كان الشيخ عبد الباقي لا يقبل التحدي ولا يرضخ لهزيمة مهما كانت قوة التحدي وعظم الهزيمة. وله في ذلك نوادر عديدة، منها أن كبار تلاميذه في مكتبه القرآني يحلو لهم في بعض الأحيان أن يتخلفوا عن الكتاب لقضاء يومهم في لهو ولعب، ولكن الشيخ كان دائما يحرمهم من متعهم حيث يأتي بهم ولو كانوا في أقصى الحقول والبساتين، وهو يعرفها معرفة جيدة وقد قضى عز شبابه عاملا بها. فدبروا هذه المرة خطة محكمة، وهي السفر إلى قرية مجاورة في الحافلة الوحيدة التي تقوم بنقل الركاب صباحا لتعود في المساء مارة بتلك القرية التي تبعد عن قريتهم بخمسة عشر ميلا، وبهذا فقط يأمنون تدخل الشيخ في إفساد راحتهم المغتصبة. نفذ التلاميذ خطتهم وحان موعد القراءة، وتبين الشيخ غياب التلاميذ، وبعد البحث والاستقصاء استجلى الخبر، وعرف التفاصيل، وتهامس الحاضرون من التلاميذ باستسلام الشيخ للأمر الواقع، وقالوا إنه لا يجد حلا للقضية إلا أن ينتظر الغد لعقابهم، وذهبوا يتخيلون العقاب ويبتسمون ابتسامات خبيثة فهم الشيخ معناها، ولكن هذا الرجل الذي لا يقبل التحدي فاجأهم بما لم يتوقعوه فقام لحينه بتكليف أكبر التلاميذ بمراقبة الكتاب وتوجه إلى القرية المجاورة ماشيا على الأقدام وعاد بالتلاميذ في حالة يرثى لها من التعب والخذلان. •••
كان الشيخ عبد الباقي يقول إنه الوحيد الذي كسب من التعليم، وفعلا فقد تمكن من شراء بساتين ودار لسكناه وتزوج وأنجب أطفالا، ولكنه رغم كل ذلك لم ينقطع عن الأعمال اليدوية، فلا زال يباشر خدمة بستانه بيده دون الالتجاء إلى مساعدة أحد، والرجل يتمتع بقوة ويتمتع بصحة. وكان ذات يوم يقوم ببناء جدار في بستانه بمساعدة بعض المحظوظين من تلاميذه؛ لأن المحظوظ هو الذي يختاره الشيخ لمساعدته في أعماله، وما كاد يحل المساء حتى ارتفع الجدار، وكان الشيخ لا يحسن البناء ولهذا لم يلبث هذا الجدار حتى انهار، لكن الشيخ الجبار عارضه بصدره العريض وساعديه المفتولين يحاول إمساكه، وغاضه أن ينهار عمله بين يديه، ولكن قوة البناء تغلبت على قوته، وانقض الجدار فوقه فألزمه الفراش أياما وكانت آلام الهزيمة في نفسه أقوى من آلامه الجسمانية ورضوضه الجسدية، ولهذا ما كاد يتماثل إلى الشفاء حتى كلف مساعده بالكتاب القرآني، وانقطع لتعلم البناء حتى حذقه وأتقن فنونه وقام بعدة مقاولات تخص بعض البنايات في القرية وخارجها إلى أن قهر البناء وانتقم من الجدار الذي ألزمه الفراش أياما ثم عاد إلى أعماله العلمية وابتسامة النصر تعلو شفتيه. •••
تخرج على يد الشيخ عدد وافر نجحوا كلهم في مختلف ميادين الحياة واستفادوا من عزيمته الحديدية وإرادته الفولاذية أكثر من استفادتهم من معلوماته، وكانوا جميعا يحبونه ويحترمونه ويخضعون له، كما كانوا في عهدة التلمذة والطفولة، فلم يتغير شيخهم في نظرهم، ولم يتغيروا هم كذلك في نظره رغم المناصب المختلفة التي أحرزوا عليها.
