ويعرفه آخرون مؤلف روايات مسرحية وطرائف أدبية وناقدا حصيفا، وأعرفه أنا فيلسوفا عميقا وكاتبا مجيدا تعجبني فلسفته ويعجبني نثره الفصيح وشعره الملحون، ويعجبني فوق كل ذلك تفهمه للحياة ورضائه بنصيبه الضئيل منها دون تبرم أو تشكي وتلك لعمري عين الفلسفة وحقيقتها ...
هذا هو يحيى الضيف الذي بلغت ضخامة جثته وزن الفيل وبلغت خفة روحه وزن الريشة، وإذا أردت أيها القارئ أن تعرفه عن كثب فما عليك إلا أن تقوم بزيارة لمركز جمعية العلماء بمدينة الجزائر قبل حضور المدير أو بعد انصرافه، وستجد يحيى الضيف يزأر كأنه أسد في قفص. اقترب منه ولا تخف فستجده مستعدا لاستدعائك إلى صالونه الجميل ليقدم لك فنجانا من القهوة وقطعة من الحلوى وطرائف من الأدب والفلسفة، وإذا لم يستدعك بنفسه اطلب ذلك منه فسيسره كثيرا لأنه رجل كريم مفتون بهذا الكرم إلى حد العبادة.
سي زعرور
ملاحظة:
اقتبست هذه الشخصية من الفرنسية، وأثبتها هنا لأني وجدت فيها أنموذجا حيا خالدا يوجد في كل مكان وفي كل زمان ... كما أخرجت منها مسرحية في ثلاثة فصول تحت عنوان «النائب المحترم».
كان الشيخ زعرور، أو سي زعرور، كما يسميه زملاؤه، معلما بسيطا في مدرسة ابتدائية حرة، قانعا بالحياة، وبنصيبه منها، راضيا عن نفسه وعن عمله؛ لأنه كان رجلا تقيا فاضلا نزيها، يعتقد الخير في الدنيا، ويعتقد الصلاح في البشر، لا يعرف الشر ولا يتصور صدوره من الناس. كان يعيش في برجه العاجي، في دنيا فاضلة لا تطرق أبوابها الرذيلة، ولا يطأ أرضها الفساد ... وكان يعيش مع سي زعرور، رفقة طيبة من الزملاء يشاركونه عمله، ويقاسمونه بؤسه، ولكنهم لا يشاركونه نظرته إلى الحياة ولا يعتقدون عقيدته في البشرية ...
كانت تلك المدرسة التي يعلم بها سي زعرور ملكا لمديرها الجشع، يستغلها استغلالا ماديا فظيعا، يبحث يوميا عن تنمية موارده بشتى الوسائل والطرق؛ فقد كان على طرف نقيض من سي زعرور الذي يرى المادة عرضا زائلا من أعراض الدنيا، لا يستحق العناية والاهتمام ...
وذات يوم، بينما كان سي زعرور يقوم - قبل حلول موعد الدرس - بتسبيق درس لأحد تلاميذه المتأخرين، إذ دخل عليه المدير ببطنه المنتفخة، وسمة الغضب تعلو وجهه، وابتدره بسرد المادة السابعة والعشرين من لائحة المدرسة الداخلية، التي توجب على كل معلم من معلمي المدرسة، يقوم بإعطاء دروس خاصة، أن يدفع للمدير خمس مدخول هذه الدروس ... واتهم المدير سي زعرور بإخفائه أمر هذه الدروس الخاصة واستغلاله لمدخولها وحده دون سواه ...
وعبثا حاول سي زعرور إفهامه أنها دروس خاصة مجانية مؤقتة يروم منها إلحاق التلميذ بزملائه في فن متأخر فيه؛ لأن الرجل لا يفهم غير المادة ولا يعرف لكلمة «المجانية» أثرا في قاموسه.
ولهذا اشتد به الغضب واتهم المعلم ببث روح التمرد في التلاميذ ومحاولاته إفلاس صندوق المدرسة، وما كان منه إلا أن ألزمه بدفع خمس أجرة هذه الدروس وقدر له مدخولها الخيالي بنفسه ...
ناپیژندل شوی مخ