ولم يكن أحد أشد على رسول الله صلى الله عليه وآله من قراباته الأدنى منهم فالأدنى كأبى لهب عمه، وامرأة أبى لهب، وهى أم جميل بنت حرب بن أمية وإحدى أولاد عبد مناف. ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط وهو ابن عمه، وما كان من النضر بن الحارث وهو من بنى عبد الدار بن قصي وهو ابن عمه أيضا، وغير هؤلاء من يطول تعداده، وكلهم كان يطرح الأذى في طريقه وينقل أخباره، ويرميه بالحجارة، ويرمى الكرش والفرث (2) عليه، وكانوا يؤذون عليا عليه السلام كأذاه، ويجتهدون في غمه ويستهزئون به، وما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة على. ولما كان بين على وبين النبي صلى الله عليه وآله من الاتحاد والألف والاتفاق، أحجم المنافقون بالمدينة عن أذى رسول الله صلى الله عليه وآله خوفا من سيفه وأنه صاحب الدار والجيش، وأمره مطاع وقوله نافذ، فخافوا على دمائهم منه فاتقوه، وأمسكوا عن إظهار بغضه وأظهروا بغض علي عليه السلام وشنآنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقه الخبر الذي روى في جميع الصحاح: " لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق ". وقال كثير من أعلام الصحابة كما روى في الخبر المشهور بين المحدثين: " ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالب ". وأين كان ظهر أبى طالب من جعفر وقد أزعجه الأذى عن وطنه حتى هاجر إلى بلاد الحبشة وركب البحر. أيتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر عليا وخذل جعفرا؟!
(5) ص 25 - 27 من العثمانية
أما ما ذكره من كثرة المال والصديق، واستفاضة الذكر وبعد الصيت، وكبر السن، فكله عليه لا له. وذلك لأنه قد علم أن من سيرة العرب وأخلاقها حفظ الصديق، والوفاء بالذمام، والتهيب الذي الثروة، واحترام ذي السن العالية، وفى كل هذا ظهر شديد وسند، وثقة يعتمد عليها عند المحن، ولذلك كان المرء منهم إذا تمكن من صديقه أبقى عليه واستحيا منه، وكان ذلك سببا لنجاته والعفو عنه.
على أن علي بن أبي طالب عليه السلام إن لم يكن شهره سنه فقد شهره نسبه وموضعه من بني هاشم، وإن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال وكثرة الاسفار استفاض بأبي طالب. فأنتم تعلمون أنه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم، ولا أبو قحافة كأبى طالب. وعلى حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن، ويبعد صيت الحدث على الشيخ.
ومعلوم أيضا أن عليا على أعناق المشركين أثقل، إذ كان هاشميا وإن كان أبوه حامى رسول الله صلى الله عليه وآله والمانع لحوزته. وعلى هو الذي فتح على العرب باب الخلاف واستهان بهم بما أظهر من الاسلام والصلاة، وخالف رهطه وعشيرته وأطاع ابن عمه فيما لم يعرف من قبل، ولا عهد له نظير، كما قال تعالى: " لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ".
ثم كان بعد صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ومشتكى حزنه، وأنيسه في خلوته وجليسه، وأليفه في أيامه كلها. وكل هذا يوجب التحريض عليه ومعاداة العرب له.
مخ ۳۰۹