقاصد:
10 «إن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق؛ لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة من نصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات ... ولا يخفى أن ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية، وقد ذكر في كتبنا الفقهية أنه لا بد للأمة من إمام يحيي الدين، ويقيم السنة، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها.» ثم قال: «ولكن لما شاعت بين الناس في باب الإمامة اعتقادات فاسدة واختلافات بل اختلاقات باردة ... ومالت كل فئة إلى تعصبات تكاد تفضي إلى رفض كثير من قواعد الإسلام، ونقض عقائد المسلمين، والقدح في الخلفاء الراشدين ... ألحق المتكلمون هذا الباب بأبواب الكلام.»
وقال السيد في شرح خطبة المواقف: «إن الإمامة وإن كانت من فروع الدين إلا أنها ألحقت بأصوله دفعا لخرافات أهل البدع والأهواء، وصونا للأئمة المهديين عن مطاعنهم؛ لئلا يفضي بالقاصرين إلى سوء اعتقاد فيهم.»
فالواقع أن الخلافة ليست من نوع العقائد وإنما حشروها في علم الكلام للعذر الذي أبداه شارح المقاصد وشارح المواقف. •••
قال المؤلف في ص18: «تكلم عيسى بن مريم عليه السلام عن حكومة القياصرة، وأمر بأن يعطى ما لقيصر لقيصر، فما كان هذا اعترافا من عيسى بأن الحكومة القيصرية من شريعة الله، ولا مما يعترف به دين المسيحية، وما كان لأحد ممن يفهم لغة البشر في تخاطبهم أن يتخذ من كلمة عيسى حجة له على ذلك، وكل ما جرى في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام من ذكر الإمامة والخلافة والبيعة إلخ، لا يدل على شيء أكثر مما دل عليه المسيح حينما ذكر بعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر.»
يعلم المؤلف أن البحث في حكم إسلامي، ولأحكام الإسلام أصول معروفة لا يدخل في حسابها ما يدور على ألسنة أهل شريعة أخرى؛ إذ لم نحط بمورده خبرا، ولم نملأ أكفنا من الثقة بسنده، والقائلون من علماء الإسلام بالاعتماد على شرع من قبلنا في تقرير الأحكام يقيدونه بأمرين:
أحدهما:
أن يجيء محكيا في القرآن أو السنة، ورواية: «أعطوا ما لقيصر لقيصر.» لم تقصها علينا آية ولا حديث .
ثانيهما:
ألا يرد في شريعتنا ما يقتضي نسخه. وما عزاه إلى المسيح عليه السلام لا ينطبق على ما جاء في الشريعة من حرمة الإقامة تحت راية غير المسلم والخضوع لسلطانه، قال تعالى:
ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، وقال تعالى:
كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ، ثم إن محمد بن عبد الله صلوات الله عليه لم يعترف بسلطة دار الندوة بمكة وحاربها حتى خضد شوكتها، واستأصل جرثومة فسادها، ولم يعترف بسلطة قيصر، وأخذ بعد ما استطاع من قوة؛ ليدفع شره، ويقوض دعائم ملكه. •••
قال المؤلف في ص19: «وإذا كان صحيحا أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أمرنا أن نطيع إماما بايعناه؛ فقد أمرنا الله تعالى كذلك أن نفي بعهدنا لمشرك عاهدناه، وأن نستقيم له كما استقام لنا، فما كان ذلك دليلا على أن الله تعالى رضي الشرك، ولا كان أمره تعالى بالوفاء للمشركين مستلزما لإقرارهم على شركهم.»
دعوى أن الأمر بطاعة ولي الأمر لا يدل على طلب ولايته، كما أن الأمر بالوفاء لمشرك عاهدناه لا يدل على الشرك تمثيل يمشي براكبه إلى وراء، فإن أقل ما في الصورة الأولى أن المجتهد ينظر في طاعة أولي الأمر فيفقه أنها لم تقصد لذاتها، ولا لمجرد الخضوع للأمراء، وإنما يراد بها مصلحة وراء ذلك كله؛ وهي: المساعدة على إقامة الحقوق، وانتظام شئون الجماعة، ولا شك أن هذه الغاية تتوقف على نصب الأمير كما تتوقف على حسن طاعته، فيصح أن يقال: إن الأمر بإطاعة أولي الأمر نبه على طلب ولايتهم، وإن المجتهد أتى إلى وجوب نصب الإمام من طريق النظر في الأمر بطاعته.
أما الأمر بالوفاء لمشرك عاهدناه فخارج عن هذا السبيل؛ لأن علته ترجع إلى الاحتفاظ بنوع من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وهو الصدق والثقة اللذان يقوم عليهما شرف المعاملات ونظام السياسات. ويتضح جليا أن هذه الحكمة يختص بها الوفاء بالعهد، ولا يشاطره فيها الشرك بالله، ولا المعاهدة التي هي موكولة إلى اجتهاد صاحب الدولة. •••
قال المؤلف في ص19: «أولسنا مأمورين شرعا بطاعة البغاة والعاصين، وتنفيذ أمرهم إذا تغلبوا علينا وكان في مخالفتهم فتنة تخشى من غير أن يكون ذلك مستلزما لمشروعية البغي، ولا لجواز الخروج على الحكومة.»
الأحاديث الحاثة على إطاعة ولي الأمر مطلقة، وإنما يقصد بها المصلحة المترتبة عليها؛ وهي إقامة المصالح وانتظام الحقوق، وبهذا أرشدتنا إلى طلب أصل ولايته. أما البغاة والعاصون فقد أمر الإسلام بكفاحهم، وسل السيوف في وجوههم ما استطعنا لذلك سبيلا، وأذن لنا بأن نجنح لسلمهم حينما نخشى فتنة أشد من محاربتهم؛ عملا بقاعدة «ارتكاب أخف الضررين». والموازنة بين الضرر الذي نحتمله من ولايتهم والفتنة التي نخشاها من محاربتهم يرجع إلى اجتهاد ذوي الخبرة بحقوق الأمة، ومبلغ قوتها، وعاقبة حربها أو مسالمتها.
فالوجه الفارق بين هذه المسألة وإطاعة أولي الأمر: أن المعنى الذي روعي في الإذن بمسالمة البغاة والعاصين لا يتحقق في البغي والعصيان، حتى نذهب من الإذن بمسالمتهم إلى القول بمشروعيتهما، كما ذهبنا من الأمر بإطاعة صاحب الدولة إلى القول بوجوب ولايته.
ثم إن المؤلف عطف على هذه الأقيسة الخاطئة أمثلة أخرى فقال: «إن الله أمرنا بإكرام السائلين والرحمة بالفقراء، ولم يكن هذا موجبا لأن يوجد بيننا فقراء ومساكين، وأمرنا أن نفك رقاب الأرقاء ونعاملهم بالحسنى ولم يدل ذلك على أن الرق مأمور به في الدين، وذكر الله الطلاق والاستدانة والبيع والرهن وغيرها وشرع لها أحكاما، ولم يدل ذلك بمجرده على أن شيئا منها واجب في الدين.»
ولسنا في حاجة إلى مناقشة هذه الأمثلة بعد أن كشفنا لك عن وجه دلالة الأمر بإطاعة صاحب الدولة على حكم ولايته، وذلك الوجه من الدلالة لا يوجد في هذه الأمثلة، وما كان لها إلا أن تلف رءوسها حياء وتزدحم على باب هذا المبحث متسابقة إلى الخروج منه.
الباب الثالث
الخلافة من الوجهة الاجتماعية
المناقشة - بحث في الاحتجاج بالإجماع - الإمام أحمد والإجماع - المسلمون والسياسة - كلمات سياسية لبعض عظماء الإسلام - النحو العربي ومناهج السريان - الإسلام والفلسفة - بحث في مبايعة الخلفاء الراشدين وأنها كانت اختيارية - بحث في قوة الإرادة - بحث في الخلافة والملك والقوة والعصبية - نظام الملكية لا ينافي الحرية والعدل - إبطال دعوى المؤلف أن ملوك الإسلام يضغطون على حرية العلم - عدم تمييز المؤلف بين الإجماع على وجوب الإمامة والإجماع على نصب خليفة بعينه - وجه عدم الاعتداد برأي من خالفوا في وجوب الإمامة - القرآن والخلافة - السنة والخلافة - الإجماع والخلافة - شكل حكومة الخلافة - وجه الحاجه إلى الخلافة - آثارها الصالحة. ***
ملخص الباب
حكى المؤلف الإجماع على نصب الخليفة بلفظ زعموا، وتوخى في الحكاية عبارة العضد في المواقف، ثم أخذ يلمح إلى ما في حجية الإجماع من الاختلاف، وصرح بأن دعوى الإجماع في هذه القضية لا يجد لقبولها مساغا على أي حال، ثم خيل إلى القارئ أن مناجزته لدعوى الإجماع تتوقف على تمهيد يكون كالطليعة تتقدم جيوش حججه الهاجمة، فطفق يلمز المسلمين بسوء الحظ في علم السياسة، وادعى أنهم وقفوا حيارى أمام ذلك العلم، وارتدوا دون مباحثه حسيرين، وسأل عن علة هذه الوقفة الحائرة والارتداد الخاسر، ثم انتصب ليجيب نفسه بلسانه، فزعم أن الخلافة في الإسلام لا ترتكز إلا على القوة الرهيبة، ولا ترتفع إلا على رءوس البشر، وأن من الطبيعي في الأمم الإسلامية بوجه خاص أن لا يقوم فيهم ملك إلا بحكم الغلب والقهر، وأخذ يسرد بعض وقائع تاريخية، وتخلص منها إلى ضغط الملوك على حرية العلم، واستبدادهم بمعاهد التعليم، وانتهى إلى أن هذا الضغط هو سبب قصور النهضة الإسلامية في فروع السياسة، ونكوص العلماء عن التعرض لها، ثم وثب من الحديث على الضغط الملوكي إلى الطعن في الإجماع على نصب الإمام.
وكانت نتيجة البحث - فيما يتخيل - أن لا دليل على الخلافة من كتاب أو سنة أو إجماع، ثم عجم الدليل النظري القائم على قاعدة رعاية المصالح، فلم يهتد إلى شبهة لإنكاره، فاعترف به، ولكن ذهب إلى أنه يقتضي إقامة حكومة، ويبقى شكلها دائرا بين الدستورية والاستبدادية والجمهورية والبلشفية وغير ذلك، وذهب إلى أنه لا يوافق العلماء على الإمامة إلا أن يريدوا بها الحكومة في أي صورة كانت، ثم انساب في ذيل البحث يقذف الخلافة بغير استثناء، ويحمل عليها أوزار قوم أطفئوا نورها، وأسقطوا من القلوب مهابتها، وقفل الباب بزعم أن الإمامة العظمى لم تكن شيئا قام على أساس من الدين القويم، أو العقل السليم.
المناقشة
قال صاحب الكتاب ص23: «نسلم أن الإجماع حجة شرعية ولا نثير خلافا في ذلك مع المخالفين.»
من أول ما عني به الإسلام في تشريعه أن أطلق العقول من وثاق التقليد، وفتح أمامها باب النظر حتى تعبر إلى قرارة اليقين على طريق الحجة والبرهان، قال تعالى:
ولا تقف ما ليس لك به علم ، وقال:
إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا . وقد جرى علماء الإسلام ولا سيما السلف الصالح على هذا المنهج، فكانوا لا يتابعون ذا رأي على رأيه ولا يتقلدون حكما قبل أن يعلموا مستنده، وإذا عرفوا المستند عرضوه على قانون الأدلة السمعية، ووزنوه بميزان النظر؛ ليعلموا مبلغه من الصحة، فإذا ثبت على النقد، وسلم من وجوه الطعن رفعوه على كاهل القبول، وإلا نبذوه نبذ الحذاء المرقع غير مبالين بمقام مدعيه وإن حاكى القمر رفعة وسناء.
ومن درس مسائل الخلاف من عهد الصحابة - رضي الله عنهم - إلى العصر الذي ساد فيه القول بسد باب الاجتهاد، رأى الصحابة كيف يخالف بعضهم بعضا، ولا ينقاد صغيرهم إلى كبيرهم إلا بزمام الحجة، وسار على هذا الاستقلال وحرية الفكر التابعون فمن بعدهم، ولا يكبر على أحد من المجتهدين أن يناظر أستاذه أو من كان أوفر منه علما وأوسع نظرا، فيقارع حجته بالحجة، حتى إذا لم تمتلئ نفسه بالثقة من أدلته اجتهد لنفسه، وأقام بجانب مذهبه مذهبا. ولتجدن من هؤلاء من يبلغه مذهب الصحابي في قضية لم ينعقد عليها إجماع، فيستأنف النظر في دلائلها، ولا يكون في صدره حرج أن يخالف الصحابي، أو يرجح مذهب تابعي على مذهبه.
ومن عنايتهم بتحقيق الأحكام وإبايتهم تناولها إلا من يد الدليل القاطع أو الراجح أن دونوا الأحاديث، ونصبوا لها ميزانا يعرف به صحيحها من ضعيفها، أو ضعيفها من موضوعها، ثم وضعوا لاستنباط الأحكام أصولا، وقرروا لاستخراجها قواعد، وشرطوا في هذه الأصول والقواعد أن تكون قائمة على بينة قاطعة.
فإذا كان الإسلام قد فتح للاجتهاد والنظر في الأدلة طريقا واسعا، وكان من سيرة علمائه الراسخين نقد الأقوال وعدم السكوت عنها إلا أن تستند إلى حجة عاصمة؛ فإن القضية التي تلقى على بساط البحث والاستفتاء، وتتداولها أنظارهم حتى تستقر على حكم يقررونه بإجماع، وينطقون فيه عن تصميم، نعرف بحكم العادة معرفة لا تخالجها ريبة أن تلك القضية أخذت حظها من النظر، وأنه لم يبق فيها لمخالف وجه يلتفت إليه، وبالأحرى ما كان في عصر الصحابة الذين شهدوا الوحي ووقفوا على روح التشريع، ولم يعرفوا في قول الحق هوادة ولا محاباة.
وقد تأيد هذا النظر بطول الاختيار والاستقراء، فلتجدن كل رأي يتهجم به مبتدعه على خرق إجماع أهل العلم متداعيا إلى السقوط، بل قائما على رأسه، بحيث لا يكلفك هدمه إمعانا في نظر، أو عناء في التماس حجة.
قال أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته:
1 «قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطا أو مغالطة.»
ولم تؤخذ حجية الإجماع من الكتاب والسنة بنصوص معدودة، بل حجيته منتزعة من آيات كثيرة وأحاديث شتى، وإذا كان كل واحد منها يدل بانفراده على حجية الإجماع دلالة ظنية، فإن الظنيات الكثيرة إذا تواردت على معنى أفادت علما لا تخالجه ريبة، قال أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات:
2 «الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع ... وإذا تأملت كون أدلة الإجماع حجة، أو خبر الواحد أو القياس حجة؛ فهو راجع إلى هذا المساق، لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوق الحصر.»
وها هنا أدلة أخرى تدل بوجه خاص على حجية إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - وقد وقف عند حد هذه الأدلة من قال: لا حجة إلا في إجماع الصحابة.
ولنكتف بهذه الكلمة في التنبيه على وجه حجية الإجماع وعده في الأدلة القاطعة. •••
قال المؤلف في ص22: «ولا نقول مع القائل: من ادعى الإجماع فهو كاذب.» وكتب في أسفل الصحيفة عازيا هذه المقالة إلى الإمام أحمد بما نصه: «روي ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل. راجع تاريخ التشريع الإسلامي لمؤلفه محمد الخضري.»
انتزع المؤلف هذه الكلمة المروية عن الإمام أحمد من تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري وأطلقها في طليعة الباب؛ لتثير في نفوس القارئين شكا، وتجعلهم على ريبة من حجية الإجماع. أطلق هذه الكلمة كأنه يجهل موردها ويجهل أن الإمام أحمد لا يعني بها الإجماع المعروف في الأصول، وإنما يعني بها الرد على بعض الفقهاء الذين ينظرون إلى الواقعة حتى إذا لم يطلعوا على خلاف في حكمها سموه إجماعا، قال ابن القيم في كتاب أعلام الموقعين:
3 «ولا يقدم - يعني الإمام أحمد - عدم علمه بالمخالف، الذي يسميه كثير من الناس إجماعا، ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع، وكذلك الشافعي أيضا نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له: إجماع ... وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا ... ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك. هذا لفظه ... فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده.»
فالإمام أحمد بن حنبل إنما ينكر على الفقيه أن يسمي عدم علمه بالخلاف إجماعا، وعلى مثل هذا جرى ابن حزم في كتاب الإحكام فقال: «تحكم بعضهم فقال: إن قال عالم: لا أعلم هنا خلافا، فهو إجماع، وإن قال ذلك غير عالم فليس إجماعا! وهذا قول في غاية الفساد، ولا يكون إجماعا، ولو قال ذلك محمد بن نصر المروزي.»
4 •••
قال المؤلف في ص22: «من الملاحظ البين في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظ، وأن وجودها بينهم كان أضعف وجود؛ فلسنا نعرف لهم مؤلفا في السياسة ولا مترجما، ولا نعرف لهم بحثا في شيء من أنظمة الحكم ولا أصول السياسة، اللهم إلا قليل لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون.»
ظل المؤلف مستهترا بشهوة فصل الإسلام عن وظيفة إصلاح السياسة، فرأى أن من المقدمات المساعدة له على هذا الغرض مخاتلة نفس القارئ، وأخذها إلى الاعتقاد بأن زعماء الإسلام أو علماءه أهملوا النظر في أنظمة الحكم وأصول السياسة.
لم يكن حظ المسلمين من علم السياسة سيئا، ولا وجودها بينهم كان أضعف وجود، وعرفنا لهم في السياسة مؤلفات شتى: اطلعوا على كتاب السياسة لأفلاطون، الذي عربه حنين بن إسحاق، وترجم بعض فصوله أيضا أحمد بن يوسف الكاتب المتوفى سنة 340ه،
5
وكتاب السياسة تأليف قسطا بن لوقا البعلبكي، وكتاب المتوج في العدل والسياسة للصابي، وأشار ابن خلدون في مقدمته
6
إلى أن كتاب أرسطو في السياسة كان متداولا بين الناس، وألف الكندي في السياسة اثني عشر تأليفا؛ منها رسالته الكبرى في السياسة، ورسالة في سياسة العامة.
وألف أحمد بن الطيب، أحد المنتمين إلى الكندي، كتاب السياسة الكبير وكتاب السياسة الصغير، وألف أبو نصر الفارابي ثمانية مؤلفات في السياسة؛ منها: السياسة المدنية، «وهو الاقتصاد السياسي الذي يدعي أهل التمدن الحديث أنه من مخترعاتهم.»
7
ومن مؤلفاتهم كتاب سياسة الملك للماوردي، وسياسة المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع، «وهو جليل جدا لم يغادر بحثا من أبحاث العمران والسياسة والأخلاق إلا طرقه.»
8
وكتاب سراج الملوك لأبي بكر الطرطوشي، وكتاب نهج السلوك في سياسة الملوك للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله، وقوانين الدواوين في نظام حكومة مصر وقوانينها لأبي المكارم أسعد بن الخطير، إلى غير ذلك من فصول ممتعة احتوى عليها كتاب المسالك لابن خرداذبه، ومقدمة ابن خلدون، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه.
ويتصل بهذا كتب في أخلاق الملوك ككتاب أخلاق الملوك للفتح بن خاقان،
9
وكتاب التاج في أخلاق الملوك للجاحظ، وكتاب أخلاق الملوك لمحمد بن حارث التغلبي،
10
والتاج في سيرة كسرى أنو شروان لابن المقفع،
11
وكتاب السفارة والسفراء،
12
وكتاب جند الوزارة وحراسة حصن الصدارة لحسن بن عبد الكريم البرزيخي
13
وكتاب لطائف الأفكار وكاشف الأسرار في علم السياسة، ألفه القاضي حسين بن حسن السمرقندي للوزير إبراهيم باشا سنة 936 في خمسة أبواب؛ الأول في السياسات، فهو من قبيل الموسوعات، لكنه يشتمل على ضروب من السياسة. منه نسخة في فينا.
14
هذا ما اطلعنا عليه أو على التعريف به في بعض كتب التاريخ، وقد منيت المكاتب الإسلامية من بلايا الإحراق والإغراق والإتلاف التي سامها بها أعداء العلم على ما هو معروف في التاريخ من هجمات التتار على بغداد، ونائبة خروج المسلمين من الأندلس، ونكبات الحروب الصليبية في الشام ومصر وغيرهما، علاوة على ما غشى الأمة من ظلمات الجهل في عصورها الأخيرة حتى ضاع من بين أيديها كثير مما أبقته تلك النكبات.
هذا، وقد شهد أولو العلم أن الإسلام قد رسم للسياسة خطة واسعة، وسن لها نظما عامة، حسبما نوافيك ببيانه في الموضع اللائق به، فصرفوا أنظارهم في دراسة تلك الخطة، والتفقه في هاتيك النظم؛ حيث كانت سياستهم العملية موصولة بها، وقائمة على أسسها. ومن المؤلفات على هذا النمط كتاب غياث الأمم لإمام الحرمين، وكتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، وكتاب السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية لابن تيمية، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وكتاب الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى،
15
وكتاب إكليل الكرامة لصديق حسن خان، ورسالة السياسة الشرعية لإبراهيم بخشى زاده، توجد في برلين.
16
آثر المسلمون أن ينظروا إلى السياسة بمرآة الشريعة، فترى كثيرا من رجال الدولة إذا حركوا أقلامهم في تحرير سياسي نفخوا فيه روحا من حكمة الشريعة، وكسوه حلة من حلل آدابها الوضاءة. وانظر الكتاب
17
الذي أرسله طاهر بن الحسين إلى ابنه عبد الله بن طاهر - لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما - تجده يقول فيه: «واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقه الأهدى، وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطل ذلك ولا تتهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة؛ فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك، واعتزم في ذلك بالسنن المعروفة.»
ثم قال: «واقبل الحسنة وادفع بها، واغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الزور والكذب، وابغض أهل النميمة؛ فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب، والجراءة على الكذب، وإن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم له أمر.»
وكذلك يقول لسان الدين بن الخطيب في رسالة له في السياسة:
18 «رعيتك ودائع الله تعالى عندك، ومرآة العدل الذي عليه جبلك، ولا تصل إلى ضبطهم إلا بإعانة الله تعالى التي وهب لك. وأفضل ما استدعيت به عونه منهم، وكفايته التي تكفيهم تقويم نفسك عند قصد تقويمهم، ورضاك بالسهر لتنويمهم، وحراسة كهلهم ووضيعهم، والترفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة بما لها وما عليها أخذا يحوط مالها، ويحفظ عليها كمالها إلخ.»
ويجري على هذا المثال رسالة الحسن بن أبي الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز في صفة الإمام العادل، ومما يقول فيها: «واعلم يا أمير المؤمنين، أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟!»
19
وكتب إليه في رسالة أخرى:
20 «... فكن للمثل من المسلمين أخا، وللكبير ابنا، وللصغير أبا، وعاقب كل واحد منهم بذنبه على قدر جسمه، ولا تضربن لغضبك سوطا واحدا فتدخل النار.»
فالحق أن حظ المسلمين في السياسة لم يكن منقوصا، وأن منزلتهم فيها كانت فوق المنزلة التي قعد بهم المؤلف عندها وبالغ في استصغار شأنها. •••
قال المؤلف في ص23: «ذلك وقد توفرت عندهم الدواعي التي تدفعهم إلى البحث الدقيق في علوم السياسة ، وتظاهرت لديهم الأسباب التي تعدهم للتعمق فيها. وأقل تلك الأسباب أنهم مع ذكائهم الفطري، ونشاطهم العلمي كانوا مولعين بما عند اليونان من فلسفة وعلم. وقد كانت كتب اليونان التي انكبوا على ترجمتها ودرسها كافية في أن تغريهم بعلم السياسة وتحببه إليهم.»
قام المؤلف ليذكر لنا سببا شأنه أن يغري المسلمين بالسياسة ويجعلهم مولعين بالخوض في غمارها، والتفت يمينا وشمالا فوقع اختياره على انكبابهم على ترجمة كتب الفلسفة والعلوم اليونانية ودراستها، ولم يهتد إلى أن لدى المسلمين سببين عظيمين يحثانهم على النظر في السياسة، ويؤكدان حرصهم على البراعة في صناعتها:
أحدهما:
أنهم كانوا أمة فاتحة بلغت في عزها وسطوتها أن قوضت عروش قوم جبارين، ومدت سلطانها العادل على شعوب مختلفة في طبائعها وعاداتها وطرق تفكيرها. والفاتح الغيور على استقلال بلاده أشد حاجة، وأسرع يدا إلى إتقان فن السياسة من مرتاح البال للبقاء تحت سلطة دولة أخرى.
ثانيهما:
أن الإسلام شرع للسياسة أصولا في أحسن مثال، وحارب الاستبداد باليمين والشمال، فأذاق أمته طعم الحكومة اللينة الحازمة، وشب في أحضانه رجال شهد بدهائهم السياسي أعداؤهم المنصفون.
هذان السببان ندبا المسلمين إلى النظر في مبادئ السياسة وأصول الحكم، فانتدبوا إليها، وكانوا أساتذة العالم في السياسة كما كانوا أساتذته في العلوم الفلسفية، فهما أحق بأن يخطرا على قلب المؤلف، ولكنه يكره أن يعترف بأن في تعاليم الإسلام مبادئ سياسية، أو أن حكومة من حكومات الإسلام أذاقت الناس طعم السياسة الرشيدة. •••
قال المؤلف في ص23: «وهناك سبب آخر: ذلك أن مقام الخلافة الإسلامية كان منذ الخليفة الأول أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - إلى يومنا هذا عرضة للخارجين عليه المنكرين له، ولا يكاد التاريخ الإسلامي يعرف خليفة إلا عليه خارج.» ثم قال في ص24: «مثل هذه الحركة «حركة المعارضة» كان من شأنها أن تدفع القائمين بها إلى البحث في الحكم، وتحليل مصادره ومذاهبه، ودرس الحكومات وكل ما يتصل بها، ونقد الخلافة وما تقوم عليه إلى آخر ما تتكون منه علوم سياسية، لا جرم أن العرب قد كانوا أحق بهذا العلم وأولى من يواليه.»
لم يعارض طائفة من المسلمين الخلافة في نفسها، أو كونها ذات حكومة يرأسها فرد حتى تدعوهم المعارضة إلى درس الحكومات؛ ليختاروا منها الشكل الذي يروقهم، وإنما ينكر المعارضون شيئا من تصرف الخليفة ، أو يدعون أن غيره أحق بالإمارة وأقوم عليها. وهذا يقتضي البحث في طرق العدل وشروط الخليفة، وحكم الخروج عليه. وقد بحث أهل العلم في هذه المطالب بأوفى عبارة وأبسط بيان، حرروا الكلام في الأصول الفارقة بين عادل الأحكام وجائرها، وأفاضوا القول في شروط الأمراء وموجبات خلعهم، ومتى بحثوا في الحكم من حيث انطباقه على مبادئ العدالة أو انحرافه عنها، فإنهم لا يعرفون قانونا لعدالة الأحكام أو جورها غير موافقتها لأصول الشريعة أو نشوزها عنها. فمن هذا الوجه كان المعارضون يبحثون في الحكم، وينقدون سيرة الخلفاء مقتدين بقوله تعالى:
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا .
ومتى صح أن يكون الخروج على الخليفة سببا للبحث عن مبادئ السياسة؛ فقد أريناك وسنريك آية نهوض المسلمين بعلم السياسة وتفوقهم في إدارة شئونها. •••
قال المؤلف في ص24: «فما لهم وقفوا حيارى أمام ذلك العلم وارتدوا دون مباحثه حسيرين؟! ما لهم أهملوا النظر في كتاب الجمهورية لأفلاطون وكتاب السياسة لأرسطو، وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن لقبوه المعلم الأول؟!»
عني المسلمون من علوم اليونان بالفنون التي كانت غير معروفة لهم، أو كانت بضاعتهم فيها مزجاة، وكانوا يصرفون عنايتهم إلى هذه العلوم على قدر ما يرون لها من فائدة، وعلى حسب ما تمس إليه الحاجة، فأقبلوا على العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفة والمنطق بمجامع قلوبهم، وأعطوا جانبا من عنايتهم إلى ما نقل لهم من سياسة أفلاطون وأرسطو، مع علمهم بأن أيديهم مملوءة بمبادئ السياسة الكافية في تدبير مصالح الأمة وصيانة حقوقها على منهج الحرية السامية والعدالة الصادقة.
كانوا يرون أن فيما أضاء لهم من مشكاة الشريعة، أو جرى على ألسنة حكمائهم ما إذا اتسق لذي فطرة سليمة وألمعية مهذبة أصبح سائسا خطيرا، أو مصلحا كبيرا.
ومن نظر في تاريخ عظماء الإسلام ببصيرة لم تفتتن بزخرف المدنية الغربية رأى في سيرتهم العملية، وما يلفظون به من نوابغ الكلم ما يشهد له بأنهم أدركوا في فن السياسة شأوا بعيدا، ولم يكن حظهم منها أقل من حظ دارسي كتابي الجمهورية والسياسة.
ولا أسرد في هذا المقام شيئا من الآيات والأحاديث التي تعد في مبادئ السياسة المثلى؛ فإنها مقروءة بكل لسان، ومشهود لها بالحكمة من كل ذي عقل، وإنما أسوق من أثر أولئك العظماء كلمات أضربها كالمثل؛ ليتبين القارئ ماذا نريد من تلك الكلم النوابغ، وليعرف أن رجالا في الإسلام أحرزوا في السياسة القدح المعلى، ورموا عن قوس لم تكن من صنع أفلاطون ولا أرسطو، فأبعدوا المرمى وأصابوا الغاية.
أريد من تلك الكلم النوابغ أمثال قول عمر بن الخطاب - لما قيل له: إنك تستعين بالرجل الفاجر: «إني لأستعين بالرجل لقوته ثم أكون على قفانه.»
21
وقول أبي سفيان لعثمان - رضي الله عنه - حين هم أن يرد إليه مالا صادره عمر بن الخطاب ووضعه في بيت المال: «لا ترد على من قبلك فيرد عليك من بعدك.» وقول عمر بن عبد العزيز حين قال له ابنه عبد الملك: ما لك لا تنفذ الأمور؟ «لا تعجل يا بني، إني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيتركوه جملة وتكون فتنة.» وقول معاوية بن أبي سفيان: «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت.» قيل: وكيف ذلك؟ قال: «كنت إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها.» وقوله: «إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا.» وقوله: «والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يشتفي به القائل بلسانه؛ فقد جعلت له ذلك دبر أذني وتحت قدمي.» وقول المهلب للحجاج حين كتب إليه يستعجله في حرب الأزارقة: «إن من البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره.»
هذا نموذج من كلماتهم السياسية المقولة على البداهة، ولو أخذنا نملي عليك من أنبائها لأخرجنا بها كتابا قيما، ولو تناولها ذو فكر خصب وقلم مثمر لأنشأ من أصولها فروعا، وأجرى من منابعها أنهارا. وقد كان القوم يقومون على هذه الأصول، ويجمعون إليها علم التاريخ الذي هو الركن الأعظم لإجادة النظر في السياسة؛ ولهذا المعنى كانوا يتحرون في تقليد المناصب من له خبرة واسعة بأنباء الأمم وأيامها الخالية. أرسل عمر بن هبيرة إلى إياس بن معاوية وسأله أسئلة أجابه عنها، ثم قال له: تعرف من أيام العرب شيئا؟ قال: نعم، قال: فهل تعرف من أنباء العجم شيئا؟ قال: أنا بها أعلم، قال: إني أريد أن أستعين بك، ثم قال له: قم قد وليتك.
22
وصفوة القول أن المسلمين اطلعوا على سياسة أفلاطون وسياسة أرسطو وألفوا في السياسة المدنية والسياسة الشرعية، فملكوا من السياسة النظرية كنزا قيما، ولولا أنهم كانوا ينفقون من هذا الكنز القيم لما ارتفعت سياستهم العملية على سياسة تلاميذ أفلاطون وأرسطو درجات. •••
قال المؤلف في ص24: «وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان في علم النحو.»
هذا شيء ظنه جرجي زيدان فالتقطه المؤلف من ورائه وجاء به على أنه قضية مسلمة، قال في تاريخ التمدن الإسلامي
23
وفي تاريخ آداب اللغة العربية:
24 «ويغلب على ظننا أنهم نسجوا في تبويبه - يعني النحو - على منوال السريان؛ فإن السريان دونوا نحوهم وألفوا فيه الكتب في أواسط القرن الخامس للميلاد.»
ثم قال: «فالظاهر أن العرب لما خالطوا السريان في العراق اطلعوا على آدابهم، وفي جملتها النحو، فأعجبهم، فلما اضطروا إلى تدوين نحوهم نسجوا على منواله؛ لأن اللغتين شقيقتان. ويؤيد ذلك أن العرب بدءوا بوضع النحو وهم بالعراق وبين السريان والكلدان، وأقسام الكلام في العربية هي نفس أقسامه في السريانية.» ثم قال: «وكأنه - يعني أبا الأسود - تعلم لغة السريان أو اطلع على نحوها فرغب في النسج على منواله.»
فالمسألة لم تزل في حدود الافتراض، وليس لها من شبهة سوى أن واضعي علم النحو من العرب كانوا بالعراق بين السريان والكلدان، وأن أقسام الكلام في العربية هي أقسام الكلام في السريانية، ولكن كتاب الإسلام وأصول الحكم لا يبالي أن يسوق المشكوك فيه مساق المعلوم، أو يورد المعلوم في صورة المشكوك فيه. •••
قال المؤلف في ص24: «بل رضوا بأن يمزجوا لهم علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشر، وإيمان وكفر.»
خفقت ريح الفلسفة في بعض البلاد الشرقية كمصر والهند، وجالت في أندية اليونان أمدا بعيدا، وما برحت تتلقى من أفواه الأساتذة، وتلتقط من صحائف المؤلفين إلى أن طلع كوكب الهدى الإسلامي، وتدفقت أشعته على البصائر النقية، فلم تلبث الفلسفة أن التقت في أوائل عهد الدولة العباسية بذلك التعليم السماوي، والتحقت بالعلوم الخادمة له في تأييد قواعد السياسة ونظام الاجتماع.
لا يذهب إلى أن الإسلام يتجافى عن الفلسفة سوى رجل التقم ثدي الفلسفة، وشب في أطواقها، ولم ينظر في حقائق هذا الدين ببصيرة وروية، أو مسلم لم يخض غمار المباحث الفلسفية وحسب أن جملتها قضايا باطلة، ولا سيما حيث لا يترامى إليه من أبوابها سوى نبذة من الآراء المنكرة على البداهة.
في الفلسفة قضايا تثق بها العقول الراجحة، وتنهض بجانبها الأدلة القاطعة، وهذه لا تصادم شيئا من نصوص الدين الواردة في كتاب أو سنة ثابتة، والذي لا يلتقي مع هذه النصوص إنما هو بعض آراء لم تقم على مشاهدة أو نظر حكيم. وقد ضاعت في شعاب هذا النوع قلوب فئة استخفهم الغرور إلى أن يلقبوا بالفلاسفة، وتخيلوا أن هذا اللقب لا يحرزه إلا من آمن بكل ما يلفظ به الغربيون، فتطوح بهم التقليد الجامد إلى القدح في نصوص الشريعة، أو التعسف في تأويلها.
خرجت الفلسفة على علماء الإسلام وقد اعتادت أنظارهم التقلب في مسالك الاجتهاد، وتمحيص ما يقع إليها من الآراء، فبسطوا إليها أيديهم وفتحوا لها صدورهم، ولكنهم لم يرفعوها إلى المقام الذي يمنعهم من مناقشتها، وتقويم المعوج من مقالاتها.
نفقت سوق الفلسفة فمد إليها بعض القاصرين أيديهم، واتخذوا منها ظهيرا لآراء سخيفة يعتنقونها، أو شبه على الدين يوردونها، وما كان من أولي العلم إلا أن تصدوا لنقض تلك الآراء، ومطاردة هاتيك الشبه، واضطروا في تقويمهم وكف بأسهم إلى استعمال السلاح الفلسفي الذي هاجموهم به، ولم يبالوا أن يمزجوا عقائدهم الصحيحة بالفلسفة اليونانية ما داموا يحملون في أناملهم أقلاما تفرق بين خيرها وشرها، وإيمانها وكفرها. •••
حكى المؤلف قول ابن خلدون: إن الخلافة راجعة إلى اختيار أهل العقد والحل، وقول السيد محمد رشيد رضا: إن الإمامة عقد تحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد ممن اختاروه إماما للأمة، بعد التشاور بينهم، ثم قال في ص25: «قد يكون معنى ذلك أن الخلافة تقوم عند المسلمين على أساس البيعة الاختيارية، وترتكز على رغبة أهل الحل والعقد من المسلمين ورضاهم، وقد يكون من المعقول أن توجد في الدنيا خلافة على الحد الذي ذكروا، غير أننا إذا رجعنا إلى الواقع ونفس الأمر وجدنا أن الخلافة في الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وأن تلك القوة كانت، إلا في النادر، قوة مسلحة، فلم يكن للخليفة ما يحوط مقامه إلا الرماح والسيوف.»
ثم قال: «قد يسهل التردد في أن الثلاثة الأول من الخلفاء الراشدين مثلا شادوا مقامهم على أساس القوة المادية، وبنوه على قواعد الغلبة والقهر، ولكن أيسهل الشك في أن عليا ومعاوية - رضي الله تعالى عنهما - لم يتبوأا عرش الخلافة إلا تحت ظلال السيوف وعلى أسنة الرماح؟!»
يتكلم ابن خلدون والسيد محمد رشيد رضا عن الطريق الذي تنعقد به الخلافة شرعا، وهو اختيار أهل الحل والعقد، ومن المعقول جدا أن توجد خلافة على هذا الحد، وكذلك كانت إمارة الخلفاء الراشدين؛ فإن مبايعتهم تقررت باختيار من أهل الحل والعقد، ولا أثر للقهر والغلبة في انعقادها.
أما مبايعة أبي بكر الصديق فقد روى البخاري في كتاب الحدود من صحيحه الخطبة التي ألقاها عمر بن الخطاب حاكيا واقعة مبايعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، وبعد أن أتى على المناقشة التي دارت بين أبي بكر وبعض الأنصار، قال : «فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر. فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار.» وفي باب مناقب أبي بكر من صحيح البخاري أيضا: «أن أبا بكر الصديق قال للأنصار: بايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال عمر: بل نبايعك أنت؛ فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس.»
فأنت ترى كيف بويع أبو بكر الصديق، وليس حوله قوة مال ولا جند ولا سلاح، ولم تصدر منه كلمة تؤذن بتهديد أو إكراه. وقصارى ما وقع في المحاورة أن بعض الأنصار قالوا للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير. ورد عليهم أبو بكر بأن هذا الأمر لن يعرف إلا لهذا الحي من قريش؛ هم أوسط العرب نسبا ودارا. ثم أشار عليهم بمبايعة عمر بن الخطاب أو أبي عبيدة، ولما كثر اللغط وارتفعت الأصوات أوجس عمر خيفة من أن ينحدر بهم الاختلاف إلى عاقبة سيئة، فلم يتمالك أن بسط يده إلى مبايعة أبي بكر، وامتدت أيدي المهاجرين والأنصار على أثره؛ فانعقدت البيعة من أهل الحل والعقد عن اختيار منهم، ولو كفوا أيديهم ولم يتابعوه على المبايعة لم تنعقد، كما نص عليه أبو المعالي في كتاب غياث الأمم.
ونحن نرى أن عمر بن الخطاب لم يبسط يده إلى المبايعة إلا بعد أن عرف أن معظم المهاجرين والأنصار يرون رأيه في أن أبا بكر الصديق أحق الناس بالخلافة. ومن شواهد هذا أن الحاضرين بسقيفة بني ساعدة لم يتباطئوا عن متابعة عمر في المبايعة، ثم أن أبا بكر الصديق جلس من الغد على المنبر وبايعه الناس البيعة العامة بعد بيعة السقيفة،
25
وهؤلاء المبايعون هم أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وتعلموا عن الرسول عليه السلام فضيلة الصراحة وعدم السكوت عن قول الحق ولو كانت الفاصلة بين الرءوس والأعناق، وقد سمى عمر - رضي الله عنه - مبايعته فلتة؛ لأنها لم تكن بعد إنهاء المشاورة.
قال ابن تيمية في منهاج السنة
26
شارحا هذا الأثر: «ومعناه أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار؛ لكونه كان متعينا لهذا الأمر كما قال عمر: ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه، وتقديم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
له على سائر الصحابة أمرا ظاهرا معلوما، فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريث بخلاف غيره؛ فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث.»
ومع كونها فلتة لا تجعل مبايعة أبي بكر مأخوذة بالقهر والغلبة، وتخلف بعض المهاجرين أو الأنصار عن البيعة حينا من الزمن لا يخل بانعقادها، ولا يسلب عنها أن تكون مبايعة اختيارية؛ إذ المدار على رأي الأغلبية، وهي محل الاعتبار في سائر القوانين الدستورية. ولا شك أن الأكثرية الساحقة يومئذ بايعت أبا بكر عن رضا واختيار، ولو جرى الانتخاب بطريق الاقتراع السري على العادة المألوفة اليوم لم يفز بالإمامة غير أبي بكر الصديق - رضي الله عنه.
وأما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - «فقد عهد إليه أبو بكر الصديق بالخلافة، وبايعه المسلمون بعد وفاة أبي بكر؛ فصار إماما لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم.»
27
وأما عثمان - رضي الله عنه - فقصة مبايعته أن عمر بن الخطاب لما حضرته الوفاة وقيل له: استخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو عنهم راض. فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء. ثم «إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم، وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، واتفق الثلاثة على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى، ويولي أحد الرجلين، وأقام عبد الرحمن ثلاثا حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم؛ يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمراء الأنصار، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان، وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان؛ فبايعه لا عن رغبة أعطاهم إياها، ولا عن رهبة أخافهم بها.»
28
وقال ابن تيمية: «لم يصر عثمان باختيار بعضهم، بل لمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد.»
29
وقال الإمام أحمد: «ما كان من القوم من بيعة عثمان كانت بإجماعهم .»
30
وأما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فمبايعته لم تكن تحت رهبة قط، ولا قامت تحت ظلال السيوف، كما يزعم المؤلف، بل «إن المهاجرين والأنصار اجتمعوا بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - وأتوا عليا وقالوا: يا أبا حسن، هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم. أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به، فاختاروا والله، فقالوا: ما نختار غيرك. ثم اختلفوا إليه مرارا ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلا بأمره، وقد طال الأمر،
31
وفي رواية أخرى أنه قال لهم: لا تفعلوا؛ فإني أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد؛ فإن بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين، وقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه الناس.»
32
فمقصد الشارع من إقامة الخلافة على رضا أهل الحل والعقد قد تحقق في ولاية الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وسواء بعد ذلك أن تبايع الخليفة الخاصة ثم تبايعه العامة كما وقع في ولاية الصديق وعثمان بن عفان، أو يعهد له الخليفة ويقع عهده موقع القبول، ويعزز بمبايعة أهل الحل والعقد بعد كما وقع في ولاية الفاروق، أو يبايع مبايعة عامة في آن واحد كما وقع في ولاية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه.
ولماذا لا يكون من المعقول أن توجد خلافة قائمة على اختيار أهل الحل والعقد، وهو أمر يرجع إلى قوة إرادة الأمة، ولقوة الإرادة في حياة الأمم وتمتعها بحقوقها تأثير بالغ وسلطان غالب.
مما يشهد به النظر وتؤيده التجربة أن الأمة متى كانت على بصيرة من حق، وعرفت الطريق الهادي إليه لم تنشب أن ينقلب تفكيرها فيه عزما صارما، وتقتحم كل عقبة تعترض في سبيلها، وإذا سمعت أمة تذكر غاية من العز وهي لا تتقدم إليها بخطوات سريعة، أو سمعتها تبدي الأسف لحق انفلت من يدها وهي لا تنشده بسعي متواصل؛ فاعلم أنها لا تزال في طور الأماني والآمال، ولم يبلغ إحساسها بتلك الغاية الشريفة أو ذلك الحق الضائع مبلغ الإرادة.
تعرف كل قوة وإن كانت مسلحة أن إرادة الأمة قلاع لا تفتح، وجيش لا ينهزم، فلا يكون منها إلا أن تخضع أمام سلطانها، وتعصى داعي الأهواء في مرضاتها، ولا يضطهد المستبد حقوق القوم إلا أن يفهم أن إحساسهم بها لا يزال معدوما، أو أن شمل إرادتهم ما برح في تخاذل وشتات.
وما مثل الأمم في أعمالها وقوة إرادتها إلا مثل السهم يخترق الهواء، ويرسم خطا يمتد على قدر قوة الوتر الذي يدفعه، ومتانة القوس التي ينفذ منها.
فالأفراد الذين جلسوا على عرش الخلافة بقوة مسلحة وعاثوا فيه فسادا لم يلاقوا من الأمة قوة إرادة، ولم تكن للأمة قوة إرادة لأن شعورها بحقوقها لم يكن عاما، ولا يكون الشعور بالحق عاما لتقلص نور التربية والتعليم، أو لاختلاف طرقهما اختلافا يجعل الأذواق وطرق التفكير تتفاوت تفاوتا بعيدا. •••
قال المؤلف في ص25: «وما كان لأمير المؤمنين محمد الخامس سلطان تركيا أن يسكن اليوم يلدز لولا تلك الجيوش التي تحرس قصره.»
وكتب معلقا على هذا في أسفل الصحيفة ما نصه: «كتبنا ذلك يوم كانت الخلافة في تركيا وكان الخليفة محمد الخامس.»
لعل المؤلف كتب هذا الباب الثالث الذي هو في الخلافة من الوجهة الاجتماعية قبل أن يؤلف الباب الأول الذي هو في تعريف الخلافة، والباب الثاني الذي هو في حكم الخلافة، فإنه ذكر في ص11 من الباب الأول رسالة الخلافة، التي نشرتها حكومة المجلس الكبير الوطني بأنقرة، وهي بالطبيعة متأخرة عن وفاة محمد الخامس، ونقل في ص16 عن كتاب الخلافة أو الإمامة للأستاذ السيد محمد رشيد رضا. وهذا الكتاب أيضا لم يظهر، بل لم يؤلف إلا بعد حركة أنقرة التي ابتدأت بعد وفاة محمد الخامس. وأعجب من هذا أن المؤلف ذكر في أول سطر من هذه الصحيفة التي تحدث فيها عن محمد الخامس كتاب الخلافة أو الإمامة للسيد رشيد، فلعله أيضا ألف شطر الصحيفة الأسفل قبل أن يؤلف شطرها الأعلى!
33
أراد المؤلف أن يتحدث عن جهل المسلمين بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات ويعلله بضغط الخلفاء والملوك، فأملى على قلمه معنى هو أن الخلافة والملك لا يرتكزان إلا على القوة القاهرة والسيوف المصلتة، واستمر يلوكه في جمل يركب بعضها بعضا، وعز عليه أن يفارقها حتى امتلأت بها خاصرتا كتابه، وأوشك القارئ أن لا يفهم منها إلا أن المؤلف يبرق ويرعد على القوة الحاكمة من حيث إنها ذات شوكة، وأعدت ما استطاعت من قوة الجند والسلاح!
قال ابن خلدون في مقدمته:
34 «إن المغالبة والممانعة إنما تكون بالعصبية.» وقال:
35 «إن الملك إنما يحصل بالتغلب، وإن التغلب إنما يكون بالعصبية.» وقال: «إن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب ... فإذا استقرت الرياسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة، وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية.»
أخذ المؤلف ما قرره ابن خلدون في سنة قيام الملك، وأجراه على مشروع الخلافة، فقال في ص25: «لا نشك مطلقا في أن الغلبة كانت دائما عماد الخلافة، ولا يذكر لنا التاريخ خليفة إلا اقترن في أذهاننا بتلك الرهبة المسلحة التي تحوطه، والقوة القاهرة التي تظله، والسيوف المصلتة التي تذود عنه، ولولا أن نرتكب شططا في القول لعرضنا على القارئ سلسلة الخلافة إلى وقتنا هذا؛ ليرى على كل حلقة من حلقاتها طابع القهر والغلبة.»