كان الشيخ عبد الباقي يتمتع بنفسية عالية جدا، اشتهر بها وتحدث بها العام والخاص، فهو لا يحط همته لأحد، ولا يلتجئ إلى كائن من كان في قضاء حاجة أو طلب شيء مهما كانت حاجته شديدة إلى ذلك، فكل شيء لا يستطيع التوصل إليه بنفسه، وكل قضية تستدعي الوساطة (ولو وساطة أقرب الناس إليه) يلغيها ويحكم بعدم لزومها ويعدها من الكماليات التي لا لزوم لها ويحذفها من برنامج حياته مهما كانت ضرورية وحاجته إليها ماسة، وعاش بذلك عزيزا مكرما شامخا بأنفه إلى السماء، ولا أدري بماذا كان يفكر حينما أدركه الموت، وكيف قابل تحدي عزرائيل. ولكن الذين شاهدوه في لحظاته الأخيرة، قالوا إنه قبل التحدي بابتسامة تدل على الرضا والاطمئنان، ولسان حاله يقول: الآن أخضع وأنحني باحترام فقد لاقيت حقا من يقهرني ...
العم نتيش
عرفت العم نتيش وكنت حينذاك أتمتع بريعان الشباب. احتل مكاني بين زمرة من شباب القرية؛ حيث كنا نقضي أيام عطلتنا المدرسية في اللهو واللعب والعبث البريء، وكان العم «نتيش» الذي لا يتخلف عن مجالسنا قد تخطى عتبة الشباب بأعوام وأخذ ينحدر مع السنين في منعرجات عقده الخامس، ولكنه كان فتي التفكير كثير المرح، لا يعبأ بمسئوليات الحياة وتكاليفها الثقيلة، يقضي يومه ولا يفكر في غده، رغم أنه كان متزوجا وله أطفال يطلبون منه التفكير في حاضرهم ومستقبلهم.
كان «نتيش» رجلا بدويا، نشأ بالبادية وتربى بها، يكره المدن ويمقت تكاليفها المعقدة، بل يكره كل شيء معقد في الحياة، يهوى العيش البسيط ويقنع منه بأتفه الزاد، يميل إلى المرح واللهو ويتبرم من الجد والعمل، فقد كان كسولا موهوبا ...
كان «نتيش» يعيش في أكناف عمه الذي استوطن الحاضرة منذ عهد طويل، وكون ثروة متوسطة من عقار ومزارع، حاول عبثا استغلال «نتيش» والاستعانة به في إدارة مزارعه وسير أعماله، مقابل ما يقوم به من تكاليف عيشه وعيش عائلته، فكان يعيش معه في مشاكل ومعارك لا تعرف الانتهاء، فبقدر ما كان عمه ذا حزم وعزم ونشاط يستوجبه ثراؤه وأعمال مزارعه، بقدر ما كان «نتيش» كسولا برما بكل عمل جدي مثمر، يحلو له أن يقضي يومه في المقهى في لعب الورق و«الدومنة» في جو من المرح والمزاح. •••
كان «نتيش» يحتل مكانته الفتية رغم تقدم سنه، وكنا نحبه ونستأنس به للطفه وظرفه. وكنا نشجعه على التمرد على عمه، ونحثه على عدم القيام بأي عمل يكلفه به، وكم كان يسره ذلك منا، ولهذا كان يلجأ إلينا كلما كلفه عمه بإنجاز عمل، وسريعا ما نجد له حلا لمشكله (حلا يرضيه طبعا)، ونجد له عذرا يتقدم به لعمه، وينتهي كل شيء في رمشة عين، وننتقل فورا إلى المزاح واللعب، ويذهب يقص علينا مغامراته الكثيرة مع عمه، يقصها علينا بأسلوبه الساذج ولهجته البدوية، فكنا نضحك لها ونطرب ونشجعه على الاستمرار في مناوءة عمه والتمرد على أوامره ...
إنه الشباب سامحه الله وغفر ذنبه ... •••
ناپیژندل شوی مخ