وبعد هذا الطبخ السريع، والطلاء الزائف، تنزل هذه الشخصيات المرتجلة، على المجتمع كجنود المظلات دون سابق إنذار، لتفرض نفسها ضريبة ثقيلة على الأمة تحب الرئاسة وتريد القيادة، وتهيم بالزعامة، ولكن ليس لديها من المؤهلات سوى ذلك الطلاء الزائف الذي لا يوجد تحته سوى مطامع دنيئة ودعوى خاوية.
وتغدو هذه الشخصيات المرتجلة تتبختر في مظاهرها الزاهية ومخابرها القاتمة وهي تصرخ بوقاحة في وجه الأمة: سلميني زمام القيادة! رقيني إلى منبر الزعامة! أجلسيني على عرش العظمة!
والأمم وإن اختلفت في درجات الثقافة والجهل، وتفاوتت في مقدار الرقي والانحطاط، لم تختلف أبدا في فهم الزعيم الحق، ولم تخطئ أبدا في اختيار القائد الصالح.
فهي كلها تحسن اختيار القائد، وتصيب في تزعيم الزعيم، وتدرك إلى من تنقاد وتطيع، وذلك عائد إلى حواس فطرية وإدراك طبيعي، وهو عنصر المناعة ضد الانحلال والانحدار، خلقه الله في جسم الأمة لا دخل للعلم والاكتساب فيه.
ولم نجد أمة انخدعت في اختيار زعيم، ولم نجدها كذلك خذلت شخصا لا يستحق الخذلان، ولهذا كان حكمها دائما هو أصدق الأحكام. وبينما نجد الأمة تتسلق درجات التقدم بصعوبة وعناء، إذا بهذه الشخصيات المرتجلة تطن في سمائها كالذباب، فلا تلتفت إليها حتى إذا ما أزعجتها وأقلقتها، أعارتها الفاتة بسيطة، لا لتسمع إلى دعوتها أو تنخدع إلى حيلها، وإنما لتلقي بها في مهاوي الحضيض، لتتخلص من وقاحتها وعرقلتها، ثم تمضي قدما في طريقها لا تلوي على شيء.
يظلم بعض الناس هذه الشخصيات، فيقولون عنها: «إنها مصابة بداء العظمة»، وكما أنني ذكرت هنا ما على هذه الشخصيات، يجمل بي أن أذكر ما لها، فأعترف أنها مظلومة في هذه الوصمة كل الظلم.
فإن داء العظمة، ذلك الداء الخطير الذي أصيب به المتنبي شاعر العربية وفيلسوفها وأصيب به قرينه «فولتير» شاعر الفرنسية وفيلسوفها، وأصيب به كثيرون غيرهم في مختلف العصور والبيئات، فجميعهم يختلفون كل الاختلاف عن هذه الشخصيات المرتجلة، والبون بينهما بعيد والفارق شاسع كبير.
فهما يجتمعان في حب العظمة، ولكن دافعه عند أولئك طموح سام، وعلم غزير، وبيان قوي، ونفس عزيزة، وشجاعة جبارة، وتضحية غالية.
ويعززها عند هؤلاء غرور سافل، وجهل مركب، ووعي قبيح، ونفس وضيعة، ومطمع دنيء ...
أما زعيم الأمة وقائدها فيختلف كل الاختلاف عن هؤلاء جميعا، فهو يخلقه الله متحليا بصفات الزعامة، مدججا بسلاح القيادة: صفات لا يراها هو في نفسه، ولكنها تراها الأمة فيه، وخصال لا يتبينها هو في نفسه، ولكنها تلمسها الأمة فيه.
ناپیژندل شوی مخ