تناول المؤلف ما قرره ابن خلدون وبسط القول في تعليله من أن الملك لا يحصل إلا بالتغلب، وأخذ يضرب به قوله: إن الخلافة راجعة إلى اختيار أهل الحل والعقد.
لا شك أن الفيلسوف ابن خلدون لا يرى تعارضا بين مقالتيه؛ لأنه يفرق بين الخلافة والملك، وإن شئت تحقيق هذا البحث على وجه شرعي اجتماعي؛ فإليك التحقيق:
عرف الإسلام أن في الناس طبيعة التعصب للقومية، وأن هذه الطبيعة كثيرا ما تطغى فتحمل صاحبها على التحيز لأخيه في القومية، والوقوف في صف أنصاره وإن كان مبطلا.
عرف الإسلام ذلك فقرر مبادئ الأخوة والمساواة، وأتى بما يهذب تلك الطبيعة ويقيم أودها؛ حتى لا تخف بالقبيلة إلى معاضدة أخيها إذا نهض لإرغام حق أو إقامة منكر.
قد يأذن الإسلام للرجل أن يؤثر بمعروفه أو مساعدته ابن عشيرته، أما عند تدبير مصلحة عامة أو تقرير حقوق مشتركة فيقطع النظر عن كل صلة، ولا يقيم لأي عاطفة وزنا، إلا ما تقتضيه المصلحة، وتشير به القوانين العادلة، والآراء الراجحة. ولمثل هذا وكل تعيين الخلافة إلى اختيار أهل الحل والعقد، وجعل المسلمين في هذا الحق عصبة واحدة.
ليس من المتعذر على المسلمين أن يسيروا على هذه الخطة إذا لم يكن في ذي العصبية القوية من الكفاية ما يتحقق في غيره من ذوي العصبيات الواهنة، ومن المحتوم عليهم أن يختاروا ما فيه المقدرة الكافية، ويكونوا حوله قوة تنهزم أمامها كل عصبية قومية.
فإن كان ذو العصبية التي هي أشد وأقوى كافيا لهذا المنصب؛ فللمسلمين أن يعدوا ما يحوزه من هذه القوة الطبيعية ميزة يرجح بها على غيره المماثل له في سائر شروط الخلافة. وهذا ما بنى عليه ابن خلدون فهمه لحديث: «الأئمة من قريش.» ورأى أن نسب القرشية في الحديث إنما يرمي إلى ما يحقق شرط الكفاية والقدرة على القيام بأعباء الخلافة؛ وهو قوة الحامية. وقد اختصت قريش لذلك العهد من بين سائر القبائل بقوة العصبية وشدة المراس، وذكر أن من القائلين بنفي اشتراط القرشية في الخلافة القاضي أبا بكر الباقلاني؛ حيث أدرك ما آلت إليه عصبية قريش من التلاشي والاضمحلال، واستبداد ملوك العجم على الخلفاء.
36
فالحق أن ما قرره ابن خلدون من أن الملك لا يحصل إلا بالقهر والغلبة لا يجري في الخلافة؛ فإنها قامت في عهد الخلفاء الراشدين على البيعة الاختيارية، والمؤلف نفسه تعاصت عليه الأدلة وخانته الشبه فلم يستطع أن يأتي بدليل أو شبهة على أن الخلافة في سائر أطوارها لم تقم إلا على القهر والغلبة. •••
قال المؤلف في ص27: «وطبيعي في الأمم المسلمة بنوع خاص أن لا يقوم فيهم ملك إلا بحكم الغلب والقهر أيضا.»
يذهب المؤلف إلى أن نظام الملكية لا يقوم بين المسلمين عن اختيار منهم، وزعم أن مبادئ الحرية والإخاء والمساواة التي جاء بها الدين تقتضي أن لا يقوم فيهم ملك إلا بالقهر والغلبة.
والحكومة - في تقسيم أرسطو - إما ملكية أو أرستقراطية أو شعبية، وكل واحد من هذه النظم إما طبيعي؛ وهو ما يعمل لخير الأمة، أو جائر؛ وهو ما يتصرف في شئونها بغير حكمة.
فالملكية عند أرسطو قد تسير على منهج من العدل والنصح للرعية.
وقسم منتسكيو الحكومة إلى جمهورية وملكية واستبدادية. والفرق بين الملكية والاستبدادية أن الأولى تكون السلطة فيها بيد فرد يحكم بمقتضى قوانين مقررة، والأخرى لا يرتبط الحاكم فيها بقانون ولا عرف، بل يدير زمامها على ما يشاء ويهوى. فالملكية عند منتسكيو تخالف الاستبدادية.
فالواجب إذن على المؤلف أن يبين ماذا يريد من الملك؛ فإن الحكومة التي يرأسها فرد إذا كانت تعمل على طريق الحزم والشريعة العادلة لم نجد في مبادئ الإسلام ما يمنع من الإذعان لها، والنصح في مؤازرتها. •••
قال المؤلف في ص27: «من الطبيعي في أولئك المسلمين الذي يدينون بالحرية رأيا، ويسلكون مذاهبها عملا، ويأنفون الخضوع إلا لله رب العالمين، ويناجون ربهم بذلك الاعتقاد في كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل، في خمسة أوقاتهم للصلاة، من الطبيعي في أولئك الأباة الأحرار أن يأنفوا الخضوع لرجل منهم أو من غيرهم، ذلك الخضوع الذي يطالب به الملوك رعيتهم، إلا خضوعا للقوة، ونزولا على حكم السيف القاهر.»
يقول الكواكبي في طبائع الاستبداد:
37 «بني الإسلام بل كافة الأديان على لا إله إلا الله، ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقا سواه؛ أي سوى الصانع الأعظم. ومعنى العبادة التذلل والخضوع، فيكون معنى لا إله إلا الله: لا يستحق التذلل والخضوع شيء غير الله، فهل والحالة هذه يناسب المستبدين أن يعلم عبيدهم ذلك، ويعملوا بمقتضاه. كلا ثم كلا ... ولهذا ما انتشر نور التوحيد في أمة قط إلا وتكسرت بها قيود الأسر.»
حق ما يقول الكواكبي ثم ما يقول المؤلف من أن الإسلام يرفع همم أتباعه، ويزكي نفوسهم من الخضوع إلى رجل منهم أو من غيرهم متى حاول اضطهادهم، أو العبث بحقوقهم.
أما إذا عرفوا من الرئيس المسلم عدلا واستقامة؛ فإنهم يبذلون له حسن الطاعة، ويمحضون له النصيحة، ويكون صعوده على عرش الخلافة برضا واختيار منهم، وليس في هذا غضاضة على ما أشربوه في قلوبهم من مبادئ الحرية والمساواة وإخلاص العبودية لله، فإن الذي لقنهم الحرية والمساواة، وأمرهم بالإخلاص في توحيده هو الذي قال لهم:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، ثم إن الرعية التي كان يسوسها عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز كانت تمد رقابها إلى أميرها طائعة ولم تفقد شيئا من حريتها، ولا إخلاص العبادة لخالقها. •••
قال المؤلف في ص28: «إنما الذي يعنينا في هذا المقام هو أن نقرر لك أن ارتكاز الخلافة على القوة حقيقة واقعة لا ريب فيها، وسيان بعد ذلك أن يكون هذا الواقع المحسوس جاريا على نواميس العقل أم لا، وموافقا لأحكام الدين أم لا.»
ملأ المؤلف آذاننا بكلام يدور على أن الخلافة والملك لم يرتكزا إلا على القوة والرهبة، ثم انقلب إلى حرفة التشكيك الذي آلى على نفسه أن لا يخرج بنا من بحث حتى يحاول أن يفتننا به مرة أو مرتين.
ونحن نلفت النظر عن الرأي المطوي في صدر المؤلف، ونلقى الكلمة الفاصلة فنقول: إن ارتكاز البيعة على القوة والسلطان، دون أن يكون لأهل الحل والعقد فيها اختيار، غير جار على نواميس العقل، ولا موافق لما أرشد إليه الدين، وكذلك الدين والعقل السليم لا يختلفان في حكم.
أما استناد الخلافة بقوة الجند والسلاح بعد قيامها على قاعدة اختيار الأمة، فأمر ينطبق على قوانين العقل بغير تردد، وحق تهدي إليه الشريعة بحث وتأكيد، فإن القصد من إقامة السلطان كف الأيدي العادية على الحقوق، فوجب إعداد القوة من جند وسلاح لمكافحة الأعداء والبغاة، وحماية حرم الشريعة من أن تعبث بها يد آثمة أو نفس ماردة .
وعلى الأمة اليقظة أن تتخذ من التدابير ما يمكنها من مشاركة الخليفة في تصريف هذه القوة المسلحة، حتى إذا خاب ظنها فيه وأخذه الاستبداد بالإثم وجدت الطريق إلى اتقاء بأسه وكف يده أمرا ميسورا. •••
قال المؤلف في ص28: «لا معنى لقيام الخلافة على القوة والقهر إلا إرصادهما لمن يخرج على مقام الخلافة أو يعتدي عليه، وإعداد السيف لمن يمس بسوء ذلك العرش، ويعمل على زلزلة قوائمه.»
لا بد للخلافة من أن تتقلد سيفا وترتدي بإرهاب؛ لتتقي خطر عدو هاجم أو متحفز، وتقمع شر من يثير فتنة يضطرب لها نظام الأمن والسلام، وقد أتى عليها حين من الدهر وهي لا تنتضي حسامها، ولا تلمع بإنذارها ووعيدها إلا في وجه عدو يتربص بالمؤمنين الدوائر، أو ثائر عصفت به ريح الأهواء وما له في أولي الألباب من ولي ولا عاذر، وأدركها زمن بعدت فيه عن حقيقتها، فخلطت عملا صالحا وآخر سيئا، وربما كان إثمها في بعض الأحيان أكبر من نفعها، وليس إصلاح شأنها وإعادتها إلى سيرتها المثلى ممن يغارون على مصلحة الشرق واتحاد شعوبه ببعيد. •••
قال المؤلف في ص29: «وإذا كان في هذه الحياة الدنيا شيء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم، ويسهل عليه العدوان والبغي، فذلك هو مقام الخلافة، وقد رأيت أنه أشهى ما تتعلق به النفوس، وأهم ما تغار عليه، وإذا اجتمع الحب البالغ والغيرة الشديدة، وأمدتهما القوة الغالبة فلا شيء إلا العسف، ولا حكم إلا السيف.»
الظلم والاستبداد ينشأان عن علتين؛ أولاهما: أن يحمل الحاكم بين جنبيه أهواء غالبة ونفسا غير زاكية. وثانيتهما: جهل الأمة وتخاذلها بحيث لا يتحد زعماؤها على تقويمه بالتي هي أحكم وأقطع لدابر الاستبداد.
وقد بنيت الخلافة بحق على ما يتوقى به من هاتين العلتين الفاقرتين، فجاء في شروط الخليفة أن يكون عالما عادلا، وجاء في واجبات الأمة أن تشاركه في الرأي، وتقوم على مراقبته وحمله على طريق العدل بالوسائل الكافية.
فإن وقع من الخليفة استبداد أو عدوان؛ فالتبعة ملقاة على عنق الأمة لا على مشروع الخلافة، ولو كان مقام الخلافة يحمل بطبيعته على الاستبداد والبغي لم ترفع العدالة رأسها، ولم تنشط الحرية من عقالها يوم جلس عليه الخلفاء الراشدون ومن حذا حذوهم كعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه. •••
قال المؤلف في ص30: «من هنا نشأ الضغط الملوكي على حرية العلم، واستبداد الملوك بمعاهد التعليم.»
بخس المؤلف حظ المسلمين في السياسة فكففنا شيئا من غلوائه، وما راعنا منه الآن إلا أن يلصق بملوك الإسلام وصمة الضغط على حرية العلم، ويطلق العبارة بكل صراحة كأنه لا يشعر بأن في الدنيا شيئا يقال له: التاريخ!
أيريد منا أن نطارحه الحديث في النهضة العلمية الإسلامية فنقف به على مبدأ نشأتها، أو نمر به على سائر أطوارها، ونريه كيف كان الملوك والأمراء يسعدونها بالترجمة، وإنشاء المدارس، وتأسيس المكاتب، وإجلال العلماء، وإسباغ النعم على المؤلفين؟! إنا عن تفصيل الحديث في هذا السبيل لفي شغل، ولا طاقة لنا إلا بأن نلقي على الحكومات الإسلامية نظرة إجمالية، ونقول فيها كلمة يطل منها القارئ على الحقيقة؛ ليشهد على بينة بأن المؤلف يباهت المسلمين وملوكهم على مسمع من التاريخ، ومرأى من مآثرهم الباقية.
قامت دولة بني أمية وكانت هممهم مصروفة إلى فتح البلاد، وتوسيع نطاق الدولة الإسلامية، فلم تتوجه عنايتهم إلى الزيادة على ما بين أيديهم من علوم إسلامية أو عربية، سوى ما جاء في التاريخ من أن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - كان «يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة.»
38
أو ما قام به خالد بن يزيد بن معاوية من نفسه، فاستقدم راهبا روميا من إسكندرية وأخذ عنه صناعة الكيمياء، ثم أمر بنقلها إلى العربية، وكذلك عرب ماسرجويه، أحد الأطباء المعاصرين لعبد الملك بن مروان، كتابا في الطب، وبقي في خزائن الكتب بالشام، ولما تولى عمر بن عبد العزيز أخرجه منها وأصبح متداولا في أيدي الناس. وجاء في الفهرست لابن النديم
39
أن أبا العلاء سالما، كاتب هشام بن عبد الملك، نقل من رسائل أرسطو إلى الإسكندر.
انقرضت دولة بني أمية في المشرق ولم ينهضوا بما عند الأمم الأخرى من علوم حكمية وفلسفية للعذر الذي أومأنا إليه، ولكنهم لم يضطهدوا عالما لعلمه، ولم يقطعوا سبيل علم دون مبتغيه.
ثم خلفهم بنو العباس وقد اتسع نطاق الممالك الإسلامية واستحكمت عرى الدولة، فما استقرت مقاليد الخلافة بأيديهم حتى نهضوا بالعلوم على اختلاف فنونها، فعني المنصور بنقل علوم الهندسة والطب والنجوم، وتتابع الخلفاء على هذه الخطة المحمودة، والنهضة العبقرية للخليفة المأمون أشهر من أن يشار إليها بالبنان، وظلت هذه النهضة قائمة يشد أزرها الخليفة عقب الخليفة حتى أصبحت علوم اليونان والفرس وغيرهما تدرس بلسان عربي مبين.
وهن عظم الخلافة العباسية وهيض جناحها فظهر حولها دول في الشام ومصر وفارس وخراسان وغيرها؛ كدولة بني بويه وبني حمدان وبني زيار وبني سامان والدولة الغزنوية والسلجوقية، وملوك هذه الدول القائمة على أطلال الخلافة العباسية «اقتدوا بخلفاء النهضة في ترغيب أهل العلم واستقدامهم إلى عواصمهم في القاهرة وغزنة ودمشق ونيسابور وإصطخر وغيرها.»
40
ومن أشهر رجال هذه الدول وأعظمها أثرا في إحياء العلم ورفع لوائه منصور بن نوح الساماني،
41
ومحمود بن سبكتكين الغزنوي، وسيف الدولة بن حمدان، وسابور بن أردشير،
42
وزير بهاء الدولة بن بويه، ونظام الملك،
43
وزير السلطان السلجوقي، وقابوس بن وشمكير الزياري، ويعقوب بن كلس، وزير العزيز بالله ثاني ملوك الدولة الفاطمية، والصاحب بن عباد، وزير مؤيد الدولة بن بويه، إلى غير هؤلاء من ملوك ووزراء عرفوا قيمة العلم، وخلوا سبيل الأفكار تتمتع بملاذه وتنفق من طيباته كيف تشاء.
وإذا سرحنا الطرف في دول الأندلس والمغرب رأينا كثيرا من ملوكها شادوا صروح العلم، وأوسعوا ميدان المنافسة في فنونه؛ مثل: الحكم المستنصر بالله الخليفة بقرطبة، ويوسف بن عبد المؤمن سلطان مراكش، وغيرهما من ملوك الطوائف وبعض ملوك الدولة الحفصية والدولة الحسينية في تونس.
ولعل المؤلف قرأ في بعض الكتب أن من طبائع الاستبداد الضغط على العلم، فضم إلى هذه النظرية ما يعتقده من أن خلفاء الإسلام وملوكه مستبدون، فانتظم له قياس منطقي من الشكل الأول؛ وهو: ملوك الإسلام مستبدون، وكل مستبد يضغط على العلم، فالنتيجة: ملوك الإسلام يضغطون على العلم!
ولكن ماذا ينفع هذا القياس، والتاريخ الصحيح يشهد بأن خلفاء الإسلام وملوكه رفعوا لواء العلم، ومنهم انبعثت أشعته إلى الشرق والغرب؟! قال روبودان الإنجليزي في كتاب تاريخ الموسيقى:
44 «بعد فتح بلاد الفرس أصبحت ينابيع العرفان تنهمر إلى العرب على طريق دمشق وحلب وإسكندرية، وتجري على سواحل أفريقية الشمالية إلى بلاد إسبانيا حتى انتهت إلى قرطبة التي أنشأها الأمويون، فأصبحت مركز العلوم والمعارف إلى أنحاء أوروبا.»
وقال: «إن العرب في القرون الوسطى كانوا حملة العلم والعرفان إلى بقية أنحاء العالم، وبينما كانت أوروبا غارقة في أشد دياجير الجهل ظلاما، كان الخلفاء في بغداد عاصمة ملكهم وقد بلغوا أعلى شأو في المدنية والعرفان؛ لأنهم كانوا ملوكا لممالك عظيمة تمتد من نهر الغنج شرقا إلى المحيط الأطلنتيكي غربا؛ حيث توجد طنجة.»
45
وقال: «وبفضل سهرهم «يعني خلفاء قرطبة» على العلوم؛ أصبح أطباء العرب وفلاسفة قرطبة حملة راية العلم في العالم.»
46
وإذا حكى التاريخ أن المتوكل العباسي في الشرق، والمنصور بن أبي عامر في الغرب اضطهدا الفلسفة، فذلك شيء لا يذكر إزاء النهضة التي قام بها غيرهم من ملوك وأمراء يخرجنا عدهم وعد مآثرهم العلمية إلى إسهاب لا يسعه المقام. •••
قال المؤلف في ص30: «ذلك تأويل ما يلاحظ من قصور النهضة الإسلامية في فروع السياسة، وخلو حركة المسلمين العلمية من مباحثها.»
قد أريناك أن ملوك الإسلام كانوا يساعدون على توسيع دائرة المعارف، ويقبلون ما تنتجه العقول السليمة باحتفاء وترحاب، وقد كانت الكتب السياسية تؤلف بمرأى منهم ومسمع، وكثير منها يؤلف من أجل صاحب الدولة أو وزيره، مثل كتاب سياسة المالك في تدبير الممالك، ألفه ابن أبي الربيع للمعتصم العباسي، وكتاب نهج السلوك في سياسة الملوك، ألفه الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله لصلاح الدين الأيوبي، وكتاب لطائف الأفكار وكاشف الأسرار في علم السياسة، ألفه القاضي حسين السمرقندي للوزير إبراهيم باشا، وبعض هذه الكتب يقدمه مؤلفه بنفسه إلى الملك، كما قدم ابن خلدون نسخة من مقدمة تاريخه إلى صاحب تونس أبي العباس الحفصي، ثم إلى السلطان برقوق صاحب مصر.
بل كان من رجال الدولة من يؤلف في السياسة، كما ألف القاسم أبو دلف، أحد قواد المأمون ثم المعتصم، كتاب سياسة الملوك،
47
وألف عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ولي الشرطة ببغداد رسالة في السياسة الملوكية.
48 •••
قال المؤلف في ص31: «لو وضعنا هذا الكتاب كله في بيان الضغط الملوكي الإسلامي على كل علم سياسي، وكل حركة سياسية أو نزعة سياسية لضاق هذا الكتاب وأضعافه عن استيعاب القول في ذلك، ثم لعجزنا عن بيانه على وجه كامل.»
اقتحم المؤلف في هذه العبارة شططا لا يقع فيه خبير بالتاريخ، عارف بقيمة الأمانة في العلم. طالع أيها القارئ كتب التاريخ كتابا كتابا وقلبها إن شئت صحيفة صحيفة، فلا أحسبك تعثر على مثال يشهد بأن ملكا من ملوك الإسلام غضب لكتاب ألف في السياسة، أو كره للناس أن يترجموا كتابا في السياسة، أو عنف شخصا ألف في السياسة، أو أصدر إنذارا على التأليف في السياسة.
ضغط بعض ملوك الإسلام على الفلسفة كما قصصناه عن المتوكل العباسي والمنصور بن أبي عامر؛ لاعتقاد ضررها، أو تقربا من قلوب العامة، ولا تكاد تعلم أن أحدا منهم اضطهد علم السياسة، إلا ما كان من السلطان عبد الحميد الذي انتهى به الاستبداد والضغط على حرية الفكر إلى غاية لم يسبق لها نظير. ومن ذلك الاستبداد المتناهي تعلم عبد الرحمن الكواكبي كيف يؤلف كتابي: طبائع الاستبداد وجمعية أم القرى. •••
قال المؤلف في ص31: «لو ثبت عندنا أن الأمة في كل عصر سكتت على بيعة الإمامة فكان ذلك إجماعا سكوتيا، بل لو ثبت أن الأمة بجملتها وتفصيلها قد اشتركت بالفعل في كل عصر في بيعة الإمامة واعترفت بها، فكان ذلك إجماعا صريحا، لو نقل إلينا ذلك لأنكرنا أن يكون إجماعا حقيقيا، ولرفضنا أن نستخلص منه حكما شرعيا، وأن نتخذه حجة في الدين. وقد عرفت من قصة يزيد كيف كانت تؤخذ البيعة ويغتصب الإقرار.»
اندفع المؤلف يخوض في الإجماع على غير بينة منه، ويورد على الطعن في انعقاده في مسألة الإمامة قصة يزيد بن معاوية. علماء الإسلام في ناحية، وصاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم في ناحية أخرى.
يظهر جليا أن المؤلف اشتبه عليه الإجماع على وجوب نصب إمام بالإجماع على مبايعة إمام بعينه. والذي يتحدث عنه أهل العلم إنما هو وجوب نصب الإمام، وهذا الوجوب لم يحدث فيه خلاف بين أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والتابعين لهم بإحسان، وأما مبايعة إمام خاص فيكفي في انعقادها اتفاق جماعة من أهل الحل والعقد بحيث تكون كلمتهم العليا على من خالفهم.
قال إمام الحرمين في كتاب غياث الأمم:
49 «اتفق المنتمون إلى الإسلام على تفرق المذاهب وتباين المطالب على ثبوت الإمامة.» ثم قال: «الإجماع ليس شرطا في عقد الإمامة بإجماع.»
فاستدلال المؤلف على إبطال الإجماع في حكم الخلافة بعدم الإجماع على ولاية يزيد، منطق يترفع عنه أصحاب الأقيسة الشعرية، ولا يأتيه المولعون بالمغالطات إلا أن يصوغوه في أسلوب أبرع من أسلوب المؤلف وأخفى. •••
قال المؤلف في ص32: «وقد زعم الإنكليز أن أهل الحل والعقد من أمة العراق انتخبوا فيصلا ليكون ملكا عليهم بالإجماع، اللهم إلا أن يكون قد خالف في ذلك نفر قليل لا يعتد بهم؛ كأولئك الذين دعاهم ابن خلدون من قبل شواذ.»
ما كان للمؤلف أن يتهجم على علم راسخ القواعد محكم المباني فيخلطه بالمجون، ويضرب له أمثالا لا تلتقي معه في نسق وإن كان الحديث ذا شجون.
الإجماع الذي يستند إليه في تقرير الأحكام هو اتفاق مجتهدي الأمة على حكم شرعي، وهو في قضية الخلافة وجوب نصب الإمام. أما مبايعة الشخص المعين فإنه لا يشترط فيها اتفاق مجتهدي الأمة، بل المدار في انعقادها على جماعة من أهل الحل والعقد وإن لم يكن من بينهم مجتهد أصلا.
فإيراد المؤلف قصة يزيد طعنا في الإجماع المستدل به على حكم الخلافة تخبط في ليل دامس، والانتقال منها إلى قصة فيصل وتمثيل من خالفوا في انتخابه بمن دعاهم ابن خلدون شواذ خيال لا تقبله أذواق أهل العلم، وشاهد يوضح أن المؤلف لا يفرق بين الإجماع على وجوب الخلافة والاتفاق على مبايعة شخص بعينه. •••
قال المؤلف في ص32: «لو ثبت الإجماع الذي زعموا لما كان إجماعا يعتد به، فكيف وقد قالت الخوارج: لا يجب نصب الإمام أصلا، وكذلك قال الأصم من المعتزلة وقاله غيرهم أيضا كما سبقت الإشارة إليه؟ وحسبنا في هذا المقام نقضا لدعوى الإجماع أن يثبت عندنا خلاف الأصم والخوارج وغيرهم، وإن قال ابن خلدون: إنهم شواذ.»
لم يخالف في وجوب الإمامة جميع الخوارج، وإنما المخالفون طائفة منهم وهم النجدات، وقد نقلنا لكم آنفا قول ابن حزم في كتاب الفصل: اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة يجب عليها الانقياد لإمام عادل ... حاشا النجدات من الخوارج.
أما الأصم فقد قال إمام الحرمين في تفنيد رأيه: «نصب الإمام عند الإمكان واجب، وذهب عبد الرحمن بن كيسان «هو الأصم» إلى أنه لا يجب، ويجوز ترك الناس أخيافا يلتطمون ائتلافا واختلافا، لا يجمعهم ضابط، ولا يربط شتات رأيهم رابط. وهذا الرجل هجوم على شق العصا، ومقابلة الحقوق بالعقوق، لا يهاب حجاب الإنصاف، ولا يستوعر أصواب الاعتساف، ولا يسمى إلا عند الانسلال عن ربقة الإجماع، والحيد عن سنن الاتباع، وهو مسبوق بإجماع من أشرقت عليه الشمس شارقة وغاربة، واتفاق مذاهب العلماء قاطبة.»
فالتحقيق أن مخالفة هذه الطائفة في قضية الخلافة لا يعتد بها، وليس لها في الطعن على الإجماع من أثر، ولا نجعل أقوالهم لاغية لكونهم من الطوائف التي يراها أهل السنة على غير حق؛ فإن خلاف أمثالهم في الأحكام الشرعية يمنع من انعقاد الإجماع، كما هو المختار عند الغزالي والآمدي وغيرهما، وإنما نصرف النظر عن مخالفتهم هذه لوجهين:
أحدهما:
أن خلافهم طرأ بعد انعقاد الإجماع ممن تقدمهم على وجوب نصب الإمام، وحدوث قول بعد انقراض العصر الذي انعقد فيه الإجماع على حكم شرعي مردود على وجه صاحبه.
ثانيهما:
أنهم قيدوا مخالفتهم بحال، وعلقوها على أمر لم تجربه السنن الكونية في هذه الحياة، وهو تواطؤ الأمة على العدل وتنفيذ أحكام الله فيما بينهم. وهذا التواطؤ مما دلت التجارب والمشاهدات الطويلة على أنه خارج عن طبيعة البشر، إلا أن ينقلب الناس ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون!
والأشبه أن يكون خارق الإجماع في مثل هذا الحكم الواضح مدفوعا بهوى يعمي عليه الدليل الساطع، وكذلك نقل أبو منصور البغدادي ما يؤيد أن الأصم كان يخرق الإجماع استسلاما لأهوائه، فقال في كتاب الفرق بين الفرق: «قال - يعني الأصم: لا تنعقد؛ أي الإمامة، إلا بإجماع عليها، وإنما قصد بذلك الطعن في إمامة علي - رضي الله عنه - لأن الأمة لم تجتمع عليه؛ لثبوت أهل الشام على خلافه إلى أن مات، فأنكر إمامة علي مع قوله بإمامة معاوية لاجتماع الناس عليه بعد قتل علي - رضي الله عنه.» •••
قال المؤلف في ص33: «عرفت أن الكتاب الكريم قد تنزه عن ذكر الخلافة والإشارة إليها، وكذلك السنة النبوية قد أهملتها، وأن الإجماع لم ينعقد عليها، أفهل بقي لهم من دليل في الدين غير الكتاب أو السنة أو الإجماع؟»
قبل أن نأخذ في مناقشة هذه المزاعم نذكر القارئ بأمر تناولنا البحث فيه آنفا، وهو أن بحث الخلافة يرجع إلى النظر في حكم عملي لا في عقيدة من عقائد الدين، ومما يترتب على الفرق بين الأحكام العملية والعقائد أن الأحكام العملية يكتفى فيها بالأدلة المفيدة ظنا راجحا، وأما العقائد فإنها لا تقوم إلا على براهين قاطعة.
ونضع بين يدي القارئ أيضا أن العدول عن ظواهر الألفاظ وتأويلها إلى غير ما يفهمه أسلوبها العربي من المعاني الجلية غير مسموع في مقام المناظرة؛ فإن الألفاظ في سائر اللغات تحتمل الصرف إلى معان غير مقصودة، وذلك بما يدعى فيها من نحو الحذف والمجاز من غير دليل ثابت أو قرينة قائمة.
ونتخلص من هذا إلى أن سنن الشريعة في إرشادها أن تعنى بالأحكام أو الحقائق التي شأنها الغموض، فتدل عليها بتصريح وتأكيد حسب أهمية الحكم وبعده من متناول العقول، ولهذا لم ترد فيها أوامر بما تدعو إليه الطبائع، وإن كانت مفروضة لحفظ النفس أو النسل، مثل: الأكل والشرب والنكاح، إلا في سياق الإرشاد إلى معنى زائد على أصل الفعل؛ كقوله تعالى:
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ، وقوله تعالى:
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع .
فلا غضاضة على حكم الخلافة إذا لم يرد به قرآن يتلى؛ إذ ليست الخلافة شيئا زائدا على إمارة عامة تحرس شعائر الدين، وتسوس الناس على طريق العدل، ولم يكن وجه المصلحة من إقامة هذه الإمارة بالخفي الذي يحتاج إلى أن يأتي به قرآن صريح، ولكن وراء ذلك أشياء أخرى قد تنازع فيها الأهواء أو تختلف فيها الآراء؛ كإطاعة السلطان العادل، أو اشتراط أن يكون زمام الحكم في يد مسلم؛ فأرشد القرآن إلى الأولى منطوقا، وإلى الثاني مفهوما بقوله:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . وقد نبهنا فيما سلف على أن النظر في وجه الأمر بإطاعة أولي الأمر يقتضي وجوب إقامتهم.
فالقرآن لم يصرح بحكم الإمارة العامة اكتفاء بما بثه في تعاليمه من الأصول التي تبينها السنة، ويرجع إليها الراسخون في العلم عند الحاجة إلى الاستنباط، ولأن في الأمر بإطاعة أولي الأمر عبرة لأولي الألباب.
فقول المؤلف: إن القرآن قد تنزه عن ذكر الخلافة والإشارة إليها. كلمة لا تليق بأدب عالم شرعي، ولكن الهوى كالزجاجة الملونة بسواد، تضعها على بصرك فتريك الأشياء بعد أن تجري عليها صبغة من لونها البهيم «وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى.»
50
وأما السنة فقد وردت أحاديث صحيحة ذكر فيها الخليفة والإمام والبيعة والأمير، وقد جاءت هذه الأحاديث في أغراض متعددة ومعان مختلفة، فمنها: ما جاء في بيان أن الإمام مسئول عما يفرط في حق الرعية؛ كقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عن رعيته.»
51
ومنها ما جاء في الأمر بملازمة الإمام وعدم الخروج عنه كحديث: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.»
52
ومنها ما ورد في بيان حكم من حاول الخروج عليه كحديث: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه.»
53
وحديث: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.»
54
وحديث: «من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه؛ فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه؛ فاضربوا عنق الآخر.»
55
ومنها ما جاء في مساق الإخبار عن وجود الخلفاء، وقرن بذلك الإخبار الأمر بالوفاء ببيعة الأول؛ كحديث: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر.» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فوا ببيعة الأول فالأول.»
56
ومنها ما ورد مورد الإنكار والوعيد عن نكث اليد من طاعة الإمام، وأن يموت المسلم وليس في عنقه بيعة كحديث: «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.»
57
وهذا الحديث وإن لم يرد فيه ذكر الإمام ولا الخليفة؛ فإن الأحاديث السابقة تفسره، ومنها ما ورد في وصف خيار الأئمة وشرارهم كحديث: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم.»
58
ومنها ما ذكر فيه الخليفة بجانب النبي، وأخبر فيه بما يكون له من بطانتي الخير والشر؛ كحديث: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم الله.»
59
ومنها ما جاء لبيان منزلة الإمام العادل وفضله كحديث: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.» وصدرها بالإمام العادل فقال: «إمام عادل.»
60
وحديث: «إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به؛ فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه.»
61
فهذه الأحاديث الواردة في أغراض شتى وأسانيد مختلفة، وكلها تدور حول الإمام فتبين مسئوليته، وتأمر بالوفاء ببيعته وإطاعته وملازمته، وقتل من يحاول الخروج عليه، وتصف الأئمة، وتفرق بين خيارهم وشرارهم، هذه الأحاديث إذا وقعت في يد مجتهد يتبصر في حكمة أمرها ونهيها ووصفها لا يتردد في أن نصب الإمام أمر حتم، وشرع قائم، ولا يصح أن يكون هذا الحق إلا من قبيل الواجب.
فقول المؤلف: إن السنة النبوية أهملت الخلافة. جراءة يلبسها من خرج ليقطع الطريق في وجه الحقائق حتى تدرج عليه الآراء الفجة وإوضاع التي لم تزل في طور التجربة والاختبار.
وأما الإجماع فقد أريناك وجه حجيته فيما سبق، وبينا لك أنه دليل قاطع؛ لأن شواهد عدة في دلائل الشريعة جاءت في موارد شتى من الكتاب والسنة. وهذه الشواهد إن كان كل واحد منها يفيد ظنا راجحا؛ فإن مجموعها يفيد علما راسخا، ونظيره التواتر في إفادة القطع، وهو مؤلف من أخبار آحاد لا يفيد كل واحد منها بانفراده شيئا يتعدى مراتب الظنون.
وتقرير الإجماع في قضية الخلافة الذي لا يزال علماء الإسلام يلهجون به جيلا بعد جيل: أن الصحابة - رضي الله عنهم - عقب انتقال صاحب الرسالة صلوات الله عليه إلى الرفيق الأعلى، وقبل مواراة جثته الشريفة في قبره الكريم، بادروا إلى الائتمار بتعيين إمام، ولم يجر بينهم خلاف في حكم إقامته، وإنما تنازعوا في مبدأ المفاوضة شيئا قليلا في اختيار الشخص الكافي لهذا المنصب، ثم تضافروا على مبايعة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ومن تخلف عن المبايعة لم يذهب إلى الخلاف في وجوب نصب الإمام، وإنما هي الموجدة لعدم إيثاره بالإمارة، أو لإنجاز المبايعة دون حضوره وقبل أخذ رأيه في جملة المؤتمرين.
وكذلك كان شأنهم في الاهتمام بأمر الخلافة لعهد سائر الخلفاء الراشدين فمن بعدهم، ومن يتخلف عن بيعة خليفة فلعذر يرجع إلى عدم وفاقه على بيعة الشخص المعين، ولم ينقل عن أحد أنه توقف في وجوب نصب الأمير العام، أو قال: «ليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا»، مع أن المحدثين والمؤرخين ينقلون ما يدور في المحاورة بين أهل الحل والعقد، وما يقع من وفاق وما يصدر عنهم من أقوال وآراء ليس لها أهمية إزاء القول بعدم وجوب نصب الإمام لو خطر على قلب رجل منهم.
ومن الباطل أن يقال: إنما سكتوا عن إبداء رأيهم في وجوب الخلافة رهبة من القوة المسلحة؛ فإن العصر الذي صدع فيه عبد الرحمن الأصم ونجدة بن عامر بعدم وجوب نصب الإمام لم تكن حرية الرأي ولا سعة صدر السياسة فيه بأحسن حالا من العهد الذي يقوم فيه الرجل ويجابه الخليفة بقوله: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا. •••
قال المؤلف في ص33: «نعم، بقي لهم دليل آخر لا نعرف غيره هو آخر ما يلجئون إليه، وهو أهون أدلتهم وأضعفها! قالوا: إن الخلافة تتوقف عليها إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية إلخ. المعروف الذي ارتضاه علماء السياسة أنه لا بد لاستقامة الأمر في أمة متمدينة، سواء كانت ذات دين أم لا دين لها، وسواء كانت مسلمة أم مسيحية أم يهودية أم مختلطة الأديان، لا بد لأمة منظمة، مهما كان معتقدها، ومهما كان جنسها ولونها ولسانها، من حكومة تباشر شئونها، وتقوم بضبط الأمر فيها. وقد تختلف أشكال الحكومة وأوصافها بين دستورية واستبدادية، وبين جمهورية وبلشفية وغير ذلك.»
الدليل المشار إليه يرجع إلى قاعدة قائمة على رعاية المصالح، وهي قاعدة قطعية لأنها منتزعة من أصول وأحكام مبثوثة في الكتاب والسنة، وقد أقامه العلماء في مناظرة النفر الذي خالفوا في نصب الإمام ذاهبين إلى أنه لا تجب إقامة حكومة. ولا شك أن هذا الدليل ينسف مذهبهم نسفا، ولو خالف في شكل الحكومة مخالف لأفصح عن رأيه، ولكان لأهل العلم معه موقف غير الموقف الذي نراه في علم الكلام.
فالدليل بالنظر إلى مذهب الخصم الذي كانوا يجادلونه به: حجة ساطعة، وليس بالدليل الهين ولا الضعيف، ولكن المؤلف لا يضبط وجه البحث ولا يحد موضوعه حدا بينا فيقع فيما لا يقع فيه الكرام الكاتبون. •••
قال المؤلف في ص34: «ولعل أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - إنما كان يشير إلى ذلك الرأي حينما قال في خطبته التي سبقت الإشارة إليها: لا بد لهذا الدين ممن يقوم به.»
صدرت هذه المقالة من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
وبويع عقبها بالإمارة العامة وتسمى خليفة، وسار في حكومته على منهج مطابق لمقاصد الشريعة، فالظاهر الجلي أن مقالته إنما تفسر بمن يبايع على أن يحرس الدين، ويقيم مصالح الدنيا، ويراعي في أحكامه نصوص الشريعة وقواعدها العامة. أما الحكومة الاستبدادية أو البلشفية وما شاكلها فما كان لأبي بكر الصديق أن يعدها فيما يقوم بدين الله. وسنبحث بعد هذا في شكل الحكومة الذي لا يخالف مقصد الشريعة من إقامة الخلافة. •••
قال المؤلف في ص34: «ولعل الكتاب الكريم ينحو ذلك المذهب أحيانا.» يريد المؤلف أن القرآن ينحو نحو ذلك الرأي، وهو أنه لا بد لكل أمة من نوع ما من أنواع الحكم. قال هذا بعد أن فصل أشكال الحكومة إلى دستورية واستبدادية وجمهورية وبلشفية وغير ذلك، وليس بالعجيب من المؤلف أن يزعم أن القرآن يذهب إلى إقامة حكومة ما، وسواء بعد ذلك أن تكون دستورية أو استبدادية جمهورية أو بلشفية وغيرها، فإنه سيجابهك في غير خجل بأن الخطط السياسية من خلافة وقضاء وغيرهما لا شأن للدين بها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم.
فعلى فرض أن يكون زمام أمرنا في يد المؤلف ومن يشاكله في التفكير ويقع اختيارهم على شكل الحكومة البلشفية، فإن القرآن - بمقتضى زعم المؤلف - يأذن لنا بأن نمد لهم رقابنا خاضعين، ونكون لحكومتهم البلشفية أو اللادينية من الخادمين! •••
قال المؤلف في ص35: «إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة كان صحيحا ما يقولون من أن إقامة الشعائر الدينية، وصلاح الرعية، يتوقفان على الخلافة، بمعنى الحكومة في أي صورة كانت الحكومة، ومن أي نوع: مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو دستورية أو شورية، ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية.»
لا يحق لعالم شرعي أن يقسم الحكومات إلى أقسام يذكر فيها المطلقة والمستبدة والبلشفية ويجعلها من الأشكال التي يصح حمل كلام الفقهاء في الإمامة والخلافة عليها. أما المطلقة فكل من ينتمي للإسلام يعلم أن الحكومة الإسلامية مقيدة بقانون كتاب الله، قال الله تعالى:
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ، وقال
صلى الله عليه وسلم : «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله؛ فاسمعوا له وأطيعوا.»
62
وأما المستبدة فينبذها وراء ظهورنا قوله تعالى:
وأمرهم شورى بينهم . والفقهاء يتلون هذه الآية ويقررون قاعدة الشورى ويبحثون عن أسرارها بما فيه كفاية.
وأما البلشفية فإنها مذهب قائم على إبطال الملكية الفردية، وجعل الزراعة والصناعة والتجارة مشاعة بين الناس، وأن يجري هذا التقسيم بمقتضى قانون عام، ثم هي ترمي إلى قلب نظم سائر الحكومات أنى كانت، وهذا المبدأ الذي يناقض مبادئ الإسلام يبرأ الفقهاء إلى الله من أن يكون شكلا للحكومة الإسلامية، ويعدون تأويل كلامهم في الإمامة والخلافة على صحة إرادة هذا الشكل ونحوه رميا للكلام على غير روية، وطعنا في صحة مداركهم وأمانتهم العلمية.
شكل حكومة الخلافة
أرأيت المؤلف كيف أخرج الخلافة في تلك الصورة المنكرة، وأخذ يزدري بها ويتمضمض بسبابها، ثانيا عطفه عن النظر إلى حقيقتها التي رسمتها الشريعة، وضرب لها الخلفاء الراشدون بسيرتهم القيمة أحسن مثال.
وإليك هذه الحقيقة خالصة مطمئنة لتعلم أنها قائمة على حكمة عالية وسياسة عادلة:
يقرر جمهور أهل العلم في شروط الخليفة أن يكون بالغا في العلم رتبة الاجتهاد، وأن يكون ذا رأي وخبرة بتدبير الحرب والسلم، وأن يكون شجاعا لا يرهب الموت الزؤام فما دونه، وأن يكون عادلا لا تأخذه في الحق لومة لائم. وتعرف مزية العدل باختبار سيرته فيما كان يتولاه من أعمال قبل منصب الخلافة، أو بما تدل عليه التجارب والمشاهدة الطويلة من استقامته، وشرف همته، وإنكاره ما يفعل الظالمون بغيرة وحماسة.
ومن الأسس التي تقوم عليها الخلافة الشرعية فريضة الشورى، بحيث لا يقدم الخليفة على أمر حتى يلقيه بين يدي أهل الحل والعقد، وتتناوله الآراء من كل جانب؛ ليتبين الرأي الراجح، ويذهب في سياسته على بينة وروية.
ولم يقف الإسلام عند تكليف الخليفة بإقامة فريضة الشورى، فأقبل على الأمة ووضع في عنقها واجب مراقبة الخليفة ورجال دولته؛ لتقويمهم إذا انحرفوا، وإيقاظ عزمهم إذا أهملوا.
تحققت تلك الشروط من علم وعدالة وشجاعة وحكمة رأي في بعض الخلفاء، وأخذوا أنفسهم بشريعة الشورى، وفتحوا باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وجه الأمة بصدق وإخلاص، وكان بين يدي الأمة أعدل قانون أساسي؛ وهو كتاب الله، وأصدق بيان يفصل مجمله؛ وهو سنة رسول الله، فلا الخليفة يستبد فتأخذه العزة بالإثم، ولا الأمة ترهب سطوته فتحجم عن أمره ونهيه.
قال الإمام الغزالي: الخلفاء - رضي الله عنهم - يحبون الرد عليهم ولو كانوا على المنابر؛ فقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يخطب: أيها الناس، من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه، فقام له رجل وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا، فقال: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه.
وليس في الشريعة ما يمنع الخليفة أن يفوض جانبا من شئون الأمة إلى وزير ذي علم ورأي وشجاعة وعدل؛ فيمنحه ما كان له من تدبير وتنفيذ، قال الماوردي في الأحكام
63
السلطانية عند البحث عن وزارة التفويض: «هي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضائها على اجتهاده، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، قال الله تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام:
واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري ، فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز، ولأن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور من تفرده بها.
ثم ذكر لهذه الوزارة شرطين؛ أحدهما: يختص بالوزير؛ وهو مطالعة الإمام بما أمضاه من تدبير، وأنفذه من ولاية وتقليد، والثاني: يختص بالإمام؛ وهو أن يتصفح أفعال الوزير وتدبيره الأمور ليقر منها ما وافق الصواب، ويستدرك ما خالفه.»
64
ولأهل الحل والعقد أن يطالبوا الخليفة بهذه الاستنابة متى رأوا المصلحة قاضية بها، ولا فرق بين أن يكون المستناب واحدا أو متعددا.
فشكل بعض الحكومات القائمة على خليفة ووزراء ومجلس نيابي يجري انتخابه تحت ظلال الحرية التامة لا يخالف الشكل الملائم للخلافة الحقيقية بحال، وقد كان السلطان سليمان ابن السلطان سليم في أوائل المائة العاشرة رتب قانونا «استعان فيه بالعلماء العاملين وعقلاء رجال دولته، وجعل مداره على إناطة تدبير الملك بعهدة العلماء والوزراء، وتمكينهم من تعقب الأمراء والسلاطين إن حادوا، وذلك أن ملك الإسلام مؤسس على الشرع الذي من أصوله وجوب المشورة وتغيير المنكر، والعلماء أعرف بالنيابة ومقتضيات الأحوال، فإذا اطلع العلماء والوزراء على شيء يخالف الشريعة والقانون الخادم لها؛ فعلوا ما تقتضيه الديانة من تغيير المنكر بالقول أولا، فإن أفاد حصل المقصود، وإلا أخبروا أعيان الجند بأن وعظهم لم ينفع.
وبين في القانون المذكور ما يئول إليه الأمر إذا صمم السلطان على أن ينفذ مراده وإن خالف المصلحة، وهو أن يخلع ويولي غيره من البيت الملكي، وأخذ على ذلك العهود والمواثيق من العلماء ووزراء الدولة بمقتضى هذا القانون في الاحتساب على سيرة السلاطين كمنزلة وكلاء العامة في أوروبا.»
65
ولا يصح أن تكون الخلافة في هيئة تؤلف لأجل مسمى ثم تنفرط؛ فإن نصوص العلماء متضافرة على أن يكون الخليفة فردا يستمر في رياسته ما دام حائزا على رضا الأمة بعيدا عن الاستبداد في الحكم، قال الأستاذ الشيخ محمد عبده في كتاب الإسلام والنصرانية:
66 «فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة. وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير، فلا بد أن تكون في واحد؛ وهو السلطان أو الخليفة.»
ومن أدلة وضع الخلافة في فرد أن الأحاديث الصحيحة تسمي صاحب هذه الرياسة إماما وخليفة وأميرا، وهذه الألفاظ لا يستقيم حملها على جماعة إلا أن تذهب في فهمها على غير الطريق المعروف من لسان العرب، وأوضح من هذا دلالة حديث:
67 «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه.»
وقد يبلغ العدل والحرية أشدهما لعهد الحكومة التي يرأسها فرد ثابت إذا لم تكن بيدها السلطة التشريعية، وتكون مقيدة في تنفيذها بنظام الشورى، ولا تتصرف إلا تحت مراقبة الأمة.
فالخليفة كملك دستوري، ولكنه يعين باختيار أهل الحل والعقد، ويحمل على عاتقه تبعة ما تزل به السياسة من اهتضام حق أو إضاعة مصلحة.
وسنزيد البحث في شكل الخلافة بسطة حتى يعرف القارئ أن المؤلف لم يتفقه في كتب العلماء الذين ينظرون في الشريعة من وجهتها الاجتماعية والسياسية. •••
قال المؤلف في ص35: «الواقع المحسوس الذي يؤيده العقل ويشهد به التاريخ قديما وحديثا أن شعائر الله تعالى، ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة، ولا على أولئك الذين يلقبهم الناس خلفاء، والواقع أيضا أن صلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك، فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين، وينبوع شر وفساد.»
لا يرقب المؤلف في الحقائق الشرعية إلا ولا ذمة، يصورها بقلمه كيف يشاء، ثم يقع في عرضها بأشد من هجاء الحطيئة.
يصور الخلافة بعرش يجلس عليه مستبد غشوم، حواليه وحوش ضارية، ورماح مسنونة، وسيوف مصلتة، وهو إنما أعد هذه القوة المسلحة لسفك الدماء الطاهرة، والفتك بالنفوس البريئة، وليست الرعية تحت سلطته القاهرة إلا عبيدا يعتقدون أنه يستمد سلطانه من سلطان الله، ويسخرهم في شهواته كما تسخر الأنعام!
يخترع المؤلف هذه الصورة المكروهة ويجعلها النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة، ثم يقول متبرئا منها: فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، وإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة، وينبوع شر وفساد!
الخلافة حقيقة شرعية، وأمر لا غنى للمسلمين عنه ما داموا يطمحون إلى عز مكين ، وحياة مستقلة، وقد تسنى فيما سلف أن تكون الشعوب الإسلامية كلها تحت راية واحدة كحالها لعهد الدولة الأموية، ثم انقسمت إلى دولتين مستقلتين أيام ذهب عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وأقام دولة أموية أخذت لقب الخلافة إزاء الخلافة العباسية بالمشرق، فكان لدولة الإسلام في العهد الأول ولدولتيه في العهد الثاني من القوة والسطوة ما قطع مطامع الدول القوية أن تبسط يدها علي قيد شبر من بلاد الشرق، ولما تقطعت أوصال الخلافة بالأندلس كما قال شاعرهم:
قام بكل بقعة مليك
وصاح فوق كل غصن ديك
اغتنم العدو ذلك التقاطع فرصة وأخذ ينقص البلاد من أطرافها حتى استنجد ملوك الطوائف بسلطان مراكش يوسف بن تاشفين، وباتفاقهم معه تحقق شيء من المعنى الذي يراد من الخلافة، فهاجم العدو ورده على عقبه خاسرا.
ولما تضعضعت دولة المرابطين بمراكش وشغلوا بحروبهم مع الموحدين اضطربت عليهم الأندلس، ورجعت دولتها إلى افتراق؛ فبسط العدو إليها يده؛ انتهازا لفرصة التفرق حتى أصبح صاحب دولة مراكش عبد المؤمن بن علي الذي يقول فيه الشاعر:
ما هز عطفيه بين البيض والأسل
مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي
فأجاز إلى الأندلس، وأخذ يحارب العدو، وجرى على أثره ابنه يوسف ثم ابنه يعقوب، حتى حفظوا من عز الإسلام ما أضاعه تفرق البلاد تحت رايات شتى، ولم تسقط الأندلس إلا حين فقدت الوحدة السياسية، ولم يكن بالقرب منها دولة ذات قوة وعزم تنقذها من ذلك الخطر المحيط.
ولو أن المتأخرين من سلاطين آل عثمان أعطوا للخلافة شيئا من حقوقها، وراعوا ما أمر الله به من وسائل استقامتها لما انفرط عقد هذه الممالك الإسلامية، وأصبح كل قطعة منها تحت سلطة أجنبية تستبد عليها في حكمها، وتتصرف في رقاب شعوبها وأموالهم كيف تشاء، فالخلافة لا تزيد على ما يسمى دولة، إلا أنها رابطة سياسية تجعل شعوبا مختلفي العناصر والقومية يولون وجوههم شطر رايتها بعاطفة من أنفسهم واختيار، ومن هذه الجهة ينظر إليها بغاة الاستعمار بعين عابسة، ويحاول الغر الذي ينخدع ببهرج آرائهم أن يطوي رايتها ، ويمحو أثرها.
وأما قوله: «وإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد.» فكلمة هو قائلها والتاريخ من ورائه محيط.
الخلافة قامت بالدعوة إلى دين القيمة، ومدت ظل الإسلام في أقاليم بعيدة ما بين المناكب، فأصبحت كلمته العليا، وأصبح المسلمون في عز شامخ، وحياة راضية.
فتحت الخلافة أوطانا كثيرة فأذاقتها حلاوة العدل بعد أن كانت تتجرع غصص الجور والاستعباد، وضربت فيها بأشعة التوحيد الخالص بعد أن كانت تتخبط في ظلمات الحيرة والضلال، وألبستها حلل الآداب الراقية بعد أن كانت منغمسة في عادات وتقاليد تشمئز منها النفوس المطمئنة، وتمجها الأذواق السليمة، ونسقتها بفضل الإسلام في تآلف واتحاد بعد أن كانت في تخاذل وشقاق.
أفلم يكن قسم عظيم من آسيا وإفريقية يصلى نار الوثنية بكرة وعشيا، ويتبرج في مظاهر الهمجية تبرج الجاهلية الأولى، فكان من أثر الخلافة وما قامت به من الدعوة أن قلبت تلك النار إلى إيمان صادق، ووضعت مكان الخلاعة والهمجية حياء ونظاما؟
أينكر المؤلف أن استقامة رجال الخلافة وسمعة سيرتهم العادلة كانت كالدعاية تتقدمهم إلى تلك الممالك، فلم يجدوا في فتحها ما تجده الفئة القليلة عند لقاء الفئة الكثيرة من طول المصابرة والثبات؟
ولا أحسبه يعد ثوب الإسلام الذي لبسته تلك الأمم من يد الخلافة نكبة، ولا دخولها تحت راية التوحيد شرا وفسادا. وليعمد إن شاء إلى حكومة عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز ثم إلى أحدث الحكومات نظاما، وأخفها على قلبه راية، ويعقد بينهما موازنة في الوجوه التي تتفاضل بها الدول من عدل وحرية ومساواة، ثم ليتحدث معنا بضمير لا يحابي الشهوات، وكلمة لا تبخس رجال الإسلام حقهم، فلا جرم أن يعود وقتئذ إلى حكمه القاسي على الخلافة ويمحوه بالماء الذي يتقطر من جبينه خجلا.
يقول المؤلف: كانت الخلافة ولم تزل نكبة وينبوع شر وفساد! وجعل يلتقط من أيام خمول بعض الخلفاء أو سوء سيرتهم ما يضعه سندا لهذه المقالة المطلقة، اختار أن يكون كاتب سيئات الخلافة؛ ليقضي حاجة في نفسه، ولكن بعض من لا ينتمي إلى الإسلام من علماء الغرب كانوا يكتبون حسناتها بقلم منصف خبير. ومن كلماتهم الحافظة لشيء من محاسن الخلافة قول أدلف فريدريك فون شاك في كتاب «الشعر والفنون الجميلة عند العرب في إسبانيا وصقلية»:
68
بينما أوروبا كادت تكون خالية من المدارس؛ إذ لم يكن يعرف القراءة والكتابة فيها إلا الكهنة، كان العلم منتشرا في الأندلس انتشارا عاما، غير أن الحكم «الخليفة الأموي» رأى أن الحاجة داعية إلى نشر العلم بطريق أوسع، فأنشأ في عاصمة ملكه سبعا وعشرين مدرسة؛ لتعليم أبناء الفقراء مجانا. ولقد كانت سيول الشبان تنهمر على مجامع العلوم: قرطبة وإشبيلية وطليطلة وبلنسية والمرية ومالقة؛ حيث يتلقون العلوم ويتسابقون في مضمارها، وكان العلماء والمتعلمون من جميع أنحاء العالم الإسلامي يتقاطرون على هذه المدارس التي ذاعت شهرتها حتى في بلاد آسيا.
لماذا خلع المؤلف من قلمه لجام الإنصاف وجحد ما للخلافة من مآثر حميدة، وحاول أن يحثو عليها من كلمات هجائه ما يخفيها على أعين أبنائنا النجباء؟
ذلك ما ندع جوابه لقارئي كتاب الإسلام وأصول الحكم بعد أن يسبر غوره، ويشهد الروح الذي يموج في جسم ذلك الكتاب من رأسه إلى عقبه. •••
قال المؤلف في ص36: «منذ منتصف القرن الثالث الهجري أخذت الخلافة الإسلامية تنقص من أطرافها حتى لم تعد تتجاوز ما بين لابتي دائرة ضيقة حول بغداد.» ومن بعد أن حكى كيف صار أكثر ممالكها إلى ملوك الطوائف قال: «حصل ذلك فما كان الدين أيامئذ في بغداد مقر الخلافة خيرا منه في غيرها من البلاد التي انسلخت عن الخلافة، ولا كانت شعائره أظهر، ولا كان شأنه أكبر، ولا كانت الدنيا في بغداد أحسن، ولا شأن الرعية أصلح.»
ما كان للمؤلف أن يتنازل إلى هذا الدرك الأسفل من المغالطة؛ إذ لم يدع أحد قط أن صلاح شأن الرعية وصيانة شعائر الدين مربوطان باسم الخلافة، وأن لقب الخليفة كالرقية النافعة يذهب به كل بأس، أو الدعوة المستجابة ينزل عندها كل خير! والذي نعلمه ويعلمه أشباه العامة من المسلمين أن الخلافة لا تريك آثارها، وتمنحك ثمارها من منعة وعزة وعدالة إلا إذا سارت على سنة العزم في الأمور، والحكمة في السياسة.
الكتاب الثاني
الحكومة والإسلام
الباب الأول
نظام الحكم في عصر النبوة
النقض - بحث القضاء في عهد النبوة - العرب والسياسة الشرعية - القضايا التي ترفع إلى الحكام نوعان - البحث في تولية معاذ وعلي وعمر - رضي الله عنهم - القضاء - القضاء في عهد النبوة موكول إلى الأمراء - نبذة من مبادئ القضاء في الإسلام وآدابه - المالية في عهد النبوة - لماذا لم يكن في عهد النبوة إدارة بوليس؟ - احتمال الأذى في سبيل الذود عن الحق. ***
ملخصه
زعم المؤلف أنه بحث عن تاريخ القضاء زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
فلاحظ أن حاله لا يخلو من غموض وإبهام، واعترف بأن في التاريخ الصحيح شيئا من قضائه عليه السلام، ولكن يقول: «إن ذلك المقدار لا يبلغ أن يعطي صورة بينة لذلك القضاء ولا لما كان له من نظام إن كان له نظام.» ونقل ما روي في ولاية عمر وعلي ومعاذ القضاء زمن الرسالة، فذهب إلى أن ما روي في ولاية عمر إنما هو استنتاج، وأن في روايات ولاية علي ومعاذ اختلافا يسوغ له أن يستنتج ما قاله من أنه لا تتيسر الإحاطة بشيء كثير من أحوال القضاء في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم .
ثم انفلت وكاء عقيدته وصرح بأنه وجد عند البحث في نظام القضاء في عصر النبوة: أن غير القضاء أيضا من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسية لم يكن في أيام الرسالة موجودا على وجه واضح لا لبس فيه، وتصامم عن صوت التاريخ الصحيح وهو يزجره أن يقول على رسول الله زورا فقال: «إن الباحث المنصف يستطيع أن يذهب إلى أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يعين في البلاد التي فتحها الله له ولاة لإدارة شئونها وتدبير أحوالها.» وتعدى إلى ما بعد القضاء والولاية من العمالات التي تتصل بالأموال ومصارفها، وحراسة الأنفس والأموال وغير ذلك مما لا يكمل معنى الدولة إلا به، ومسح عليه من صبغة اللبس والإبهام ما اتخذه ذريعة إلى مخادعة السذج من قراء كتابه، وجرهم إلى الاعتقاد بأن الحكم في زمن النبوة كان جاريا على غير نظام، وختم الباب بدعوى أن تفكيره في حال القضاء وغيره من أعمال الحكم والولايات قد انتهى به إلى مجال مشتبه حائر، فإذا هو إزاء عويصة أخرى ومعضلة كبرى؛ وهي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان صاحب دولة سياسية ورئيس حكومة كما كان رسول دعوة دينية وزعيم وحدة دينية أم لا؟
النقض
قال المؤلف في ص39: «لاحظنا إذ كنا نبحث عن تاريخ القضاء زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
أن حال القضاء في ذلك الوقت لا يخلو من غموض وإبهام يصعب معهما البحث، ولا يكاد يتيسر معهما الوصول إلى رأي ناضج يقره العلم، وتطيب به نفس الباحث.»
عرف الذين أوتوا العلم أن القضاء حقيقة شرعية فرجعوا في تقرير أحكامه ورسم خطته إلى أصول الشريعة بأجمعها، فأحكموا صنعه وأقروا عين العدالة بما فصلوه من أحكام وآداب ونظام، ولكن المؤلف يريد اصطياد السذج من قراء كتابه واستهواءهم «إلى غاية ذلك المجال المشتبه الحائر»، فلفت قلوبهم عن تلك الأصول القائمة، وأخذهم إلى تعرف حال القضاء مما بحث عنه في هذا الباب، وجنح إلى إنكاره؛ وهو توليته عليه الصلاة والسلام لأشخاص يفصلون بين الناس فيما شجر بينهم، ولهذا فاتحهم بقوله: لاحظنا إذ كنا نبحث عن تاريخ القضاء زمن النبي
صلى الله عليه وسلم ... إلخ.
وإذا شئت كلمة حق تنفض من حولك غبار هذا التشكيك الخاسر؛ فاربأ بنفسك عن الإذعان لغير الحجة، وألق سمعك وأنت شهيد .
من ذهب في التاريخ إلى الوقوف على حالة العرب النفسية قبل أن تطلع عليهم شمس الإسلام، أو حين ابتدأت ترمي بأشعتها في قلوبهم، وجد طباعهم كانت تأبى لهم أن يخضعوا لسلطان، أو يدخلوا تحت نظام، كما قال النعمان يصفهم لكسرى: «وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون إليهم بأزمتهم. وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين.»
ومما ينبهك على ما ملأ نفوسهم من الغلو في العظمة والتنافس في السيادة كثرة ما كان ينعقد بينهم من المفاخرات والمنافرات، ثم ما تراه في أشعارهم من الفخر والحماسة، ولشدة ما يصف به الرجل نفسه من الحول والقوة وعزة القبيلة يخيل إليك أنه ملك يجر وراءه جيشا عرمرما.
تجد هذه الروح سارية في نفس كل من له مكانة في قومه، حتى إن الرجل لا ينال شيئا من الرياسة في قومه إلا بالإحسان والكرم ولين الجانب ومناصرتهم ولو في الباطل، ولا يكاد يبسط يده لكفهم عن الظلم وعقابهم على عمل منكر مخافة أن ينفضوا من حوله، ويضربوا برياسته في وجهه.
قضت حكمة مبدع الكون أن يطلع هلال الإسلام بين هؤلاء الأقوام الذين حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين، وقضت سنته أن لا تنسلخ الأمم من طبائعها دفعة، فكان من مقتضى حكمته أن يأخذهم الدين الحق إلى هدايته، ويبين لهم قوانينه على طريق المطاولة والتدريج: فاتحهم بالدعوة إلى التوحيد ومكارم الأخلاق وبعض العبادات، ولما أنسوا بشيء من الأوامر والنظم الدينية طفق ينتقل بهم في أحكام المعاملات والجنايات والسياسات، ويشرع لهم في خلال ذلك أصولا تضم بين جوانحها أحكام جزئيات لا يحيط بها حساب، حتى نزل قوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، ومن الحقائق التي كمل بها الدين وتمت بها النعمة رسم خطة القضاء والإرشاد إلى مبادئه السامية.
القضاء تطبيق الأحكام على الوقائع الجزئية، وأحكام الوقائع قد قررتها الشريعة؛ إما بتفصيل كحدي السرقة والزنا ، وإما بعرضها في ضمن أصول كلية ككثير من الأحكام القائمة على رعاية العرف أو المصالح المرسلة، على ما سنلقي عليكم بيانه في أمد قريب.
وأما تطبيق الأحكام فيرجع النظر فيه إلى مبادئ يتوقف عليها حفظ الحقوق، ولا يخرج الحكم في قالب العدل إلا برعايتها؛ كالاستناد إلى البينات، وضرب الآجال لإقامتها. ووراء هذه المبادئ نظم ترجع إلى تسهيل وسائل النظر، والاحتياط في ضبطها، أو إصدار الحكم على وجه أدل على إنصاف القاضي، وأدعى لرضا المحكوم عليه، كتسجيل أقوال المتداعيين أو الشهود في محاضر، وتقرير الحكم ببيان مستنداته الشرعية، وإخراج نسخة منه لمن يستحقها.
أما المبادئ التي هي كالأركان للعدل في القضية، فلتجدنها قائمة في دلائل الشريعة دون أن تشذ منها كبيرة أو صغيرة، فتفقهوا فيها لعلكم تعقلون، أو اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
وأما النظم الزائدة على ما يعد ركنا للعدالة، فذلك يجيء على حسب ما يقتضيه حال الزمان والمكان، ولهذا وكله الشارع الحكيم إلى اجتهاد القائم على منصب القضاء، فيتصرف فيه على ما يوافق المصلحة. وعلى هذا المنهج سار العلماء الذين أسلموا قلوبهم للحق فاستنبطوا للقضاء بعض نظم اقتضاها حال عصرهم؛ كضم بعض أهل العلم إلى مجلس القضاء بحيث لا ينفرد القاضي بحكم دونهم، كما فعل أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فإنه «كان إذا ولى أحد قضاته كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمرا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء.»
1 •••
قال المؤلف في ص39: «لا شك أن القضاء بمعنى الحكم في المنازعات وفضها كان موجودا في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
كما كان موجودا عند العرب وغيرهم قبل أن يجيء الإسلام.»
لا يرتاب مسلم في أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتول فصل القضايا بين الناس من تلقاء نفسه، وإنما هو منصب استمده بوحي سماوي، قال تعالى:
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ، فناط بعهدته فصل القضايا، ثم وضع في أعناق الأمة فريضة التسليم لقضائه فقال تعالى:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما .
فيمتاز قضاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن القضاء الذي وجد عند العرب قبل الإسلام بأن ولايته قامت على وحي يوحى، وأن التسليم له والاعتقاد بحكمته من شرائط الإيمان بالله.
فما ينبغي للمؤلف أن يقيس محكمة إلهية بمحكمة جاهلية، ويوحي إلى من يشاكله في ذوقه أن كليهما جار على غير نظام! فإن وصفه لحال القضاء النبوي بالغموض والإبهام ثم قوله: «إن كان له نظام!» لا معنى له سوى إنكار أن يكون لتلك المحكمة العادلة نظام. ولقد كان هذا الإنكار أقرب إلى الصراحة من معان أخرى لا تكشف قناعها إلا حين تلتقي بمن مارس لغة المرتابين، وتفقه في لحن خطابها. •••
قال المؤلف في ص40: «وفي التاريخ الصحيح شيء من قضائه عليه السلام فيما كان يرفع إليه، ولكننا إذا أردنا أن نستنبط شيئا من نظامه
صلى الله عليه وسلم
في القضاء، نجد أن استنباط شيء من ذلك غير يسير، بل غير ممكن؛ لأن الذي نقل إلينا من أحاديث القضاء النبوي لا يبلغ أن يعطيك صورة بينة لذلك القضاء، ولا لما كان له من نظام إن كان له نظام.»
الأدلة السمعية وما يتفرع عنها من نحو القياس والقواعد بالغة حد الكفاية في إقامة محاكم تسير على قانون العدل، وتزن الحقوق بالقسطاس المستقيم، فإن تراءى لأحد أن الأخبار التي تقص شيئا من القضايا التي رفعت إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
هي من القلة بحيث لا تعطي صورة بينة للقضاء في عهده، قلنا: التشريع كامل، وسيان بعد هذا أن تكثر الخصومات لعهد الرسالة أو تقل، تنقل إلينا وقائعها أو لا تنقل، على أن طبيعة ذلك العصر وروحه الاجتماعي يقتضي أن تكون الخصومات بين القوم ذات عدد يسير. وإليك كلمة تنبئك بسبب قلة ما يرفع إلى مقام الرسالة من قضايا المتخاصمين، وتؤكد لك صحة ما نبهنا عليه من أن القضاء العملي ليس وحده المرجع لتعرف حال القضاء النبوي، ومعرفة ما «له من نظام إن كان له نظام.»
القضايا التي ترفع إلى الحكام على نوعين:
أحدهما:
قضايا تنشأ عن تجاحد الخصمين فيدعى أحدهما ما ينكره الآخر. وهذه هي التي يحتاج فيها إلى إقامة البينات، ويمتاز فيها منصب القضاء عن منصب الفتوى.
ثانيهما:
قضايا يقرر فيها الخصمان الواقع، ولكنهما يجهلان وجه الحق ولا يعلمان المحق من المبطل في نظر الشارع. والقاضي في هذا النوع بمنزله المفتى؛ لأن الخصمين يكتفيان ببيان وجه الحق وينصرفان عن تراض. والخصومات التي تنشب بين الجماعات المطبوعة على فضيلة الإخاء والتقوى إنما تكون من هذا النوع القائم على عدم معرفة الحق، وكذلك قضايا المسلمين لعهد النبوة؛ فإن أغلبها من قبيل الاستفتاء. أما المشاجرات الناشئة عن التجاحد فنادرة جدا، قال الحافظ ابن تيمية: «ولو عد مجموع ما قضى به النبي
صلى الله عليه وسلم
من هذا النوع - يعني ما قام عن تجاحد - لم يبلغ عشر حكومات.»
هذا سبب قلة ما تحمله الرواية من القضايا التي رفعت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وتجاوزت حد الاستفتاء، ويضاف إلى هذا أن أحكام الشريعة كانت تطبق بعزم وإخلاص، وهذا يقتضي بوجه خاص أن تقل القضايا المتعلقة بالجنايات. وقلة القضايا لعهد النبوة لا تجعل حال القضاء مبهمة؛ فإن الأدلة بجملتها تعطينا صورة بينة لسنة القضاء الكافلة بإقامة العدل وصيانة الحقوق. •••
قال المؤلف في ص40: «لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
غامضة ومبهمة من كل جانب، حتى لم يكن من السهل على الباحث أن يعرف هل ولى
صلى الله عليه وسلم
أحدا غيره القضاء أم لا.»
لم تكن حال القضاء في عهد النبوة غامضة ولا مبهمة؛ فقد أريناك أن ما بين أيدينا من الكتاب والسنة الصحيحة يجعلنا على بصيرة من سنته المتبعة لذلك العهد، وليست الشواهد على هذه السنن بالشيء القليل حتى تسعه هذه الورقات المقصود منها تنبيه سليم الفطرة؛ كي لا يفتتن ببهرج ذلك الكتاب وزخرف قوله غرورا، وسيمر نظرك على أمثلة من سنن القضاء الإسلامي في غير هذا المقام.
ومن السهل على الباحث الذي يذهب إلى الحقائق من طرقها المعقولة أن يعلم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يولي على كل قوم مسلمين من يدبر أمرهم، ويقضي فيما شجر بينهم، ولو لم يرد في التاريخ إلا أسماء الأشخاص الذين قلدهم الإمارة على البلاد المفتوحة؛ لكان في نبئه عبرة لأولي الأبصار، وبينة قائمة على أنه لا يترك القوم في جاهلية عمياء دون أن يأخذهم كما يأخذ أهل المدينة بأحكام شريعته السمحة، ونظمها القيمة، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
2 «والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد كانوا يتحاكمون إلى الذي أمر عليهم، ويقبلون خبره، ويعتمدون عليه.» •••
قال المؤلف في ص40: «هنالك ثلاثة من الصحابة يعدهم جمهور العلماء ممن ولي القضاء في زمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» ونقل بعد هذا ما حكاه رفاعة بك في نهاية الإيجاز من أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قلد القضاء لعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل، ثم قال المؤلف: «وينبغي أن يضاف إليهم أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - فقد كان في عمله على ما يظهر نظيرا لمعاذ بن جبل سواء بسواء.» وقال المؤلف بعد هذا: «أما أن عمر - رضي الله عنه - تقلد القضاء في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
فرواية غريبة من الوجهة التاريخية، ويظهر أنها إنما أخذت بطريق الاستنتاج.» ثم أورد الأثر الذي استند إليه صاحب تخريج الدلالات ونقله عنه صاحب نهاية الإيجاز، وهو ما رواه الترمذي من أن عثمان «قال لعبد الله بن عمر: اذهب فاقض بين الناس، قال: أوتعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: وما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضي؟! قال: إن أبي كان يقضي فإن أشكل عليه شيء سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإن أشكل على رسول الله سأل جبريل، وإني لا أجد من أسأله.»
فالخبر صريح في أن عمر بن الخطاب كان يتصدى للقضاء في زمن النبوة، ولا يحق لأحد بعد قوله: «فإن أشكل عليه شيء سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» أن يذهب إلى أن تولي عمر للقضاء كان مفهوما بطريق الاستنتاج، ثم لا ندري ما وجه الغرابة في تولي عمر بن الخطاب القضاء لعهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ إذ ليس في يد المؤلف دليل تاريخي أو نظري يمنع من قبول ما رواه الترمذي في سننه، وقد تلقى أهل العلم هذا الخبر بالقبول، قال القاضي أبو بكر بن العربي في عارضة
3
الأحوذي: «قول عثمان لعبد الله بن عمر: إن أباك كان قاضيا، يعني لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكذلك روى عنه، ولم يرد به عثمان قضاءه في خلافته، ولا فهم عنه ذلك عبد الله بن عمر؛ ولذلك قال له: كان إذا أشكل عليه أمر يسأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل على أن ذلك كان في حياته، ولو أراد بذلك الخلافة لقال له: إن أبي كان خليفة ليس فوقه متعقب عليه، فكيف يحتج به في قضاء متعقب مترقب؟»
وليس في التاريخ ما يقف في سبيل هذه الرواية، بل رأينا فيه ما يشد عضدها؛ وهو أن عمر بن الخطاب كان يفتي في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، روى ابن سعد في طبقاته
4
عن ابن عمر: «أنه سئل من كان يفتي الناس في زمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: أبو بكر وعمر، وما أعلم غيرهما.» وروى عن القاسم بن محمد أنه قال: «كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفتون على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
5
وقال: «كان الذين يفتون على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ثلاثة نفر من المهاجرين وثلاثة من الأنصار: عمر وعثمان وعلي، وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت.»
6
وقال: كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عمر وعلي وابن مسعود وزيد وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري.
7
فقول التاريخ: إن عمر بن الخطاب كان مفتيا يؤيد ما رواه الترمذي من أنه كان قاضيا؛ فإن القضايا التي يقصد برفعها معرفة المحق من غيره يسمى فصلها قضاء، كما يصح أن يسمى فتوى، ولم يبق سوى القضايا الناشئة عن التجاحد، وقد عرفت أنها نادرة الوقوع، فالذي يدل على أن لعمر بن الخطاب فصل ما كان من هذا النوع في غير حضرة الرسول عليه السلام حديث الترمذي، فيتوافق التاريخ والرواية في تسميته قاضيا ومفتيا. ومما يستأنس به في هذا المقام أنهم كانوا يعدون عمر من ذوي المكانة في القضاء، وقالوا: «قضاة هذه الأمة عمر وعلي وزيد وأبو موسى.»
8
وإن أبا بكر الصديق قلده القضاء، ومكث سنة لم يتحاكم إليه اثنان.
9 •••
ثم حكى المؤلف ما نقله صاحب نهاية الإيجاز عن تخريج الأدلة السمعية من أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن وهو شاب ليقضي بينهم، مستدلا على ذلك برواية أبي داود، ونقل المؤلف بعد هذا ما جاء في صحيح البخاري من أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعث عليا مكان خالد إلى اليمن ليقبض الخمس، وقدم بسعايته إلى مكة والنبي
صلى الله عليه وسلم
بها، ثم نقل عن برهان الدين الحلبي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعث عليا - كرم الله وجهه - في سرية إلى اليمن فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وهي السرية الأولى. والسرية الثانية بعث فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عليا - كرم الله وجهه - إلى بلاد مذحج من أرض اليمن، فغزاهم وجمع الغنائم ثم رجع، فوافى النبي
صلى الله عليه وسلم
بمكة قدمها لحجة الوداع.
ثم انتقل إلى الحديث عن معاذ بن جبل، فحكى ما نقله صاحب نهاية الإيجاز أيضا، عن كتاب تخريج الأدلة السمعية، من أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أرسله قاضيا إلى الجند من اليمن يعلم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم، وجعل له قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، ثم نقل ما رواه البخاري من أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعث أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وقال لهما: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا.»
ونقل بعد هذا حديث البخاري الذي يتضمن أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لمعاذ: «إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب؛ فإذا جئت فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، محمدا رسول الله إلخ.» ثم نقل ما أورده زيني دحلان في السيرة النبوية من أن النبي
صلى الله عليه وسلم
بعث أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وروى ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث معاذ الذي يتضمن أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لما بعثه إلى اليمن قال له: «كيف تقضي إذا عرض عليك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو.»
بعد أن حكى المؤلف هذه الأخبار والأحاديث، قال في ص44: «تلك الروايات المختلفة التي قصصنا عليك نموذجا منها تريك كيف يسوغ لنا أن نستنتج ما قلناه لك قبل من أنه لا تتيسر الإحاطة بشيء كثير من أحوال القضاء في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم . وها أنت ذا قد رأيت كيف اختلفت الرواية عن حادثة واحدة بعينها، فبعث علي إلى اليمن يرويه أحدهم أنه تولية للقضاء، ويرويه الآخر أنه كان لقبض الخمس من الزكاة.»
خبر بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن، وتعليم النبي
صلى الله عليه وسلم
له أن لا يقضي لخصم حتى يسمع من الآخر أخرجه الإمام أحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي، ورواه ابن سعد في طبقاته
10
بثلاثة أسانيد مختلفة، وحكاه ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب،
11
وأبو بكر بن العربي في كتاب الأحكام،
12
والحافظ المزي في كتاب التهذيب،
13
والحافظ ابن حجر في فتح الباري،
14
وكذلك يقول المحقق الشوكاني
15
في حديث: «يا علي، إذا جلس إليك الخصمان ... إلخ.» أخرجه ابن حبان وصححه، وحسنه الترمذي.
روى أولئك الأعلام هذا الخبر ولم يروا به وجها للريبة مع أنهم أسبق الناس إلى نقد الأخبار، ولا سيما ما يمس بأمر ديني أو يحتوي على حديث نبوي، وإذا رمت تحرير الغاية التي بعث لها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فإليك التحرير: اتفق المحدثون والمؤرخون على أن النبي
صلى الله عليه وسلم
بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن مكان خالد بن الوليد؛ ففي صحيح الإمام البخاري عن البراء بن عازب: «بعثنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مع خالد بن الوليد إلى اليمن، قال: ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه فقال: مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل، فكنت فيمن عقب معه.» وفي تاريخ ابن جرير الطبري
16
عن البراء بن عازب: «فبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
علي بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالد ومن معه، فإن أراد أحد ممن كان مع خالد بن الوليد أن يعقب معه تركه.»
وإذا كان علي بن أبي طالب بعث ليقوم مقام خالد بن الوليد، فقد بعث أميرا، والإمارة لعهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تتناول القضاء ونحوه، ولكن بعض الرواة يقول: إنه أرسل مكان خالد، وبعضهم يقتصر في الرواية على الأمر الذي يناسب غرض الحديث، فهذا يقول: بعث قاضيا؛ ليناسب خبر: «وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء إلخ.»
والآخر يقول: بعث ليقبض الخمس؛ ليناسب ما يذكره بعد ذلك من إنكاره عليه بعض تصرفاته في الخمس وقول النبي
صلى الله عليه وسلم
للمنكر: «لا تبغضه؛ فإن له في الخمس أكثر من ذلك.»
فقول بعض الرواة: بعث قاضيا، أو قول الإمام: بعثت قاضيا، لا يعارض قول بعضهم: بعث ليقبض الخمس، متى كان النبي
صلى الله عليه وسلم
صرح له بالقضاء وقبض الخمس بوجه خاص، زيادة على أن بعثه مكان خالد يقتضي النظر في القضايا وفصل الخصومات.
ترك المؤلف ما رواه البخاري أولا من أن علي بن أبي طالب بعث مكان خالد بن الوليد، ونقل الحديث الثاني الذي يقول فيه الراوي: بعثه إلى خالد ليقبض الخمس، وحاول أن يضرب بهذه الرواية رواية ولايته القضاء؛ ليخلص من أثر يشهد بأن للقضاء في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حديثا ينقل، أو اسما يدور على الألسنة. والعلماء الذين درسوا باب التناقض من علم المنطق، وباب التعارض والترجيح من علم الأصول؛ فهموا هذه الروايات على وجه جامع، ولم يروا بينها اختلافا يدعو إلى حيرة أو إلغاء الروايتين، أو ترجيح إحداهما على الأخرى.
يقول الإمام البخاري: بعث عليا بعد ذلك ليقبض الخمس. ومن الجلي لدى المبتدئين من طلاب العلم أن المراد خمس الغنيمة، ولكن المؤلف الذي لم يقنع برتبة مجتهد، وحاول أن يكون مشرعا يقول: «ويروي الآخر أنه كان لقبض الخمس من الزكاة.» وليس في الزكاة شيء يقال له: خمس، ولكن الله ضرب هذا المثل لنشهد به حظ المؤلف من فهم كتب الشريعة، وليعلم الذين يريدون أن يتبعوا خطواته أنهم ركبوا غارب عشواء، وفتحوا أعينهم في ليلة ظلماء. •••
قال المؤلف في ص44: «ومعاذ بن جبل كذلك، ذهب إلى اليمن قاضيا في رأي، وغازيا في رأي، ومعلما في رأي، ونقل صاحب السيرة النبوية خلافا في أن معاذا كان واليا أو قاضيا؛ فقال ابن عبد البر: إنه كان قاضيا، وقال الغساني: إنه كان أميرا على المال. وحديث ابن ميمون فيه التصريح بأنه كان أميرا على الصلاة، وهذا يرجح أنه كان واليا.»
الرواية قائمة على أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بعثه النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى اليمن واليا وقاضيا، ومعلما للقرآن وشرائع الإسلام، وقابضا للصدقات من العمال، قال ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب:
17 «بعثه - يعني معاذا - رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قاضيا إلى الجند من اليمن، يعلم الناس القرآن وشعائر الإسلام ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد قسم اليمن على خمسة رجال: خالد بن سعيد على صنعاء، ومعاذ بن جبل على الجند، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن: «بم تقضي؟ إلخ.»
فمعاذ كان واليا وقاضيا ومعلما وقابضا للصدقات، ومن المحدثين من ذكر له أعمالا متعددة كالحافظ ابن عبد البر، ومنهم من يتعرض لوظيفة القضاء كالإمام أحمد بن حنبل وأبي داود والترمذي وغيرهم، ومنهم من يذكر وظيفة الإمارة كالإمام البخاري، ومنهم من يعرف له وظيفة التعليم، ويصرح بأنه كان يقوم بهذه الوظيفة في أعمال كثيرة كقول ابن خلدون في تاريخه:
18 «وكان معاذ بن جبل يعلم القرآن باليمن ينتقل على هؤلاء وهؤلاء في أعمالهم.»
فرواية أن معاذا كان قاضيا باليمن من الروايات التي محصت ووضعها المحدثون موضع القبول، وليس في الروايات الأخرى ما ينافيها حتى نحتاج إلى عرضها على ميزان الترجيح، فضلا عن أن نعاملها معاملة الأحاديث الموضوعة ونضرب عنها جملة، كما فعل المؤلف حرصا على أن ينتهي به النظر «إلى غاية ذلك المجال المشتبه الحائر».
وما نقله عن صاحب السيرة النبوية من الخلاف بين ابن عبد البر والغساني من أن معاذا كان واليا أو قاضيا لا يمس الرواية بوهن، ولنا عليه ملاحظة من وجوه:
أولا:
يظهر أن صاحب السيرة نقل هذا الخلاف من فتح الباري
19
لابن حجر العسقلاني، ونص عبارة الفتح: «واختلف: هل كان معاذ واليا أو قاضيا؟ فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغساني بالأول.» والدليل على أن صاحب السيرة استمد الخلاف من كلام ابن حجر: أن لفظ «الغساني» إنما جاء في نسخ فتح الباري. ونقل القسطلاني في شرحه
20
لصحيح البخاري هذا الخلاف عن ابن حجر، وذكر المقابل لابن عبد البر باسم «العسكري»، وكذلك ذكر الخلاف الإمام العيني في شرحه للبخاري،
21
وذكر المخالف لابن عبد البر باسم «العسكري».
والمعروف بالتأليف في تراجم الصحابة هو العسكري؛ وهو «أبو محمد عبد الله بن أحمد بن موسى العسكري المعروف بعبدان.»
22
وقد ذكره ابن حجر في مقدمة الإصابة باسمه «عبدان» حين أخذ يسرد أسماء من ألفوا في الصحابة - رضي الله عنهم.
ثانيا:
قول صاحب السيرة: وحديث ابن ميمون يرجح أنه كان واليا. إنما هو استنتاج منه، ولا يصح إلا إذا أريد بالوالي من له سلطة أعم مما يفهم المؤلف، وهو العامل على المال الناظر في شئون البلاد.
ثالثا:
أن ابن عبد البر صرح في الاستيعاب بأن معاذا كان قاضيا وواليا على المال حسبما نقلناه آنفا؛ فلا يصح أن يفهم من هذا الخلاف أن ابن عبد البر يقول: أرسل قاضيا فقط، فهو لو قال : بعث معاذ قاضيا وسكت، لم نفهم منه مخالفة لمن يقول: بعث واليا، فما باله إذا صرح بالولاية علاوة على القضاء؟!
رابعا:
إذا كان العسكري قال: إن معاذا أرسل واليا، ولم يتعرض لنفي القضاء لم يعد هذا مخالفة لابن عبد البر، وكذلك رأينا الشيخ العيني لم يزد على أن قال: «وفي كتاب الصحابة للعسكري: «بعثه النبي
صلى الله عليه وسلم
واليا على اليمن.» وفي الاستيعاب: «بعثه قاضيا وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن.»
23
فإذا كان الخلاف إنما أخذ من اقتصار العسكري على ذكر الولاية من غير تعرض للقضاء؛ كان الخلاف بين العسكري وابن عبد البر لا يزيد على أن يكون اختلافا في العبارة.
خامسا:
يترجح أن يكون العسكري عندما تحدث عن معاذ اقتصر على ذكر الولاية ولم يتعرض لنفي القضاء، فإن ابن حجر ومن نقل كلامه كالقسطلاني، ثم من نقل عن كتاب العسكري مباشرة كالعيني، لم يذكروا أن العسكري نفى القضاء صراحة، ولو نفاه لذكر الوجه في نفيه وعدم قبول روايته، ولو ذكر هذا الوجه لنقلوه وتلقوه إما بمناقشة وإما بتسليم.
سادسا:
على فرض أن يكون العسكري أو الغساني نفي ولاية معاذ القضاء بصراحة، فإن الرواية التي تشهد بهذه الولاية حجة على المنكر إلا أن يأتي بدليل مسموع أو معقول يطعن في شهادتها.
ومما لا نزاع فيه بيننا وبين المؤلف أن ولاية معاذ كانت مساوية لولاية أبي موسى الأشعري؛ فيصح لنا الاستشهاد بأن ولايتهما كانت تتناول الحكم بحديث البخاري
24
المتضمن أن معاذا زار أبا موسى الأشعري ووجد عنده رجلا موثقا، فسأله عنه فقال له: إنه كان مسلما ثم ارتد، فقال معاذ: لأضربن عنقه. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
25 «إن أبا موسى الأشعري مفوض إليه الحكم، ولو كان فوض الحكم لغيره لم يحتج - يعني النبي
صلى الله عليه وسلم - إلى توصيته بما وصاه به.» •••
قال المصنف في ص45: «ذلك بأننا وجدنا عند البحث في نظام القضاء في عصر النبوة: أن غير القضاء أيضا من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسية لم يكن في أيام الرسالة موجودا على وجه واضح لا لبس فيه، حتى يستطيع باحث منصف أن يذهب إلى أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يعين في البلاد التي فتحها الله له ولاة مثلا لإدارة شئونها، وتدبير أحوالها، وضبط الأمر فيها، وما يروى من ذلك فكله عبارة عن توليته أميرا على الجيش، أو عاملا على المال، أو إماما للصلاة، أو معلما للقرآن، أو داعيا إلى كلمة الإسلام، ولم يكن شيء من ذلك مطردا، وإنما كان يحصل لوقت محدود، كما ترى فيمن كان يستعملهم
صلى الله عليه وسلم
على البعوث والسرايا، أو يستخلفهم على المدينة إذا خرج للغزو.»
دعوى أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يول قضاة يفصلون الخصومات ولم ينصب ولاة لتدبير أحوال البلاد من بنات فكر المؤلف وحده، فهو الذي اخترعها دون أن يسبقه إليها ألمعي خبير أو بحاثة بصير، وإذا كان كل رأي جديد - حقا كان أو باطلا - يخف بصاحبه إلى منزلة يشار إليها بالبنان، ويطير صيته في الآفاق إلى أمد بعيد، فليتبوأ المؤلف مقعده بمكان تومئ إليه الأصابع من كل ناحية، وليهنأ بسمعة تطير مع الشمس كل مطار، ولكن ما دام القرآن يتلى، وكتب السنة تدرس، وفي القلوب إيمان، وفي الأدمغة عقول؛ فإن هذا الرأي الجديد لا يبقى على وجه الأرض إلا أن يحتمل ما تخلعه عليه النفوس الفاضلة من برود التهكم والتفنيد، ويرضى بما تناديه به ألسنة الصادقين من ألقاب الباطل والبهتان.
ولا يلاقي هذا الرأي تفنيدا من إخوان الإسلام فقط ، بل يرمي في وجهه بالتزييف كل من درس تاريخ عهد النبوة، ووقف ساعة من نهار على روح التشريع وإن كان من المخالفين الذين لا ينتمون للإسلام.
يزعم المؤلف أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يرسل أميرا للحكم وضبط الأمر في البلاد، وإنما كان يرسل غزاة أو عمالا أو أئمة ودعاة للإسلام، ولا ندري ماذا دفعه إلى إنكار حقيقة تضافر عليها المحدثون والمؤرخون؟! وإذا كان المدار في تحقيق المسألة على الرواية فلا سبيل للمنكر عليها إلا أن يردها بطعن في سندها، أو يبين أن العقل السليم لا يقبلها. وهل مشى المؤلف في هذا السبيل المعقول فتعرض لسند الروايات التي تثبت أن للنبي
صلى الله عليه وسلم
أمراء ينظرون في شئون البلاد، ويحكمون فيما شجر بين الناس، ونقدها ببينة وعقل، أو أقام برهانا على أن وجود ولاة يفصلون القضايا ويدبرون أحوال البلاد في عهد الرسالة مما يأبى العقل سماعه؟!
كل ذلك لم يكن، ولكنه يبتغي مرضاة قوم لا يؤمنون، وتخيل أنه بلغ في البيان أن ينكر الحق فيذهب هباء، أو يشير إلى باطل فيستقبله الناس باحتفال وتكريم.
قد أريناك أن انتصاب معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب للقضاء ثابت بأدلة ناطحها قلم المؤلف فأوهى قرنه قبل أن يوهنها، وإن شئت زيادة تحقيق في الموضوع فلدينا مزيد: عني الإسلام بوسائل العمران وأركان الدولة، وبالأحرى مقام الفصل فيما شجر بين الناس، ولهذا كان
صلى الله عليه وسلم
لا يترك قوما دخلوا في الإسلام إلا أمر عليهم من يسوسهم بأحكام شريعته.
وقد عرفنا في تاريخ عهد النبوة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد يقلد شخصا الإمارة ويكون له النظر في الحكم بين الناس، وتعليمهم شرائع الإسلام، وقبض صدقاتهم وغير ذلك مما يتولاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لو كان حاضرا، قال الحافظ ابن تيمية في منهاج السنة:
26 «كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه، فيولي الأمراء على السرايا يصلون بهم، ويجاهدون بهم ويسوسونهم، ويؤمر أمراء على الأمصار كما أمر عتاب بن أسيد على مكة ... وكما كان يستعمل عمالا على الصدقة فيقبضونها ممن تجب عليه، ويعطونها لمن تحل له.» فانظر في قوله: «الأمراء على السرايا.» وقوله: «أمراء على الأمصار.» وقوله: «عمالا على الصدقة.» فإنه يطعن في قول المؤلف: إن الأمراء إنما كانوا غزاة أو عمالا على المال.
وقال ابن حزم في كتاب الفصل في الملل والنحل:
27 «وقد وجدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد قلد النواحي، وصرف تنفيذ جميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم أفضل منهم،
28
فاستعمل على أعمال اليمن معاذ بن جبل وأبا موسى وخالد بن الوليد ...»
وقد نقلنا لكم آنفا قول الحافظ ابن حجر: «والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد كانوا يتحاكمون إلى الذي أمر عليهم.»
وإذا كان المؤلف لا يلقي قلبه إلا بين يدي «أرنولد»؛ فإن أرنولد ومن معه يقولون في دائرة المعارف الإسلامية:
29 «يجب أن يكون القاضي مسلما عادلا عالما بجميع أحكام الشرع.» ثم قالوا: «فالنبي
صلى الله عليه وسلم
والراشدون كثيرا ما فصلوا في خصومات بصفتهم قضاة كما جرى على ذلك الأمراء والحكام الموفدون من قبلهم إلى المقاطعات الإسلامية.»
ولا يعد قيام الأمير بفصل القضاء وتنفيذ الأحكام وغير ذلك من شئون الولاية أمرا شاقا، فإن وسائل العمران من مثل الفلاحة والصناعة والتجارة لم تكن ظاهرة في البلاد التي فتحت زمن النبوة بهذا المظهر الواسع حتى تكثر الخصومات والمنازعات لحد أن يعين لها قضاة شرعيون زيادة على الأمراء السياسيين.
يقول المؤلف: «ولم يكن شيء من ذلك مفردا، وإنما كان يحصل لوقت محدود.» وهذا مسلم في أمراء السرايا، وأما أمراء البلاد فإن ولايتهم كانت دائمة، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
30 «فأما أمراء السرايا والبعوث فكانت إمرتهم تنتهي بانتهاء تلك الغزوة، وأما أمراء القرى فإنهم استمروا فيها.» •••
قال المؤلف في ص45: «إذا نحن تجاوزنا عمل القضاء والولاية إلى غيرهما من الأعمال التي لا يكمل معنى الدولة إلا بها؛ كالعمالات التي تتصل بالأموال ومصارفها «المالية »، وحراسة الأنفس والأموال «البوليس» وغير ذلك مما لا يقوم بدونه أقل الحكومات وأعرقها في البساطة، فمن المؤكد أننا لا نجد فيما وصل إلينا من ذلك عن زمن الرسالة شيئا واضحا يمكننا ونحن مقتنعون ومطمئنون أن نقول: إنه كان نظام الحكومة النبوية.»
بعث النبي
صلى الله عليه وسلم
بمكة فأقام بها عشر سنين أو ثلاث عشرة سنة وهو يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولما أذن الله بأن يقيم لهذا الدين دولة تحمي دعوته، وتحرس شعائره، وتدبر سياستها على محور تعاليمه، كان أول لبنة وضعها
صلى الله عليه وسلم
في أساس هذا الغرض الأسمى ما أخذه على الأوس والخزرج من عهد البيعة على أن يكونوا أنصاره إلى الله، ثم هاجر إلى المدينة وواصل العمل بما أوحى الله إليه حتى اتسقت للإسلام شريعة ذات مبادئ عالية ونظم حكيمة.
كانت المدة منذ شرع الإسلام في بناء دولة تحرس دعوته وشعائره، وتعمل لإسعاد أهله إلى أن انتهى عهد الرسالة نحو عشر سنين.
ماذا فعل محمد بن عبد الله صلوات الله عليه في عشر سنين، تلك المدة التي قضى المؤلف مثلها بالتفكير في منطق يميت شريعة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء؟
رأينا وسمعنا أن الحكومات إذا دخلت في عهد حرب أفرغت مهجتها في تدبير وسائل الدفاع من جند وسلاح ونصب مكايد، وتذهل عن الشئون المدنية والعلمية فلا تكاد ترى لهما أثرا من نظم العلم والسياسة، إلا ما كان قائما قبل دخولها في مواقع الحروب، ولا سيما حيث يكون عدوها أوسع بلادا وأكثر قبيلا. هذا شأن الدول العريقة في الحكم والقوة، التي تكون سلطتها وسياستها موزعة على نفوس كثيرة من قائمين بالسلطة التشريعية إلى قائمين بالسلطة التنفيذية، ومن وزارة داخلية إلى خارجية إلى حربية إلى مالية، فكيف يكون حال جماعة قليلة ظهروا بعقيدة وشريعة خالفوا بهما القبائل والأمم التي تكتنفهم من كل جهة؟
كان ذلك الرسول الأعظم مظهر السلطة التشريعية، ومصدر السلطة التنفيذية، فالحكمة تجري على لسانه، ودم النفوس الخبيثة يجري على سنانه . يرسل الموعظة الحسنة تحت مثار النقع، ويسن القانون العادل وهو يقاتل وحوشا غابها الرماح. ولقد كان في تشريعه الحكيم أو عزمه النافذ عبرة لأولي الألباب.
دولة بنت عشر سنين فتحت بلادا واسعة، ونشرت تعاليم نافعة، وشرعت قوانين جامعة، إن في قصر المدة التي استحكم فيها أمر هذه الدولة لآية كبرى، ولكن المواربين بآيات الله يجحدون.
أنكر المؤلف أن يكون في عهد الرسالة ولاة يحكمون بين الناس بقانون الشريعة، فأقمنا له من الرواية بينات تشهد بأن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يبعث إلى البلاد المفتوحة أمراء يدخل في إمرتهم فصل الخصومات بين الناس، ومنهم من يصرح له بالسلطة القضائية كما جاء في حديث معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب. وتوسع في الإنكار حتى زعم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يرسل واليا لتدبير أحوال البلاد، وإنما كان يرسل غازيا أو عاملا على المال، فكافحناه بشهادة التاريخ على أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يبعث أمراء من غير أمراء السرايا والعمال على المال، ولا شأن لأولئك الأمراء إلا تدبير أحوال البلاد والحكم بينهم على سنة القضاء في الإسلام.
وتطوح به نزق التمرد إلى أن يقوض سائر أركان الدولة الإسلامية، فلوح بإنكار ما وراء القضاء والولاية السياسية من أعمال «لا يكمل معنى الدولة إلا بها؛ كالعمالات التي تتصل بالأموال ومصارفها «المالية»، وحراسة الأنفس والأموال «البوليس» وغير ذلك مما لا يقوم بدونه أقل الحكومات وأعرقها في البساطة.»
لنبحث مع المؤلف في القضاء والمالية والبوليس مع رعاية ما يقتضيه المقام من إيجاز، ونرجئ البحث فيما عدا هذه الأصول الثلاثة إلى مقام أليق بها من هذا المقام.
القضاء
ذكرنا فيما سلف أن للقضاء مبادئ لا يستوفي الحكم نصيبه من العدل إلا برعايتها، ولا يمتري ذو أثارة من علم أن الإسلام قد أدار سياسته على محورها، وهناك نظم مطوية في أصول عامة هي موكولة إلى اجتهاد الحاكم ومقتضى حال البيئة، ومن هذه النظم ما نعلم حق اليقين أن حال الأمة في عصر النبوة لا يزال في غنى عنها.
نحدثك في هذا المقال عن بعض مبادئ القضاء ونظمه المنبه عليها في الكتاب والسنة؛ لتعلم أن القضاء في عهد النبوة لم يكن في نظر علماء الإسلام غامضا.
ملاك القضاء العادل علم القاضي، واستقامته، واستيفاؤه النظر في وسائل الحكم، واستناده إلى البينة، وقوة العزم في الفصل، وبسط مجال الحرية للخصوم حتى يدافعوا عن حقوقهم باطمئنان جأش، وطلاقة لسان.
أما العلم فقد كان الحكام في عهد النبوة على علم بما يلقى على عاتقهم من أعمال القضاء وغيره، ودليل هذا من جهة النظر أن النبي عليه السلام يقول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها.»
31
وقال: «إن القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، واللذان في النار: رجل عرف الحق فجار في الحكم، ورجل قضى في الناس على جهل.»
32
فالذي يجعل القضاء قائما على الحكمة ويقول: إن القضاء بجهل يلقي صاحبه في حفرة من النار، لا يضع السلطة القضائية إلا في يد عالم بالأحكام، بصير بمذاهب الحقوق، ويضاف إلى هذا أن الذين «حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مائة ونيف وثلاثون نفسا ما بين رجل وامرأة.»
33
ومما لا يحتمله العقل أن يصرف الرسول عليه السلام نظره عن هؤلاء الذين بلغوا رتبة الفتوى ويضع الحكم في أيدي قوم لا يعلمون!
وقال شيخ الإسلام في منهاج السنة:
34 «وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء أرسل إليه سأله عنه، فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في حياته يعلم خلفاءه إذا جهلوا، ويقومهم إذا زاغوا، ويعزلهم إذا لم يستقيموا.»
وعلى هذه السيرة اقتدى علماء الإسلام فاشترطوا في القاضي أن يكون بالغا في العلم مبلغ الاجتهاد؛ حتى يتناول الأحكام من أصولها مباشرة، وكذلك كانوا يفعلون.
ويترتب على هذا الشرط أن لا يقلد أحد القضاء إلا بعد معرفة مكانته في العلم، وقد اختبر النبي
صلى الله عليه وسلم
معاذ بن جبل حين توليته القضاء ليزداد خبرة بمبلغ علمه بالقضاء فقال له: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ إلخ.»
وأما الاستقامة فالكتاب والسنة طافحان بالأمر بالعدل، وتشديد الوعيد على التهاون بواجبه، فلا بد أن يكون قضاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أتقى الناس قلوبا، وأعدلهم في الحكومة ميزانا. وهذا أحدهم، وهو عمر بن الخطاب، يقول في رسالته إلى أبي موسى الأشعري: «وآس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك ؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.»
وأما استيفاء البحث في وسائل الحكم فترشد إليه آية:
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يستفصل في النوازل التي ترفع إليه كما استفصل المقر بالزنا: هل وجد منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله لعل به جنونا؛ فيكون إقراره غير معتبر، أم هو عاقل؟ فلما وثق من عقله استفصله بأن أمر باستنكاهه ليعلم: هل هو سكران أم صاح؟ فلما علم أنه صاح استفصله: هل أحصن أم لا؟ فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحد.
35
والاستفصال موكول إلى اجتهاد الحاكم وذكائه؛ «فإذا ارتاب بالشهود فرقهم وسألهم: كيف تحملوا الشهادة؟ وأين تحملوها؟ وذلك واجب عليه متى عدل عنه أثم أو جار في الحكم، وكذلك إذا ارتاب بالدعوى سأل المدعي عن سبب الحق، وأين كان، ونظر في الحال: هل تقتضي صحة ذلك؟ وكذلك إذا ارتاب بمن القول قوله والمدعى عليه، وجب عليه أن يستكشف الحال ويسأل عن القرائن التي تدل على صورة الحال.»
36
وحيث كان قلق الفكر مما يعوق عن استيفاء النظر في وسائل الحكم، نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن القضاء في حال يضطرب معه الفكر، وألم بهذا في حديث: «لا يقضي حكم بين اثنين وهو غضبان.»
37
وأما البينة فقد وفاها الكتاب والسنة حقها ولم يبخسا منه شيئا، تجدها في آية:
وأشهدوا ذوي عدل منكم ، وآية:
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى . وهذا إرشاد إلى الاحتياط في حفظ الحق؛ لتكون الشهادة سندا عند التناكر في مجلس القضاء، وتجدها في حديث: «ألك بينة؟» وحديث: «شاهداك أو يمينه.» وحديث: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر.» وقد تفقه أهل العلم في معنى البينة كل على حسب اجتهاده، وفسرها ابن قيم الجوزية في أعلام الموقعين
38
بأنها اسم لكل ما يبين الحق من شهود أو دلالة، وقال: «إن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد به.» ثم قال: «إن الطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع من الطرق التي أرشد الله صاحب الحق إلى أن يحفظ حقه بها.»
39
وللحاكم النظر في قبول الشاهد ورده، منحه هذا الحق قوله تعالى:
ممن ترضون من الشهداء . شهد عند إياس بن معاوية رجل من أصحاب الحسن، فرد شهادته، فبلغ الحسن وقال: قوموا بنا إليه. فجاء إلى إياس وقال: يا لكع، ترد شهادة رجل مسلم! فقال: نعم، قال الله تعالى:
ممن ترضون من الشهداء ، وليس هو ممن أرضى. فسكت الحسن وقال: خصم الشيخ.
40
ومما يتصل ببحث الاعتماد على البينة أن القاضي لا يستند إلى ما يعلم في القضية، ومن شواهده حديث «فأقضي له على نحو ما أسمع.» ولهذه الحكمة نص الفقهاء على أن القاضي الذي تقدم إليه بينة بخلاف ما يعلم من حال القضية، ولم يجد طريقا واضحا للقدح في شهادتها، تخلى عن الحكم فيها كما يتخلى عن الحكم في قضية يكون هو نفسه أحد الخصمين مدعيا أو مدعى عليه، ويصبح بين يدي من يكلف للقضاء فيها كشاهد بما يعلم، دون أن يكون لمنصبه القضائي في النازلة أثر كثير أو قليل.
وأما قوة العزم في الفصل والتنفيذ فمن شواهدها حديث: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها.» وحديث: «كان ليهودي على ابن أبي الحدرد أربعة دراهم، فاستعدى عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: يا محمد، إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها، فقال: أعطه حقه، فقال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها، قال: أعطه حقه، قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها، قال: أعطه حقه. وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
إذا قال ثلاثا لم يراجع، فخرج ابن أبي الحدرد فباع بردة له وقضاه حقه.»
41
وأما إطلاق الحرية للخصوم فشاهده حديث البخاري: أن رجلا أتى النبي
صلى الله عليه وسلم
يتقاضاه فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال: «دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالا.»
ولتجدن في الكتاب والسنة بعد هذا إرشادا إلى سنن أخرى لا يستقيم حال القضاء إلا بها، فتجد التنبيه على أن القاضي لا يفصل في القضية حتى يسمع من الخصمين، في حديث: «لا تقض بين الخصمين حتى تسمع من الآخر.»
42
ومن الفقهاء من حمل الحديث على إطلاقه، ومنهم من حمله على حالة إمكان حضور الخصمين، وأجاز الحكم على من كان في غيبة بعيدة.
وتجد الدليل على اكتفاء الحاكم بترجمة واحد أمين، في حديث زيد بن ثابت؛ إذ أمره النبي
صلى الله عليه وسلم
أن يتعلم كتاب اليهود، قال: «حتى كتبت للنبي
صلى الله عليه وسلم
كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه.»
43
وتجد الحبس للتهمة واردا فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما، أن النبي
صلى الله عليه وسلم
حبس في تهمة، فمن «أطلق كل متهم ... وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل؛ فقوله مخالف للسياسة الشرعية.»
44
وتجد الإرشاد إلى ما ينبغي للحاكم من بيان موجبات الحكم «حيثياته»؛ ليطمئن نفس المحكوم عليه ويسلم تسليما، تجده في سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فإن قضاءه في نفسه حجة، ومع هذا كان يذكر علل بعض الأحكام القضائية لطرد الشبهة، وإزاحة الحرج من قلب المقضي عليه، كحكمه على من عض يد آخر بإهدار ثنيته لما سقطت بانتزاع المعضوض يده من فيه، وقال للمحكوم عليه: «أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل؟!»
45
وتجد في حديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.» ما يرشد إلى أن الحكم الذي يظهر على خلاف الأصول القاطعة يتحتم نقضه، ثم يستأنف النظر في القضية على طريق الاجتهاد الصحيح.
وتجد الإرشاد إلى أن الحاكم لا يقبل الشفاعة في إسقاط الحدود بعد أن ترفع إليه؛ لأن قبول الشفاعة فيها يخفف الرهبة من سطوتها، ويفتح طريقا لسهولة ارتكاب الفواحش والموبقات؛ حيث يعتمد المجرمون على شفاعة تنقذهم من عقوبتها، تجد هذا في قصة أسامة بن زيد حين تقدم إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
شافعا في امرأة مخزومية وقعت في سرقة، فقال له: «أتشفع في حد من حدود الله؟»
46
وخطب خطبته التي قال فيها: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها.»
يقصد الشارع إلى تنقية القلوب من دنس التقاطع والبغضاء، وفصل الخصومات فريضة محكمة، وصولة يخر لها الباطل صعقا، ولكنه لا ينزع الأضغان الواغرة في الصدور، فدخل في سنة القضاء دعوة الخصوم إلى الصلح، حتى إذا طابت نفوسهم لذلك تبلج وجه الحق، وانقلبت العداوة إلى تآلف وصفاء، ومن الدليل على أن الإصلاح بين الخصوم من أدب القضاء حديث كعب بن مالك؛ وهو: «أنه تقاضى ابن حدرد دينا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى: يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله. فأومأ إليه؛ أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: قم فاقضه.»
47
ولذلك يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه: «رددوا الخصوم حتى يصطلحوا؛ فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن.»
48
والمراد من ترديد الخصوم التمهل قليلا؛ حيث يرجى فصل الواقعة وطي بساطها على يد صلح وسلام.
وتجد الإرشاد إلى أن المرأة لا يليق بها أن تنصب للقضاء بين الخصوم؛ لأن القضاء يستدعي في أغلب أوقاته عزما وإقداما وجلادة، وللمرأة لين في القلب، ورقة في المزاج، وإحجام عن المواقف الخطرة، تجد ذلك في حديث: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.» ونقل عن محمد بن جرير الطبري «أنه يجيز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستنابة في القضية الواحدة.»
49
وكان في حديث معاذ وأبي موسى الأشعري مستند لأهل العلم في وضع السلطة القضائية في يد شخصين أو أشخاص، قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب العارضة: «إرسال معاذ إلى اليمن مع أبي موسى الأشعري واليين قرينين أشركهما النبي فيها، وأمرهما بأن ييسرا ولا يعسرا، ويبشرا ولا ينفرا، ويتطاوعا ولا يختلفا، فكان ذلك أصلا في تولية أميرين وقاضيين مشتركين في الإمارة والأقضية، فإذا وقعت النازلة نظرا فيها، فإن اتفقا على الحكم وإلا تراجعا لقول حتى يتفقا على الصواب، فإن اختلفا رجع الأمر إلى من فوقهما، فينظر فيه، وينفذان ما اتفقا عليه، ولولا اشتراكهما لما قال: «تطاوعا ولا تختلفا.»
واقتفى أثر هذا المنهج أمير تونس زيادة الله بن الأغلب، فقلد أسد بن الفرات وأبا محرز محمد بن عبد الله الكناني القضاء، على أن يكونا شريكين في فصل النوازل، ولم يعلم قبلهما بالبلاد التونسية قاضيان في مصر.
50
هذه أمثلة اقتبسناها من تعاليم الإسلام ليطلع القارئ الكريم على أن مبادئه القضائية واقعة من العدل موقع الروح من الجسد، وأن القضاء في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان على سنة محكمة، وإذا زعم منتم للإسلام أن نظما يتطلبها العدل، أو يتوقف عليها حفظ الحق كانت مهملة في عهد النبوة، فإنه يقف له من التاريخ ثم من مقام الرسالة مدره يطعن في زعمه، ويقيم الحجة على ريائه.
المالية
أموال الدولة بحكم الكتاب والسنة: الصدقات والجزية والفيء وخمس الغنيمة، وهي موارد بيت المال لعهد النبوة. أما الصدقات فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يستعمل عليها عمالا عارفين بأحكامها؛ «إذ لا يستعمل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلا عالما بما يستعمله عليه.»
51
ومن «المحال الباطل أن يستعمل النبي
صلى الله عليه وسلم
من لا علم له.»
52
ولعلك تفقه بهذا أن أخذها كان جاريا على حساب ونظام. ومما يعد في نظمها ما فصلته الأحاديث من أحكامها؛ كبيان مقادير ما يؤخذ من كل صنف، وأن يأخذ من وسط المال لا خياره ولا رديه.
أما مصرفها فالأصناف الثمانية المنصوص عليها في آية:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم . وإنما اختلف الفقهاء في وجه صرفها، فقال الإمام الشافعي: لا بد من قسمها على الأصناف الثمانية، وقال الإمامان مالك وأبو حنيفة: يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد أو أكثر من صنف إذا رأى المصلحة قاضية بذلك، وعلى كل حال فإن مصرفها لا يخرج عن الأصناف الثمانية، وهو مضبوط إما بتلك الأصناف المعدودة أو بما تقتضيه المصلحة منها.
وأما الجزية؛ وهي ما يؤخذ من المخالفين المقيمين تحت راية الإسلام، فالقرآن ذكرها بلفظ مجمل فقال تعالى:
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ؛ أي يأتون بها طائعين لحكم الإسلام. وقد اختلف الفقهاء في تقديرها، وكثير منهم يذهب إلى أن تقديرها مفوض إلى نظر الإمام، قال أبو الوليد بن رشد في بداية المجتهد:
53
وهو الأظهر، ويؤيده أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وضع على أهل الشام من الجزية أكثر مما وضع على أهل اليمن، وعلل مجاهد هذا التفاوت بيسار أهل الشام.
54
وأما مصرفها فإنها كسائر الفيء وخمس الغنيمة توضع في بيت المال، وتصرف إلى ذوي الحاجة وفي وجوه المصالح العامة.
كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يولي على قبض المال عمالا، وإذا قدموا به حاسبهم على ما قبضوا وما صرفوا، تجد هذا في حديث العامل الذي استعمله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على صدقات بني سليم، وفي الحديث: «فلما جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
وحاسبه.» رواه الإمام البخاري في باب محاسبة الإمام عماله، وقال الحافظ ابن حجر عند قوله «وحاسبه»؛ أي على ما قبض وصرف.
55
فإذا كان المال المفروض على الأمة في عهد النبوة مقدرا، والعامل عليه عالما، ومتى جاء به يناقش الحساب على القبض والصرف ثم ينفق في وجوه المصالح بتدبير، فهل يصح بعد هذا أن يقال: إن المالية لذلك العهد لم يكن لها نظام؟!
فإن أراد المؤلف من النظام أن يؤلف لها ديوان قلنا: كان للنبي عليه السلام كتاب معروفون، وهبهم لم يتقيدوا بمكان يختص بهم ووقت يحدد لهم، فإن هذا وحده لا يسم المالية بوصمة الخلو من النظام، ورب تقييد يعد في بعض الأزمنة نظاما، وهو في عصر آخر حيث لا تدعو إليه الحاجة عدم نظام.
وموجز القول أن نظام المالية لعهد الرسالة موافق لما يقتضيه حال ذلك العهد، ولقد كان المال يقبض بحق، ويصرف على وجه لا يدخله خلل ولا يحوم عليه شطط، قال ابن خلدون في مقدمته: «واعلم أن هذه الوظيفة - يعني ديوان الأعمال والجبايات - إنما تحدث في الدولة عند تمكن الغلب والاستيلاء، والنظر في أعطاف الملك وفنون التمهيد. وأول من وضع الديوان عمر - رضي الله عنه - يقال: لسبب مال أتى به أبو هريرة - رضي الله عنه - من البحرين، فاستكثروه وتعبوا في قسمه، فسموا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق، فأشار خالد بن الوليد بالديوان وقال: رأيت ملوك الشام يدونون.»
فأنت ترى أن الحاجة إلى الديوان لم تعرض إلا في عهد الخليفة الثاني، وعندما حدثت الحاجة وجد الخليفة من قاعدة رعاية المصالح ما يحثه على المبادرة إلى أن ينشئ الديوان، ويعين له من الكتاب بمقدار ما تدعو إليه المصلحة، فإن كان المؤلف يذهب إلى أن المالية التي لم تتسع حتى تلجئ إلى إنشاء ديوان يحق له أن يصفها بعدم النظام، قلنا له: إن المقدار الذي تسمح به حالة الأمة لعهد النبوة كان يستخلص بالقسطاس المستقيم، وينفق في سد الحاجات، وإعداد القوة ووسائل المنعة، وقد خاض رجال هذه المالية حروبا فكانوا هم الغالبين، ولم يكونوا يوما في حاجة إلى قرض داخلي أو خارجي، ولم يضعوا على رقاب الأمة ضرائب فادحة مثلما تصنع الدول ذات الدواوين الطويلة العريضة، فنحن نسميها مالية تؤخذ وتصرف بنظام، وللمؤلف الذي أشلى قلمه ليلغ في عرض الحكومة النبوية أن يسميها بما شاء.
الشرط أو «البوليس»
للحكومة مقومات: قانون يخضع له الجمهور، ورجال يقومون على تنفيذ هذا القانون، وأموال تقبض وتصرف في المصالح المشتركة، وقوة من الرجال والسلاح لدفاع العدو وكبح الثورة، وما عدا هذا من المشروعات والنظم فإنما يأتي على حسب تطور الزمان وما يعرض من الحاجات.
فإذا رأينا جماعة يمسكون بأيديهم قانونا يحفظ الحقوق، ويوجد بينهم من ذوي الكفاية للقيام على تطبيق هذا القانون وتنفيذه عدد غير قليل، ويجبي إلى خزانتها العامة من الأموال ما يقوم بمرافق حياتها الاجتماعية، وتنهض لحمايتها أو حماية قانونها جنود تخوض مواقع الحروب بما استطاعت من قوة، صح لنا أن نقول: إن هذه الجماعة ذات حكومة، وربما كانت الحقوق فيها محفوظة، والأمن سائدا، وإن لم تكن بها إدارة بوليس، وكذلك كان حال جماعة المسلمين لعهد النبوة بحيث لو وضعت في تلك المناطق الإسلامية دوائر بوليس لم يصر الأمن فيها أمكن، ولا الحقوق أكثر صيانة. وإليك الحجة والبيان: كانت حالة الأمة لعهد النبوة بالغة من الاستقامة إلى حيث تجدها في غنى عن دائرة محافظة أو «بوليس».
وقد يقول الناشئ في مدينة يجوس الشرطي خلالها، ويسيطر على كل شارع من شوارعها: كيف يحفظ النظام في جماعة لا يقوم على رءوسها رجال يلبسون في الشتاء سوادا وفي الصيف بياضا؟! ويعد كلمتنا مثلا من أساطير الأولين، أو شهادة خطرت في موقف الدفاع عن أحكام سيد المرسلين. كلا، إن هي إلا حقيقة تسعدها الأدلة البينة والتاريخ من ورائها شهيد.
بقيت راية الإسلام مرفوعة على المدينة المنورة وما حولها نحو سبع سنين؛ إذ كان من المحتم على كل من يعتنق الإسلام من القبائل أن يهاجر إلى المدينة المنورة، ولا يقيم بين قوم لا يؤمنون، قال الله تعالى:
والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ، والحكمة من تلك الهجرة أن يتقوى بهم جانب الدين، وليخلصوا من البيئة المتعفنة، فإنها تذهب بالغيرة على الحق، وتلبس الوجوه رقعة الصفاقة، وربما سرى وباؤها إلى النفوس الضعيفة فزلزل عقائدها وأطفأ نور إيمانها.
وفي السنة الثامنة من الهجرة فتحت مكة المكرمة، وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجا وقبائل، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم
عندئذ: «لا هجرة بعد الفتح.» وولى على جميع البلاد والقبائل أمراء، وبث فيهم معلمين للقرآن وأحكام الشريعة ، وتوفي في السنة العاشرة من الهجرة بعد أن فتحت مكة وتجاوز حكم الإسلام المدينة المنورة إلى مكة والطائف واليمن وما داناها من البلاد.
إذن ننظر إلى حال المدينة المنورة مدة عشر سنين وإلى حال غيرها من البلاد المدة التي أصبحت تحت حكم الإسلام لعهد النبوة وهي السنتان.
هاجر النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة المنورة وهاجر لهجرته أصحابه الأكرمون، فانعقد بين المهاجرين والأنصار إخاء صادق، واتحاد متين، وكانت قلوبهم تفيض بتعاطف وتراحم بلغا حد الإيثار عن النفس، حتى قال الله تعالى في حق الأنصار:
والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .
إيمان راسخ وأدب متين هما أثر ما كانوا يشهدونه من دلائل النبوة، ويتلقونه من حكمة بالغة وموعظة حسنة. وشأن القوم الذين بلغوا في التعاطف إلى حد الإيثار على النفس أن تكون الحقوق بينهم محترمة، وشأن القوم الذين يبصرون نور النبوة صباحا ومساء أن لا ترى لهم عينا تطمح إلى هتك عرض، ولا يدا تمتد إلى الاعتداء على مال، ولا فما ينطق بكلمة قذع أو فحشاء.
وكان الذين يتقلدون الإسلام دينا يضعون أيديهم في يد رسول الله عليه السلام ويبايعونه «على أن لا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوا في معروف.»
56
وقال عبادة بن الصامت: «بايعنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، ولا نخاف في الله لامة لائم.»
57
ومن حديث جابر: «بايعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فاشترط علي النصح لكل مسلم.»
58
ومن عرف أن هذه المبايعة من قبيل تأكيد العهد، ودرى كيف كان العرب يحترمون ما يؤخذ عليهم من ميثاق، أدرك ما كان لها من أثر في اتقاء المحارم، والكف عن كثير من المخالفات التي لا يتحاماها بعض أسارى الشهوات إلا إذا كانوا بمرأى من شرطي لا يمالئ على باطل، ولا يلوث يده بارتشاء.
يحتاج إلى الشرطي في قرية أو مدينة تفتح فيها حانات لتجرع المسكرات، وبيوت يتجر فيها بنات الهوى بأعراضهن، ونواد يستباح بها لعب الميسر، ولكن المدينة المنورة وكل بلاد فتحت لعهد النبوة كانت طاهرة من حانات الخمور، نقية من بيوت الدعارة، سالمة من نوادي الميسر، خالصة من كل ما يثير العداوة والبغضاء.
وللإيمان الصادق زاجر لا يعصى، وسلطان لا يرشى، وهو الذي يجعل الرجل خصيما للمنكر، حليفا للحق، وكذلك كان الناس في عهد النبوة، فكل مسلم بمنزلة شرطي أمين يحاسب نفسه، ويغير المنكر بيده أو لسانه، ويجيب إلى التقاضي بين يدي رسول الله أو أحد خلفائه، ويقيم الشهادة بالقسط ولو على أبيه أو زوجه أو بنيه.
كان في خلال الأمة المسلمة نفر من المنافقين، ولكنهم كانوا يصوغون مظاهرهم في أسلوب المؤمنين، ولمهارتهم في صناعة النفاق قال الله تعالى يصفهم لنبيه الكريم عليه السلام:
ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ، ثم إن النبي
صلى الله عليه وسلم
وخلفاءه كانوا يقيمون الحدود والزواجر بعزم تبيت له النفوس الكريمة مطمئنة، وترتعد له القلوب القاسية رهبة. ومتى علم المنافق أنه ملاحظ بأعين شرط لا يغيبون عن مشهد، وتيقن أنه مساق إلى محكمة لا تأخذها في الحق لومة لائم، انصرف عن أهوائه خشية، وانكف عن الشر رياء وتصنعا.
فغلبة التقوى والتراحم بين الأمة، واعتقاد كل واحد منها أنه مسئول عما يشهد من إثم أو عدوان، وإجراء الحدود والزواجر بعزم لا يعرف هوادة، كل ذلك مما امتاز به عهد النبوة، وجعل الناظر في التاريخ بقلب سليم يشعر بأن الناس لذلك العهد ليسوا في حاجة إلى أن يقوم على رءوسهم رجال يقال لهم: الزبانية أو البوليس.
وقد أوجسنا خيفة بعد هذا أن ينظر المؤلف إلى كل ما يتصل بالحكومات الغربية أو الشرقية من نظام أو إدارة، ويتخذ عدم وجوده في عهد النبوة حجة على أن ليس هناك حكومة ونظام، حتى خشينا أن يسوق على هذا الغرض آيات بينات، وهي أنه لم يكن في عهد النبوة مجالس مختلطة، ولا صندوق دين عمومي، ولا أقلام تشفي غليل الإباحية بما تأذن به من تعاطي ما يدنس الأعراض، أو يفتك بالألباب. •••
قال المؤلف في ص45: «ومما يستأنس به في الموضوع أننا لاحظنا أن عامة المؤلفين من رواة الأخبار يعنون، في الغالب، إذا ترجموا لخليفة من الخلفاء أو ملك من الملوك، بذكر عماله من ولاة وقواد وقضاة إلخ، ويفردون له بحثا خاصا، يدل على أنهم عرفوا تماما قيمة ذلك البحث من الجهة العلمية، فصرفوا من الجهد فيه والعناية به ما يناسبه، ولكنهم في تاريخ النبي
صلى الله عليه وسلم
إن عالجوا ذلك البحث رأيتهم يزجون الحديث فيه مبعثرا غير متسق، ويخوضون غمار ذلك البحث على نسق لا يماثل طريقتهم في بحث بقية العصور.»
أنكر المؤلف أن يكون لعهد النبوة حكومة ذات نظام، واستأنس لهذا بأن رواة الأخبار إذا ترجموا لملك أو خليفة يفردون لولاته وقضاته بحثا خاصا، وإذا عالجوا مثل هذا البحث في تاريخ النبي
صلى الله عليه وسلم
زجوا الحديث مبعثرا غير متسق، ولا ندري كيف يتم له هذا الاستئناس وما يدعيه من أنهم يزجون الحديث مبعثرا، فقصارى ما يؤخذ منه أنهم لم يجيدوا صنع التأليف في السيرة النبوية؛ إذ لم ينسجوا على المنوال الذي نسج عليه المؤرخون في تراجم الخلفاء والملوك، فإن قصد إلى أن عدم تنسيقها على الوجه المذكور يدل على عدم صحتها قلنا: هذه دلالة خفيت على المناطقة حين قسموا الدلالة إلى مطابقة وتضمن والتزام.
المؤلفون في سنة الرسول عليه السلام وأحواله: محدثون، وأصحاب سير، ومؤرخون، أما المحدثون فعنايتهم مصروفة إلى البحث عن أقوال الرسول عليه السلام وأفعاله وتقريره، وغايتهم الأولى رواية الأحاديث التي يمكن أن يستمد منها أحكام شرعية أو آداب نفسية. وهؤلاء إنما يذكرون اسم قائد أو وال أو قاض إذا جاء في رواية تتعلق بشيء من أقوال النبي
صلى الله عليه وسلم
أو أفعاله أو تقريره.
وأما أصحاب السير فإنهم يبحثون عن أحوال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من يوم ولادته إلى يوم انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ويرتبون مؤلفاتهم ترتيبا طبيعيا، فيبتدئون بالحديث عن ولادته عليه السلام، ويتابعون البحث بمقدار ما وصل إليه علمهم حتى يأتوا على أيام قيامه بدعوة الرسالة، ثم هجرته إلى المدينة المنورة، ثم غزواته وسراياه والوفود التي قدمت عليه، والرسل الذين وجههم إلى الملوك، ذلك كله مرتبا على حسب الأيام والسنين، ويذكرون لكل سرية قائدها، وإذا تحدثوا عن قوم اعتنقوا الإسلام ذكروا من أمر عليهم أو عين عاملا لقبض صدقاتهم.
وجرى على طريقة أصحاب السير بعض المؤرخين؛ كابن جرير الطبري وابن خلدون، وهل بعد أن يذكر رواة الأخبار عند كل سرية قائدها حتى إنهم يضيفونها إليه ويقولون: سرية فلان، يسوغ لأحد أن يدعي بأنهم يأتون بالكلام على القواد مبعثرا، ولذلك تجد منهم من يذكر الأمراء في نسق كما صنع ابن خلدون في فصل عنوانه «العمال على النواحي».
59
وأما القضاة فقد عرفت أن الإمارة لذلك العهد يدخل فيها القضاء والنظر في غيره من شئون البلاد. •••
عرف المؤلف أنه سيتناول في الباب الثاني وما بعده بحثا لا يمشي فيه على سبيل، ولا يتشبث فيه بأصل، وعرف أنه سيلقي من الشبه خيالات لا تسحر إلا أعين المستضعفين علما وعقيدة، وتيقن بالطبيعة أن العلماء الذين درسوا الشريعة بحق، ووقفوا على مقاصدها خبرة سينكرون عليه بدعته، وينذرون الناس لكي يتقوا فتنته، عرف هذا وذاك فأخذ يستعمل السلاح الذي أعده للدفاع عن رأيه المحال؛ وهو رمي المنكرين بالجمود، فقال في ص47: «وأما ثانيا فلأن المغامرة في بحث هذا الموضوع قد تكون مثارا لغارة يشب نارها أولئك الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة، ليس للعقل أن يحوم حولها، ولا للرأي أن يتناولها.»
يريد المؤلف بهذه القذيفة إرهاب أهل العلم ليحجموا عن نقض آرائه؛ حذرا من وصمة الجمود، وينوي مع هذا استدراج ضعفاء الأحلام إلى اعتناق مذهبه؛ إذ يريهم أنه مذهب الباحث بقريحة مرنة ونظر مستقل، ألا إن أهل العلم لا يرهبون، وذوي الفطر السليمة لا يفتنون، وإن سره أن يخب في أثره قوم لا يبصرون، فإن الفرق التي لا تتقلد الإسلام دينا ليسوا بقليل.
إن في العالم الإسلامي علماء شبوا على حرية الفكر، وإطلاق العقل من وثاق التقليد الأصم، فهم لا يكرهون لذوي الألباب أن يبحثوا حتى في أصل العقائد «وجود الخالق»، وهم لا يستطيعون أن يحولوا بين المرء وما يعتقد من باطل، وليس في أيديهم سوى مقابلة الآراء بما تستحقه من تسليم أو تفنيد.
وهل يرجو المؤلف من أمثال هؤلاء أن تقع أبصارهم على كتاب ينطوي على آراء تضع مكان الإيمان حيرة، ومكان التقوى فسوقا، ومكان إباية الضيم ذلة، ثم يمرون عليها مرور الجاهل بسوء عاقبتها؟! فلا وربك لا يدعون وباءها يتفشى في النفوس الزاكية، والقلوب السليمة، وإن امتلأت الدنيا ألسنة تصفهم بالجمود، وتلقبهم بالحجارة، أو بما هو أشد قسوة.
الباب الثاني
الرسالة والحكم
النقض - الملك - الرسول عليه السلام ذو رياسة سياسية - بحث في: «أعطوا ما لقيصر لقيصر» - الجهاد النبوي - الجزية - المخالفون أنواع ثلاثة - سر الجهاد في الإسلام - خطأ المؤلف في الاستدلال بآيات على أن الجهاد خارج عن وظيفة الرسالة - من مقاصد الإسلام أن تكون لأهله دولة - تفنيد قول المؤلف: «الاعتقاد بأن الملك الذي شيده النبي عليه السلام لا علاقة له بالرسالة ولا تأباه قواعد الإسلام» - التنفيذ جزء من الرسالة - وجه قيام التشريع على أصول عامة - مكانة الصحابة في العلم والفهم - الشريعة محفوظة - معنى كون الدين سهلا بسيطا. ***
ملخصه
افتتح الباب بتهوين البحث في أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
كان ملكا أم لا، وأخذ يستدرج القارئ إلى رأيه الصريح من بعد، ويخيل له أن الاعتقاد بأحد الطرفين - كونه رسولا وملكا، أو ملكا فقط - ليس بدعا في الدين، ولا شذوذا عن مذاهب المسلمين، ثم ذكر أن الرسالة غير الملك، وأن من الرسل من لم يكن ملكا، وقال بعد هذا في صورة سائل: هل كان محمد
صلى الله عليه وسلم
ممن جمع الله له بين الرسالة والملك، أم كان رسولا غير ملك؟ وادعى أنه لا يعرف لأحد من العلماء رأيا صريحا في هذا البحث، واستنتج أن المسلم العامي يجنح غالبا إلى اعتقاد أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان ملكا ورسولا، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسية.
ثم قال: ولعله رأى جمهور العلماء، وساق عليه كلام ابن خلدون وما نقله رفاعة بك من كتاب تخريج الدلالات السمعية عن الوظائف والعمالات التي كانت قائمة في عهد النبوة، ثم أخذ يمر بالقارئ على شعاب من التشكيك، فذكر أن في الحكومة النبوية بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكم السياسية، وتعرض لمسألة الجهاد، ورأى أن من الظاهر لأول وهلة أن الجهاد إنما يكون لتثبيت السلطان وتوسيع الملك.
وعلل هذا بأن دعوة الدين لا قوام لها إلا البيان وتحريك القلوب بوسائل التأثير والإقناع، وضرب مثلا آخر لمظاهر الدولة؛ وهو جمع المال من مثل الزكاة والجزية والغنائم، وقال: لا شك أن تدبير المال عمل ملكي، وأنه خارج عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وعزز مسألتي الجهاد وجمع المال بثالث؛ وهو ما روي من أن النبي
صلى الله عليه وسلم
وجه إمارة اليمن وفرقها بين رجاله، وقال: من نظر إلى ذلك من هذه الجهة ساغ له القول بأن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله تعالى، وكان ملكا سياسيا. وتخلص من هنا إلى أن تأسيسه
صلى الله عليه وسلم
للمملكة الإسلامية خارج عن حدود رسالته، أم جزء مما بعثه الله به وأوحى به إليه؟
وزعم أن القول بأن المملكة النبوية عمل منفصل عن الرسالة، وأنها من قبيل العمل الدنيوي الذي لا علاقة له بها، ليس بكفر ولا إلحاد، وصرح بأن الرأي الذي تتلقاه نفوس المسلمين بالقبول هو أن المملكة النبوية جزء من عمل الرسالة، وقال: إن هذا الرأي لا يمكن تعقله إلا إذا ثبت أن الرسول مبلغ ومنفذ معا.
وبعد أن نقل كلام ابن خلدون المتضمن أن الإسلام يجمع بين الدعوة والتنفيذ، ادعى أنه لم ير لهذا القول دعامة، وأنه لا يلتئم مع ما تقضي به طبيعة الدعوة الدينية، وخرج من هذا إلى مشكل آخر - فيما يزعم - وهو خلو الدولة السياسية النبوية من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم، ثم افترض جوابا، بل عذرا يقدمه إليه القائلون بأن من مقاصد الإسلام إقامة دولة، وهو أن للحكومة النبوية نظاما بالغا، وإحكاما سابغا، ولكنا لم نصل إلى علم التفاصيل الحقيقية، ورده بأن احتمال الجهل ببعض الحقائق لا يمنعه من الوثوق بما علم، واعتباره حقائق يبني عليها الأحكام، ويستخلص منها النتائج.
ثم التمس لعلماء الإسلام جوابا آخر؛ وهو أن ما نسميه اليوم أركان الحكومة وأنظمة الدولة إنما هي أوضاع مصنوعة، والحكومة النبوية حكومة الفطرة التي ترفض كل تكلف، ورده بأن كثيرا مما استحدث في أنظمة الحكم ما ليس متكلفا ولا مصنوعا، وهو مع ذلك ضروري ونافع، ثم أغلق الباب بوعد أنه سيلتمس وجها آخر لحل ذلك الإشكال، وهو ما عرج عليه في الباب الثالث.
النقض
رفع المؤلف الحرج على الباحث في أن النبي
صلى الله عليه وسلم
هل كان ملكا أم لا، ونفى أن يكون هذا البحث ذا خطر في الدين يخشى شره على إيمان الباحث، وأفتى بأنه لا يمس شيئا من جوهر الدين ولا أركان الإسلام، ثم قال في ص49: «وربما كان ذلك البحث جديدا في الإسلام لم يتناوله المسلمون من قبل على وجه صريح، ولم يستقر للعلماء فيه رأي واضح، وإذن فليس بدعا في الدين، ولا شذوذا عن مذاهب المسلمين أن يذهب باحث إلى أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان رسولا وملكا، وليس بدعا ولا شذوذا أن يخالف في ذلك مخالف، فذلك بحث خارج عن دائرة العقائد الدينية التي تعارف العلماء بحثها، واستقر لهم فيها مذهب، وهو أدخل في باب البحث العلمي منه في باب الدين.»
لو كان المؤلف يبحث بحكمة وإخلاص لافتتح البحث ببيان ماذا يريد من الملك، وأخذ يفتح عين القارئ فيما تقتضيه الأدلة من ثبوت حقيقته في تصرف النبي عليه السلام أو عدم ثبوتها، ولكنه علم أن دخوله في الموضوع من طريق الصراحة يرفع الستار عن طويته، فيأخذ المسلمون منه حذرهم، ويسهل على أهل العلم تحديد آرائه وطعنها بالحجة في نحورها؛ لذلك اختار لفظ ملك، وهو اسم لم يألف المسلمون إطلاقه على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ ليمكنه أن ينفي تحت اسمه ما شاء من حقائق شرعية، دون أن يحس السذج بما يقصده من إنكار مزايا الإسلام وهدم كثير من أصوله.
ونحن لا نتقدم إلى الخوض في هذا البحث إلا بعد رسم حقيقة الملك، حتى يمتاز المعنى الذي يلتئم بالرسالة من المعنى الذي لا يليق بمقامها الرفيع.
الملك رياسة يتصرف بها صاحبها في أمور الجمهور أمرا ونهيا وتنفيذا، فإن كان التصرف قائما على سنن العدل ومقتضى المصلحة كان الملك مقاما محمودا، ومرتقى شريفا. وهذا هو الذي يهبه الله لعباده المصطفين كما قال الله تعالى مخبرا عن نبيه سليمان عليه السلام:
وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ، وقال تعالى مخبرا عن يوسف الصديق عليه السلام:
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث .
وإن كان التصرف جاريا مع الأهواء، جامحا عن سنن الهوى، كان الملك مظهرا ممقوتا، ومهبط خسر وشقاء. وهذا الصنف من الملك هو الذي يتنزه عنه أنبياء الله، ولا يصح أن يجتمع مع الرسالة بحال.
وإذا كان المراد من الملك سياسة الرعية وتدبير شئونها كانت السياسة نوعين: عادلة وجائرة، فإن السياسة العادلة هي التي يجيء بها الرسل عليهم السلام، وهي التي يعنيها المسلم إذا قال: إن الرسول كان ماسكا بزمام السياسة، وإنما تحامى الناس أن يطلقوا على رسل الله لقب ملك؛ لأن لقب الرسول أرفع اسما، وأدل على العدل من لقب ملك الذي ينادي به كل سائس وإن كان مستبدا مترفا.
ونحن نجاري المؤلف في هذا الصدد ولا نريد من اسم ملك - متى وصفنا به مقام الرسالة - إلا الرياسة السياسية، التي يحاول جحودها بالرغم من حجج تصيح به أنى التفت وهو متصامم عنها تصامم المفتون بأحدث «ما أنتجت العقول البشرية». •••
يقول المؤلف: «إن البحث في أن الرسول عليه السلام كان ملكا أم لا بحث جديد في الإسلام.» وهذا لا يصح إلا إذا عنى بالبحث نفي أن يكون للرسول عليه السلام رياسة سياسية، فإن البحث في ذلك على وجه الإنكار بحث مختلق في الإسلام. وأما كون الرسول ذا رياسة سياسية فأمر تقرر بالكتاب والسنة المتواترة، وتناوله المسلمون من قبل على وجه صريح، واستقر للعلماء فيه رأي واضح.
أما الكتاب فمن آياته الكثيرة في هذا المعنى قوله تعالى:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ، وأما السنة فمن شواهدها: أقضيته
صلى الله عليه وسلم ، وإقامته الحدود على مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، وإرساله الأمراء في طول البلاد المفتوحة وعرضها، وأما اعتقاد العلماء قاطبة بأنه عليه السلام كان رسولا نبيا ومشرعا سياسيا، فدليله إجماعهم على الاستدلال بأقضيته وأحكامه وسائر تصرفاته العائدة إلى شئون الدولة، إلا ما كان منوطا بعلة فزالت وخلفتها فيه علة أخرى، على ما سنبينه في غير هذا المقام بيانا شافيا.
فاستخفاف المؤلف بذهاب الباحث إلى أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يكن رسولا ملكا، وقوله: إن ذلك ليس بدعا في الدين ولا شذوذا عن مذاهب المسلمين، ما هو إلا افتيات على الإسلام، ومن ذهب إلى أن الرسول لم يكن مدبرا لشئون السياسة فقد نبذ كتاب الله وراء ظهره، وشاقق الرسول، واتبع غير سبيل المؤمنين. •••
ذكر المؤلف أن الرسالة غير الملك ، ثم قال في ص49: «ولقد كان عيسى بن مريم عليه السلام رسول الدعوة المسيحية، وزعيم المسيحيين، وكان مع هذا يدعو إلى الإذعان لقيصر، ويؤمن بسلطانه، وهو الذي أرسل بين أتباعه تلك الكلمة البالغة: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، وكان يوسف بن يعقوب عليه السلام عاملا من العمال في دولة الريان بن الوليد، فرعون موسى، ومن بعده كان عاملا لقابوس بن مصعب.»
أتى المؤلف بهذه المقدمة ليضع في ذهن القارئ تمثيل رسول الإسلام بعيسى ويوسف عليهما السلام، في أن كلا منهم لم يكن صاحب دولة ولا رئيسا أعلى في السياسة، والذي يبطل هذا التمثيل أن رسول الإسلام لم يدع إلى الإذعان لقيصر، ولا كان عاملا للمقوقس صاحب مصر، بل دعاهما إلى الإيمان به والدخول تحت سلطانه، وقد شاء ربك أن يكون انقراض دولتهما ودخول مملكتهما تحت راية الإسلام على يد أحد خلفائه الراشدين.
لم يرض محمد بن عبد الله عليه السلام أن يقيم تحت سلطان غير سلطان الله، ولم يرض لمعتنقي دينه الحنيف أن يستكينوا لسلطة غير إسلامية، وفرض الهجرة والجهاد على ما نقول شهيد. وما ينبغي للمؤلف أن يحشر في غضون كتابه مثل هذه الكلمة التي تقضي حاجة في نفس المخالف المتغلب، وتبقي في النفوس أثر الاستكانة إلى أي يد تقبض على زمامها.
ولقد قلنا فيما سلف: إن هذه المقالة التي يعزوها إلى المسيح عليه السلام لا تجد في المناظرة أذنا صاغية؛ إذ لم نعلم السند الذي ينتهي بها إلى المسيح عليه السلام، علاوة على أن الإسلام شرع الهجرة والجهاد، وأبى لأتباعه إلا أن يلوذوا بالمنعة والعزة التي ليس بعدها مرتقى. •••
قال المؤلف في ص50: «فهل كان محمد
صلى الله عليه وسلم
ممن جمع الله له بين الرسالة والملك، أم كان رسولا غير ملك؟ لا نعرف لأحد من العلماء رأيا صريحا في ذلك البحث، ولا نجد من تعرض للكلام فيه بحسب ما أتيح لنا، ولكنا قد نستطيع بطريق الاستنتاج أن نقول: إن المسلم العامي يجنح غالبا إلى اعتقاد أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان ملكا رسولا، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسية مدنية كان هو ملكها وسيدها.»
إن كانت لكتاب المؤلف مزية فهي أنه يعلم الناس كيف يتنكرون لما عرفوا! وكيف يتخذون من الصفاقة برقعا كثيفا! رأى أهل العلم يتحامون أن يلقبوا الرسول عليه السلام بالملك أو يسموا رياسته ملكا، فاتخذ ذلك ذريعة لما يخادع به قراء كتابه من أن المسألة صالحة لأن تدخل تحت طائلة البحث، وأنه ما وجد فيها للعلماء رأيا صريحا، ولا وجد من تعرض للكلام فيها.
لم يخطر على بال أولئك العلماء أن الأيام سيجيئها المخاض فتضع في بيوت المسلمين وليدا يقال له: «كتاب الإسلام وأصول الحكم» حتى يعدوا له ما استطاعوا من التصريح بأن الرسول عليه السلام كان ملكا، وأن بجانب نبوته رياسة سياسية يقال لها: ملك!
ولا أدري لماذا لم تخطر على بالهم هذه النادرة وهم كثيرا ما يفصلون أحكاما لصور لم تجر العادة بوقوعها، ولعلهم لم يذهلوا عن مثلها، ولكنهم حسبوا أن القرآن والسنة النبوية المتواترة وبحثهم في الخلافة صريحة في أن للنبي رياسة سياسية، وأن هذه الصراحة تمنع من ينتمي للإسلام - وهو يحمل قلبا يفقه - أن يقول: لا نعرف لأحد من العلماء رأيا صريحا في ذلك البحث، ولا نجد من تعرض للكلام فيه.
على أن العلماء يتعرضون لهذه الرياسة السياسية في بحث الخلافة وفي غير بحث الخلافة، ولم يفتهم إلا أن يسموها ملكا، واختاروا أن يسموها القضاء والإمامة، كما صنع الإمام شهاب الدين القرافي في الفرق السادس والثلاثين
1
بين قاعدة تصرفه
صلى الله عليه وسلم
بالقضاء، وبين قاعدة تصرفه بالفتوى، وبين قاعدة تصرفه بالإمامة.
ومن حذق المؤلف في الخلابة أن جعل كون النبي عليه السلام ذا رياسة سياسية مما يعتقده المسلم العامي، قال هذا وهو إنما يقصد تنفير قارئ كتابه من أن يكون بمنزلة العامة؛ حيث يشاركهم في هذه العقيدة. •••
قال المؤلف في ص50: «ولعله أيضا هو رأي جمهور العلماء من المسلمين؛ فإنك تراهم إذا عرض لهم الكلام في شيء يتصل بذلك الموضوع يميلون إلى اعتبار الإسلام وحدة سياسية ودولة أسسها النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكلام ابن خلدون ينحو ذلك المنحى؛ فقد جعل الخلافة التي هي نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا شاملة للملك، والملك مندرج تحتها.»
يزعم المؤلف أن العلماء لم يصرحوا بدخول الرياسة السياسية في وظيفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو رأي العامة من المسلمين، وبعد أن فرغ من طريقته الشعرية قال - كأنه لا يزال في تردد من كونه رأي أهل العلم : «ولعله أيضا هو رأي جمهور أهل العلم، إلخ.»
يؤكد لك أن المؤلف اتخذ من اسم «ملك» نافقاء يخرج منها إلى حيث يشاء: أنه قرأ ما يقوله العلماء في الخلافة من أنها نيابة عن الرسول عليه السلام في إقامة الدين وسياسة الدنيا، ولم يأخذ نفسه إلى الاعتراف بأن هذا صريح فيما يعتقدونه لمقام الرسالة من الرياسة السياسية، ونأى بجانبه عن هذا كله؛ حيث لم ينطقوا بكلمة ملك أو ملك، وإنما تعرض لكلام ابن خلدون على وجه خاص؛ لأنه ذكر اسم ملك وقال: إن الملك مندرج في الخلافة. •••
قال المؤلف في ص52: «لا شك في أن الحكومة النبوية كان فيها بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة السياسية وآثار السلطنة، وأول ما يخطر بالبال مثالا من أمثلة الشئون الملكية التي ظهرت أيام النبي
صلى الله عليه وسلم
مسألة الجهاد.»
ليس المؤلف بالغبي لحد أن تصدر عنه هذه الكلمة دون أن ينتبه لما تنطوي عليه من مغامز، ولعله عدل عن التعبير الذي يألفه ذوق المسلم إلى هذا الأسلوب الغريب ليكون في لحنه خطاب لقوم آخرين، حتى إذا خلا بعضهم إلى بعض تناولوه بشرح تشمئز منه قلوب «الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة.»
استكثر المؤلف على الحكومة النبوية أن يكون لها ولو بعض مظاهر الحكومة السياسية، ولم يسمح قلمه الهماز إلا أن يجعل لها بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة السياسية، وساق الجهاد مثلا لهذا البعض الشبيه بمظاهر السياسة ، واختار هذه الصيغة: «ظهرت أيام النبي
صلى الله عليه وسلم
مسألة الجهاد.» كأنه يتجنب الكلمة التي يشتم منها رائحة التشريع؛ محافظة على ذلك «المجال المشتبه الحائر»، وليبعد بذهن القارئ عن الاعتقاد بأن الجهاد تنزيل من حكيم حميد! •••
قال المؤلف في ص52: «وظاهر أول أهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله، وإنما يكون الجهاد لتثبيت السلطان وتوسيع الملك.»
قام النبي عليه الصلاة والسلام بمكة يجاهد في سبيل ربه بالحجة والموعظة الحسنة، ولاقى هو وأصحابه من أذية المشركين ما لا يحتمله إلا ذو عزم نافذ وإيمان كفلق الصبح، وكانت الآيات تنزل لتسليتهم ومطاردة ما عساه يعلق بنفوسهم من جزع أو أسى.
وبعد أن امتحن الله قلوبهم للتقوى، وتألف حول مقام النبوة حزب لا يخنع للبأساء، ولا تستخفه السراء، طلعت بهم الهجرة الخالصة بين لابتي المدينة المنورة، وأصبحوا بين أقوام ينالونه بالأذى، وآخرين يناصبونهم العداء، ومن هؤلاء من يتربص بهم الدائرة، ومنهم من يجمع أمره ليأخذهم على غرة، ولكن الله سلم، إنه عليم بذات الصدور.
هذا البلاء الذي كان يسطو حول الجماعة المسلمة، أو يتحفز للوثوب عليها، كان حكمة تناسب الإذن للرسول عليه الصلاة والسلام بسل السيف في وجه عدوه الكاشح؛ ليدفع شره، ولتسير دعوة الحق في سبيل لا تعترضها عقبات المفسدين.
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
لذلك نزل قوله تعالى:
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ، وقوله تعالى:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، وقوله تعالى:
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
فنهض النبي
صلى الله عليه وسلم
يجاهد في سبيل حماية الدعوة كل خائن كفار، وكان مع هذا العمل المطهر لوجه الأرض من نجس الشرك والعادات القاتلة للفضيلة يعقد المعاهدات والمحالفات بينه وبين الأقوام المخالفين حيث جنحوا إلى السلم، وأخذوا على أنفسهم أن لا يظاهروا عليه عدوا، وكان يفي بشرطهم ويحترم عهدهم حتى تبدو منهم الخيانة ويمدوا أيديهم إلى مساعدة أعدائه المحاربين، قال تعالى:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ، وقال:
إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين .
وما برح
صلى الله عليه وسلم
يقاتل محاربيه على مقتضى العدل والحزم إلى السنة الثامنة أو التاسعة من الهجرة،
2
فشرعت وقتئذ الجزية ونزلت آية:
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فكان عليه الصلاة والسلام يقبل من أهل الكتاب الجزية ويقرهم في أمن على نفوسهم وأموالهم، وحرية من إقامة شعائر دينهم، وقبل الجزية من المجوس أيضا وقال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب.»
3
ومن أهل العلم من وقف في قبول الجزية عند حد ما ورد في الكتاب والسنة، ومنهم من ذهب إلى أنها تقبل من كل مخالف أيا كانت نحلته، قال القاضي أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي: «قال ابن القاسم صاحب الإمام مالك: «إذا رضيت الأمم كلهم بالجزية قبلت منهم.» وقال ابن حجر في الفتح:
4 «وقال مالك: تقبل من جميع الكفار إلا من ارتد. وبه قال الأوزاعي وفقهاء الشام.»
وصار المخالفون بعد تقرير الجزية إلى أنواع ثلاثة: أهل عهد، وأهل ذمة، ومحاربين. ومن تتبع سير الجهاد النبوي ينتزع منه أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يحمل المحاربين من مشركي العرب على الإسلام أو السيف؛ إذ كان الفساد الذي ينشأ عن الوثنية والمزاعم المتفرعة عنها وباء يفتك بالعقول والأخلاق، ويفتح على الإنسانية ينبوع شر ليس له من آخر، وكان مع هذا ينهى عن قتل الشيوخ والأطفال والنساء، ويطلق سراح الأسرى؛ إما منا وإما فداء. وبعد أن استقر الأمر على حكم قبول الجزية أصبح الجهاد النبوي بعيدا عما يشبه أن يكون من مظاهر الإكراه في الدين، كما أنه لا يخطر على بال مسلم أن الجهاد النبوي إنما يكون لتثبيت السلطان وتوسيع الملك.
إذن ما هي الغاية من الجهاد؟
الإسلام عقيدة وشريعة ونظام اجتماعي، فهو بالنظر إلى أصول العقائد التي هي باب الإيمان به إنما يدعى إليه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ إذ لا يمكن لبشر أن يدخل في قلب بشر عقيدة إلا أن يقرنها بما يثبتها في النفس من برهان أو إقناع، وأما الشرائع والنظم الاجتماعية فإن التجربة في القديم والحديث دلت على أنها لا تقوم في أمة ولا يطرد نفاذها إلا أن تكون شدة البأس بجانبها، والسيوف من ورائها، فلا بد للإسلام من دولة ذات شوكة لتقوم على إجراء هذه الشرائع والنظم، وتحول بينها وبين قوم لا يبصرون.
ثم إن ظهور الحق بمظهر العزة والمنعة مما يجذب إليه النفوس، ويحبب إليها التقرب منه، وربما انقلبت إلى تأييده بعد أن كانت من خصومه الألداء، فلا بد أيضا من بسط ظل الإسلام وإعلاء رايته على دائرة واسعة من البسيطة؛ حتى لا تكون فتنة، وحتى يدرك المخالفون الذين يقيمون تحت سلطانه أنه دين التوحيد الخالص، والشريعة القيمة، والآداب السامية، فيعتنقونه عن عقيدة صادقة، ونفس راضية، وكذلك كان أثر الجهاد في البلاد التي انقلبت إسلامية في عقائدها وآدابها وسائر شئونها الاجتماعية. •••
قال المؤلف في ص53: «وما عرفنا في تاريخ الرسل رجلا حمل الناس على الإيمان بالله بحد السيف، ولا غزا قوما في سبيل الإقناع بدينه، وذلك هو نفس المبدأ الذي يقرره النبي
صلى الله عليه وسلم
فيما كان يبلغ من كتاب الله، قال الله تعالى:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ، وقال:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، وقال:
فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر ، وقال:
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ،
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين . تلك مبادئ صريحة في أن رسالة النبي
صلى الله عليه وسلم
كرسالة إخوانه من قبل إنما تعتمد على الإقناع والوعظ.»
من الجلي الواضح أن الرسول لا يغزو قوما في سبيل الإقناع بدينه؛ فإن للحجة عملا لا يقوم به السيف، كما أن للسيف عملا لا تنهض به الحجة، فالحجة تلج بالعقيدة إلى أعماق القلوب. وهذا عمل لا تنهض به السيوف وإن كانت مشرفية، ولا الرماح وإن كانت سمهرية، والسيف يحمل الناس على الشرائع واحترام النظم الاجتماعية، وهو عمل قد تذهب الحجة دونه ضائعة وإن لبست بردة الفصاحة من منطق سحبان، أو قلم الفتح بن خاقان.
فالجهاد لا يقصد به نقل القلوب من الضلال إلى الهدى، وإشرابها الإيمان في الحال، وعدم إمكان هذا المعنى لا يمنع من أن يراد من الجهاد النبوي قبل شرع الجزية كف أذى القبائل المشركة العاثية في الأرض فسادا، وإلباسها ثوب الإسلام ولو في الظاهر؛ لتدخل في نظام وشريعة، ويرجى منها بعد مشاهدة أنوار النبوة مرة بعد أخرى أن تدرك الحق حقا فينقلب جهلها علما، ونفاقها إيمانا، وتستنير صدورها كما صلحت ظواهرها.
والجهاد لهذا القصد يلتئم مع قوله تعالى:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، فإن الجهاد الذي يساق به الوثنيون إلى الإسلام يقصد به إصلاح ظواهرهم، والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن يقصد به إخراج القلوب من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان.
وقوله تعالى:
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ، إنما يفهم منه إنكار أن يكون في استطاعة البشر إدخال الإيمان في القلوب بوسائل القسر والإكراه.
وقوله تعالى:
وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ، وقوله:
فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر
هما من الآيات التي كانت تنزل قبل مشروعية الجهاد لتسلية النبي
صلى الله عليه وسلم
حين يشتد به الحزن من إعراض المشركين عن سبيل الهدى، وتكاد نفسه الشريفة تذهب عليهم حسرات.
وقوله تعالى:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ، تتمشى مع شرع الجهاد أيضا؛ إذ يجوز أن يكون المراد من الآية نفي أن يكون «في الدين إكراه من الله وقسر ، بل مبنى الأمر على التمكين والاختيار، ولولا ذلك لما حصل الابتلاء، ولبطل الامتحان. وإلى ذلك ذهب القفال.»
5
وإذا نظرنا إلى أن الآية نزلت بعد تقرر حكم الجزية كان معنى الآية: «إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ورضاه بحكم الإسلام.»
6
فرسالة النبي
صلى الله عليه وسلم
تعتمد على الحجة والإقناع والموعظة، وكانت تتخذ الجهاد دفعا لأذى المشركين، وعونا على بث الدعوة إلى سبيل رب العالمين. •••
قال المؤلف في ص53: «وإذا كان
صلى الله عليه وسلم
قد لجأ إلى القوة والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين، وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك، ولتكوين الحكومة الإسلامية، ولا تقوم حكومة إلا على السيف، وبحكم القهر والغلبة، فذلك عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه.»
من مقاصد الإسلام الأساسية أن تكون لأهله دولة ليس لمخالف عليها من سبيل، ولم يكن المقتضي لإقامة هذه الدولة ما يخطر على طلاب الملك من التباهي بالرياسة والتمتع بملاذ هذه الحياة، وإنما يقصد الإسلام من تأسيس الدولة الإسلامية أمرين:
أحدهما:
إجراء أحكامه العادلة ونظمه الكافلة بسعادة الحياة؛ إذ لا يقوم عليها بحق إلا من آمن بحكمتها، وأشرب قلبه الغيرة على تنفيذها.
ثانيهما:
الاحتفاظ بكرامة أوليائه وإعزاز جانبهم حتى لا يعيشوا تحت سلطة مخالف يدوس حقوقهم، ويرفع أبناء قومه أو ملته عليه درجات.
فالنبي
صلى الله عليه وسلم
إنما أقام الحكومة الإسلامية لهذين المقصدين اللذين يتجليان في كثير من الآيات كقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، وقوله:
وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون .
ولقد أقام النبي
صلى الله عليه وسلم
حكومة رفعها المسلمون على رءوسهم، وتلقوا تشريعها وتنفيذها بقلوبهم. والقوة والرهبة إنما كان يعدها لمن يبدءونه بالقتال أو يبيتون المكيدة لأخذه على غرة، أو يقفون في سبيل دعوته، ولم يجاهد في سبيل الملك قط، وإنما كان يجاهد بإذن الله وفي سبيل الله.
وقول المؤلف: «فذلك عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه.» إنما هو النافقاء يبنيها اليربوع حتى إذا حوصر من باب خرج من آخر وذهب بسلام، ولا ندري ماذا يريد بقوله «عندهم»، والظاهر أنه لم يرد بذلك علماء الإسلام، فإنه قال في صدر الباب: إنه لا يعرف لأحد من العلماء رأيا صريحا في بحث أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان ملكا أم لا. ولو قالوا: إن الجهاد النبوي كان في سبيل الملك لكان هذا القول صريحا في ذهابهم إلى أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان ملكا.
على أننا لا نعلم ولا يمكن أن نعلم أن أحدا من علماء الإسلام يذهب إلى أن الجهاد النبوي كان في سبيل الملك، وكيف تصدق أن يذهب أحد إلى هذا السفساف وأنت لا تتلو قرآنا أو حديثا في الجهاد إلا وجدته يصرح ويرشد إلى أن يكون «في سبيل الله»؟ •••
ثم أتى المؤلف بمثل آخر من أمثلة الشئون الملكية؛ وهو ما كان في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
من العمل المتعلق بالشئون المالية من حيث جمع المال وتوزيعه بين مصارفه، ثم قال في ص54: «ولا شك أن تدبير المال عمل ملكي، بل هو أهم مقومات الحكومات، على أنه خارج عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وبعيد عن عمل الرسل باعتبارهم رسلا فحسب.»
الذي يعرفه رجال العلم أن تحديد وظيفة الرسول يرجع إلى إرادة المرسل، فهو الذي يحد له العمل الذي يقوم به ويبلغه عنه، ومعرفة أن هذا العمل داخل في وظيفة الرسول إنما تتلقى من الأدلة السمعية التي يصدق بها المؤمنون برسالته.
إذن كل عمل يقوم الدليل على أن الرسول عليه السلام فعله عن وحي فهو داخل في وظيفته، ولا ريب في أن التدبير المالي الذي ذكره المؤلف كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يقوم به بأوامر إلهية؛ مثل قوله تعالى:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وقوله:
إنما الصدقات للفقراء
إلخ. وهل بعد هذا ينشرح صدر مسلم لأن يقول: إن تدبير النبي عليه السلام لأموال الزكاة والجزية وخمس الغنيمة بعيد عن عمل الرسل من حيث إنهم رسل؟! •••
قال المؤلف في ص55: «إذا ترجح عند بعض الناظرين اعتبار تلك الأمثلة، واطمأن إلى الحكم بأنه
صلى الله عليه وسلم
كان رسولا وملكا، فسوف يعترضه بحث آخر جدير بالتفكير؛ فهل كان تأسيسه
صلى الله عليه وسلم
للمملكة الإسلامية وتصرفه في ذلك الجانب شيئا خارجا عن حدود رسالته
صلى الله عليه وسلم ، أم كان جزءا مما بعثه الله له وأوحى به إليه؟»
نفث المؤلف كلمة الارتياب في أن للنبي عليه الصلاة والسلام رياسة سياسية، وأفتى بأن إنكار ذلك لا يمس جوهر الدين، فصادمته أعمال من السيرة النبوية لا تصدر إلا ممن قبض على زمام السياسة، فأخذ يقلل من شأنها ويسميها: «بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة.»
ثم خشي أن لا يجد الارتياب إلى قلوب بعض القارئين منفذا فيخرجوا بضمائر طاهرة، فسولت له نفسه أن يهمس في آذان الذين اطمأنوا إلى الحكم بأنه
صلى الله عليه وسلم
كان رسولا ملكا، ويفتنهم من ناحية أخرى؛ وهي أن تأسيس النبي
صلى الله عليه وسلم
للمملكة الإسلامية وتصرفه في ذلك الجانب: هل كان خارجا عن حدود الرسالة، أو كان جزءا مما أوحي به إليه؟ •••
قال المؤلف في ص55: «فأما أن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام وخارج عن حدود الرسالة؛ فذلك رأي لا نعرف في مذاهب المسلمين ما يشاكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفرا ولا إلحادا»!
كان المؤلف يرجو أن يجد في مذاهب المسلمين القول بأن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام وخارج عن حدود الرسالة، ولكنه لم يعرف ما يشاكل ذلك، ولا يذكر في كلامهم ما يدل عليه، وأراد أن يجعل لهذا الرأي المنشق عن الآراء الإسلامية مكانا في النظر، فشهد له بالصلاح لأن يكون مذهبا، وأذن للإيمان بأن يلتقي معه في نفس واحدة .
سبق للمؤلف آنفا أن ذكر في الشئون الملكية الجهاد والزكاة والجزية والغنائم، وساق الكلام فيها على أسلوب يخيل إلى القارئ أنها لم تجئ عن طريق الوحي، وإذ صرف قلمه عن آيات الجهاد وآيات الزكاة والغنائم بدا له أن المجال فسيح، وطفق يشهد للآراء المطوية على الكيد للإسلام باللياقة لأن تكون مذهبا.
تصرف النبي
صلى الله عليه وسلم
في مثل الجهاد والزكاة والجزية والغنائم يستند إلى صريح القرآن، فلا مفر لمنكره من الوقوع في حمأ الإلحاد، ولا أراني في حاجة إلى نقل شيء من نصوص الراسخين في علم الشريعة وفتواهم بأن من أنكر حقيقة معلومة من الدين بالضرورة فقد انقلب على عقبه مدبرا عن الإسلام، ولا يحق له بعد ذلك الإنكار أن يتأثم من المسلمين إذا طرحوه من حساب أولياء دينهم الحنيف. •••
قال المؤلف في ص55: «لا يهولنك أن تسمع أن للنبي
صلى الله عليه وسلم
عملا كهذا خارجا عن وظيفة الرسالة، وأن ملكه الذي شيده هو من قبيل العمل الدنيوي الذي لا علاقة له بالرسالة، فذلك قول إن أنكرته الأذن - لأن التشدق به غير مألوف في لغة المسلمين - فقواعد الإسلام ومعنى الرسالة وروح التشريع وتاريخ النبي
صلى الله عليه وسلم
كل ذلك لا يصادم رأيا كهذا ولا يستفظعه، بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسندا، ولكنه على كل حال رأي نراه بعيدا.»
قد عرفت فيما سلف أن المؤلف يعني بالداخل في حدود الرسالة ما تقرر بوحي، وبالخارج عنها ما لم يكن كذلك. ومما هو صريح في هذا المعنى قوله فيما نقلناه آنفا: «وتصرفه في ذلك الجانب شيئا خارجا عن حدود رسالته، أم كان جزءا مما بعثه الله به، وأوحى به إليه؟»
وبعد أن يريد بالخارج عن وظيفة الرسالة ما لم يكن مستندا إلى وحي، ويذكر من شئون الملك الجهاد والزكاة والجزية والغنائم يقول: إن الاعتقاد بأن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام وخارج عن وظيفة الرسالة ليس بكفر ولا إلحاد، وإن معنى الرسالة وروح التشريع وتاريخ النبي
صلى الله عليه وسلم
كل ذلك لا يصادمه ولا يستفظعه. وتطاول بعد هذا إلى دعوى أنه يوجد ما يصلح له دعامة وسندا.
لا يهول المسلم أن يسمع من مخالف أن عملا كالجهاد والتصرف في شئون الزكاة والجزية والغنيمة كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يتولاه من نفسه دون أن يهبط عليه وحي بذلك، فإن المخالف لا يصدق بالقرآن ولا يطمئن لإجماع، وإنما يهول المسلم أن يسمع رجلا نبت في بيت إسلامي، وشب في معهد ديني وهو يتشدق بهذا الرأي، رافعا به عقيرته شأن من لم يطرق أذنه أمثال قوله تعالى :
انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ، وقوله تعالى:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وقوله تعالى:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ، وقوله تعالى:
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
وإذا كانت الشئون الحربية والمالية والقضائية مما جاء به صريح القرآن، فأي شبهة تبقى بيد من يزعم أن قواعد الإسلام ومعنى الرسالة وروح التشريع وتاريخ النبي
صلى الله عليه وسلم
لا تصادم القول بأن تأسيس المملكة خارج عن وظيفة الرسالة؟
ولا ندري ما هذا الأمر الذي يصلح أن يكون دعامة وسندا لرأي لو علق طلاؤه بأذهان المسلمين لنبذوا شطر كتاب ربهم وسنة رسولهم، وكانوا من القوم الذين خسروا أنفسهم وهم لا يشعرون!
وقول المؤلف: «ولكنه على كل حال رأي نراه بعيدا.» إنما هو النافقاء يبنيها عقب آراء يثيرها في وجه الحقيقة، ويقنع من أثرها بالتشكيك، ولو جاءت هذه الكلمة كما تجيء الكلمات التي تقتضيها طبيعة البحث لنبه على وجه بعده، كما أجمع أمره على تقريبه وتأييده. •••
تعرض المؤلف للقول بأن المملكة النبوية جزء من عمل الرسالة متمم لها وداخل فيها، وقال: ذلك الرأي الذي تتلقاه نفوس المسلمين فيما يظهر بالرضا، ثم قال في ص56: «ومن البين أن ذلك الرأي لا يمكن تعقله إلا إذا ثبت أن من عمل الرسالة أن يقوم الرسول، بعد تبليغ الدعوة، بتنفيذها على وجه عملي؛ أي أن الرسول يكون مبلغا ومنفذا، غير أن الذين بحثوا في معنى الرسالة، ووقفنا على مباحثهم أغفلوا دائما أن يعتبروا التنفيذ جزءا من حقيقة الرسالة، إلا ابن خلدون؛ فقد جاء في كلامه ما يشير إلى أن الإسلام دون غيره من الملل الأخرى قد اختص بأنه جمع بين الدعوة الدينية وتنفيذها بالفعل.»
يدع المؤلف دلائل الشريعة ونصوص العلماء القائمة على أن التنفيذ جزء من وظيفة النبي
صلى الله عليه وسلم ، ويلقي قلمه في مهاب الشبه تخفق به من أمام إلى وراء، ومن اليمين إلى الشمال، يريد أن يتخذ من بحث أهل العلم في معنى الرسالة دليلا على أن التنفيذ غير داخل في وظيفة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وقد حام على غير هدى، وتشبث بأوهى من عهد دولة استعمارية!
إن الذين يبحثون عن الحقائق العامة إنما يشرحونها بالمعنى الذي تشترك فيه جميع أفرادها، وليس عليهم أن يتعرضوا لما يتصل بها من مقتضيات، أو ينضم إلى بعض أفرادها من مميزات، فإذا قالوا: «الرسول إنسان بعثه الله إلى الخلق لتبليغ الأحكام.»
7
فإنما أرادوا تحديد المعنى الذي يتحقق به مفهوم الرسالة، وهذا لا يمنع أن يكون في الرسل عليهم السلام من أوحي إليه بتنفيذ ما أمر بتبليغه، فيكون التنفيذ داخلا في وظيفته، وكذلك كان التنفيذ للأحكام الشرعية داخلا في وظيفة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وملقى عليه عبؤه الثقيل من طريق الوحي، فيصح أن يكون مميزا من مميزات رسالته وإن لم يكن جزءا من المعنى الذي يحدون به الحقيقة العامة للرسالة. •••
بعد أن حكى المؤلف ما كتبه ابن خلدون في الفصل الذي تكلم فيه عن اسم البابا والبطرك والكوهن، قال في ص57: «فهو كما ترى يقول: إن الإسلام شرع تبليغي وتطبيقي، وإن السلطة الدينية اجتمعت فيه والسلطة السياسية، دون سائر الأديان.» ثم قال: «لا نرى لذلك القول دعامة، ولا نجد له سندا، وهو على ذلك ينافي معنى الرسالة، ولا يتلاءم مع ما تقضي به طبيعة الدعوة الدينية كما عرفت.»
ادعى المؤلف أنه لا يرى للقول بأن الإسلام شرع تبليغي وتطبيقي دعامة، ولا يجد له سندا، وعزز هذه الدعوى بكلمة لا يحتمل تبعتها المنطقية إلا من شعر بأنه في بيئة تلذ صرير الأقلام المحاربة لدين الحق، وإن دمرت منطق أرسطو وطمست معالم الحكمة، وهي زعمه أن ذلك القول ينافي معنى الرسالة ولا يلتئم مع ما تقتضيه طبيعة الدعوة الدينية.
يقول المؤلف: لا نرى لذلك القول دعامة، وهذه كتب السنة مملوءة بالأحاديث الصريحة في أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر بالقاتل فيقتص منه، وبالسارق فتقطع يده، وبالزاني فيجلد أو يرجم، وبشارب الخمر فيضرب بالجريد أو النعال، وفي صحيح البخاري : «أنه قام عليه السلام فخطب فقال: يا أيها الناس، إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطع محمد يدها.»
زعم المؤلف أن ذلك القول ينافي معنى الرسالة، ولا يتلاءم مع مقتضى طبيعة الدعوة، وهذا الزعم ينافي الواقع ولا يتلاءم مع ما تقضي به طبيعة البحث المنطقي.
أما منافاته للواقع فإن الله تعالى أمر رسوله بإبلاغ الناس قوله تعالى:
وآتوا الزكاة ، وقال له:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وأما عدم ملاءمته لمقتضى البحث المنطقي؛ فإن التنافي يرادف التناقض، والمعنى أن القول بأن الإسلام تبليغي وتطبيقي يقتضي نفي معنى الرسالة، ومعنى الرسالة يقتضي نفيه. وهذا الحكم غير صحيح؛ إذ لا يصح إلا إذا كان في معنى التبليغ والتنفيذ ما يجعلهما متنافيين، والمعقول أنهما ليسا بمتنافيين، ولا أن الجمع بينهما يعود بخلل عليهما أو على أحدهما، وهل من عقل يشعر بتناقض في قولك لشخص: بلغ بني تميم أن يتعلموا المنطق حتما، ومن رأيته يخرج في كلامه عن قانون المنطق فقومه بالتي هي أحكم؛ حتى تحمله على طريقة التفكير الصحيح. •••
قال المؤلف في ص57: «إذا كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد أسس دولة سياسية، أو شرع في تأسيسها، فلماذا خلت دولته إذن من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم؟ ولماذا لم نعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟ ولماذا؟ ولماذا؟ نريد أن نعرف منشأ ذلك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام أو اضطراب أو نقص، أو ما شئت فسمه، في بناء الحكومة أيام النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان ذلك؟ وما سره؟»
ألقى المؤلف هذه الشبه وهو يحسبها قذائف تهدم حصون الدولة الإسلامية، ولا إخالها تنشب بذهن مسلم وقف على شيء من حكمه التشريع، ووزن أقدار الصحابة - رضي الله عنهم - بالقسطاس المستقيم. وإن شئت جوابا قريب المأخذ، وجيز القول؛ فإليك الجواب: عنيت الشريعة في الأكثر بتفصيل ما لا تختلف فيه مصالح الأمم، ولا يتغير حكمه بتغير الزمان والمكان، وذلك ما يرجع إلى العقائد والأخلاق ورسوم العبادات، ثم جاءت إلى قسم المعاملات والسياسات فأتت على شيء قليل من تفاصيله، وطوت سائره في أصول عامة لحكم ثلاث:
إحداها:
أن أحكام هذا القسم تختلف بحسب ما يقتضيه حال الزمان وتطور الشعوب، فإذا وقعت الواقعة أو عرضت الحاجة نظر العالم في منشئها وما يترتب عليها من أثر، واستنبط لها حكما بقدر ما تسعه مقاصد الشريعة ومبادئها العليا.
ثانيتها:
أن وقائع المعاملات والسياسات تتجدد في كل حين، والنص على كل جزئية غير متيسر، علاوة على أن تدوينها يستدعي أسفارا لا فائدة للناس في كلفة حملها.
ثالثتها:
أن الشريعة لا تريد أسر العقول وحرمانها من التمتع بلذة النظر والتسابق في مجال الاجتهاد.
فإذا كانت الأحكام والنظم تفصل على ما يقتضيه حال الشعوب، وكانت وقائع المعاملات والسياسات لا تنقضي، وكان شارع الإسلام يراعي حق العقل ولا يريد حصره في دائرة ضيقة، فهل من العقل أو من الصواب أن يقول قائل: لماذا لم يتحدث النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟
إن هذا السؤال لا يصدر من سليم الطوية إلا إذا فاته أن يدنو من روح التشريع، ولم يكن من أصول الدين على بينة؛ فإن الشريعة ترشد إلى المصالح، وتأمر بالقيام بها، ثم تترك وسائل إقامتها على الوجه المطلوب إلى اجتهادات العقول، قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب الموافقات:
8 «كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص؛ فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف. وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى ... وكل دليل ثبت فيه مقيدا غير مطلق، وجعل له قانون وضابط؛ فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها.»
ولنضرب المثل لهذه السنة الشرعية بقاعدة الشورى نفسها: فالإسلام أرشد إلى الشورى بقوله تعالى:
وأمرهم شورى بينهم ، وقصد إلى إقامتها على وجه ينفي الاستبداد، ويجعل الحكام لا يقطعون أمرا حتى تتناوله آراء أهل الحل والعقد، وأبقى النظر في وسائل استطلاع الآراء إلى اجتهاد أولي الأمر وإلى ألمعيتهم؛ فهم الذين يدبرون النظم التي يرونها أقرب وأكمل، فيستطلعون الآراء باقتراع سري أو علني، بالكتابة أو برفع الأيدي أو بالقيام، ولهم النظر في تعيين من يستفاد من آرائهم وكيفية انتخابهم.
فالشريعة تحدثت في نظام السياسة وفي قواعد الشورى، ولكن بلسان أوتي جوامع الكلم، وخطاب يفهمه الذين يحملون في صدورهم قلوبا باصرة، وسرائر خالصة.
يقول المؤلف: لماذا لم نعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟
جواب هذا السؤال هو ما كنا بصدد بيانه من أن الشريعة يهمها أن يقوم القضاء على القانون العادل ورعاية الحقوق، وقد سنت القوانين العادلة وأرشدت إلى بعض النظم القضائية بتفصيل، ولوحت بسائرها إلى اجتهاد القاضي وذكائه، فيتبع ما يلائم طبيعة الحال ومقتضى المصلحة. وقد كان قضاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من العلم والكفاية لهذا المنصب بالمكانة العليا، ولم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - بمنزلة الأميين الذي يعيشون في دائرة محدودة من التعقل، بل كانوا يتفقهون في مقتضيات الاجتماع، ويغوصون على فهم السنن الكونية، ويعرفون كيف ينتزعون الأحكام من مآخذها. يشهد بهذا كله التاريخ الصحيح وآثارهم في قلب العالم من هيئة متخاذلة بالية، إلى هيئة نظر إليها أساتذة السياسة بإعجاب، وخر لها عشاق العدالة سجدا.
إن المسلم الذي يصدق بما بين دفتي كتاب الله يجد في آياته:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، فما كان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقرءون الكتاب بألسنتهم وأفئدتهم هواء، وإنما كانوا يتدبرونه بفطر سليمة، وينظرون ماذا في السماوات وما في الأرض ببصائر نيرة، وما يتشابه عليهم من أمر يعرضونه على الرسول عليه السلام، فيكشف ما غم عنهم، ويهديهم إلى الذي هو أصلح وأبقى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة:
9 «وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء أرسل إليه سأله عنه، فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في حياته يعلم خلفاءه ما جهلوا، ويقومهم إذا زاغوا، ويعزلهم إذا لم يستقيموا.»
نشأت تلك العقول في أحضان الشرع الإسلامي، وارتضعت أفاويق الحكمة من ثدي النبوة، فكان لها شأن لا يعرف عظمته إلا ذو عقل رشيد.
كان الأمراء والقضاة لعهد النبوة من هذا الفريق السليم الفطرة، الواسع النظر، القائم على أصول الشريعة، المستضيء بنور التقوى، ومتى تحققت هذه المزايا في حاكم باتت الحقوق في أمن، وجرت الأمور على نظام، وما زاد على ذلك فإما أن يكون ضروريا ونافعا في حال دون حال، وإما أن يكون من قبيل «ما لا يدعو إليه طبع سليم، ولا ترضاه فطرة صحيحة». •••
قال المصنف في ص58: «قد يقول قائل يريد أن يؤيد ذلك المذهب بنوع من التأييد على طريقة أخرى: إنه لا شيء يمنعنا من أن نعتقد أن نظام الدولة زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان متينا محكما، وكان مشتملا على جميع أوجه الكمال التي تلزم لدولة يدبرها رسول من الله يؤيده الوحي، وتؤازره ملائكة الله، غير أننا لم نصل إلى علم التفاصيل الحقيقية ودقائق ما كانت عليه الحكومة النبوية من نظام بالغ وإحكام سابغ؛ لأن الرواة قد تركوا نقل ذلك إلينا، أو نقلوه ولكن غاب علمه عنا، أو لسبب آخر.»
هذا الجواب باطل، فإن الشريعة كاملة بكلياتها وجزئياتها، ولا يصح أن يضيع شيء من حقائقها: قرآنا أو سنة، قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب الموافقات:
10 «إن هذه الشريعة معصومة كما أن صاحبها
صلى الله عليه وسلم
معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة، ويتبين ذلك بوجهين:
أحدهما:
الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا كقوله تعالى:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، وقوله:
كتاب أحكمت آياته ... فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها، ولا يدخلها التغيير ولا التبديل، والسنة وإن لم تذكر فإنها مبينة له، ودائرة حوله؛ فهي منه وإليه ترجع في معانيها ...
والثاني:
الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى الآن؛ وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل. أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر فضلا عن القراء الأكابر ... ثم قيض الحق - سبحانه وتعالى - رجالا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم، وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابا وسنة، وعما كان عليه السلف الصالحون، وداوم عليه الصحابة والتابعون، وردوا على أهل البدع والأهواء حتى تميز اتباع الحق عن أتباع الهوى.»
هذا أحد نصوص علماء الإسلام المتعاقدة على أن الشريعة محفوظة لم يترك الرواة شيئا من أصولها، ولم يغب عن الباحثين بحق علمها. •••
ثم بدا للمؤلف أن يلتمس جوابا آخر عن «ذلك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام أو اضطراب أو نقص أو ما شئت فسمه.» فأملى عليه خياله أن أنظمة الدولة، التي هي اصطلاحات عارضة وأوضاع مصنوعة، لا تلائم بساطة الدين وبعده عن التكلف، وبعد أن أسهب في هذا المعنى وحشر فيما يزيد على صحيفتين كلاما متشابها وغير متشابه، وصفه بعدم الوجاهة والصحة وقال في ص62: «حق أن كثيرا من أنظمة الحكومة الحديثة أوضاع وتكلفات، وأن فيها ما لا يدعو إليه طبع سليم، ولا ترضاه فطرة صحيحة، ولكن من الأكيد الذي لا يقبل شكا أيضا أن في كثير مما استحدث في أنظمة الحكم ما ليس متكلفا ولا مصنوعا، ولا هو مما ينافي الذوق الفطري البسيط، وهو مع ذلك ضروري ونافع، ولا ينبغي لحكومة ذات مدنية وعمران أن تهمل الأخذ به.
وهل من سلامة الفطرة وبساطة الطبع مثلا أن لا يكون لدولة من الدول ميزانية تقيد إيرادها ومصروفاتها، أو أن لا يكون لها دواوين تضبط مختلف شئونها الداخلية والخارجية إلى غير ذلك - وإنه لكثير - مما لم يوجد منه شيء في أيام النبوة، ولا أشار إليه النبي
صلى الله عليه وسلم ، إنه ليكون تعسفا غير مقبول أن يعلل ذلك الذي يبدو من نقص المظاهر الحكومية زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
بأن منشأه سلامة الفطرة ومجانبة التكلف.»
لم يجئ في الشريعة تكليف بما لا يطيقه الإنسان قطعا، ولا بما يطيقه وفيه مشقة فادحة بحيث يتبرم منه ذو الفطرة السليمة، وينقطع دون المواظبة عليه إعياء وكللا، وأما ما فيه مشقة عهد من الناس احتمال أمثالها، بحيث يصبح بالاعتياد عليه كالأعمال التي تنساق إليها النفوس بطبيعتها، فهذا ما لا تتحاماه الشريعة، بل تأمره بما فيه مثل هذه المشقة لا قصدا للإعنات، بل نظرا إلى ما يترتب على العمل من مصلحة في هذه الحياة أو في تلك الحياة.
فسهولة الدين من حيث إنه وضع تكاليف يسهل على الناس القيام بها متى خففوا من طغيان الأهواء، وتدبروا في حكمة هذه التكاليف وحسن عاقبتها. وبهذا يتضح جليا أن سهولة الدين تلتئم مع الحقائق العائدة إلى أصول الحكم أو نظم السياسة .
وأما بساطته فمن جهة أنه خرج للناس في صورة موجزة جامعة، قال
صلى الله عليه وسلم : «بعثت بجوامع الكلم.»
11
ومعناه أن شريعته جاءت بأقوال ذات ألفاظ وجيزة، ومعان واسعة، فلوجازتها يسهل حفظها، ولسعة معانيها كانت الحقوق والآداب ماثلة في تعاليمها مأخوذة من جميع أطرافها.
ولهذه البساطة كان النبوغ في علوم الشريعة والبلوغ فيها إلى مكانة الاجتهاد والإفتاء ليس بالأمر المتعسر، ولا بالأمر الذي يحتاج إلى زمن طويل متى كان أسلوب تعليمها وتلقيها بنظام. ولا أضرب المثل بالعصر الأول يوم كانت وسائل العلم بها من لغة ونحو وبيان مطوية في ألسنة القوم فطرة، بل أضرب المثل بالعصور التي أصبحت فيها هذه الوسائل علوما تدرس كما يدرس التفسير والحديث والعقائد: بلغ حجة الإسلام الغزالي في العلم مكانا عاليا، وصار من الأعلام المشار إليهم بالبنان في عهد أستاذه إمام الحرمين، وعمره يوم توفي إمام الحرمين نحو ثمان وعشرين سنة.
وتلقى القاضي أبو بكر بن العربي مبادئ العلوم بالأندلس ثم رحل إلى المشرق وقد أدرك السابعة عشرة من عمره، فدخل مصر والحجاز والشام والعراق ثم انصرف بعد ثمانية أعوام وهو بحر في علوم الشريعة، إمام في فنون اللغة العربية، حتى قالوا: إنه قدم الأندلس بعلم غزير لم يدخل أحد قبله بمثله. ولا أطيل في ضرب الأمثلة من أنباء الرجال الذين دخلوا في زمرة العلماء الراسخين، وامتلأت الحقائب من نفائس تحريراتهم وهم لا يزالون في عهد شبيبتهم؛ فإن الغرض بيان معنى بساطة الدين وكون أصوله تحمل أحكاما وآدابا لا يحيط بها حساب.
والبساطة بهذا المعنى من مزايا الإسلام ودلائل نبوة المبعوث به، ولكن المؤلف يقلب الحقائق أو تنقلب في نظره الحقائق، فلم يقدر هذه البساطة حق قدرها، ونزع إلى إنكار أن يكون الإسلام شريعة وسياسة، بدعوى أنه أهمل ما ينبغي للحكومات من أركان وأنظمة! وقد كان بعض الغربيين من غير المسلمين أصفى خاطرا وأقرب إلى الإنصاف منه؛ حيث شهدوا للإسلام بهذه المزية كما قال أرغوهارت في كتاب روح الشرق:
12
إن الإسلام منح الناس قانونا فطريا بسيطا غير أنه قابل لأعظم الترقيات الموافقة لرقي المدنية المادية. إنه منح الحكومة دستورا يلائم الحقوق والواجبات البشرية أشد الملاءمة؛ فقد حدد الضرائب، وساوى بين الخلق في نظر القانون، وقدس مبادئ الحكم الذاتي، وأوجد الرقابة على الحاكم بأن جعل الهيئة التنفيذية منقادة للقانون المقتبس من الدين والواجبات الأخلاقية.
إن حسن كل واحد من هذه المبادئ، التي يكفي كل واحد منها لتخليد ذكرى واضعه، قد ضاعف في أهمية مجموعها، وأصبح للنظام المكون منها قوة ونشاط تفوق أي نظام سياسي آخر.
إن هذا النظام مع أنه وضع في أيدي قوم أميين، استطاع أن ينتشر في ممالك أكثر مما فتحته روما، في عهد لا يتجاوز عمر الفرد، ولقد استمر منتصرا لا يمكن إيقافه مدة محافظته على شكله الفطري.
هذا ما يقوله غير المسلم، وذلك ما يقوله القاضي الشرعي. وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب ... •••
يقول المؤلف: «إلى غير ذلك مما لم يوجد منه شيء في أيام النبوة ولا أشار إليه النبي
صلى الله عليه وسلم .» إن القارئ ليبتسم لهذه الجملة عجبا، بل يتمزق لها قلبه أسفا! فإن هذه المقالة إن صح أن تخرج من فم عالم، فإنما تصدر من حافظ حجة خاض في علم السنة وعرف الصحيح والضعيف والموضوع، ونقد الأسانيد بقانون علمي مستقيم، ولكن المؤلف لم يزل في طبقة من ينقلون الأحاديث من الكامل للمبرد،
13
وأصحاب هذه الطبقة لا يدخلون في حساب علماء الشريعة وإن وضعوا على رءوسهم عمائم وجلسوا مجلس الفتوى أو الحكم بين الناس.
الباب الثالث
رسالة لا حكم، ودين لا دولة
النقض - المؤلف يدخل في الإسلام ما يتبرأ منه التوحيد الخالص - الاعتقاد بحكمة الأمر لا يكفي للعمل به - خطأ المؤلف في الاستشهاد بآيات على أن وظيفة الرسول لا تتجاوز حدود البلاغ - خطأ المؤلف في حمل آيات على القصد الحقيقي - خطأ المؤلف في فهم حديثين - الشريعة فصلت بعض أحكام ودلت على سائرها بأصول يراعى في تطبيقها حال الزمان والمكان - الاجتهاد في الشريعة وشرائطه - فتوى منظومة لأحد فقهاء الجزائر. ***
ملخصه
خاطب قارئ كتابه يذكره بتلك العقبات التي أقامها في وجه من يعتقدون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان رسولا ومؤسسا لدولة سياسية، ويوحى إليه بأن هؤلاء القوم كلما حاولوا أن يقوموا من عثرة لقيتهم عثرات، وزعم أنه لم يبق إلا مذهب واحد خال من المشاكل؛ وهو القول بأن محمدا
صلى الله عليه وسلم
ما كان إلا رسولا، وأنه لم يكن له ملك ولا حكومة، ولكن الرسالة لذاتها تستلزم للرسول نوعا من الزعامة، وبعد أن أطال الحديث عن هذه الزعامة وما لها من السلطان، قال: ولاية الرسول على قومه ولاية روحية، وولاية الحاكم ولاية مادية .
وذهب إلى أن الإسلام إنما هو وحدة دينية، وأن من أراد أن يسمي تلك الوحدة الدينية ملكا أو خلافة فهو في حل من أن يفعل، وزعم أن ظواهر القرآن تؤيد القول بأن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يكن له شأن في الملك السياسي، وساق على هذا بعض آيات تخيل أنها تسعده فيما يدعي، وقال: إن هذه الآيات صريحة في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ الرسالة إلى الناس، وليس عليه أن يأخذهم بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه.
وادعى أن الأمر في السنة أصرح، والحجة فيها أقطع، واستشهد بحديثين من السيرة النبوية لزيني دحلان، وتخلص من هنا إلى أن أخذ العالم بدين واحد معقول، وأما أخذه بحكومة واحدة وجمعه تحت وحدة سياسية، فيوشك أن يكون خارجا عن طبيعة البشرية، وزعم أن السياسة من الأغراض الدنيوية التي خلى الله بينها وبين عقولنا، والتي أنكر النبي
صلى الله عليه وسلم
أن يكون له فيها تدبير، واستخلص من البحث أن القرآن والسنة، وحكم العقل، وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها، كل ذلك يمنعه من اعتقاد أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية.
النقض
قال المؤلف في ص64: «رأيت إذن أن هنالك عقبات لا يسهل أن يتخطاها الذين يريدون أن يذهب بهم الرأي إلى اعتقاد أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يجمع إلى صفة الرسالة أنه كان ملكا سياسيا، ومؤسسا لدولة سياسية، رأيت أنهم كلما حاولوا أن يقوموا من عثرة لقيتهم عثرات، وكلما أرادوا الخلاص من ذلك المشكل عاد ذلك المشكل عليهم جذعا.»
يعتقد المسلمون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان رسولا نبيا ومؤسس دولة سياسية، وساروا على هذه العقيدة ألفا وثلاثمائة سنة فلم يجدوا في طريقهم مشكلا تتعثر فيه أفهامهم، أو قتام شبهة يثور في أذهانهم، فضلا عن عقبات تقوم في وجوههم، ولكن المؤلف بين خطتين: إما أن يكون تلقى الدين بصورة جامدة، ولم يدرك أنه يرشد إلى الحقائق والمصالح، ويدع كثيرا من وسائلها إلى اجتهادات العقول وما يقتضيه حال الشعوب، وإما أن يكون عرف الحقيقة وأثار حولها هذه الضجة ليكتم صوتها؛ حتى لا يسمع الناس إلا نغمة الإباحية الفاسقة. •••
قال المؤلف في ص64: «لم يبق أمامك بعد الذي سبق إلا مذهب واحد، وعسى أن تجده منهجا واضحا، لا تخشى فيه عثرات، ولا تلقى عقبات، ولا تضل بك شعابه، ولا يغمرك ترابه، مأمون الغوائل، خاليا من المشاكل ذلك هو القول بأن محمدا
صلى الله عليه وسلم
ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة، وأنه لم يكن للنبي
صلى الله عليه وسلم
ملك ولا حكومة، وأنه
صلى الله عليه وسلم
لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها، ما كان إلا رسولا كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكا ولا مؤسس دولة ولا داعيا إلى ملك.»
الرأي الذي يقصده المؤلف - حسبما تصرح به ألفاظه وما يسوق عليه من الشبه - هو أن النبي
صلى الله عليه وسلم
مبلغ فقط، ولم يكن من وظيفته تنفيذ ما أوحي إليه بتبليغه، وأنه لم يأت بشريعة لها مساس بالقضاء وسياسة الدولة! وهو رأي لم ينسج على أصل شرعي، ولم يقم على بحث علمي، ولكن الافتتان بزخرف الحياة الإفرنجية يخامر العقل، فإذا الخيال ينقر بالقلم ما شاء أن ينقر، ويقلب صور الحقائق إلى ما لا يخطر على قلب أفاك أثيم. •••
قال المؤلف في ص67: «قد يتناول الرسول من سياسة الأمة مثل ما يتناول الملوك، ولكن للرسول وحده وظيفة لا شريك له فيها: من وظيفته أن يتصل بالأرواح التي في الأجساد، وينزع الحجب ليطلع على القلوب التي في الصدور. له بل عليه أن يشق عن قلوب أتباعه؛ ليصل إلى مجامع الحب والضغينة، ومنابت الحسنة والسيئة، ومجاري الخواطر، ومكامن الوساوس، ومنابع النيات، ومستودع الأخلاق، وله عمل ظاهر في سياسة العامة، وله أيضا عمل خفي في تدبير الصلة التي تجمع بين الشريك والشريك، والحليف والحليف إلخ.»
علم المؤلف أن الرأي الذي حام عليه في الأبواب الماضية، وشمر عن ساقه ليخوض مستنقعه في هذا الباب، رأي لا يتلقاه قراء كتاب الله إلا بالرفض، ولا يعدون صاحبه إلا في زمرة من يتخذون آيات الله هزؤا، فكان من دهائه ولطف سحره أن أطلق قلمه في مدح رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والثناء عليه، من جهة يرى أن الإطناب فيها لا يمس برأيه، وبمثل هذا الرياء يمكنه اقتناص بعض المستضعفين من الأطفال والبله، ولعله لم يمد حبالته إلا قانعا بمن يقع فيها من أمثال هذه الطائفة. أما الذين ينظرون بنور الحكمة فإنهم يزنون الكتاب بروحه المطلة من خلال سطوره.
وإنك لتجد في هذه الجمل من الغلو في الوصف ما لم يذكره النبي
صلى الله عليه وسلم
عن نفسه، وإنما علق بقلم المؤلف من أثر ديانة أخرى؛ كقوله: «الرسالة تقتضي لصاحبها حق التصريف لكل قلب تصريفا غير محدود.» والتصريف للقلوب من صفات الألوهية التي لا يشاركها فيها مخلوق، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري
1
عند الكلام عن حديث: «لا ومقلب القلوب.» وآية:
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم : «والتقلب التصرف، وتقليب الله القلوب والبصائر صرفها من رأي إلى رأي ... وقال المعتزلة: معناه نطبع عليها فلا يؤمنون، والطبع عندهم الترك، وليس هذا معنى التقليب في لغة العرب، ولأن الله تعالى تمدح بالانفراد بذلك ولا مشارك له فيه ... وقال البيضاوي: في نسبة تقليب القلوب إلى الله إشعار بأنه يتولى قلوب عباده ولا يكلها إلى أحد من خلقه.»
ويمثل هذا تفقه أن قلم المؤلف يدس في الدين الإسلامي من عقائد الوثنية ما يتبرأ منه التوحيد الخالص، وتأباه الفطرة السليمة. •••
قال المؤلف في ص69: «ولاية الرسول على قومه ولاية روحية، منشؤها إيمان القلب وخضوعه خضوعا تاما يتبعه خضوع الجسم، وولاية الحاكم ولاية مادية تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون له بالقلوب اتصال. تلك ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه ولاية تدبير لصالح الحياة وعمار الأرض. تلك للدين، وهذه للدنيا. تلك لله، وهذه للناس. تلك زعامة دينية، وهذه زعامة سياسية. ويا بعد ما بين السياسة والدين!»
للرسول ولاية على قلوب أمته من أجل ما تحمله من تصديق رسالته، وإجلال مقامه، ومن مقتضيات التصديق برسالته الاعتقاد بحكمة ما يجيء به من أوامر ونواه، والاعتقاد بحكمة أمره ونهيه شأنه أن يبعث الجوارح إلى الإقدام على الفعل أو الإحجام عنه، ولكن ترتب الإقدام أو الإحجام على الاعتقاد بحكمة الأمر والنهي من باب ترتب السبب على مسببه، ومن المعروف أن تأثير السبب في وجود المسبب يتوقف على تحقق الشرط وفقد المانع، ومن موانع العمل على مقتضى العقيدة تغلب الأهواء وإيثار اللذة أو المنفعة العاجلة.
وليست هذه الأهواء ولا هذا الإيثار ناسخا للتصديق بالرسول، أو للاعتقاد بحكمة ما يأمر به أو ينهى عنه، وإنما هو حال يعرض للنفس حتى تصغر في نظرها صورة ما يترتب على ترك المأمور أو فعل المنكر من عاقبة خاسرة وعذاب أليم.
والدليل على أن ارتكاب الجنايات قد يدفع إليه طغيان الشهوة أو تخبط الغضب مع بقاء أصل الإيمان: أن الجاني بعد أن يشبع شهوته أو يشفي غيظه قد يعض سبابته ندما، من غير أن يجدد النظر في أصل إيمانه، أو في حال ما ارتكبه من منكر أو فحشاء.
فالنظر يقضي بأن الولاية على القلوب لا تكفي في صيانة الحقوق، وحفظ النفوس والأموال والأعراض، وأنه لا بد من ولاية يكون شأنها تنفيذ قوانين المعاملات والعقوبات فيمن يطغى به الهوى أو يتخبطه الغضب وإن كان من المؤمنين.
فولاية الرسول
صلى الله عليه وسلم
كانت على القلوب ثم على الأجسام، وكانت ولاية هداية وتدبير لصالح الحياة، وكانت رياسة دينية وسياسية، وكلاهما من عند الله، ولا بعد بين السياسة والدين إلا في نظر قوم لا يكادون يفقهون حديثا. •••
قال المؤلف في ص71: «ظواهر القرآن المجيد تؤيد القول بأن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يكن له شأن في الملك السياسي، وآياته متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان.» ثم ساق في الاستشهاد على هذا قوله تعالى في سورة النساء:
ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ، وقوله في سورة الأنعام:
وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ، وقوله في سورة يونس:
وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ، وقوله:
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ، وقوله:
وما أنت عليهم بوكيل ، وقوله في سورة الإسراء:
وما أرسلناك عليهم وكيلا ، وقوله في سورة الفرقان:
أفأنت تكون عليه وكيلا ، وقوله في سورة الزمر:
وما أنت عليهم بوكيل ، وقوله في سورة الشورى:
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ ، وقوله في سورة ق:
وما أنت عليهم بجبار ، وقوله في سورة الغاشية:
فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر ، ثم قال: «القرآن كما ترى يمنع صريحا أن يكون النبي
صلى الله عليه وسلم
حفيظا على الناس ولا وكيلا ولا جبارا ولا مسيطرا، وأن يكون له حق إكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين، ومن لم يكن حفيظا ولا مسيطرا فليس بملك؛ لأن من لوازم الملك السيطرة العامة والجبروت سلطانا غير محدود.»
من الكلام البليغ ما يسلك معناه في قلب السامع غير متوقف على شيء سوى العلم بمدلولات الألفاظ المفردة، وقانون النظم والتركيب، ومنه ما لا يصل السامع إلى معناه ولا يلم به من جوانبه فيستقر في نفسه على الوجه الذي يقصده المتكلم إلا إذا وقف على أحوال زائدة على العلم بوضع المفردات والتراكيب؛ ولهذا ترى أذكى الناس قريحة، وأرسخهم علما باللغة ومذاهب بلاغتها، قد يعجز عن فهم بيت من الشعر البليغ، ولا يجد طريقا إلى بيان ما يراد منه حتى يعرف الحال التي ورد فيها، والسبب الحامل على نظمه.
وعلى هذين النوعين من فنون الكلام نزل القرآن الكريم، فمن الآيات ما هو بين بنفسه، ومنها ما لا يدرك معناه إلا من شهد وقت الوحي به، وعرف أسباب نزوله. وهذا ما دعا الذين أوتوا العلم إلى أن يعتمدوا على بيان الصحابة - رضي الله عنهم - ويرجحوه على بيان غيرهم، ولا سيما بيانا أجمعوا عليه. وقد عقد موضح أسرار الشريعة أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته فصلا
2
في تحقيق أن معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، وبسط القول في أن بيان الصحابة يقدم على بيان غيرهم، وعد في مؤيدات هذه القاعدة المتينة «جهة مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة.» وقال: «فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك.»
فكثير من الآيات لا ينكشف معناه ولا يستقر في النفس على وجه محكم إلا بعد معرفة سبب نزوله وحال نزوله، ثم القيام على غيره من الآيات التي ربما وجد فيها ما يخصص عمومه أو يقيد مطلقه أو يغير حكمه؛ لزوال علته، وقيام الحاجة الداعية إلى تبديله بحكم آخر.
إذن لا ينبغي لأحد أن يهيئ رأيا ثم يصب عليه الآيات صبا، قبل أن يبحث عن حال نزولها، وينظر فيما عساه أن يخصصها أو يقيدها أو يرشد إلى تبدل حكمها.
فهل حافظ المؤلف على هذا الأصل الأصيل فرجع في فهم هذه الآيات إلى حال نزولها، وجال بنظره في القرآن جولة لعله يهتدي السبيل إلى الرسوخ في علمها؟
الظاهر أنه لم يفعل ذلك، وإنما أمسك المصحف الشريف بيده، ونقل منه هذه الآيات مرتبة ترتب سورها، فحرفها عن مواضعها، وتأولها على غير بينة من أمرها.
من المعلوم لدى المسلمين أن النبي
صلى الله عليه وسلم
مكث بمكة نحو عشر سنين وعمله مقصور على الدعوة بالحجة والموعظة، وأنه كان يحزن لإعراض المشركين وعتوهم عن سبيل الهداية، ويأخذ منه الأسف كل مأخذ حتى كأنه مأمور بتصريف قلوبهم من الغي إلى الرشد، ويزيد على هذا ما كانوا يعترضونه به من الأذى، ويسومون به أصحابه من سوء العذاب، فكانت الآيات تذكره ببيان وظيفته لذلك الحين؛ وهي مجرد البلاغ والإنذار، حتى إذا كانت منه على ظهر قلب، وعرف أنه قام بوظيفته كما يراد منه، خف عليه ما يجده من الحزن والأسى.
وبعد هجرته إلى المدينة المنورة، وإقامته بها نحو سنة، قضت حكمة الله بأن يكون للإسلام مظهر غير مظهره الأول، ونزلت آيات الجهاد وحدود العقوبات تترى، والذي قال له:
وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ، وقال له:
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين . هو الذي أنزل عليه قوله:
قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ، وقوله:
ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ، وقوله:
وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون .
والآيات التي سردها المؤلف كلها من سور مكية، ما عدا الآية الأولى؛ أعني قوله تعالى:
ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا
فإنها من سورة النساء؛ وهي مدنية. وقد عرفت أن الجهاد شرع بعد أن قضى النبي
صلى الله عليه وسلم
بالمدينة نحو سنة، فيجوز أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الجهاد، قال ابن جرير الطبري في تفسيره:
3 «ونزلت هذه الآية فيما ذكر قبل أن يؤمر بالجهاد.»
ومن أهل العلم من يذهب إلى أن هذه الآيات محكمة، ويأتي في تفسيرها بوجوه تسير بها مع آيات الجهاد جنبا لجنب. واستقصاء البحث عنها في هذه الصحائف آية آية يخرجنا إلى إسهاب لا حاجة بنا إليه، وأضرب لك مثلا تشرف منه على شيء مما قيل في سائرها ، وهو قوله تعالى في سورة الأنعام:
قل لست عليكم بوكيل ؛ فقد قال أبو جعفر النحاس في تأويلها:
4 «هذا خبر لا يجوز أن ينسخ، ومعنى وكيل: حفيظ ورقيب، والنبي
صلى الله عليه وسلم
ليس عليهم حفيظا، إنما عليه أن ينذرهم، وعقابهم على الله تعالى، والآية الثانية نظيرها.» ويعني بالآية الثانية قوله تعالى:
وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل .
وخلاصة المقال أن المؤلف سرد هذه الآيات على غير بصيرة، وصرف نظره عن آيات الجهاد التي يذهب رأيه إمامها عبثا، فجلس كما قام، وسكت كما تكلم، بل جلوسه خير من قيامه، وسكوته أنفع من كلامه
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد . •••
عاد المؤلف فأخذ يلتقط من القرآن آيات:
إن أنا إلا نذير ،
إنما أنت نذير ،
إنما أنت منذر ،
إنما أنا لكم نذير مبين ،
أنما أنا نذير مبين ، وأضاف إليها آيتين؛ وهما: قوله تعالى:
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ، وقوله تعالى:
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، ثم قال في ص73: «القرآن كما رأيت صريح في أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لم يكن إلا رسولا قد خلت من قبله الرسل، ثم هو بعد صريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى إلى الناس، وأنه لم يكلف شيئا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه.»
يتساءل الناس أحيانا عن الحال الذي لبس قلب المؤلف حتى أصبح يقول على الله غير الحق: هل اقتحم هذه الخطيئة لقصور في الفهم؟ أم لداعية افتتانه بملة أخرى؟
إذا صح للقارئ أن يتردد في بعض المباحث السابقة، فإن هذا المبحث لا يبقي له ريبة في أن المؤلف قد يقصد إلى قلب الحقائق حيث لا يصح أن تنقلب في نظره.
يعرف كل طالب علم في الأزهر أو في غير الأزهر أن في العلوم العربية علما يقال له: علم المعاني، وأن في المعاني بابا يقال له: باب القصر، ولا شك أن من اطلع على هذا الباب يعلم أن القصر ينقسم إلى: قصر حقيقي؛ وهو تخصيص شيء بشيء بحسب الحقيقة وفي نفس الأمر، بحيث لا يتجاوزه إلى غيره أصلا، وقصر إضافي؛ وهو تخصيص شيء بشيء بحسب الإضافة إلى شيء آخر، بأن لا يتجاوزه إلى ذلك الشيء، وإن أمكن أن يتجاوزه إلى شيء آخر.
ويعلم بعد هذا أن القصر الإضافي ينقسم إلى: قصر إفراد؛ والمخاطب به من يعتقد شركة صفتين في موصوف واحد، أو موصوفين في صفة، وقصر قلب؛ والمخاطب به من يعتقد عكس الحكم الذي يتصدى المتكلم لإثباته، وقصر تعيين ؛ والمخاطب به من يتساوى في نظره أمران فيقصر له المتكلم الحكم على أحدهما.
هذه المباحث من بديهيات علم البلاغة، ومن مبادئه الملقاة على قارعة الطريق، بحيث لا يمتاز بمعرفتها الذكي عن الغبي، ولا قارئ الكتب المبسوطة عن قارئ المختصرات.
ومن عرف أن من فنون القصر ما يسمى قصرا إضافيا عرف بوجه إجمالي أن الآيات التي ساقها المؤلف إنما هي من هذا القبيل، ولا يصح حملها على القصر الذي يراد به نفي كل صفة ما عدا الإنذار حتى يدخل في هذه الصفات المنفية القضاء الفصل والتنفيذ.
ولنضرب لك مثلا تشهد به أن هذه الآيات منسوجة على منوال من البلاغة بديع، وأنها بريئة من نفي صفة التنفيذ عن النبي
صلى الله عليه وسلم
كما يزعم مؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم.
قال تعالى:
وما أنت بمسمع من في القبور * إن أنت إلا نذير . وبيان سر هذا القصر بلاغة أنه «جاء بالنفي والإثبات؛ لأنه لما قال تعالى:
وما أنت بمسمع من في القبور
وكان المعنى في ذلك أن يقال للنبي
صلى الله عليه وسلم : إنك لن تستطيع أن تحول قلوبهم عما هي عليه من الاباء، ولا تملك أن توقع الإيمان في نفوسهم، مع إصرارهم على كفرهم واستمرارهم على جهلهم، وصدهم بأسماعهم عما تقوله لهم وتتلوه عليهم، كان اللائق بهذا أن يجعل حال النبي
صلى الله عليه وسلم
حال من قد ظن أنه يملك ذلك ومن لا يعلم يقينا أنه ليس في وسعه شيء أكثر من أن ينذر ويحذر، فأخرج اللفظ مخرجه إذ كان الخطاب مع من يشك، فقيل:
إن أنت إلا نذير . ويبين ذلك أنك تقول للرجل يطيل مناظرة الجاهل ومقاولته: إنك لا تستطيع أن تسمع الميت، وأن تفهم الجماد، وأن تحول الأعمى بصيرا، وليس بيدك إلا أن تبين وتحتج، ولست تملك أكثر من ذلك.»
5
فانظر إلى فيلسوف البيان عبد القاهر الجرجاني كيف فهم أن الآية من نوع القصر الإضافي،
6
وأن قصر النبي
صلى الله عليه وسلم
الإنذار في قوله تعالى:
إن أنت إلا نذير
لم يرد به نفي كل ما عدا الإنذار، وإنما أريد به نفي صفة معينة؛ وهي كونه
صلى الله عليه وسلم
يملك تحويل قلوبهم عما هي عليه من الإباء. وذكر ذلك الفيلسوف أن هذا الوجه من البلاغة يجرى في قوله تعالى:
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ، فقصر النبي
صلى الله عليه وسلم
على الإنذار والبشارة في هذه الآية إنما يعني به نفى أن يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وأن يكون عالما بالغيب.
وسائر الآيات المفرغة على قالب القصر مما أورده في الصفحتين 74 و75 لا تخرج عن أن يراد منها القصر الإضافي، وهو لا يتعرض لصفة التنفيذ بحال. ولا يستطيع المؤلف أن ينكر هذا الفن من البلاغة إلا إذا تناهى به العناد إلى إنكار ما يضرب في الأفق من بياض النهار أو سواد الليل.
يقول المؤلف: «وإنه لم يكلف شيئا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذهم بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه.»
هذه الفقرة تنادي بصراحة أن المؤلف يريد أن يلصق بعقول الأطفال والسذج الاعتقاد بأن جهاد النبي
صلى الله عليه وسلم
وتصرفه في أموال الزكاة قبضا وإنفاقا، وحكمه بين الناس وإقامته الحدود لم يكن من عمله السماوي، فإن هذه الحقائق شيء غير ذلك البلاغ، ومنها ما فيه حمل للناس على ما جاءهم به، والقرآن يشهد بأن جهاده عليه الصلاة والسلام، وتصرفه في أموال الزكاة، وحكمه بين الناس إنما كان بوحي سماوي. ولا أحسب المؤلف يترك قلمه سائبا حتى يقول على آيات الجهاد والزكاة والحكم بين الناس كما قال على أحاديث في الصحيحين: «لنا أن ننازع في صحتها.» •••
قال المؤلف في ص76: «إذا نحن تجاوزنا كتاب الله تعالى إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام وجدنا الأمر فيها أصرح والحجة أقطع، روى صاحب السيرة النبوية أن رجلا جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لحاجة يذكرها، فقام بين يديه فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال له
صلى الله عليه وسلم : «هون عليك؛ فإني لست بملك ولا جبار، وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة» ... وقد جاء في الحديث أنه لما خير على لسان إسرافيل بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا، نظر عليه الصلاة والسلام إلى جبريل عليه السلام كالمشير له، فنظر جبريل إلى الأرض يشير إلى التواضع، وفي رواية: «فأشار إلي جبريل أن تواضع، فقلت: نبيا عبدا.» فذلك صريح أيضا في أنه
صلى الله عليه وسلم
لم يكن ملكا، ولم يطلب الملك، ولا توجهت نفسه عليه السلام إليه.»
لو التزم أحد على وجه المزح أن لا يقول إلا خطأ، ثم تحدث بمقدار ما تحدث المؤلف في ذلك الكتاب، لسبق لسانه إلى الصواب مرارا، وربما لا يكون خطؤه أكثر من خطأ كتاب الإسلام وأصول الحكم.
بعد أن ساق المؤلف آيات:
إن أنا إلا نذير ، وما جاء على شاكلتها مساق الاستشهاد على نفي أن يكون النبي عليه السلام منفذا، أتى بهذين الحديثين يبتغي منهما أن يشهدا له على باطل، ولم يرع حرمة الأحاديث النبوية فيكف قلمه عن إيرادها حيث يدعي على مقام الرسالة غير الحق.
خذ أي عالم أو شبه عالم أو عامي ذي فطرة سليمة، واقرأ عليه الحديثين، وخذ معه بأطراف الحديث في معنى «ملك» الوارد فيهما، فإنه ينظر إلى مساق الكلام وما يقتضيه حال الخطاب فلا يفهم من قوله: «لست بملك.» من الحديث الأول إلا ما هو الغالب على الملوك من البطش وقلة الأناة، ولا يفهم من قوله: «ملكا.» في الحديث الثاني إلا مظهر العظمة والأبهة.
وذلك المعنى هو الذي ينحو نحوه شراح الحديث، قال الشهاب الخفاجي في تفسير: «لست بملك.» من الحديث الأول: «من الملوك الجبابرة الذين تخشى بوادرهم.»
7
وقال في تفسير «ملكا» من الحديث الثاني: «أن يكون شئونه كالملوك في اتخاذ الجنود والحجاب والخدم والقصور.»
8
وأما معنى الرياسة السياسية وتدبير الشئون العامة، وهو ما يعنيه المؤلف؛ فإنه لا يقع في ذهن من يتلقى الحديث بروية، ولا يكاد يخطر له على بال.
ولو كان المؤلف يتنبه إلى معنى الحديث قبل إيراده؛ لسبق إلى اختيار المعنى الذي يسبق إلى فهم كل سامع، واحتفظ على مذهبه من أن الرياسة السياسية تنافي طبيعة الرسالة، فإن حمل الملك على الرئيس السياسي في قوله: «خير بين أن يكون نبيا ملكا.» يجعل الحديث حجة على أن الرسالة والملك لا يتنافيان.
ولقد ذكرنا المؤلف بتأويله لتلك الآيات والأحاديث رجلا من أهل مكة كان يئول الشعر، قال ذات يوم: ما سمعت بأكذب من بني تميم، زعموا أن قول القائل:
بيت زرارة محتب بفنائه
ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
في رجل منهم، قيل له: فما تقول أنت فيه؟ قال: البيت بيت الله، وزرارة: الحج، قيل: فمجاشع؟ قال: زمزم جشعت بالماء، قيل: فأبو الفوارس؟ قال: أبو قبيس، قيل: فنهشل؟ فصمت ساعة ثم قال: نعم نهشل مصباح الكعبة؛ لأنه طويل أسود، فذلك نهشل! •••
قال المؤلف في ص78: «معقول أن يؤخذ العالم كله بدين واحد، وأن ينتظم البشرية كلها وحدة دينية، فلما أخذ العالم كله بحكومة واحدة، وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة؛ فذلك مما يوشك أن يكون خارجا عن طبيعة البشرية، ولا تتعلق به إرادة الله.»
أجمع المسلمون على أن إصلاح السياسة شطر من مقاصد الإسلام، وهل ادعوا مع هذا أن الإسلام رسم للسياسة خطة معينة، ووضع لكل واقعة حكما مفصلا؟
الحق أنهم لم يفعلوا ذلك، بل ملئوا كتبهم ببيان أن الشريعة فصلت بعض أحكام لا تختلف فيها أحوال البشر، ثم وضعت أصولا؛ ليراعى في تطبيقها على الوقائع حال الظروف الحافة بها. ومن هذه الأصول قاعدة «رعاية المصالح المرسلة»، وقاعدة «العادة محكمة»، وقاعدة «سد الذرائع»، وقاعدة «المشقة تجلب التيسير»، وقاعدة «ارتكاب أخف الضررين»، وقاعدة «الضرر يزال».
قال شهاب الدين القرافي في قواعده: «إن الأحكام تجري مع العرف والعادة، وينتقل الفقيه بانتقالها، ومن جهل المفتي جموده على المنصوص في الكتب غير ملتفت إلى تغير العرف؛ فإن القاعدة المجمع عليها: أن كل حكم مبني على عادة، فإذا تغيرت العادة تغير الحكم، والقول باختلاف الحكم عند تبدل الأحوال والعادات لا يستلزم القول بتغيره في أصل وضعه والخطاب به، وإنما الأمر تدعو إليه الحاجة عند قوم، أو في عصر، فيكون مصلحة وتتناوله دلائل الطلب، فإن لم تقتضه عادتهم ولا تعلقت به مصلحتهم دخل تحت أصل من أصول الإباحة أو التحريم.»
وقال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب الموافقات:
9 «واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد، فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوع على أنه دائم ... وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها.»
ومما يوضح أن أحكام الشريعة تجري بحسب اختلاف الزمان والمكان قول عز الدين بن عبد السلام في قواعده: «تحدث للناس أحكام بقدر ما يحدثون من السياسات والمعاملات والاحتياطات.»
وقال شهاب الدين القرافي أيضا: «إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع، بل تشهد له القواعد، ومن جملتها أن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف حاله في العصر الأول، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع.»
10
ومن مثل هذه النصوص تعلم أن أخذ الأمم الإسلامية بحكومة واحدة لا يقتضي توحيد قانونها السياسي أو القضائي، بل يوكل أمر كل شعب إلى أهل الحل والعقد منه، فهم الذين ينظرون فيما تقتضيه مصالحه، ولا يقطعون أمرا حتى يشهدهم من أوتوا العلم بأصول الشريعة؛ لئلا يخرجوا عن حدود مقاصدها.
ومن أجل ما لوحت إليه الشريعة من بناء الأحكام على أساس رعاية المصالح ذكر الفقهاء في شروط الحاكم أن يكون بالغا رتبة الاجتهاد.
ومدار شرائط الاجتهاد على أمرين:
أحدهما:
فهم مقاصد الشريعة: وهذا يتحقق بمعرفة جملة القواعد التي نصبتها، والتفقه في قسم عظيم من الأبواب التي فصلت أحكامها، وقد بصر مجتهدو الصحابة - رضي الله عنهم - بهذه القواعد والأحكام من النظر في القرآن وما يشهدون من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتلقى عنهم التابعون ما استنبطوه من الفروع، وتعلموا منهم كيف انتزعوها من مآخذها، فازدادت القواعد وضوحا وتمهدت طرق الاستنباط، وتسنى للذين أوتوا العلم من بعدهم أن ينظروا في الحوادث ويفصلوا لها أحكاما تأخذ بمجامع المصالح، وتنطبق على ما تستدعيه طبيعة الزمان والمكان.
ثانيهما:
القدرة على انتزاع الأحكام من دلائلها المبثوثة في الكتاب والسنة: ولا سبيل للقدرة على الاستنباط إلا بمعرفة هذه الدلائل، وطريق إثباتها، وضروب دلالتها، وتفاوت مراتبها، ووجوه الترجيح عند تعارضها.
والتحقيق أن الاجتهاد لا يتجزأ؛ فإن أكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض، فمن أحرز الشروط المشار إليها آنفا تمكن من الاستنباط في كل حادثة تعرض له، وإن فاته بعضها أو كان نصيبه منها أقل من المقدار الكافي، لم يستطع أن يستنبط للواقعة حكما تطمئن له نفسه، أو يثق به غيره.
فمن أدركه النقص من جهة قلة التفقه في مقاصد الشريعة وعدم إحكام قواعدها، فلا يصح له الاجتهاد ولو في المسائل التي يجد لها بين الدلائل اللفظية منزعا؛ فإن القواعد القطعية قد تدعو إلى التصرف في أقوال الشارع بنحو تخصيص العام، أو تقييد المطلق، أو عدم الأخذ بالمفهوم.
وكذلك من عرف مقاصد الشريعة وأنس من نفسه القدرة على إلحاق الوقائع بأشباهها، ولكنه لم يصل في معرفة اللسان العربي إلى المرتبة الكافية للاستنباط، فاجتهاده غير موثوق به؛ إذ يشترط في المجتهد أن يكون عارفا بأحوال الأحكام عن نظر مستقل. وتلك الأحوال مبثوثة في موارد الشريعة، فلا بد من رسوخ القدم في فهم تلك الموارد ومعرفة وجوه دلالتها.
فالتشريع الإسلامي قائم على رعاية المصالح، وما هي إلا المصالح التي توضع في ميزانه المستقيم. وهذا الميزان المستقيم لا يبخس شعبا من الشعوب مصلحته التي يشهد بها العقل السليم، ولا يفصل حكما واحدا يجريه على كل شعب وفي كل زمان، إلا إذا لم تختلف فيه مصالح الشعوب، فإن اختلفت اختلافا يعقله العالمون؛ فلكل شعب حكم وسياسة، وذلك تقدير العزيز العليم.
فمن يذهب إلى أن أخذ العالم بحكومة واحدة، وجمعه تحت سياسة مشتركة خارج عن طبيعة البشر، إنما هو مثال الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة، ولم يرفعوا رءوسهم إلى الكتب التي أمتعت البحث عن أسرار الشريعة، وفصلت القول في أصولها العالية تفصيلا.
ولا يزال علماء الإسلام في سائر الأقطار يشهدون أن أحكام الشريعة تدور على مقتضى الحاجات والمصالح، وهذا أحد الفقهاء
11
الناشئين في قرية
12
من صحراء الجزائر في المائة الثالثة عشرة كان يفتي بجواز استناد الحاكم إلى آثار الأقدام في نحو السرقة؛ حيث كان لأهل بلاده حذق زائد في معرفة آثار أقدام الأشخاص، فأنكر عليه علماء بلد يقال لها: «الخنقة»، فأجابهم بقصيدة لوح فيها إلى مستنداته في الفتوى، وقال فيها:
إلى السادة الأشراف من أهل «خنقة»
لهم في ندور الواقعات نقول
تمسكتم بالأصل والحق واضح
ولا ينكر المعلوم إلا جهول
ولكن إذا عم السداد بحادث
تقدم أصلا والقياس دليل
كتضمين سمسار وتغريم صانع
وما هو إلا مودع ووكيل
ومن ذاك ما قد جوزوا في سفاتج
إذا عم بالخوف الشديد سبيل
وفي كلها خلف الأصول لأنها
مصالح عمت والصلاح جميل •••
ومن أدب المسئول قبل سؤاله
إذا وردت يوما عليه سئول
تعرف عرف السائلين بأرضهم
ليعلم ما يفتي به ويقول
وما أنتم منا بأعلم بالذي
به الضر يكفي عندنا ويزول
فلو أهملت آثار سراق أرضنا
لكان فسادا للخراب يئول
وفي الأخذ بالآثار إصلاح أمرنا
وفي الترك عن قصد السبيل عدول
وما الأثر إلا كالخطوط شهادة
كذا قال قوم في القياس عدول
فعرفانك الخط الذي غاب ربه
لعرفان إثر المستراب عديل
وفي ولدي عفراء لما تنازعا
جهاز أبي جهل وهو جديل
بأثر دم في السيف كان نبينا
قضى أنه للسيدين قتيل
وكان السلف يكرهون السؤال عن النوازل قبل وقوعها حسبما نقله الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله،
13
ولعلهم كرهوا ذلك حذرا من أن يفرضوا الصورة النازلة حكما، فتبرز للخارج فيتصل فيها بعض أحوال لو شاهدها المفتي لغير حكمه وفصله على ما تقتضيه طبيعة النازلة محفوفة بتلك الأحوال. •••
قال المؤلف في ص78: «ذلك من الأغراض التي أنكر النبي
صلى الله عليه وسلم
أن يكون له فيها حكم أو تدبير، فقال عليه السلام: «أنتم أعلم بأمور دنياكم.»
كيف ينكر النبي
صلى الله عليه وسلم
أن يكون له في سياسة الأمة حكم أو تدبير، ونحن إذا قلبنا نظرنا في سيرته نجده كان يحكم فيما شجر بين الناس، ويقيم الحدود والزواجر على من يجني على نفس أو مال أو عرض أو عقل، ويجمع المال من حيث أمره الله، وينفقه في وجوه المصالح وإسعاد ذوي الحاجة، ويتولى عقد التحالف والمعاهدات والصلح وإعلان الحرب، ويدبر أمرها، ويرسم لها الخطط، مع المشاورة في هذا السبيل والأخذ بأرجح الآراء؟
يتولى هذه الأمور بنفسه، وقد يندب للقيام بها من فيه الكفاية والخبرة، وهل بعد هذا التصرف الثابت كتابا وسنة متواترة يخرج كتاب الإسلام وأصول الحكم في واد حافل بعلماء الشريعة ويصيح بأن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنكر أن يكون له في شئون الأمة حكم أو تدبير؟
وأما حديث: «أنتم أعلم بأمور دنياكم.» فإنه وارد في واقعة تأبير النخل، فيحمل على هذا المعنى وما شاكله من فنون الزراعة والصنائع وغيرها من وسائل العمران المادية. •••
قال المؤلف في ص78: «ذلك من أغراض الدنيا، والدنيا من أولها لآخرها وجميع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله تعالى من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول، وحبانا من عواطف وشهوات، وعلمنا من أسماء ومسميات، هي أهون عند الله تعالى من أن يبعث لها رسولا، وأهون عند رسل الله تعالى من أن يشغلوا بها، وينصبوا لتدبيرها.»
ننظر في الكتاب العزيز فنجده طافحا بما يدل على أن إرشاده لا يقتصر على العقائد والعبادات، فنجد فيه نصوصا في بيان ما يحل أكله أو شربه وما لا يحل فيه ذلك، قال تعالى:
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ، وقال تعالى:
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون .
ونجد نصوصا في بيان من يحل نكاحهن ومن لا يحل، ونصوصا تحرم مباشرة الزوجة في بعض الأحوال، كما قال تعالى :
اعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن .
ونجد نصوصا في قسمة تركات الهالكين على ورثتهم كما قال تعالى:
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين
الآية.
ومن البين بنفسه أن الأكل والشرب والنكاح والأموال الموروثة عن أولي القربى، كل ذلك من أغراض هذه الحياة وغاياتها.
إذن فالمؤلف يريد بهذه المقالة استدراج السذج والأطفال إلى إنكار كل ما زاد على العقائد والعبادات، حتى يتسنى للإباحية السائبة أن تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، وتضرب خيامها في كل واد، فإذا أصبح الناس يدخلون في دينها أشتاتا، قام الشيطان مرة أخرى واستفز من استطاع منهم لتأليف كتاب يسمى: الإسلام وأصول العبادات. •••
قال المؤلف في ص79: «لا يريبنك هذا الذي ترى أحيانا في سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
فيبدو لك كأنه عمل حكومي، ومظهر للملك والدولة؛ فإنك إذا تأملت لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان عليه
صلى الله عليه وسلم
أن يلجأ إليها تثبيتا للدين، وتأييدا للدعوة. وليس عجيبا أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم الوسائل. هو وسيلة عنيفة وقاسية، ولكن ما يدريك، فلعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان، وربما وجب التخريب ليتم العمران؟»
أريناكم أن من مقاصد الإسلام إصلاح السياسة وإقامة دولة، وأنه وضع لهذه الدولة أركانا وأصولا، وأن ما يحسبه المؤلف من مظاهر الحكومة النبوية هينا هو عند ذوي العقول الراجحة والآراء الرصينة عظيم. وإنما نقلنا لكم هذه الفقرة من فقرات الكتاب لنريكم مثلا من أمثلة تخاذل نسجه، وصورة من صور موارباته.
يقول المؤلف فيما سلف: «وإنما يكون الجهاد لتثبيت السلطان وتوسيع الملك.» وأخذ يقرر هذا المعنى ويسوق في تقريره كل ما يملك من شبهة، ولم يزد هنالك على أن قال عقب البحث: «فذلك سر الجهاد عندهم.»
وقال ها هنا: إن الجهاد وسيلة من الوسائل التي كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يلجأ إليها تثبيتا للدين وتأييدا للدعوة. وبعد أن وصفه بأنه وسيلة عنيفة وقاسية، أتى بعبارة يتقرب بظاهرها إلى آراء أهل العلم، ويدس في لحن خطابها تشكيكا لقوم لا يتفكرون، فقال: وما يدريك؛ لعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان؟
وهل من الذوق الملائم للإيمان أن ينعت المسلم عملا مشروعا بأنه شر، ثم يقول على سبيل الاعتذار عنه: وما يدريك؛ لعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان؟!
ومن يأخذ قول المؤلف في ص52: «من أمثلة الشئون الملكية التي ظهرت أيام النبي
صلى الله عليه وسلم
مسألة الجهاد.» إلى قوله هنا: «إن الجهاد من الوسائل التي كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يلجأ إليها تثبيتا للدعوة.» وضم إلى هذا قوله في ص71: «إن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان.» قام له شاهد عدل يناجيه بأن المؤلف يريد أن يضع في ذهن قارئ كتابه أن جهاده
صلى الله عليه وسلم
من الأعمال التي ما أنزل الله بها من سلطان! •••
قال المؤلف في ص80: «ترى من هذا أنه ليس القرآن هو وحده الذي يمنعنا من اعتقاد أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية، وليست السنة هي وحدها التي تمنعنا من ذلك، ولكن مع الكتاب والسنة حكم العقل وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها.»
قد رأيت أن استشهاد المؤلف بتلك الآيات والأحاديث مبني على قصور في فهمها، أو قصد إلى تحريف الكلم عن مواضعها، فالكتاب والسنة لا يمنعان «من اعتقاد أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية»، بل يدلان بصراحة كفلق الصبح على أنه عليه الصلاة والسلام كان مبلغا ومنفذا، وأن قيامه على التنفيذ داخل في حدود وظيفته السماوية.
ودعوى المؤلف أن حكم العقل وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها يمنعه من اعتقاد أن يكون التنفيذ داخلا في وظيفة الرسول عليه السلام السماوية، قد أريناك فسادها، وأنها كلمة هو قائلها، فلا العقل يمنع من أن يؤمر الرسول بالتبليغ والتنفيذ، ولا الأمر بإبلاغ شريعة يمنع بطبيعته من أن يضاف إليه الأمر بتنفيذها.
الكتاب الثالث
الخلافة والحكومة في التاريخ
الباب الأول
الوحدة الدينية والعرب
النقض - سياسة الشعوب وقضاؤها في العهد النبوي - درة عمر بن الخطاب وإدارة البوليس - التشريع الإسلامي والزراعة والتجارة والصنائع - التشريع الإسلامي والأصول السياسية والقوانين - أحكام الشريعة معللة بالمصالح الدنيوية والأخروية، والمصلحة الدنيوية منها هي ما يبحث عنه أصحاب القوانين الوضعية - لماذا لم يسم النبي
صلى الله عليه وسلم
من يخلفه - بحث لغوي في خلف واستخلف - تحقيق أنه عليه السلام جاء للمسلمين بشرع يرجعون إليه في الحكومة بعده. ***
ملخصه
افتتح المؤلف الباب بأن الإسلام وحدة دينية، وأن الله اختار لدعوته محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم
وقال: لله جل شأنه حكمة في ذلك بالغة قد نعرفها وقد لا نعرفها. وأتى على وجه ابتداء الدعوة بين العرب، وذكر عقب هذا أن البلاد العربية كانت مختلفة الشعوب والقبائل، ومتباينة في مناهج الحكم والعادات، وأن هذه الأمم المتنافرة اجتمعت في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
حول دعوة الإسلام، وأن وحدتها لم يكن فيها معنى من معاني الدولة والحكومة، وزعم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يتعرض لشيء من سياسة تلك الأمم، ولا غير شيئا من أساليب الحكم عندهم.
وذكر أن في الشرائع التي جاء بها النبي عليه السلام ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة في الأمم، ثم قال: ولكنك إذا تأملت وجدت أن كل ما شرعه الإسلام من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وزعم أنك إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءا يسيرا مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين، وقال: إن كل ما جاء به الإسلام إنما هو شرع ديني، ولمصلحة البشر الدينية لا غير.
وأخذ يتكلم عن حال العرب يوم لحق عليه السلام بالرفيق الأعلى، وزعم أنها وحدة دينية من تحتها دول تامة التباين إلا قليلا، وتخلص من هذا إلى أن زعامة الرسول فيهم زعامة دينية لا زعامة مدنية، فإذا ما لحق عليه السلام بالملأ الأعلى لم يكن لأحد أن يقوم من بعده ذلك المقام الديني. وزعم أنه عليه السلام لم يشر إلى شيء يسمى دولة إسلامية، وأنه لم يكن في عمل النبي عليه السلام أن ينشئ دولة، واستشهد على هذا بأنه لم يتعرض لأمر من يقوم بالدولة من بعده، وتعرض لما انتقدت به دعوى ابن حزم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
نص على استخلاف أبي بكر - رضي الله عنه - وقال: بل الحق أنه
صلى الله عليه وسلم
ما تعرض لشيء من أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه. وقفل الباب بقوله: «مات عليه الصلاة والسلام وانتهت رسالته، وانقطعت تلك الصلة الخاصة التي كانت بين السماء والأرض في شخصه الكريم عليه السلام.»
النقض
قال المؤلف في ص83: «البلاد العربية، كما تعرف، كانت تحوي أصنافا من العرب مختلفة الشعوب والقبائل، متباينة اللهجات، متنائية الجهات، وكانت مختلفة أيضا في الوحدات السياسية؛ فمنها ما كان خاضعا للدولة الرومية، ومنها ما كان قائما بذاته مستقلا، كل ذلك يستتبع بالضرورة تباينا كبيرا بين تلك الأمم العربية في مناهج الحكم، وأساليب الإدارة، وفي الآداب والعادات، وفي كثير من مرافق الحياة الاقتصادية والمادية.» ثم قال: «تلك الوحدة العربية التي وجدت زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم تكن وحدة سياسية بأي وجه من الوجوه، ولا كان فيها معنى من معاني الدولة والحكومة، بل لم تعد أبدا أن تكون وحدة دينية خالصة من شوائب السياسة، وحدة الإيمان والمذهب الديني لا وحدة الدولة ومذاهب الملك.»
لا حرج على تلك الأمم المختلفة في عاداتها وآدابها ومناهج حكمها أن تنتظم بشريعة الإسلام، فإن القوانين تكون محكمة وتسير على وجه مطرد متى اتفق لها أمران: أن لا تكون مخلة بالمصلحة، وأن يتلقاها الجمهور بسكينة واطمئنان. وفي الشريعة بعض أحكام مفصلة، وسائرها أصول كلية، حسبما قررناه آنفا. أما الأحكام المفصلة فإنها قائمة على رعاية مصالح لا تختلف باختلاف الشعوب والعادات، وما لم يفصل حكمه فذلك موكول إلى نظر الحاكم، فينظر فيما يقتضيه حال العادات والأخلاق وطبيعة الاجتماع، ويستنبط له من تلك الأصول العامة حكما مطابقا. ولا شك أن الخضوع لأحكام الشريعة - مفصلة كانت أو مأخوذة باستنباط مستوف للشروط - هو من مقتضيات الإيمان بحكمتها.
فأخذ تلك الشعوب والقبائل تحت حكومة الإسلام لا يخل بشيء من مصالحها، كما أنه لا يتوقع من الجمهور أن يلاقي قضاء هذه الحكومة وإدارتها بغير السكينة والاطمئنان.
وما زعمه المؤلف من أن تلك الوحدة العربية لم يكن فيها معنى من معاني الدولة والحكومة زعم يضربه التاريخ الصحيح بيد عنيفة قاسية «وما يدريك؛ فلعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان؟»
قال المؤلف في ص83: «يدلك على هذا سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم ، فما عرفنا أنه تعرض لشيء من سياسة تلك الأمم الشتيتة، ولا غير شيئا من أساليب الحكم عندهم، ولا مما كان لكل قبيلة منهم من نظام إداري أو قضائي، ولا حاول أن يمس ما كان بين تلك الأمم بعضها مع بعض، ولا ما كان بينها وبين غيرها من صلات اجتماعية أو اقتصادية، ولا سمعنا أنه عزل واليا ولا عين قاضيا.»
مما لا تحوم عليه شبهة ولا تخالجه ريبة أن كل أمة تعتنق الإسلام يأخذ الحكم فيها صورة غير صورته الجاهلية، فالقضايا كلها، سواء كانت جنائية أم مالية أم راجعة إلى أحوال الزوجية، إنما تفصل بحكم القرآن أو السنة، أو بالاجتهاد المستند إلى القواعد المركوزة في نفس الواقف على روح التشريع. ومن شواهد هذا حديث معاذ حين بعثه النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى اليمن؛ فقد تضمن الحديث أنه يقضي بكتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإن لم يكن في سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
اجتهد رأيه. وقد صحح هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي، وصححه ابن قيم الجوزية في أعلام الموقعين.
1
وقال الإمام الشافعي - رضي الله عنه: «بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سراياه، وعلى كل سرية واحد، وبعث رسله إلى الملوك، إلى كل ملك واحد، ولم تزل كتبه تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي، فلم يكن أحد من ولاته يترك إنفاذ أمره.»
2
وفي صحيح البخاري
3
أنه
صلى الله عليه وسلم
يبعث «أمراءه واحدا بعد واحد؛ فإن سها أحد منهم رده إلى السنة.»
4
وقال شراح الحديث: «فائدة بعث الآخر بعد الأول ليرده إلى الحق عند سهوه.» وقال ابن حجر في فتح الباري:
5 «والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد كانوا يتحاكمون إلى الذي أمر عليهم.»
وروى مالك بن أنس في كتاب الموطأ:
6
أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لعمرو بن حزم
7
في العقول: «إن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا ادعى جدعا مائة من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثلها، وفي العين خمسون، وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي السن خمس، وفي الموضحة خمس.»
فهذه النصوص من رجال كانوا ينقدون الأخبار نقد الصيارف للدينار تطعن في وجه ما يزعمه المؤلف من أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يعين قاضيا، وتدل على أن أمراء النبي
صلى الله عليه وسلم
كانوا يتصرفون في شئون تلك الأمم على مقتضى الكتاب والسنة.
وإن كان المؤلف في ريب مما يقوله حملة الشريعة وحفاظها، فهذا جرجي زيدان يقول في تاريخ التمدن الإسلامي:
8 «لما ظهر الإسلام كان النبي
صلى الله عليه وسلم
رئيس المسلمين في أمور الدنيا، وهو حاكمهم وقاضيهم وصاحب شريعتهم وإمامهم وقائدهم. وكان إذا ولى أحد أصحابه بعض الأطراف خوله السلطتين: السياسية والدينية، وأوصاه أن يحكم بالعدل، وأن يعلم الناس القرآن.»
وأما ما كان بين تلك الأمم بعضها مع بعض، أو ما كان بينها وبين غيرها من صلات اجتماعية أو اقتصادية، فمتى كان فيها ما لا يتفق مع المصلحة، أو ما يمس قاعدة من قواعد الدين الحنيف، فلا بد للحاكم المسلم من أن يغيره ويجريه على ما يلائم القانون العادل والأدب الجميل، والحجة على المؤلف في هذا قول جرجي زيدان: «وخوله السلطتين: السياسية والدينية، وأوصاه أن يحكم بالعدل، وأن يعلم الناس القرآن.»
يقول المؤلف: «ولا سمعنا أنه عزل واليا.» هذه كلمة لا فائدة لها سوى أنها تكثر سواد مزاعمه؛ فإن مدة بعث الأمراء في عهد النبوة لا تتجاوز ثلاث سنين؛ وهي مدة قصيرة قد يسير فيها الولاة على طريقة مثلى فلا يقعون في زلة تستوجب عزلهم، فإن كان العزل عند المؤلف من أعلام الدولة؛ فقد ورد في الصحيح أنه عليه السلام عزل بعض قواد الجيش، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة:
9 «فقد كان - يعني النبي
صلى الله عليه وسلم - يولي في حياته من يشكى إليه فيعزله كما عزل الوليد بن عقبة، وعزل سعد بن عبادة عام الفتح وولى ابنه قيسا.»
قال المؤلف في ص84: «ولا نظم فيهم عسسا.»
نبهنا قبل هذا على أن عمل الحرس لذلك العهد كان يقوم به كل مسلم عرف أن تمام إيمانه في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الشهادة بالقسط ولو على نفسه أو والديه وأقربيه، ويضاف إلى هذا تأثير مواعظ القرآن على تلك الفطر التي لم تتلوث بأوساخ المدنية الفاسقة، فتعقد بين القلوب تعاطفا، وتطبع النفوس على أدب جميل، فلا يكون للبغي مظهر، ولا للفظاظة يد، إلا في أوقات نادرة.
واعتبر في هذا المعنى بالهرمزان، ملك خوزستان، حين جيء به إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو نائم في المسجد متوسدا درته، فقال: هذا هو الملك؟! قيل: نعم، فقال له: عدلت فأمنت فنمت. والله إني قد خدمت أربعة من ملوك الأكاسرة أصحاب التيجان فما هبت أحدا منهم هيبتي لصاحب هذه الدرة.
فإذا كانت الدرة في يد النائم في المسجد تجعل في قلب البريء طمأنينة، وفي قلب المريب رهبة، فما هي الفائدة التي تجتنيها الأمة من تشييد قصر يخرج منه ويعود إليه في كل يوم رجال يتقاضون في رأس كل شهر ما يتقاضون؟!
قال المؤلف في ص84: «ولا وضع قواعد لتجارتهم ولا لزراعتهم ولا لصناعتهم، بل ترك لهم عليه السلام كل تلك الشئون، وقال لهم: أنتم أعلم بها، فكانت كل أمة وما لها من وحدة مدنية وسياسية، وما فيها من فوضى أو نظام لا يربطهم إلا ما قلنا لك من وحدة الإسلام وقواعده وآدابه.»
التشريع الإسلامي يتناول كل ما ينظر فيه رجال القضاء والسياسة، بمعنى أن له في النوازل القضائية أحكاما، وفي إدارة الشئون السياسية مقاصد، والمنوط بعهدة أولي الأمر أن تقرر تلك الأحكام بحق، وأن تقام تلك المقاصد بنظام. والوسائل التي يصلون بها إلى أن تأخذ الأحكام مأخذها، أو تقوم المقاصد على وجهها موكولة إلى اجتهادهم وأمانتهم.
فمن مقاصد الشرع أن تكون مرافق الحياة ميسورة، وأن تكون القوة من الأموال ووسائل الدفاع متوفرة، وفوض لأولي الأمر النظر فيما يجعل عيشة الأمة راضية وقوتها كاملة؛ فهم الذين يضعون للتجارة والزراعة والصناعة نظما لا تعترض أصلا من أصول التشريع، بل يجب أن تكون في دائرته التي تسع كل قانون عادل ونظام لائق.
هذا إذا كان قصد المؤلف من قواعد هذه الأشياء الأنظمة العائدة إلى ترقيتها وتقدمها، أما إذا أراد بالقواعد القوانين التي يرجع إليها عند الفصل بين المتخاصمين؛ فإن الشريعة قررت بعضها بتفصيل، وأودعت سائرها في ضمن أصول كلية كبقية أحكام الحلال والحرام. هذا تحقيق النظر في المسألة من الوجهة التشريعية، أما إذا ثنينا عنان البحث إلى المسألة من حيث سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
فلنا نظران أيضا: نظر من حيث الحكم في القضايا التي تنشب بين أصحاب التجارة أو الصناع أو الزراع، وهذا مما كان
صلى الله عليه وسلم
يتولاه بنفسه، وقد يكل بعضه إلى من يقوم عليه، كما جاءت الرواية بأنه
صلى الله عليه وسلم
كان يولي في بعض الأسواق من ينظر في شئون المعاملات، ويراقب ما عساه أن يقع من غش أو مبايعة على غير وجه مشروع، وفي السيرة الحلبية «أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
استعمل سعد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة، واستعمل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على سوق المدينة.»
والنظر الثاني من ناحية العمل على إصلاح شأن هذه الفنون، وهذه الفنون من أمور الدنيا التي لا يدخل تعليمها في وظيفة الرسول عليه السلام السماوية إلا من حيث الأمر بإقامة كل ما يسد حاجات الأمة، ويكفل لها العزة والمنعة، وفي مثل هذا قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «أنتم أعلم بأمور دنياكم.»
والفرق بين النظرين أن تقرير أحكام الوقائع القضائية وغير القضائية لا يصح إلا ممن تحققت فيه شروط الاجتهاد، وأما العمل على إصلاح وسائل الحياة من نحو التجارة والزراعة فيؤخذ فيها برأي العارف بها، وإن لم يكن مطلعا على شيء من أصول الشريعة أو فروعها.
إذن فالنبي
صلى الله عليه وسلم
قام بوظيفته السماوية التي هي إبلاغ ما أنزل إليه، وتنفيذ ما جاء به من أوامر ونواه، ولم يبق سوى أن يقال: لماذا لم يقم بذلك الأمر الذي هو خارج عن وظيفته السماوية، بأن يكلف ذوي الخبرة بإصلاح شأن التجارة والزراعة والصناعة؟
وجواب هذا السؤال: إن ما كان بين أيدي الأمة من هذه الوسائل كان ملائما لمظاهر حياتهم البسيطة، وكافيا لسد حاجاتهم وإحرازهم القوة التي تجعلهم في منعة من أعدائهم، ثم إن الحروب لم تزل - منذ طلع كوكب الدولة - حاملة أوزارها، فلم يأخذ القوم خلالها مهلة ينصرفون فيها إلى النظر في شأن الزراعة ونحوها؛ ولا سيما إذ كانت قلة عددهم بالنسبة لأعدائهم المتألبين عليهم من كل جانب، تضطرهم إلى أن يكون شبابهم وكهولهم وشيوخهم يتقلدون السلاح، ويظلون على أهبة القتال بكرة وعشيا.
فالمؤلف رمى بنفسه في هذا البحث وهو غير واقف على روح التشريع ولا على طبيعة حال الأمة لعهد النبوة، فكان فيما نال به جانب الحكومة النبوية من المسرفين. •••
قال المؤلف في ص84: «ولكنك إذا تأملت وجدت أن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي
صلى الله عليه وسلم
المسلمين من أنظمة وقواعد وآداب، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وهو بعد إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءا يسيرا مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين.»
تهافتت على المؤلف هذه الخواطر لقلة تفقهه في الشريعة، وعدم وقوفه على تاريخ عهد النبوة وقوف الباحث البصير، وحذرا من أن تستدرج هذه الفقرة نفرا ينصتون لها على غير هدى، أسوق كلمة مقتصدة يلقي عليها القارئ نظرة واحدة فيشهد من روح التشريع وتاريخ السياسة النبوية ما تتساقط عنده تلك الشبه صرعى، ويتسلل منه ذلك الرأي لواذا.
لنبحث عن مبادئ الشريعة الاجتماعية السياسية منذ طلعت إلى أن أغلق باب الوحي، ونعرج على نبذة من سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
في تدبير شأن السياسة، حتى تعلم أن الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم لم يخطئوا في فهم الدين، ولم يتفقوا على ضلالة.
نزل القرآن في نحو عشرين سنة، وكان معظم ما نزل بمكة إنما هو كليات الشريعة من تقويم العقائد وإصلاح الأخلاق والعادات، فتجد السور المكية طافحة بالدعوة إلى الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وإقامة الحجج على ذلك، ودفع شبه الجاحدين، والأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، والاعتبار بقصص الأمم الخالية، ثم الإرشاد إلى مكارم الأخلاق من نحو العدل والصدق والحلم والعفو والصبر، والوفاء بالعهد، وحسن الإخاء، وبر الوالدين، وإنفاق المال في طرق الخير، وإيفاء الكيل والميزان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإباية الضيم المنبه عليها بقوله تعالى:
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون .
وهنالك تجد محاربة المزاعم الباطلة، والعادات السمجة، والنهي عن البغي وقتل النفس والزنى، والتطفيف في الكيل والوزن، والخيلاء والإعجاب بالنفس والرياء والكذب، والقول على الله بغير علم، كل ذلك تراه مصوغا في أساليب تلذ الفطر السليمة مذاقها، وتلين القلوب القاسية لجزالتها. وشرع في أثناء ذلك أهم ركن في العبادات، وهي الصلاة، ثم بعض الأحكام الراجعة إلى قسم العادات؛ كبيان ما يحل أكله وما هو حرام، وألقى في النفوس أن الشريعة تمشي بالناس على الطريقة الوسطى، فنزلت آيات في التذكير بنعم هذه الحياة، وأخرى في إباحة الأخذ بزينتها والتمتع بطيباتها. وهنالك وضعت القاعدة الاجتماعية السياسية؛ وهي قاعدة الشورى، ونزل قوله تعالى:
والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون .
وبمثل هذه التعاليم الباهرة والآداب الساطعة تألف حول مقام الرسالة قوم يخالفون سائر القبائل العربية بعقائدهم وأخلاقهم وآدابهم وكثير من عاداتهم، وأصبحوا بين يدي واعظ الإسلام آذانا صاغية، ونفوسا لينة، يقف فيقفون، ويسير فإذا هم على أثره مقتدون.
وبعد هجرة صاحب الرسالة صلوات الله عليه إلى المدينة المنورة، جعل الوحي السماوي يشرع ما بين الوعظ والتذكير أحكاما عملية، وأصولا اجتماعية، تلك الأحكام والأصول التي لا يسنها إلا من قصد إلى بناء دولة تسلك في قضائها وسياستها شرعة خاصة، فترى في السور المدنية عقوبة السارق والزاني والقاذف والساعي في الأرض فسادا، وآيات الجهاد والقضاء العادل، وما يستند إليه من بينات، ثم الإرشاد إلى أصول المعاملات مثل البيع والقرض والرهن والوصية والتوكيل والحجر على القاصرين من سفيه أو يتيم، ثم أحكام النكاح والطلاق والخلع والنفقات والمواريث، والإصلاح بين الأفراد والجماعة، ثم المعاهدات التي تعقد بين المسلمين وغير المسلمين، وهنالك شرعت الزكاة والجزية، وهي أموال تصرف في حاجات ومصالح يجب على الرئيس الأعلى النظر في شأنها، وهنالك فرض الحج، ومن حكمه التعارف والنظر في شئون الأمم الإسلامية قاطبة.
وتجد في السنة النبوية - التي لا يملك المؤلف ولا غير المؤلف أن ينازع في صحتها - أصول الشركة والشفعة والقسمة والمزارعة وإحياء الموات والهبة والفلس، إلى ما عدا ذلك مما هو بيان لبعض ما أجمله الكتاب العزيز في تلك الأبواب وغيرها.
ومن بعد نص الكتاب والسنة، تلك القواعد التي ساقنا البحث إلى التنبيه عليها فيما سلف، فإنها تتعرف في موارد كثيرة منهما لا فرق بين مكي أو مدني، وسواء على المجتهد أن يتعرفها من آيات الأحكام أم من غير آيات الأحكام؛ كالمواعظ ومآخذ العبر، وقد تكون نتيجة استقراء جانب من القرآن وأقوال النبي
صلى الله عليه وسلم
وأفعاله كما انتزعوا قاعدة «ارتكاب أخف الضررين» من مثل قوله تعالى:
وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ، وانتزعوا قاعدة سد الذرائع من مثل قوله تعالى:
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم .
والمقدار الذي يفيد القطع بأن هذا المعنى مقصود للشارع فيجعل قاعدة موكول إلى أنظار المجتهدين الراسخين في العلم بروح التشريع؛ لكثرة تدبرهم في النصوص، وترددهم على ما فصل من أحكام.
وبالوقوف على روح التشريع ساغ لهم أن يقرروا معاني بعض الآيات والأحاديث على حسب ما تقتضيه هذه القواعد، كما قيد الإمام مالك - رضي الله عنه - حديث: «اليمين على من أنكر.» بشرط الخلطة بين المدعي والمدعى عليه، وهو في الحقيقة إنما قيد نص الشارع بقاعدة مأخوذة من نصوصه، وهي قاعدة سد الذرائع؛ إذ لو وجه اليمين على كل مدعى عليه لتمكن أهل السفاهة من امتهان أهل الفضل، ولا يشاء أحد أن يحلف أحدا من أهل الخير والفضل إلا ادعى عليه دعوى يتوصل بها إلى تحليفه وامتهانه.
ولعلك تستخلص من هذا المقال، على ما فيه من إيجاز، أن شارع الإسلام يقصد إلى أن يكون للمسلمين دولة ذات صبغة دينية، وأنه سن لهذه الدولة سبيلا متى جمح عنه الحاكم يمينا أو شمالا كان مسئولا للأمة المسلمة في الدنيا ولمنزل الشريعة في الآخرة. وقد حررنا لك فيما سلف أن الشارع يوجه عنايته إلى حفظ الحقائق أو المصالح، ويترك الوسائل إلى اجتهاد أولي الأمر. يفرض الشارع تنوير عقول الأمة بالعلوم والمعارف. أما أن تكون مدة الدراسة أربع ساعات في اليوم أو خمسا، وأن يشتغل طلبة العلوم بالسياسة أو لا يشتغلون، وأن يعقد لهم امتحان في أول السنة أو آخرها، وأن يمنح التلميذ حرية البحث في نفس الدرس أو لا يفسح له في البحث إلا بمقدار، فذلك كله وأمثاله معه مما ينظر فيه أولو الأمر ويجرونه على حسب ما يتراءى لهم من المصلحة.
فقول المؤلف: «إن كل ما شرعه الإسلام وأخذ به النبي
صلى الله عليه وسلم
من أنظمة وقواعد وآداب إلخ.» إنما هو قول من لم يقف على روح التشريع، ولم يدر أن ما لم تنص عليه الشريعة من الأنظمة إنما هو من النوع الذي يتبدل على حسب ما تقتضيه طبائع الشعوب وأحوال الأزمنة. •••
قال المؤلف في ص85: «إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير، وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا، وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنية أم لا، فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه الرسول.»
يقول المؤلف في هذه الفقرة: إن ما جاء به الإسلام من معاملات وعقوبات غير قائم على رعاية المصالح المدنية، ويقصد بهذا أنها لا تصلح لأن تتمسك بها الدولة في سياستها، وما هو إلا الهوى تزوج بالعقيدة الشوهاء، فكان من نسلهما هذا الرأي العنيد!
أحكام الإسلام ترجع إلى عبادات ومعاملات وعقوبات
أما العبادات فالقصد منها مصلحة البشر الدينية، وقد تتبعها مصالح دنيوية كما قال تعالى:
استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا .
وأما المعاملات والعقوبات فإنه يراد منها إقامة المصالح في الدنيا، وتترتب عليها مصلحة أخروية، وهي الثواب عليها في الدار الباقية، متى صحب العمل بها قصد الامتثال. وهذه المصلحة الأخروية لا تخرج المصلحة الدنيوية عن أن تكون هي المصلحة التي يبحث عنها أصحاب القوانين الوضعية، وإن شئت تحرير البحث في هذا الصدد فإليك التحرير:
للنفوس أربع أحوال: لذة، وسرور، وألم، وغم. فيلتذ الإنسان بالحكمة، ثم بالطيبات من طعام وشراب، وفراش لين ونوم هادئ، ويسر بازدياد الولد وصلاحه، والانتصار على العدو، وأن يكون له لسان صدق في مجالس أهل الفضيلة، ويتألم من الوجع، ومذاق الطعام المر، والشراب الملح الأجاج، وأن يقرع سمعه أنكر الأصوات، أو يمس بدنه حر سلاح أو سياط، ويغتم لفقد مال أو مفارقة صديق، أو استبداد حاكم غشوم.
ومن البديهي أن النفوس تحرص على ما فيه لذة أو سرور، وتنفر مما فيه ألم أو غم، فكل إنسان يسعى بفطرته إلى ما فيه لذته وسروره، ويحذر ما يلاقي به ألما أو غما، ولا تكاد تصرفاته الصادرة عن إرادة وعزم تخرج عن أن يقصد بها نيل ما فيه لذة أو سرور، أو يحترس فيها عما فيه ألم أو غم، وإذا أعرض عما فيه لذة أو سرور، فلينال لذة وسرورا أعظم، وإذا اقتحم موقع ألم أو غم، فليخلص من ألم أو غم أشد أثرا أو أطول أمدا.
وحيث كان الإنسان مخلوقا على فطرة تستدعي أن يعيش في جماعة من أبناء جنسه، وتألف الناس بالفعل شعوبا وقبائل، أصبحت أسباب اللذة والسرور والآلام والغموم تتصادم، فرب عمل فيه لذة شخص أو سروره يجر لآخر غما أو ألما، ورب إحجام إنسان عن موقع ألم أو غم يحرم غيره لذة وسرورا.
فنسمي اللذة والسرور وأسبابها مصالح أو منافع، ونسمي الآلام والغموم وأسبابها مفاسد أو مضار، ونقول: إن تعارض الدواعي في جلب المصالح ودرء المفاسد يفضي بطبيعته إلى تنازع وتقاتل، فاقتضت الضرورة أن يكون للجماعة قانون يكبح القوي عن الاستئثار بمنافع الضعفاء، ويفصل ما ينتشب بين القوتين المتكافئتين من تدافع وخصام.
فالشرائع السماوية والقوانين الوضعية تتحد في أن القصد منها حفظ المصالح ودرء المفاسد، على وجه يجعل كل أحد يصل إلى ملاذه ومسراته بشرط أن لا يلحق بغيره ألما أو غما. وتنفرد الشريعة السماوية بأن تجعل لتطبيق أحكامها بإخلاص مصلحة أخرى؛ وهي رضوان الله أو نعيمه الدائم في الآخرة، وتمتاز بعد كون قوانينها أعدل وأشد مطابقة لمكارم الأخلاق بأن الطائع لها إنما يطيع أمر ربه الأعلى، لا إرادة مخلوق قد يكون أقل منه علما، أو أحط أخلاقا، أو أسفه رأيا. وهذا المعنى الذي تختص به الشريعة السماوية يجعل كثيرا من الناس يمتثلون قوانينها بباعث من أنفسهم، وإن أمنوا من عقوبة السلطان على مخالفتها.
وقد عقد أهل العلم خناصرهم على أن أحكام الشريعة معللة بمصالح العباد في هذه الحياة، وفي تلك الحياة، وأن المصالح التي تقصدها الشريعة السماوية ترجع إلى حفظ النفس والدين والعقل والعرض والنسب والمال، فالقصاص مثلا مشروع لحفظ النفس، وحد الزنا لصيانة النسب، وحد القذف لصيانة العرض، وعقوبة شارب الخمر لصيانة العقل، والجهاد لحفظ الدين، بل الاستعمار الأجنبي دل على أن الجهاد مشروع لحفظ الدين والنفس والعرض والمال، ويرشد إلى هذا قوله تعالى:
وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة .
وكل ما شرع من أحكام المعاملات والتعازير لا يخرج عن الاحتفاظ بهذه الحقوق.
وقد قال ابن الحاجب في مختصر منتهى السول:
10
إجماع الفقهاء على أن أحكام الشرائع معللة، وأن التعليل يشمل كل فرد فرد من الأحكام. وصرح عز الدين بن عبد السلام بأنها معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد، قال في قواعده:
11 «فصل في مناسبة العلل لأحكامها وزوال الأحكام بزوال أسبابها، فالضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلبا لمصلحتها، والجنايات مناسبة لإيجاب العقوبات درءا لمفاسدها.» وقرر أبو إسحاق الشاطبي في كتاب المقاصد من موافقاته
12 «أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا.»
ولبناء أحكام الشريعة على مصالح العباد في الدنيا خاض أهل العلم في البحث عن هذه المصالح، وعقدوا الموازنة بينها وبين المفاسد؛ ليبنوا الحكم على الراجح منهما عند التعارض، كما فعل أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته، وعز الدين بن عبد السلام في قواعده، وتجدهم ينظرون إليها كما ينظر إليها أصحاب القوانين الوضعية من حيث عظمها وصغرها، ومن حيث ما يترتب عليها في الخارج من آثار نافعة أو عواقب سيئة، فهذا عز الدين بن عبد السلام يقول: «فصل في اجتماع المصالح مع المفاسد: إذا اجتمعت المصالح مع المفاسد؛ فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالا لأمر الله تعالى فيهما، وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى:
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة ... والضابط أنه مهما ظهرت المصلحة الخلية عن المفاسد سعي في تحصيلها، ومهما ظهرت المفاسد الخلية من المصالح سعي في درئها، وإن التبس الحال احتطنا للمصلحة بتقدير وجودها وفعلناها، وللمفسدة بتقدير وجودها وتركناها.»
ومن جهة التعليل بالمصالح انفتح باب القياس في الأحكام، وهو إلحاق الوقائع بنظائرها المنصوص عليها حيث اشتركنا في علة الحكم، كما قاسوا القضاء في حال المرض على القضاء في حال الغضب المنصوص عليه في قوله
صلى الله عليه وسلم : «لا يقضي القاضي وهو غضبان.» لأن علة المنع من القضاء متحققة في حال المرض، وهي قلق الفكر واضطرابه. •••
قال المؤلف في ص85: «قد نخاف أن يخفى عليك أمر ذلك التباين الذي نقول إنه كان بين أمم العرب زمن النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأن تخدعك تلك الصورة المنسجمة التي يحاول المؤرخون أن يضعوها لذلك العصر، فاعلم أولا: أن في فن التاريخ خطأ كثيرا، وكم يخطئ التاريخ، وكم يكون ضلالا كبيرا!»
شأن الباحث المحقق أن يحد رأيه من كل جهة ثم يتعرض لما عساه أن يقع في سبيله من روايات المؤرخين، وينقده بحكمة، فيبين وجه مخالفته لسنن الكون، أو لطبيعة حال الأمة التي يقص من أنبائها، أو يعارضه برواية هي أصح سندا، وأرجح وزنا.
كل إنسان يعلم أن في التاريخ حقا وباطلا، ولكن وراء التاريخ علوما وقواعد تميز حقه من باطله، وصحيحه من سقيمه.
فهل نقل المؤلف الروايات التي حاول المؤرخون أن يضعوا بها لعهد النبوة تلك الصورة المنسجمة، وبين وجه مخالفتها للسنن الكونية أو لطبيعة الأمة العربية، أو نقضها بروايات هي أمتن سندا وأوفى وزنا.
كل ذلك لم يقع، ولم يزد المؤلف على مزاعم يلف حبلها على غاربها، ويرسلها سائبة في الورق كالضالة غير المنشودة، فلا شبهة تسترها ولا دليل يقودها، كأنه يبعث بها إلى الصم البكم الذين لا يعقلون.
ولو كان هذا المنطق نافعا، لكان لنا أن نكتفي في نقض هذا الباب بأن نقول لقارئه: قد نخاف أن يخفى عليك أمر ذلك الكتاب الذي نقول: إن مؤلفه يجهل ما كان بين أمم العرب زمن النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأن تخدعك تلك الصورة المزورة التي يحاول أن يضعها للحكومة النبوية؛ فاعلم أولا أن في الآراء خطأ كبيرا، وكم يخطئ الرأي، وكم يكون ضلالا كبيرا! •••
قال المؤلف في ص85: «واعلم ثانيا أنه في الحق أن كثيرا من تنافر العرب وتباينهم قد تلاشت آثاره بما ربط الإسلام بين قلوبهم، وما جمعهم عليه من دين واحد، ومن أنظمة وآداب مشتركة.»
يدعي المؤلف أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يتعرض لتلك الأمم من حيث الحكم والسياسة، والطريق النافع لهذه الدعوى أن ينقد الروايات الشاهدة بأنه عليه السلام كان يولي على تلك الأمم أمراء يسوسونهم بالكتاب والسنة والاجتهاد الصحيح، ولكنه بدل أن يأخذ في هذا الطريق العلمي أخذ يتحدث بما لا يدخل في موضوع البحث، ولا يعود على تلك الدعوى بفائدة.
من أي منفذ يدخل في الموضوع قوله: «إن كثيرا من تنافر العرب وتباينهم قد تلاشت آثاره بما ربط الإسلام بين قلوبهم»؟ ومن الذي يلتبس عليه التنافر والتباين في بعض عادات وآداب بالتباين في الحكم ومرجع السياسة؟
قال المؤلف في ص86: «ولكن العرب على ذلك ما برحوا أمما متباينة ودولا شتى، كان ذلك طبيعيا، وما كان طبيعيا فقد يكفي أن تخفف حدته وتقلل آثاره، ولكن لا يمكن التخلص منه بوجه من الوجوه.»
كأن المؤلف أخذ على عاتقه أن يملأ صحائف معدودة في الحديث عن الحكومة النبوية، وسيان بعد ذلك أن تكون معانيه متناسقة أم متخاذلة.
موضوع البحث: هل تعرض النبي
صلى الله عليه وسلم
لتلك الأمم من حيث الحكم والسياسة، أم تركت كل أمة على ما هي عليه من فوضى أو نظام؟ وإذا المؤلف يخرج إلى الحديث عن تنافر العرب، ولا يستأذن قارئي كتابه في هذا الاقتضاب، ثم يدعي بعد هذا أن كونهم أمما متباينة ودولا شتى أمر طبيعي، وما كان طبيعيا لا يمكن التخلص منه بوجه من الوجوه.
التباين في بعض عوائد وآداب لا تنافي الفضيلة شيء يغمض عنه الإسلام طرفه ولا يهمه أن يزول أو يبقى خالدا، والذي يعنيه ويعمل على تنقية الحالة الاجتماعية منه إنما هي العادات والشئون التي لا تلتئم مع الآداب الرفيعة والمظاهر المألوفة.
فالإسلام يجاهد كل تباين يقوم على عادات ينكرها الأدب، طبيعية كانت أم تقليدية، والدين الذي بلغ الإيمان بحكمته أن يجعل الرجل طوع أمره؛ فيهجر من أجله وطنه، ويقاتل في سبيله أباه وأخاه وعشيرته الأقربين، في استطاعته أن يخرج النفوس المؤمنة من ظلمات حكم الجاهلية إلى الشريعة العادلة والسياسة الحكيمة. •••
قال المؤلف في 87: «وقد لحق
صلى الله عليه وسلم
بالرفيق الأعلى من غير أن يسمي أحدا يخلفه من بعده، ولا أن يشير إلى من يقوم في أمته مقامه. بلى، لم يشر عليه السلام طول حياته إلى شيء يسمى دولة إسلامية أو دولة عربية.»
إن لم يسم عليه السلام أحدا يخلفه من بعده، ولم يشر إلى من يقوم في أمته مقامه، فليس معنى ذلك أنه لم يبعث لإنشاء دولة إسلامية، ولم يأت بشريعة تنتظم سياستها، وإنما لم يسم أحدا يخلفه ولم يشر إلى من يقوم مقامه لمقصد بعيد المدى، وأصل من أصول الدولة يثبت أساسها، ويزيدها حكمة على حكمتها، وهو أن الإمامة حق من حقوق الأمة، هي التي تقلدها، وهي التي تنزعها، تقلدها من آنست فيه الكفاية، وتنزعها ممن عجز عن القيام بأعبائها، أو لعبت بقلبه أصابع الهوى فجعل عاليها سافلها.
وإن تعجب فعجب قول المؤلف: إن النبي عليه السلام لم يشر طول حياته إلى شيء يسمى دولة إسلامية! ولقد ذهب هذا القلم في الجرأة إلى مكان سحيق، يقول حفاظ السنة: لم نسمع كذا، أو لم يبلغنا كذا. ويقول من ينقل حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن الكامل للمبرد: لم يشر عليه السلام طول حياته إلى شيء يسمى دولة إسلامية!
من مثل هذه العبارة يدرك قراء كتابه الأذكياء وأشباه الأذكياء أنه يرمي بالكلام جزافا، ويحاول أخذ قلوبهم ولو على طريق غير معقول، ومنطق ليس له فروع ولا أصول.
يرمي المؤلف هذه المقالة الخاطئة، وفي السنة الصحيحة من أحاديث الإمامة ما فيه عبرة لقوم يفقهون، وقد قصصنا منها ما لا يمكن للمؤلف أن ينازع في صحته، أو يحرفه بالتأول عن مواضعه. •••
قال المؤلف في ص87: «فكيف إذا كان من عمله أن ينشئ دولة يترك أمر تلك الدولة مبهما على المسلمين؛ ليرجعوا سريعا من بعده حيارى يضرب بعضهم رقاب بعض؟! وكيف لا يتعرض لأمر من يقوم بالدولة من بعده وذلك أول ما ينبغي أن يتعرض له بناة الدول قديما وحديثا؟!»
ترك النبي عليه السلام المسلمين على بينة من أمر إمام يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا، ولم يبق سوى أنه لم يعهد بالخلافة لأحد بعينه، والحكمة في عدم تعيين من يقوم مقامه تعليم الأمة المسلمة أن منصب الخليفة يرجع إلى اختيارهم. وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام المفرغة على قالب الحرية، ولكن المؤلف ينظر إلى سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام بمرآة تعكس الحقائق، وتريها له في صبغة غير صبغتها الحسنى.
لم يترك النبي صلوات الله عليه أمر الدولة مبهما على المسلمين، ولم يرجعوا سريعا من بعده يضرب بعضهم رقاب بعض، وما هي إلا مناقشة دارت بينهم في سقيفة بني ساعدة، وسرعان ما طوي بساطها على وفاق وسلام، فإن كان المؤلف يلوح إلى قتال أهل الردة، فأولئك قوم نزلت بهم ضلالة أو استحوذت عليهم جهالة، ولو نص النبي
صلى الله عليه وسلم
على إمامة أبي بكر لنازع أولئك الضالون أو الجاهلون في صحة ما يروى لهم عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يعدموا مغالطة يتملصون بها من عهدة ما تفرضه عليهم النصوص الصريحة، وكتاب الإسلام وأصول الحكم على ما نقول شهيد. •••
حكى المؤلف مذهب ابن حزم في أن النبي عليه السلام نص على استخلاف أبي بكر بعده، وأن معنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه، ثم قال في ص88: «والذهاب مع هذا الرأي تعسف لا نرى له وجها صحيحا، ولقد راجعنا ما تيسر لنا من كتب اللغة فما وجدنا فيها ما يعضد كلام ابن حزم، ثم وجدنا إجماع الرواة على اختلاف الصحابة في بيعة أبي بكر وامتناع أجلة منهم عنها.»
أما كلام ابن حزم فلم يكن المؤلف أول ناقد له؛ فقد قال ابن تيمية في منهاج السنة:
13 «إن الخليفة إما أن يكون معناه أن يخلف غيره وإن كان لم يستخلفه كما هو المعروف في اللغة، وهو قول الجمهور، وإما أن يكون معناه من استخلفه غيره كما قاله طائفة من أهل الظاهر والشيعة ونحوهم.» وقال أيضا: «قالوا: والخليفة إنما يقال لمن استخلفه غيره، واعتقدوا أن الفعيل بمعنى المفعول؛ فدل ذلك على أن النبي
صلى الله عليه وسلم
استخلف على أمته، والذين نازعوهم في هذه الحجة قالوا: الخليفة يقال لمن استخلفه غيره ولمن خلفه غيره، فهو فعيل بمعنى فاعل.»
وأما ما ذكر من امتناع أجلة من الصحابة عن مبايعة أبي بكر فقد كان ذلك في مبدأ الأمر، ثم أطبقوا على مبايعته، ولم يبق سوى سعد بن عبادة - رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام في منهاج السنة ردا على أحد الرافضة في مقالة له تشبه مقالة المؤلف: «وأما الذين عدهم هذا الرافضي أنهم تخلفوا عن بيعة الصديق من أكابر الصحابة، فذلك كذب عليهم إلا على سعد بن عبادة، فإن مبايعة هؤلاء لأبي بكر وعمر أشهر من أن تنكر، هذا مما اتفق عليه أهل العلم بالحديث والسير والمنقولات وسائر أصناف أهل العلم خلفا عن سلف، وقد علم بالتواتر أنه لم يتخلف عن مبايعته إلا سعد بن عبادة.» •••
قال المؤلف في ص89: «بل الحق أنه
صلى الله عليه وسلم
ما تعرض لشيء من أمر الحكومة بعده ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه.»
جاء النبي
صلى الله عليه وسلم
للمسلمين بشرع يرجعون إليه في الحكومة بعده، أما كونه عليه السلام جاء بشريعة ذات أصول قضائية وأخرى سياسية، وأن هذه الأصول لم تفرط في شيء من جلب المصالح ودرء المفاسد، فحقيقة يراها عين اليقين كل من تدبر في القرآن، وتفقه في الدين على طريقة الباحث الحكيم.
وقد بصر علماء الإسلام بهذه الحقيقة، وتضافرت كلمتهم عليها وإن كانوا يختلفون في بعض طرق الاستنباط، ذلك الاختلاف الناشئ عن التفاوت في الفهم، والتفاضل في العلم، والحق قد يخفى على بعض الأفراد، ولكنه لا يستتر عن عيون الجماعات المبثوثة في كل واد.
وأما الدليل على أن هذه الشريعة عامة لا يختص بهدايتها عصر دون عصر، ولا قوم دون آخرين، فهو الكتاب والسنة والإجماع والنظر الصحيح.
أما الكتاب فقوله تعالى:
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ، وقوله تعالى:
إنما أنت منذر ولكل قوم هاد . وهذا يقتضي أن كل ما تقرر بوحي من عقائد وآداب وشرائع يعم بخطابه جميع الأمم، ولا يختص بزمان دون زمان، وكذلك تجد الوعيد على الحكم بغير ما أنزل إليه مصوغا في صورة العموم تجده في قوله تعالى:
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ، وفي آية أخرى:
فأولئك هم الفاسقون ، وفي آية ثالثة:
فأولئك هم الكافرون .
وأما السنة فقوله
صلى الله عليه وسلم : «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة.»
14
وأما الإجماع فأوضح من نار على علم، وممن تعرض له أبو إسحاق الشاطبي؛ إذ قال في موافقاته:
15 «والثالث إجماع العلماء المتقدمين على ذلك - كون الشريعة عامة - من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولذلك صيروا أفعال النبي
صلى الله عليه وسلم
حجة للجميع في أمثالها. وتقرير صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة.»
وأما النظر، فإن الأحكام «إذا كانت موضوعة لمصالح العباد، فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح سواء، فلو وضعت على الخصوص لم تكن موضوعة لمصالح العباد ، فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص.»
16
الباب الثاني
الدولة العربية
النقض - حكومة أبي بكر وسائر الخلفاء الراشدين دينية - أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خير أمة أخرجت للناس - أسباب سيادة الإسلام لعهد الخلفاء الراشدين - بيعة أبي بكر اختيارية إجماعية - كلمة في سيرة أبي بكر. ***
ملخصه
قال المؤلف في أول الباب: إن زعامة النبي
صلى الله عليه وسلم
دينية، وزعم أنها انتهت بموته، وما كان لأحد أن يخلفه في زعامته، وادعى على غير خجل أن زعامة أتباعه من بعده غير قائمة على الدين، وأنها نوع لا ديني، ثم تعرض لتأثير دعوة الإسلام في الأمم العربية، ولتهيئهم لإقامة دولة سياسية على أساس الوحدة الدينية، وأتى على بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - وباهت التاريخ بزعمه أنها قامت على أساس القوة والسيف، وأنها لم تخرج عن أن تكون دولة عربية أيدت سلطان العرب، وروجت مصالح العرب، وخاض في شبه تنبئك أنه «يرى النملة جملا، وإذا رأى غير شيء ظنه رجلا.» وانقاد في حديثه إلى أن أبا بكر وغيره من خاصة القوم لم يزعموا أن إمارة المسلمين كانت مقاما دينيا، ووصل حديثه بأن هناك أسبابا كثيرة ألقت على أبي بكر شيئا من الصبغة الدينية، ثم قال: وكذلك وجد الزعم بأن الإمارة على المسلمين مركز ديني، وانصرف عن الباب بدعوى أن أهم أسباب هذا الزعم ما لقب به أبو بكر من أنه «خليفة رسول الله».
النقض
قال المؤلف في ص90: «طبيعي ومعقول إلى درجة البداهة أن لا توجد بعد النبي زعامة دينية، وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده بعد ذلك فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلا بالرسالة ولا قائما على الدين، هو إذن نوع لا ديني، وإذا كانت الزعامة لا دينية فهي ليست شيئا أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو السياسية؛ زعامة الحكومة والسلطان لا زعامة الدين. وهذا الذي قد كان.»
هذه حلقة من سلسلة الآراء التي يسطو بها المؤلف حول شريعة الإسلام؛ ليزيحها من المحاكم ومن مظاهر الدولة ، حتى لا يرى للسياسة العفيفة وجها، ولا للإباحية المتهتكة زاجرا.
ذهب إلى أن التنفيذ غير داخل في وظيفة الرسول عليه السلام السماوية، وأنه لم يكلف بأن يحمل الناس على ما جاءهم به، وترامى في هذه الجمل على حكومات الخلفاء الراشدين يطعن في عفافها، ويقذفها بسبة اللادينية.
هل للمؤلف أن يغسل قلمه من المواربة ويحدثنا عن قوله تعالى:
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ، وقوله:
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، وقوله:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، وقوله تعالى:
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ويدلنا على المكلف بتنفيذ هذه الأحكام؟!
ليس بجائز في نظره أن يكون المكلف بتنفيذها الرسول عليه السلام؛ لأنه «لم يكلف شيئا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه.»
ثم هو ينفي أن يكون المكلف بتنفيذها ملوك العرب: أبا بكر وعمر وخلفاءهم؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم «ما تعرض لشيء من أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه.» وحكومات أولئك الملوك «نوع من الزعامة جديد ليس متصلا بالرسالة ولا قائما على الدين. هو إذن نوع لا ديني.»
ولعله يجيب بأن الخطاب بها مصروف إلى الأمة، وأنها تتولى دون أولئك الملوك إقامة هذه الحدود على أولئك الجناة. وهي فوضى لا يرضى عنها المستر «أرنولد» ولا الفيلسوف «لك».
ولم يبق للمؤلف مخلص سوى أن يقول: إن هذه الآيات نزل بها الأمين على أكمل الخليقة ليتهجد بها الناس، وليرتلوها ترتيلا!
استهتر المؤلف بمبدأ اللادينية ولم يقنع بأن يجاهد لإعلاء كلمته في الحاضر والمستقبل، حتى صعد نظره إلى الحكومة النبوية وحكومة الخلفاء الراشدين، فرمى الأولى بما رمى، وحاول أن ينزع عن الثانية لباس التقوى، والله يشهد إن أولئك القوم بآياته يوقنون.
كانت حكومة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حكومة إسلامية، تحكم بما أنزل الله، وتسير في سياستها على السبيل التي رسمتها حكمته البالغة، والأدلة على ذلك كثيرة، ولنكتف منها بالكتاب العزيز والتاريخ الصحيح. •••
أما الكتاب فقد قال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ، وفي هذا دليل واضح على أن حكومة أبي بكر - رضي الله عنه - لم تكن من نوع اللاديني؛ إذ الحال الذي ينطبق عليه معنى الآية إنما وقع في عهد خلافته، فإن الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
إنما قاتلهم أبو بكر بمن معه من الصحابة الأكرمين، وقد أخبر الله تعالى أنه يحبهم، وشهد لهم بأنهم يحبونه، ولو كان يحكم بغير ما أنزل الله لكان ظالما أو فاسقا، والله لا يحب الظالمين، ويبغض الفاسقين ، وليس لأحد ادعاء أن الآية مسوقة في غير المرتدين بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فإن تاريخ الإسلام لم يقص علينا أن قوما قاتلوا المرتدين الموجه إليهم خطاب هذه الآية غير أبي بكر وجنده الغالبين.
ومما يشهد بأن حكومة الخلفاء الراشدين دينية إسلامية قوله تعالى:
قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما .
فإن قوله:
ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد
كلام لم يعين فيه «الفاعل الداعي لهم إلى القتال، فدل القرآن على وجوب الطاعة لكل من دعاهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد، يقاتلونهم أو يسلمون، ولا ريب أن أبا بكر دعاهم إلى قتال المرتدين ثم قتال فارس والروم، وكذلك عمر دعاهم إلى قتال فارس والروم، وعثمان دعاهم إلى قتال البربر ونحوهم. والآية تتناول هذا الدعاء كله.»
1 «فإن قال قائل: يجوز أن يكون النبي
صلى الله عليه وسلم
هو الذي دعاهم، قيل له: قال الله تعالى:
فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ، فأخبر أنهم لا يخرجون معه أبدا ولا يقاتلون معه عدوا.»
2
فانظر كيف أوجب الله طاعتهم، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم أو كافر، والله لا ينزل قرآنا في إطاعة الظالمين أو الكافرين.
وأما التاريخ الصحيح، فهذه سيرة الخلفاء الراشدين محفوظة في الكتب الموثوق بروايتها، فلا تراها إلا شاهدة بأن الخليفة كان يحكم بالكتاب والسنة، ولا يرجع إلى اجتهاد رأيه إلا إذا أعوزه الدليل منهما؛ في صحيح البخاري:
3 «كانت الأئمة بعد النبي
صلى الله عليه وسلم
يستشيرون الأمناء في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره؛ اقتداء بالنبي
صلى الله عليه وسلم .» وقال أبو عبيد في كتاب القضاء: «كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنة سنها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر يفعل ذلك
4 ... وتجد هذه السنة في وصية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى شريح حين ولاه قضاء الكوفة: انظر ما يتبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد فيه رأيك.»
5
فقول المؤلف على حكومة أبي بكر: إنها نوع لا ديني. إنما نشأ عن نظرة لا دينية، فهو إذن قول لا ديني. •••
قال المؤلف في ص90 يصف الأمة المسلمة في عهد النبوة: «حتى استحالوا أمة واحدة من خير الأمم في زمانهم.»
قال الله تعالى يخاطب هذه الأمة:
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . ولم يوافق ذوق المؤلف أن يكون أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خير أمة أخرجت للناس، وما سمحت نفسه إلا بأن يجعلهم من خير الأمم في زمانهم، ولعله جعلهم من خير الأمم في زمانهم لأنه لا يراهم من خير الأمم في كل زمان، ولو نظر إليهم كأمة عربية فقط، وأصغى إلى ما يمليه عليه التاريخ وحده، لاعترف كما اعترف بعض المؤرخين من غير المسلمين بأن الأزمنة لم تخرج للناس أمة كتلك الأمة عدلا ورحمة وعفافا، قال جرجي زيدان في تاريخ التمدن الإسلامي
6
يصف حكومة الخلفاء الراشدين: «خلافة دينية أساس أحكامها التقوى والرفق والعدل بما لم يسمع بمثله في عصر من العصور.» •••
قال المؤلف في ص91: «واستعدوا بمثل ما يستعد به شعوب البشر لأن يكونوا سادة ومستعمرين.»
لكل شيء سبب، والمسببات تجيء على حسب أسبابها في القوة والغرابة، وتلك الأمة المسلمة بلغت أشدها وبسطت أجنحتها على تلك الممالك المترامية الأطراف لأسباب فوق الاتحاد، وفوق ما بأيديهم من قوة مادية.
وأحد هذه الأسباب اعتقادهم بأنهم يمتثلون أمر الله فيما يفتحون من البلاد، وأنهم يفيضون على العالم هداية وإصلاحا، وهذا ما يجعلهم على ثبات لا يتزلزل، وإقدام لا يلوي على شيء.
ثانيها: أن حكمة القرآن وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام فتحت بصائرهم فجعلتهم أبعد الأمم نظرا، وأحكمهم رأيا، وأنجحهم تدبيرا.
ثالثها: سمعة عدلهم ولين سياستهم تطير إلى الأمم المحاربة فتكسر من شدة عزمهم في الدفاع، وتخفف عليها أمر الاستسلام لأولئك الهداة الفاتحين.
فارتفاع شأن الأمة الإسلامية لعهد الخلافة الرشيدة له أسباب معتادة وأسباب غريبة؛ ولهذا كانت سيادتهم باهرة في سعة مظهرها، وحكمة نسجها، وسرعة تكونها
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . •••
قال المؤلف في ص92: «وإذا أنت رأيت كيف تمت البيعة لأبي بكر واستقام له الأمر، تبين لك أنها كانت بيعة سياسية ملكية، عليها كل طوابع الدولة المحدثة، وأنها إنما قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوة والسيف.»
أخذ المؤلف على قلمه ميثاقا غليظا، وفرض عليه أن لا يضرب خطوة إلا أن يخالف قرآنا أو سنة صحيحة أو تاريخا صادقا.
جرى عقب وفاة الرسول الأعظم صلوات الله عليه مناقشة في أمر الإمامة كما هو الشأن في كل المسائل المهمة تطرح على بساط المفاوضة، وانتهت هذه المناقشة أو الجدال بمبايعة أبي بكر الصديق، وبعد أن انعقدت له المبايعة على اختيار من أهل الحل والعقد، وتبوأ منصب الخلافة صار له جند وسلاح، وكذلك دين الحق وسياسته الرشيدة تقوم على الحكمة والبيان، ويحرسها السيف والسنان، ولكن المؤلف يخطئ التاريخ الحق، ولا يصيب في فهم ما تقتضيه السنن الكونية.
والتحقيق أن النبي
صلى الله عليه وسلم
عرف أن أصحابه لا يختلفون في فضل أبي بكر وتفوقه عليهم دراية واستقامة، وهذا ما يجعل الآراء متطابقة على تعيينه للخلافة، ففوض الأمر إلى اختيارهم؛ لتبقى سنة إلى الأبد، وذلك ما كان «ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار طمعا في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير ... ثم الأنصار جميعهم بايعوا أبا بكر إلا سعد بن عبادة؛ لكونه هو الذي كان يطلب الولاية ... ولا قال أحد من الصحابة: إن في قريش من هو أحق بها من أبي بكر، لا من بني هاشم ولا من غير بني هاشم. وهذا كله مما يعلمه العلماء العاملون بالآثار والسنن والحديث.»
7 «وأبو بكر بايعه المهاجرون والأنصار الذين هم بطانة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة، وبهم قهر المشركون، وبهم فتحت جزيرة العرب، فجمهور الذين بايعوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هم الذي بايعوا أبا بكر ... ولو قدر أن بعض الناس كان كارها للبيعة لم يقدح ذلك في مقصودها، فإن نفس الاستحقاق لها ثابت بالأدلة الشرعية الدالة على أنه أحقهم بها.»
8
فقول المؤلف: إن البيعة لأبي بكر قامت على السيف والقوة إنما هو وليد نظرة عجلى، وسقط فكر لا يفرق بين من يستولي على الأمة بخيله ورجله، ومن تبايعه الأمة أو جمهورها ثم تكون له جندا وظهيرا. •••
قال المؤلف في ص92: «كانت دولة عربية قامت على أساس دعوة دينية، وكان شعارها حماية تلك الدعوة والقيام عليها. أجل، ولعلها كانت في الواقع ذات أثر كبير في أمر تلك الدعوة، وكان لها عمل غير منكور في تحول الإسلام وتطوره، ولكنها على ذلك لا تخرج عن أن تكون دولة عربية أيدت سلطان العرب، وروجت مصالح العرب، ومكنت لهم في أقطار الأرض فاستعمروها استعمارا، واستغلوا خيرها استغلالا، شأن الأمم القوية التي تتمكن من الفتح والاستعمار.»
نصوغ من سيرة أبي بكر كلمة يتذكر بها القارئ أن ذلك الخليفة الأتقى إنما كان يعمل لإعلاء كلمة الله، وإقامة شريعته الغراء، وإذا نال العرب من وراء هذا العمل مصالح دنيوية، فذلك ما لا يبخس من عمله الصالح نقيرا، ولا يمس نيته الخالصة بسوء.
اعتنق أبو بكر الإسلام عن يقين كفلق الصبح، وإخلاص لا يحوم عليه رياء، أسلم يوم قام النبي
صلى الله عليه وسلم
يدعو إلى دين الحق، وأولئك القوم الغلاظ الشداد ينغضون إليه رءوسهم، ويسومون أتباعه سوء العذاب، أسلم يوم لا يخطر في خيال أحد أنه عليه السلام سيكثر تابعوه ويعتز جانبهم حتى تكون لهم دولة يخضع لسطوتها الجبابرة.
رمى أبو بكر وطنه وراء ظهره، وهاجر رفيقا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
صابرا على مضض الاغتراب، ولم يغترب ليستدر عيشا، أو لينهض من خمول، وإنما هي نفس أشربت إيمانا صادقا، وتجردت لنصرة الحق وطمس معالم الباطل ما وجدت لذلك سبيلا.
لا يسع المقام لأن نبحث عن سيرة أبي بكر في عهد النبوة أكثر من أن نقول: إنه هاجر إلى الله بقلب سليم، وكان مثال الزهد في غير بؤس، والحلم في غير ضعف، والعزة في غير عظمة، وما برح يجاهد في الله حق جهاده إلى أن اشتد بالنبي
صلى الله عليه وسلم
مرض الوفاة وقال لهم: «مروا أبا بكر فليصل للناس.»
9
صعدت الروح النبوية إلى الرفيق الأعلى، فأخذت الدهشة من الصحابة مأخذا اضطربت له الأفكار، ونطقت فيه الألسنة بما لا تنطق به في حال وقار وسكينة، فجاء أبو بكر من غيبة قريبة، وخطب بما دل على ثبات جنانه، ورسوخ علمه، فقال: «ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا
صلى الله عليه وسلم
قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.» وقال:
إنك ميت وإنهم ميتون ، ثم تلا قوله تعالى:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
فكان له في هذا الموقف حكمة أعادت الحائر إلى يقينه، والمضطرب إلى سكينته.
جاء أبو بكر الخلافة إذ كانت له قدرا، ولم يبسط القوم أيديهم إلى مبايعته ليسوسهم بما يسوس به بعض الملوك رعاياهم من القوانين الوضعية، وإنما قلدوه تلك الرياسة على أن يقودهم بكتاب الله وسنة رسوله والاجتهاد الذي يلتئم بأصول الشريعة، وعلى أن يقوم بحراسة الدين والدعوة إليه بحكمة وعزيمة.
والأدلة على أنه كان يتحرى في أحكامه وسياسته الكتاب والسنة مبثوثة في كتب السنة والآثار، وبالغة في الكثرة إلى أن يحصل بها علم لا تخالجه ريبة، وأقرب مثل لهذا محاورته لعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة، فإنها كانت تدور على فهم حديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.» ولم يقدم أبو بكر على قتالهم حتى التمس الحجة من قوله في الحديث: «إلا بحقها.» وقال: «فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لقاتلتهم عليه.»
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «قد ذكر غير واحد، مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني وغيره، إجماع أهل العلم على أن الصديق أعلم الأمة، وهذا بين؛ فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة.»
10
وأما حراسته للدين فمن شواهدها أمره بجمع القرآن في المصاحف حين استحر القتل بالقراء في واقعة اليمامة، وقد كان أولئك الخلفاء يعاقبون من خرج عن الدين ولو في مسائل العبادات، ومثل هذا أن عمر بن الخطاب لما ثبت عنده حديث: «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل.» توعد على عدم الاغتسال من المباشرة الخالية من الإنزال، وقال: «لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضربا.»
11
وأما قيامه بنشر الدعوة وحمايتها؛ فإن قتاله لأهل الردة لم يكن إلا لتثبيت دعائم الدين، وأخذه في فتح الشام والعراق لم يكن إلا في سبيل الدعاية إلى الإسلام ورفع لوائه، ومن شواهد هذا قول أحد رجال الدولة الفاروقية المغيرة بن شعبة لرستم قائد جيش الفرس: «فنحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله ورسوله، وتدخل في ديننا، فإن فعلت كانت لك بلادك، لا يدخل عليك فيها إلا من أحببت، وعليك الزكاة والخمس، وأن أبيت ذلك فالجزية، وأن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك.»
12
وهذه سيرة أبي بكر وسيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
بعد نزول آية الجزية.
وإذا كان أبو بكر وغيره من الخلفاء الراشدين يتحرى مقاصد الشريعة، ويسوس الأمة بأصولها، ويحرس الدين من أن تعبث به يد الجهالة أو الأهواء، ويقوم على أمر الدعاية جهد استطاعته، فذلك معنى كون دولته إسلامية، وذلك معنى الخلافة، ولكن بعض الناس لا يفقهون. •••
يقول المؤلف: «لا تخرج عن أن تكون دولة عربية أيدت سلطان العرب وروجت مصالح العرب، إلخ.»
الذي وقع أن أولئك الخلفاء رفعوا منار الإسلام حتى ضربت أشعته في قلوب أمم كثيرة، وليس من السهل على المؤلف أن يضع على فم التاريخ كمامة، وينكر خدمتهم للإنسانية وإنقاذهم لتلك الأمم من عماية في العقائد، وسماجة في العادات، وجهالة بطرق السياسة الرشيدة، وإذا انجرت إلى العرب مصالح وتمكنوا في أقطار الأرض؛ فذلك من أثر قيامهم بالدعوة إلى الدين الحنيف، واعتصامهم بحبل شريعته الحكيمة
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا .
ولم يسع أولئك الخلفاء لترويج مصالح العرب ولا للتمكين لهم في الأرض؛ فإن من يزهد في الدنيا زهد أبي بكر وعمر فيقنع منه بالثوب المرقع والرغيف الخشن، ويعود إلى منزله بضواحي المدينة ماشيا على قدميه وهو قادر على أن يتمتع بملاذها كما تتمتع الملوك، لا تحمل مساعيه إلا على مقصد أسمى وأشرف من خدمة القومية وحدها؛ وهو امتثال ما أمر الله به من مد ظلال هذا الدين حتى لا تكون فتنة.
وهذا عمر بن عبد العزيز - الذي كان ينسج في سياسته على منوال الصديق والفاروق - كتب إليه عدي بن أرطاة يقول له: «إن الناس قد كثروا في الإسلام وخفت أن يقل الخراج»! فكتب إليه عمر: «فهمت كتابك، والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى أكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا.»
13
فالمؤلف يريد أن يقبض روح الإخلاص من سيرة الخلفاء الراشدين، ويبخس أعمالهم الجليلة قيمتها . وإذا التقت الضمائر النقية بالتاريخ الصحيح يحدثها بأن أولئك السراة رفعوا لواء الحق، وجدعوا أنف الباطل، فجعل الله لهم لسان صدق في الآخرين، وكانوا واسطة عقد القوم المصلحين. •••
قال المؤلف في 93: «كان معروفا للمسلمين يومئذ أنهم إنما يقدمون على إقامة حكومة مدنية دنيوية؛ لذلك استحلوا الخروج عليها والخلاف لها، وهم يعلمون أنهم إنما يختلفون في أمر من أمور الدنيا لا من أمور الدين، وأنهم إنما يتنازعون في شأن سياسي لا يمس دينهم، ولا يزعزع إيمانهم.»
الاختلاف في المسائل العلمية ينشأ من اختلاف الآراء فيما يصلح أو فيمن يليق؛ فقد يتفق الناس على أن الرياسة العامة غير منفصلة عن الدين، ويختلفون في تعيين من يتولاها وكفايته لها اختلافا ناشئا عن تفاوت في النظر أو هوى في النفس. ومن شأن المؤمنين التنافس فيما يكون عمله أشق وثوابه عند الله أوفى، فلا عجب أن يقع التنافس في الخلافة، أو لا يرضى أحد عن ولاية شخص بعينه، مع اتفاقهم جميعا على أنها سياسة ذات صبغة دينية. •••
قال المؤلف في ص94: «وما زعم أبو بكر ولا غيره من خاصة القوم أن إمارة المسلمين كانت مقاما دينيا، ولا أن الخروج عليها خروج على الدين.»
ربما لم يخطر على بال أحد التردد في أن إمارة المسلمين مرتبطة بالدين حتى يحتاج أبو بكر إلى التصريح بذلك، ومع هذا فإن خطبته التي ألقاها في مشهد المبايعة العامة ناطقة بهذا المعنى؛ إذ يقول فيها: «لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله؛ فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.»
14
فقد آذنهم بأنه سيجاهد في سبيل الله، ولا معنى لإطاعته الله ورسوله إلا اقتداؤه بما جاء في الكتاب والسنة من آداب وأحكام.
والخروج على الخليفة بغير حق يعد في نظر الشارع معصية، ولا يسمى خروجا على الدين إلا إذا صح أن يقال لكل مرتكب جريمة: إنه خارج على الدين ، وهم لا يقولونه إلا لمن يرتكب المعصية على عمد واستحلال.
الباب الثالث
الخلافة الإسلامية
النقض - أبو بكر لا يخادع الناس بالألقاب الدينية - هل يقال «خليفة الله»؟ - الخليفة عند المسلمين غير معصوم - حكم المرتدين في الإسلام - حكم مانعي الزكاة - سبب حروب أهل الردة ومانعي الزكاة - واقعة قتل مالك بن نويرة - محاورة عمر وأبي بكر في قتال مانعي الزكاة - حكمة رأي أبي بكر في تلك الحروب - معنى طاعة الأئمة من طاعة الله - السلطان ظل الله في الأرض - وجه ذكر مسألة الخلافة في علم الكلام - تعسف المؤلف وغلوه في إنكار فضل خلفاء الإسلام وملوكه - معنى الرجوع إلى أصول الشريعة في الحكم والسياسة - الخلافة والقضاء من الخطط الدينية السياسية - لا حرية للشعوب الإسلامية إلا أن تساس على مقتضى شريعتها. ***
ملخصه
ابتدأ الباب بالحديث عن لقب «خليفة رسول الله» وقال: إنه لم يستطع أن يعرف على وجه أكيد ذلك الذي اخترعه، وزعم أن خلافة أبي بكر لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
لا معنى لها سوى أنه أصبح كما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
زعيما للعرب ومناط وحدتهم، وتطاول إلى دعوى أن أبا بكر اختار هذا اللقب ليجمع به القوم حوله؛ لأن فيه روعة وعليه جاذبية!
وادعى أن هذا اللقب حمل جماعة من العرب والمسلمين على أن ينقادوا لأبي بكر كانقيادهم لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأن الخروج على أبي بكر عند هؤلاء خروج على الدين وارتداد عن الإسلام، وزعم أن محاربة أبي بكر لمانعي الزكاة لم تكن باسم الدين، وإنما هي السياسة والدفاع عن وحدة العرب، وادعى أن تاريخ تلك الحروب لا يزال مظلما، وأن قبسا لاح من الحقيقة، وهو حوار خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة، وذهب إلى أنه نزاع بين مالك المسلم وأبي بكر القرشي، وأنه كان نزاعا في ملوكية ملك!
وتعرض إلى إنكار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أبي بكر قتاله المرتدين، وعاودته طبيعة التشكيك في المعلوم بالبداهة وقال: لا نريد البحث فيما إذا كانت لأبي بكر صفة دينية جعلته مسئولا عن أمر من يرتد عن الإسلام أم لا، وزعم أن ظروفا خاصة بأبي بكر قد ساعدته على خطأ العامة، وسهلت عليهم أن يشربوا إمارة أبي بكر معنى دينيا، وفسر هذه الظروف بما كان للصديق - رضي الله عنه - من منزلة ممتازة عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم ما كان من حذوه حذو رسول الله عليه السلام في خاصة نفسه وعامة أموره.
وانساب بعد هذا في الحديث عن السلاطين وترويجهم الاعتقاد بأن الخلافة مقام ديني، حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله، وأصبحت الخلافة تلصق بالمباحث الدينية وجزءا من عقائد التوحيد، وترامى به التخبط في البحث حتى صاح صيحته الكبرى قائلا: إن الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما هي خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها!
ثم أشار على المسلمين بأن يهدموا نظامهم العتيق ويبنوا قواعد ملكهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم، ثم أغلق الباب وانصرف شامخا بأنفه، مصرا على عناده كأنه لا يؤمن بيوم تنشر فيه صحف ذلك الكتاب ويقال له:
اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .
النقض
قال المؤلف في ص95: «لم نستطع أن نعرف على وجه أكيد ذلك الذي اخترع لأبي بكر - رضي الله عنه - لقب خليفة رسول الله، ولكنا عرفنا أن أبا بكر قد أجازه وارتضاه.»
خلافة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
القيام مقامه في حراسة الدين وسياسة الناس بمقتضى شريعته. وهذا المعنى تحقق في أبي بكر على ما سنوضحه بمكان قريب، ولتحقق معنى الخلافة في أبي بكر أطبق أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على ندائه وخطابه بهذا اللقب، ولكون خطابهم بهذا اللقب صادقا رضي عنه أبو بكر وآثره على أن يلقب بالملك أو السلطان.
وقد وجدنا في حديث النبي
صلى الله عليه وسلم
تسمية القائمين بالأمر بعده خلفاء؛ ففي صحيح مسلم :
1
قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.» وفي صحيح مسلم
2
أيضا: أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول.»
فلم يبق سوى أننا «لم نستطع أن نعرف على وجه أكيد ذلك الذي اخترع لأبي بكر - رضي الله عنه - لقب خليفة رسول الله.» وعدم استطاعتنا لأن نعرف ذلك عجز لا نأسف له، وجهل لا يمس تلك التسمية بسوء. •••
قال المؤلف في ص95: «ووجدنا أنه استهل به كتابه إلى قبائل العرب المرتدة وعهده إلى أمراء الجنود، ولعلهما أول ما كتب أبو بكر، ولعلهما أول ما وصل إلينا محتويا على ذلك اللقب.»
يريد المؤلف أن يلوح منذ الآن إلى أن هذا اللقب مخترع لاصطياد «الذين رفضوا الإذعان لحكومة أبي بكر.»
وصل إلينا أن أبا بكر شيع جيش أسامة وهو ماش وأسامة راكب، فقال له أسامة: «يا خليفة رسول الله، لتركبن أو لأنزلن.»
3
وبعث أسامة وقع عند ابتداء حركة الارتداد، ولكن الذي يطالع تاريخ ابن جرير الطبري يفهم أنه بعث قبل أن يكتب أبو بكر كتبه للقبائل وعهده إلى أمراء الجنود. •••
قال المؤلف في صحيفة 95: «لا شك في أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان زعيما للعرب، ومناط وحدتهم على الوجه الذي شرحنا من قبل، فإذا قام أبو بكر من بعده ملكا على العرب، وجماعا لوحدتهم على الوجه السياسي الحادث؛ فقد ساغ في لغة العرب أن يقال: إنه بهذا الاعتبار خليفة رسول الله كما يسوغ أن يسمى خليفة بإطلاق؛ لما عرفت في معنى الخلافة، فأبو بكر كان إذن بهذا المعنى خليفة رسول الله، لا معنى لخلافته غير ذلك.»
لا شك في أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان هاديا للعرب والعجم، ومناط وحدتهم على الوجه الذي شرحنا من قبل، فإذا قام أبو بكر من بعده إماما للمسلمين، وجماعا لوحدتهم على الوجه السياسي العادل فقد ساغ في لغة العرب أن يقال: إنه بهذا الاعتبار خليفة رسول الله كما يسوغ أن يسمى خليفة بإطلاق؛ لما عرفت في معنى الخلافة، فأبو بكر كان إذن بهذا المعنى خليفة رسول الله، لا معنى لخلافته غير ذلك. •••
قال المؤلف في ص96: «ولهذا اللقب روعة، وفيه قوة، وعليه جاذبية، فلا غرو أن يختاره الصديق، وهو الناهض بدولة حادثة يريد أن يضم أطرافها بين أعاصير من الفتن، وزوابع من الأهواء العاصفة المتناقضة، وبين قوم حديثي العهد بجاهلية، وفيهم كثير من بقايا العصبية، وشدة البداوة، وصعوبة المراس، لكنهم كانوا حديثي عهد برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والخضوع له، والانقياد التام لكلمته، فهذا اللقب جدير بأن يكبح من جماحهم، ويلين بعض ما استعصى من قيادهم، ولعله قد فعل.»
بحث المسلمون في تاريخ أولئك الرجال المشهود لهم بالصدق فيما يقولون، والإخلاص فيما يفعلون، وقلبوه ظهرا لبطن فلم يجدوا فيهم من يخادع الناس بالألقاب الدينية، ووجدوا كثيرا منهم لا ينخدعون لمظاهر المرائين أو بهرج المحتالين، فأبو بكر أفضل من أن يخدع الناس بلقب «خليفة رسول الله»، وأمة فيها مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أعقل من أن تنخدع للقب لا ينطبق على معنى في صاحبه، وأتقى لله من أن تترك الألقاب الدينية تنصب حبائل لاصطياد أغراض دنيوية ورياسة ملكية.
ولو طالع المؤلف تاريخ أولئك الرجال بالعين التي طالع بها كتاب العلامة المستر أرنولد، لعرف أن في نفس الصديق شيئا فوق «ما تستعد به شعوب البشر لأن يكونوا سادة ومستعمرين.» وذلك الشيء يقينه بأن الله سيظهر دينه، وأن حركة الارتداد سحابة صيف لا تلبث أن تتقشع. يدرك هذا كل من وقف برهة على حالته النفسية، أو أطل عليها من الكلمات التي كانت تصدر عنه في ذلك الشأن.
وقع إلى المسلمين نبأ الفساد الذي ضرب في القبائل العربية قبل مسير جيش أسامة إلى بلاد الروم، فقالوا لأبي بكر: «إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال أبو بكر: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته.»
4
فهذه القصة تنبئك بقوة يقين أبي بكر، وأنه يستخف بكل ثورة لا دينية؛ فقد أنفذ جيش أسامة امتثالا لأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، مع أنه لو أمر بإقامته لوجد في المسلمين عاذرا، ومن الشرع مسوغا.
فالذي بلغت به قوة الإيمان هذا المبلغ العظيم لا يحق لأحد أن يرميه باختراع لقب ديني؛ لينتفع به في تكوين دولة لا دينية. •••
قال المؤلف في ص96: «ولقد حسب نفر منهم أن خلافة أبي بكر للرسول
صلى الله عليه وسلم
خلافة حقيقية بكل معناها، فقالوا: إن أبا بكر خليفة محمد، وكان محمد خليفة الله، فذهبوا يدعون أبا بكر خليفة الله، وما كانوا يكونون مخطئين في ذلك لو أن خلافة الصديق للنبي عليه السلام كانت على المعنى الذي فهموه ولا يزال يفهمه كثير غيرهم إلى الآن، ولكن أبا بكر غضب لهذا اللقب، وقال: لست خليفة الله، ولكني خليفة رسول الله .»
من أهل العلم من منع أن يسمى بخليفة الله نبي أو غير نبي، وعلى هذا المذهب جرى شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة؛
5
بعلة أن الخلافة لا تكون إلا عن غائب، والله مع الخلق أينما كانوا، وتأول آية:
إني جاعل في الأرض خليفة ، وآية:
يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض ، بمعنى الخلافة عمن تقدمه من الخلق، وذهب آخرون إلى صحة إطلاقه على الأنبياء، وبهذا المذهب أخذ القاضي أبو بكر بن العربي وقال في عارضة الأحوذي: «وقيل إن قوله:
إني جاعل في الأرض خليفة ، يريد بعد من تقدمه من الأمم، ولم يثبت شيء من ذلك فلا تعولوا عليه، وإنما هو خليفة لله؛ لأن الأمر والحكم له، فخلفه وأجرى على يديه ما شاء من تدبيره، وسماه بما أجرى على يديه من ذلك خليفة.»
فإذا غضب أبو بكر من تسميته «خليفة الله »؛ فلأنه لا يجوز إطلاقه على مخلوق، أو لأنه لقب لا يستحقه إلا نبي أو رسول. •••
قال المؤلف في ص96: «حمل ذلك اللقب جماعة من العرب والمسلمين على أن ينقادوا لإمارة أبي بكر انقيادا دينيا، كانقيادهم لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأن يرعوا مقامه الملوكي بما يجب أن يرعوا به كل ما يمس دينهم.»
يعرف المسلمون - سلفهم وخلفهم - أن في الوحي الذي نزل به الروح الأمين على أكمل الخليقة عقائد وآدابا ومبادئ حكم وسياسة، وأن أبا بكر استحق اسم خليفة رسول الله من أجل حراسته لهذه العقائد والآداب، وأخذه في سياسة الأمة بتلك المبادئ، ولقيامه على هذه الوظيفة بأمانة وحزم كان جديرا بذلك الانقياد الذي هو في الحقيقة انقياد للشريعة السماوية. وما كانوا ينقادون له انقيادهم لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فإن جميعهم يعلم أن حجرته لم تكن مهبط وحي، وأنه لم يكن بالمعصوم الذي يصيب في كل أمر ونهي، فالخليفة «عند المسلمين ليس بالمعصوم ولا مهبط الوحي، ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة.»
نعم، شرط فيه أن يكون مجتهدا؛ أي أن يكون من العلم باللغة العربية وما معها مما تقدم ذكره، بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معا.»
6 •••
قال المؤلف في ص96: «لذلك كان الخروج على أبي بكر في رأيهم خروجا على الدين وارتدادا عن الإسلام، والراجح عندنا أن ذلك هو منشأ قولهم: إن الذين رفضوا طاعة أبي بكر كانوا مرتدين، وتسميتهم حروب أبي بكر معهم حروب الردة. ولعل جميعهم لم يكونوا في الواقع مرتدين كفروا بالله ورسوله، بل كان فيهم من بقي على إسلامه، ولكنه رفض أن ينضم إلى وحدة أبي بكر لسبب ما، من غير أن يرى في ذلك حرجا عليه، ولا غضاضة في دينه، وما كان هؤلاء من غير شك مرتدين، وما كانت محاربتهم لتكون باسم الدين، فإن كان ولا بد من حربهم فإنما هي السياسة والدفاع عن وحدة العرب، والذود عن دولتهم.»
زعم المؤلف أن الخروج على أبي بكر عند جماعة من العرب والمسلمين خروج على الدين وارتداد عن الإسلام، وزعم أن محاربة أبي بكر لهم لم تكن باسم الدين، وكلا الزعمين من الصور التي يضعها المؤلف في هيئة الحق، وينفخ فيها من روح الباطل، ثم يرسلها على النفوس الزاكية؛ لتخمش وجه عقائدها وآدابها.
ومن أجرأ تلك الجمل قوله: «ولعل جميعهم لم يكونوا في الواقع مرتدين كفروا بالله ورسوله.» كأنه يريد أن يجعل عدم ارتداد جميعهم رأيا ظهر له وحده، مع أن علماء الآثار والتاريخ يقولون: إن من قاتلهم أبو بكر طائفتان: طائفة تبدلت الكفر بعد الإيمان، وهؤلاء المرتدون، وأخرى قالت: نقوم بشرائع الإسلام إلا الزكاة، وهؤلاء يسمونهم «مانعي الزكاة»، وهم الذين عارض الفاروق لأول الأمر في قتالهم.
وأما أن محاربة أبي بكر في سبيل الدين ووحدة المسلمين؛ فلأنه قاتل فرقتين يوجب عليه الدين أن يقاتلهما، وهما أهل الردة ومانعو الزكاة.
أما أهل الردة فقد قال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ، ولقتال المرتد حكم، منها ما نعلم ومنها ما لا نعلم، والذي نعلم أن المشاهدة الطويلة والتجارب الصادقة أرتنا أن أشد الطوائف عداوة للأمة الإسلامية، وأحرصهم على محاربة الدين بما ملكوا من كيد وتضليل هم الذين جاهروا بالخروج على الدين، وناصبوه العداء بعد أن كانوا يسمون أنفسهم المسلمين، ودل الاختبار الصحيح على أن المرتد عن الدين لا يمشي إلا مكبا على وجهه، فلا يرعى للفضيلة عهدا، ولا للناس حقا، ولا ترى له من شأن سوى أن يقذف في طريق تقدم الإنسان وانتظام حال الاجتماع سموما قاتلة للعفاف والسكينة، وكذلك يجب إماطة الأذى عن الطريق.
وأما مانعو الزكاة فإن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء نصيبا مفروضا، وعين لهذا النصيب مصارف، ومن هذه المصارف ما يرجع إلى مصالح عامة، كالاستعداد لمحاربة الأعداء المشار إليها بقوله تعالى:
وفي سبيل الله ، ومنها ما يرجع إلى مصالح أفراد غير معينين؛ كالفقراء والمساكين، وعلى كل حال فللإمام النظر في هذا النصيب المفروض، وله الحق في جبايته وصرفه في وجوهه المشروعة، وإذا امتنع الغني من دفع ما فرضه الله عليه وجب على صاحب الدولة انتزاعه منه ولو بالقوة، وإذا أشهر السلاح جاز قتاله، وكذلك كان قتال أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لمانعي الزكاة. •••
قال المؤلف في ص97: «كم نشعر بظلمة التاريخ وظلمه كلما حاولنا أن نبحث جيدا فيما رواه لنا التاريخ عن أولئك الذين خرجوا على أبي بكر فلقبوا المرتدين، وعن حروبهم تلك التي لقبوها حروب الردة.»
لم يكن في تاريخ تلك الحروب ظلمة، ولا في محاربة أبي بكر لمن لقبوا المرتدين ظلم، وحقيقة الحال أنه عندما ذاع نبأ وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
في أنحاء الجزيرة رفع المضللون رءوسهم ونشطوا لإلقاء الوساوس في قلوب السذج من الأعراب، وأخذ الذين انحشروا في الإسلام رياء يعودون إلى جاهليتهم، فأصبح العرب على ثلاث طوائف: طائفة استمرت على إسلامها الخالص، وهم الجمهور، وطائفة بقيت على الإسلام كذلك إلا أنها جحدت الزكاة على زعم أنها خاصة بزمن النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء كثير، ولكنهم أقل من الطائفة الأولى عددا، وثالثة الطوائف انسلخت من الإسلام وجاهرت بالردة، وهي قليلة بالنظر إلى جاحدي الزكاة وحدها.
ذهب الذين ارتدوا في طغيانهم يعمهون، وأرسل منكرو الزكاة وفودا إلى المدينة المنورة؛ ليفاوضوا أبا بكر - رضي الله عنه - حتى يقرهم على بدعتهم، فأبى لهم ذلك، وصمم على مقاتلتهم إذا هم ظلوا في جهالتهم يترددون.
انصرفت الوفود غير ناجحة في وفادتها، وعرف أبو بكر أن تلك القبائل المتزلزلة العقيدة متحفزة للوثوب على المدينة المنورة، فأقام على أنقابها حرسا «فما لبثوا إلا ثلاثا حتى طرقوا المدينة مع الليل.»
7
فنهض المسلمون حقا في وجوههم، وردوهم على أعقابهم لا يلوون على شيء، ودارت رحى الحروب بين أبي بكر وبين رافعي راية الردة وجاحدي فريضة الزكاة، «فلم يحل الحول إلا والجميع قد راجعوا دين الإسلام.»
8
وراحت ظلال الأمن والهداية تتفيأ في جزيرة العرب ذات اليمين وذات الشمال. •••
قال المؤلف في ص98: «دونك حوار خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة، أحد أولئك الذين سموهم مرتدين، وهو الذي أمر خالد فضربت عنقه، ثم أخذت رأسه بعد ذلك فجعلت أثفية لقدر. يعلن مالك في صراحة واضحة إلى خالد أنه لا يزال على الإسلام، ولكنه لا يؤدي الزكاة إلى صاحب خالد «أبي بكر». كان ذلك إذن نزاعا غير ديني، كان نزاعا بين مالك المسلم الثابت على دينه؛ ولكنه من تميم، وبين أبي بكر القرشي الناهض بدولة عربية أئمتها من قريش، كان نزاعا في ملوكية ملك لا في قواعد دين ولا في أصول إيمان.»
يقول المؤلف فيما سلف: «إن في فن التاريخ خطأ كثيرا، وكم يخطئ التاريخ، وكم يكون ضلالا كبيرا!»
ذلك حكمه على التاريخ متى نقل ما لا يلتئم مع عواطفه وشهواته، فإن نقل ما يتخيل فيه شبهة على أن ليس في الإسلام مبادئ حكم وسياسة، أصبح في نظره القول الفصل والشاهد العدل، دون أن يكلف نفسه بيان وجه الضلال في ذاك، أو وجه الصدق في هذا. ونحن نقص عليك قصة مالك بن نويرة، وانظر ماذا ترى: «لما تنبأت «سجاح» بنت الحارث بن سويد بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
راسلت مالك بن نويرة، وهو عامل على بني حنظلة من تميم، ودعته إلى الموادعة فأجابها، فاجتمع وكيع ومالك وسجاح وقد وادع بعضهم بعضا على قتال الناس.
9
ولما دارت الدائرة على «سجاح» وانصرفت إلى الجزيرة ارعوى مالك وندم وتحير في أمره، حتى دنا منه خالد بن الوليد، وأرسل إليه سرية فيها أبو قتادة، فجاءوا به وبأصحابه إلى خالد، «واختلفت السرية فيهم، فشهد أبو قتادة أنهم أذنوا وصلوا، فحبسهم عند ضرار بن الأزور، وكانت ليلة ممطرة، فنادى مناديه «أن أدفئوا أسراكم.» وكانت في لغة كنانة كناية عن القتل، فبادر ضرار بقتلهم وكان كنانيا، وسمع خالد الواعية
10
فخرج متأسفا وقد فرغوا منهم ... ويقال: إنهم لما جاءوا بهم إلى خالد خاطبه مالك بقوله: فعل صاحبكم، شأن صاحبكم، فقال له خالد: أوليس لك بصاحب؟! ثم قتله. ثم قدم خالد على أبي بكر، وأشار عمر أن يقيد منه بمالك بن نويرة ويعزله، فأبى ... وودى مالكا وأصحابه، ورد خالدا إلى عمله.»
11
هذا ما يحكيه ابن خلدون، وهو خلاصة ما رواه ابن جرير الطبري وغيره، ويتلخص منه أن في قتل مالك روايتين؛ إحداهما: أن قتله وقع خطأ من جندي لا شأن له إلا أن ينفذ ما يأمر به رئيسه الأعلى.
ثانيتهما: أن خالدا قتله لكلام دل على أنه لا يعترف بخلافة أبي بكر. وقد رأيت كيف أعرض المؤلف عن الرواية الأولى لأنها لا توافق ما يخالط نفسه «من عواطف وشهوات».
ولنساير المؤلف في هذه الرواية الراجحة عنده، ونبحث فيها من وجهين: هل كان خالد محقا في قتل مالك بن نويرة أم لا؟ وهل ما فعله الصديق من معذرة خالد صواب أم لا؟
الجواب عن السؤال الأول: أن كلا من عمر بن الخطاب وأبي بكر يرى أن خالدا مخطئ في قتل مالك بن نويرة، غير أن عمر بن الخطاب رأى أن خالدا قتله عمدا بغير حق فيؤخذ بالقصاص، وأبا بكر رأى بعد أن اجتمع بخالد أنه قتله على خطأ في التأويل؛ ولهذا دفع أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى أولياء القتلى دياتهم.
والجواب عن السؤال الثاني: أن كل أحد، أستاذا كان في السياسة أو تلميذا، يعلم أن لوقت الحرب أحكاما غير أحكام وقت السلم، فالإمام يتصرف في شئون الحرب على ما يقتضيه التدبير الناجح، ويتطلبه الانتصار الفاصل. ومن المتعين على الإمام أن يعطي لأمير الجيش الذي وثق بكفايته سلطة واسعة، وكذلك فعل أبو بكر عندما وضع لواء الإمارة في يد خالد. وكان لخالد الأثر العظيم في إطفاء فتنة المرتدين وإخماد ثورة المنشقين، وإنما وقعت منه هذه الحادثة؛ قتل مالك بن نويرة، على الرواية المختارة لدى المؤلف، وأبدى عذرا يجعله متأولا في قتله، فمن السياسة الشرعية أن يقول أبو بكر: «ما كنت أقتله؛ فإنه تأول فأخطأ.»
وما ادعاه المؤلف من أن النزاع بين مالك التميمي وأبي بكر القرشي نزاع في ملوكية ملك لا في قواعد دين، فأمر اشتهته نفسه ولذه قلمه، والواقع أن أبا بكر «خليفة رسول الله» كان يدعو مالكا المسلم لإقامة قاعدة من قواعد الدين؛ وهي الزكاة، ومالك المسلم يأبى إقامة هذه القاعدة، ومما يدخل في وظيفة أبي بكر أن يحمل كل طائفة مسلمة على إقامة القواعد الشرعية، ومما يدخل في وظيفته أن يجمع شمل المسلمين تحت راية واحدة.
ولو كان للمؤلف ذوق في الإسلام وإنصاف للتاريخ لقدر نتيجة تلك الحروب حق قدرها، واعترف بما كان لها من فضل على العالم أجمع، فإنها الوسيلة لإحكام عرى دولة إسلامية خدمت حقوق الإنسان، ورفعت منار العلم، وأرت الناس المساواة والحرية في أحسن تقويم. •••
قال المؤلف في ص99: «ثم ألسنا نقرأ في التاريخ أيضا: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد أنكر على أبي بكر قتاله المرتدين وقال: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله»؟!»
لم ينكر عمر قتاله المرتدين عن الإسلام؛ فإن قتالهم جائز بإجماع، وإنما أنكر قتال مانعي الزكاة، واستشهاده بالحديث صريح في أنه يعارض في قتال قوم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. وقد قطف المؤلف من محاورة الشيخين - رضي الله عنهما - إنكار عمر، وترك أمرين؛ وهما: جواب أبي بكر، ورجوع عمر إلى رأي أبي بكر، وكلاهما ثابت في الصحيح، قال شيخ الإسلام في منهاج السنة:
12 «وأما قول الرافضي: إن عمر أنكر قتال أهل الردة، فمن أعظم الكذب والافتراء على عمر، بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسيلمة وأصحابه، ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام وامتنعوا عن أداء الزكاة، فهؤلاء حصل لعمر شبهة في قتالهم حتى ناظره الصديق وبين له وجوب قتالهم فرجع إليه ، والقصة في ذلك مشهورة، وفي الصحيحين عن أبي هريرة، أن عمر قال لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله»؟! قال أبو بكر: ألم يقل «إلا بحقها»؟ فإن الزكاة من حقها. والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لقاتلتهم على منعه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. وعمر احتج بما بلغه أو سمعه من النبي
صلى الله عليه وسلم ، فبين له الصديق أن قوله: «بحقها.» يتناول الزكاة؛ فإنها حق المال.» •••
قال المؤلف في ص100: «لا نريد البحث فيما إذا كانت لأبي بكر صفة دينية صرفة جعلته مسئولا عن أمر من يرتد عن الإسلام أم لا.»
لأبي بكر صفة دينية سياسية جعلته مسئولا عن أمر من يعلن الردة عن الإسلام، وقد أوفى بعهد الخلافة، وألقى عن عاتقه عبء هذه المسئولية، فحمى الجزيرة من وباء الردة، وطهرها من رجس الجاهلية، فأصبحت أمة مسلمة قوية الحجة، بديعة الحكمة: إذا حاربت ظفرت، وإذا حكمت عدلت.
ولولا أن أبا بكر فصد عرقا ارتجف في جسم الأمة بدم فاسد لانحرف مزاجها، واختل نظامها، ولم يجد الخلفاء من بعده أساسا يقيمون عليه سياستهم العادلة. •••
قال المؤلف في ص102: «حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.»
لم يفهم السلاطين الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله، وإنما فهموا ذلك من الآيات والأحاديث التي تفرض على أولي الأمر الحكم بما أنزل الله، ثم تحتم على الناس أن يطيعوهم في غير معصية، وإذا كان الحاكم يقتدي في أحكامه وسياسته بأصول الشريعة، ولا يخرج في سياسته عن مقاصدها، كانت طاعته من طاعة الله، وعصيانه من عصيان الله، ويرشد إلى هذا قوله
صلى الله عليه وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني.»
13 •••
قال المؤلف في ص102: «بل جعلوا السلطان خليفة الله في أرضه، وظله الممدود على عباده. سبحان الله وتعالى عما يشركون!»
ينكر المؤلف أن يقال: «السلطان ظل الله.» ويشير إلى أنه من الشرك، مع أنه ورد «السلطان ظل الله في الأرض.» في أحاديث ترفع إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهي مروية بطرق متعددة؛ منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف. تجد هذه الأحاديث في الكتب المتداولة كالجامع الصغير وغيره.
فإن كان المؤلف لا يدري أن هذه الكلمة «السلطان ظل الله في الأرض.» جاءت في الأحاديث النبوية؛ فقد ألقى بنفسه في بحث ديني وهو لا يملك من وسائله سوى القلم والدواة، وإن كان قد اطلع على أنها وردت في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فليس من شأن العالم المحقق أن يعدها من أثر الشرك إلا بعد أن يفحصها بطريق علمي وينقيها من الأحاديث النبوية.
ولا شبهة للمؤلف في إنكار أن يقال: «السلطان ظل الله.» فإن معناه صحيح، وحكمته ملموسة باليد؛ إذ الكلام وارد على سبيل التشبيه، ووجه تشبيه السلطان بالظل أن الناس يحتمون به من الظلم والأذى، كما يأوون إلى الظل تفاديا من حر الشمس، ولا يكون السلطان ظلا ينسب إلى الله إلا إذا كان يسوس الناس بعدل وحكمة. •••
قال المؤلف في ص102: «ثم إذا الخلافة قد أصبحت تلصق بالمباحث الدينية، وصارت جزءا من عقائد التوحيد يدرسه المسلم مع صفات الله تعالى وصفات رسله الكرام، ويلقنه كما يلقن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.»
يقول علماء الكلام بأصرح عبارة وأجلى بيان: إن مبحث الخلافة من الأحكام الفرعية، وليست من العقائد في شيء، ويبدون لوضعها عقب مسائل الكلام عذرا بينا، قال الكمال بن أبي شريف في حواشي السعد على العقائد النسفية: «والتحقيق أن مباحث الإمامة من الفقهيات، لكن لما شاع بين الناس اعتقادات فاسدة، وظهر من أهل البدع والأهواء تعصبات فيها تكاد تفضي إلى رفض كثير من العقائد الإسلامية، ونقض بعض العقائد الدينية، والقدح في الخلفاء الراشدين، ألحقت تلك المباحث بالكلام، وجعلت من مقاصده.»
فهذا وما نقلناه [في الفصل الثاني] من كلام السعد في شرح المقاصد، والسيد في شرح المواقف، يشهد لكم بأن علماء الإسلام يصرحون بأن الإمامة ليست من العقائد، وإنما أوردها بعضهم في علم الكلام للوجه الذي قرره السعد والسيد والكمال، فما ينبغي للمؤلف أن يرمي أولئك العلماء بأنهم جعلوا مبحث الخلافة جزءا من عقائد التوحيد، ويضع للبحث صورة مشوهة كأنه يصوت في واد لا ينبت إلا أغبياء أو جهالا! •••
قال المؤلف في ص102: «تلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين، أضلوهم عن الهدى، وعموا عليهم وجوه الحق، وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين أيضا استبدوا بهم وأذلوهم، وحرموا عليهم النظر في علوم السياسة، وباسم الدين خدعوهم وضيقوا على عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعا، حتى في مسائل الإدارة الصرفة والسياسة الخالصة. وقد ضيقوا عليهم أيضا في فهم الدين، وحجروا عليهم في دوائر عينوها لهم، ثم حرموا عليهم كل أبواب العلم التي تمس حظائر الخلافة.»
اندفع قلم المؤلف ينقر بشوكته في أساس الإسلام ليجرده من جميع مميزاته، ويخرجه عن فطرته، حتى إذا أصبح دينا ضئيلا خاملا اندمج في الملة التي افتتن المؤلف بتقاليدها.
اخترع للخلفاء الراشدين تاريخا غير التاريخ الذي يحكيه علماء التاريخ والآثار، وحشر في هذا التاريخ المخترع فلسفة المتهالك على أن يقطع صلة أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالإسلام إلا أن تكون صلاة أو صياما.
ذلك القلم الذي انتهك حرمة الشريعة، وساعده أدبه على أن يضع لتاريخ أولئك العظماء صورة مزورة، هو الذي يحثو على سمعك تلك الجمل التي يهجو بها خلفاء الإسلام وملوكه من غير استثناء.
نحن نعلم أن في بعض خلفاء الإسلام وملوكه استبدادا وسيرا بالأمة إلى وراء، ولكن الذي عرف أن في الفضائل فضيلة يقال لها: الأمانة، وأن فيما يدرسه الأطفال علما يقال له : التاريخ، لا يسمح لقلمه أن يلتقط من بين مآثرهم الفاخرة الخالدة سيئات يضيف إليها ما يقرؤه في لوح عواطفه وشهواته، ثم ينظم ذلك كله في خيط ويقول للناس: خذوا سيرة خلفائكم وملوككم.
لم يحك التاريخ أن خلفاء الإسلام وملوكه حرموا على الناس النظر في علوم السياسة، أو حرموا عليهم بابا من أبواب العلم التي تمس حظائر الخلافة، بل كان الناس يؤلفون الكتب في السياسة فيتلقونها منهم بكل طمأنينة وارتياح، وترى كثيرا منهم كانوا يظهرون بمظهر الحكمة والرصانة، ويطلقون لدعاة الإصلاح حرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانوا يقرعون أسماعهم بالإنكار على ما يصدر عنهم من تصرفات غير لائقة، فيحتملونها بروية وأناة، وربما قابلوها بالشكر والإقلاع.
يقول المؤلف: «وباسم الدين خدعوهم وضيقوا على عقولهم فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعا، حتى في مسائل الإدارة الصرفة والسياسة الخالصة.»
هذا كله رجم بجهالة، ورمي بسهام خاسئة؛ فإن القوانين التي يفصل بها بين المتخاصمين لا مرجع لها سوى أصول الدين مع مراعاة مقتضيات الأحوال، وأما الإدارة الصرفة والسياسة الخالصة فشرط الدين فيها أن تكون دائرة على المصلحة، ملائمة للآداب التي شرعها. أما الطرق التي تؤخذ لاتباع الأصلح واللائق فإنها موكولة إلى نظر أولي الأمر، فيستنبطونها من عقولهم أو تجاربهم، أو يقتدون فيها بصنيع غيرهم. وهذا هو المبدأ الذي يعرفه العلماء، ويسير عليه خلفاء الإسلام وملوكه، غير أنهم يتفاوتون في القيام عليه، فمنهم من يمشى فيه على صراط سوي، ومنهم من يخل به في بعض تصرفاته فينحرف عنه إلى اليمين أو إلى اليسار.
ومجمل القول أن انسياب المؤلف في الطعن على خلفاء الإسلام وملوكه بهذه اللهجة التي قرأتم أو سمعتم، أوضح مثال وأصدق شاهد على أنه لا يكتب عن علم وروية وأمانة، بل يكتب عن شهوة وعاطفة غير إسلامية وغير عربية. •••
قال المؤلف في ص103: «والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة.»
أتى المؤلف بهذه الكلمات كالنتيجة للأبواب التسعة وما حشاها به من شبه ومزاعم، وقد نبهنا على منشأ هذه الشبه والمزاعم فتخاذل أمرها وذهبت جفاء.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على ما حاول الطعن به في أدلة الخلافة، وقد عرفت أن الخلافة من الأحكام العملية التي يكتفى فيها بدلالة حديث أو قاعدة أو إجماع، وقد قامت هذه الأدلة الثلاثة: السنة والقواعد والإجماع على وجوب نصب الخليفة، فكانت الخلافة ثابتة بما يفيد علما قاطعا.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يول على الناس من يقوم بالحكم فيما ينشب بينهم من الخصومات، وقد سقنا إليكم الروايات الصحيحة على أن القضاء كان داخلا فيما يناط بعهدة الأمراء، وأن من الروايات ما نص فيه على القضاء باسمه الخاص؛ كحديث علي وعمر ومعاذ - رضي الله عنهم.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن النبي
صلى الله عليه وسلم
مبلغ فقط، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به، وقد فندنا هذا الزعم تفنيدا بما أقمناه من الأدلة على أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان مرشدا واعظا، وإماما منفذا، وأن التنفيذ داخل في وظيفته السماوية، وأنه كان ينفذ الأحكام عمليا، ومما جاء في صحيح البخاري:
14 «والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله.»
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن ما شرعه الإسلام من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في شيء قليل ولا كثير من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وأنه لا يبلغ أن يكون جزءا يسيرا مما يلزم لدولة مدنية، وقد أريناك أن قواعد الإسلام وأنظمته قائمة على رعاية المصالح التي يبحث عنها أصحاب القوانين الوضعية، فيصيبونها تارة، ويخطئونها تارة أخرى، وأن الواقف على روح التشريع الإسلامي يرى عين اليقين أنه يوافق طبيعة كل زمان ومكان، وأنه لا يهمل مصلحة يقتضيها حال شعب من الشعوب، ولكن المؤلف «من أولئك الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة.» ولقد كان علمه بأساليب الحكم السياسي وأنظمة الدول المدنية يشابه علمه بأنظمة الإسلام وقواعده وآدابه، ولكون بضاعته في العلم والسياسة مزجاة خرج كتابه مزيجا من آراء دينية وأخرى سياسية، فابتسم من نوادرها رجال العلم ازدراء، ونغض إليها السياسيون برءوسهم هزءا.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على زعمه أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يشر إلى أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه. وقد عرفت أن أحاديث الخلافة وغيرها كحديث خطبة الوداع: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا.»
15
ثم ورود آيات الأحكام في صيغ العموم كقوله تعالى:
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، كل ذلك يدل على أنه جاء بشريعة يرجع إليها المسلمون في حكومتهم بعده كما كان
صلى الله عليه وسلم
يسوسهم بها في حياته.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن حكومة أبي بكر كانت لا دينية ، وقد سقنا لكم الدليل إثر الدليل على أن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يكن ظالما ولا فاسقا ولا كافرا، وأنه كان يحكم بكتاب الله أو سنة رسول الله، فإن لم يجد نصا في الكتاب والسنة استشار العلماء من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأخذ بالرأي الذي يرشده روح التشريع إلى أنه قول الحق.
فدعوى المؤلف «أن الخلافة والقضاء وغيرهما ليست في شيء من الخطط الدينية، وأن الدين لم يعرفها ولم ينكرها.» هي من سلالة آراء لا دينية، فلا دليل يركن إليها، ولا شبهة ظن تقوم بجانبها. •••
قال المؤلف في ص103: «لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم.»
ليس في الإسلام نظام عتيق يمنع المسلمين من أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة، وليس في الإسلام نظام عتيق يعد الخاضع له مهانا أو ذليلا، وإن في أصول شريعتهم ما يثمر لهم قوانين تفوق قوانين البشر، وتأخذ بمصالحهم أخذ حكيم مقتدر.
فالمسلمون حقا لا بد أن يكونوا أرجح عقولا، وأرفع همما من أن يسلوا أيديهم من أصول شريعتهم الفسيحة المجال، الناسجة على أحكم مثال، ويضعوها في تقليد أمم ليسوا بأصوب نظرا، ولا أدرى بالمصلحة.
فنصوص الشريعة متضافرة على أن الرياسة العامة وما يتفرع عليها من نحو القضاء خطط دينية سياسية، فصاحب الدولة إذا ساس الناس بمقتضى نظر الشريعة كانت سياسته قيمة، وسمي عند الله عادلا، فإن خرج في سياسته عن النظر الشرعي أصبح مسئولا بين يدي الأمة في الدنيا، ومؤاخذا بها يوم يقوم الناس لرب العالمين.
والقاضي إذا صاغ حكمه على أصول الشريعة كان قضاؤه صحيحا، ووجب الإذعان له في السر والعلانية؛ فإن استند حكمه إلى قانون ما أنزل الله به من سلطان كان حكما جائرا، ولا يحتمله المسلم إلا أن يوضع عليه بيد قاهرة.
وإذا كانت القوانين الوضعية لا يخضع لها المسلمون بقلوبهم، ولا يتلقون القضاء القائم عليها بتسليم كان تقريرها للفصل بينهم غير مطابق لقاعدة الحرية؛ إذ المعروف أن الأمة الحرة هي التي تساس بقوانين ونظم تألفها، وتكون على وفق إرادتها أو إرادة جمهورها.
فالشعوب الإسلامية لا تبلغ حريتها إلا أن تساس بقوانين ونظم يراعى فيها أصول شريعتها، وكل قوة تضرب عليها قوانين تخالف مقاصد دينها فهي حكومة مستبدة غير عادلة.
فالذين ينقلون قوانين وضعها سكان رومة أو لندرة أو باريز أو برلين، ويحاولون إجراءها في بلاد شرقية كتونس أو مصر أو الشام، إنما هم قوم لا يدرون أن بين أيديهم قواعد شريعة تنزل من أفق لا تدب فيه عناكب الخيال أو الضلال، وأن في هذه القواعد ما يحيط بمصالح الأمة حفظا، ويسير بها في سبيل المدنية الراقية عنقا فسيحا.
ولو قيض الله للشعوب الإسلامية رؤساء يحافظون على قاعدة حرية الأمم، لألفوا لجانا ممن وقفوا على روح التشريع الإسلامي وكانوا على بصيرة من أحوال الاجتماع ومقتضيات العصر، وناطوا بعهدتهم تدوين قانون يقتبس من أصول الشريعة، ويراعى فيه قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد. وبغير هذا العمل لا يملك المسلمون أساس حريتهم، ولا يسيرون في سبيل سعادتهم آمنين.
قام في زمن قريب بعض من تخبطه الجهل والغرور، وصاح في وجه حكومة شعب مسلم صيحة المعربد، منكرا عليها ما قررته في قانونها الأساسي من جعل الإسلام دينا رسميا للدولة. وقد ردد المؤلف في نتيجة أبوابه التسعة هذه الصيحة؛ إذ حاول أن يقطع الصلة بين الدين والسياسة، ويحارب آداب الإسلام القاعدة للإباحية الفاسقة في كل مرصد، ولكن الفرق بين ذلك الصائح وهذا الصدى: أن الأول وثب على المسألة وثوب أهبل لا يعرف يمينه من شماله، أما المؤلف فقد أدرك أن الأمة مسلمة، وأن الإسلام دين وشريعة وسياسة، وأن هاتين الحقيقتين يقضيان على الدولة أن تضع سياستها في صبغة إسلامية، فبدا له أن يعالج المسألة بيد الكيد والمخاتلة، ويأتيها باسم العلم والدين، فكان من حذقه أن التقط تلك الآراء الساقطة وخلطها بتلك الشبه التي يخزي بعضها بعضا، وأخرجها كتابا يحمل سموما لو تجرعها المسلمون لتبدلوا الكفر بالإيمان، والشقاء بالسعادة، والذلة بالعزة
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون .
ناپیژندل شوی مخ