الفيلسوف المعاصر ذو النزعة العلمية متواضع، يرضيه أن يجتزئ من هذا الكون الفسيح كله بجملة أو طائفة قليلة من الجمل، يقولها العلماء في موضوعات اختصاصهم، أو يقولها الناس في أحاديثهم الجارية، فيتناولها بالتحليل المنطقي الذي يفصل مكنونها تفصيلا يضعه في الضوء بعد أن كان خبيئا، ويخرجه إلى العلن بعد أن كان متضمنا مطويا في ثنايا الحديث، حتى إذا ما ظهرت الهياكل العارية للغة التي نستخدمها، ظهرت بالتالي حقيقة الفكرة التي نعرضها، فيزول الغموض الذي كان قمينا أن يخلق المتاعب ويثير المشكلات. وحسبك أن تعلم في هذا الموضع من الحديث أن رجال التحليل في الفلسفة الحديثة، لم يكادوا يتناولون بالتحليل مشكلات الفلسفة التقليدية حتى تبين لهم في وضوح أن لا إشكال، وأن الأمر كله غموض في لغة الفلاسفة، هو الذي خيل لهم أنهم إزاء مشكلات تريد الحل ولا حل هناك؛ فهل النفس خالدة أم فانية؟ هل يكون هذا العالم المحسوس قائما وحده أم إن وراءه عالما عقليا آخر؟ هل الموجود الحقيقي هو الأفراد الجزئية أم الحقائق الكلية التي تعبر عن نفسها في تلك الأفراد؟ وهكذا وهكذا من أمثال هذه الأسئلة التي لم يزل الفلاسفة التأمليون يلقونها ويحاولون الجواب ولا جواب؛ فيتناول فيلسوف التحليل هذه العبارات نفسها ليفض مغاليقها اللفظية، وإذا هي فارغة لا تنطوي على شيء، وإذا هذه المشكلات المزعومة الموهومة تذوب ثم تتبخر في الهواء وتختفي.
الفيلسوف المعاصر ذو النزعة العلمية متواضع، يترك الخبز للخباز ينضجه على النحو الأكمل، فيترك الفلك لعالم الفلك، والطبيعة لعالم الطبيعة، والإنسان لعالم النفس أو عالم الاجتماع ، إنه لا شأن له ب «شيء» من أشياء الوجود الواقع، بل يحصر نفسه في «الكلام»، كلام هؤلاء العلماء؛ ليحلل منه ما قد تركوه بغير تحليل، وبخاصة إذا كان في العبارة «لفظ» يثير المشكلات ويكون مدار الاختلاف، وقد تسأل: ولماذا لا يترك هذه المشكلات نفسها لأصحاب العلوم كذلك؟ أليس هؤلاء أدرى بما يقولون؟ والجواب هو أن هذا ما ينبغي أن يكون لو استقامت الأمور، بل هذا هو ما يحدث في معظم الأحيان، فترى من علماء الرياضة من تستوقفه بعض المدركات الرياضية الغامضة، فتستهويه بالوقوف عندها حينا ليلقي على مكنونها الضوء، وعندئذ يكون «فيلسوفا» رياضيا بالمعنى الذي نريده لكل فيلسوف، وهكذا قل في علماء الطبيعة وغيرها، لكن هذا التحليل المنطقي قد يستهوي كذلك غير المختصين في العلوم المختلفة، فيختصه بجهده وفكره؛ لأن التحليل المنطقي لعبارة ما، هو في حقيقة أمره شيء مستقل عن مضمون العبارة وفحواها؛ إذ يتناول صورة التركيب وما فيها من علاقات، ويفرغ من العبارة فحواها؛ وإذن فليس ثمة خطر حقيقي إذا ما تصدى لمثل هذا التحليل غير العلماء المختصين في هذا العلم أو ذلك؛ لأن القدرة المطلوبة هي قدرة على التفريغ والتجريد.
لكن القارئ من حقه هنا أن يسأل: ماذا نعني على وجه الدقة بكلمة «تحليل» حين نسوقها في هذا السياق الفلسفي؟ إننا نتصور في غير عسر ماذا يكون معنى التحليل حين ينصب على شيء مادي، فليس من العسير أن نتصور «تحليل» الماء إلى عنصريه أكسجين وهيدروجين، أو تحليل دم الإنسان إلى هذا وذلك من العناصر وهكذا، فهل تعني شيئا كهذا حين تقول إن عمل الفيلسوف المعاصر ذي النزعة العلمية هو أن يحلل العبارات اللغوية، وعبارات العلم منها بوجه خاص؟ هل يتناول الفيلسوف عبارة فيقول إنها مركبة من كذا لفظا وكذا حرفا، أو إن المداد الذي كتبت به ينحل إلى كذا وكذا من العناصر، وكذلك الورق الذي خطت عليه؟
كلا، فذلك تحليل «مادي» للعبارة، والمقصود «تحليل منطقي» لها، أو إن شئت فقل «تحليل عقلي»، لكن السؤال ما يزال قائما ، وهو: ماذا تعني بهذا النوع من التحليل؟ وجوابنا هو أن هذه الكلمة في هذا السياق، هي كغيرها من كلمات هامة كثيرة، ككلمة «العلم» و«الفن» وما إليهما، ليس عليها اتفاق حاسم بين من يستعملونها حتى من المختصين، إنها ليست بعد في دقة استعمالها كالكلمات المشيرة إلى مسميات محسوسة، فلا خلاف - مثلا - بين علماء الطبيعة على مدلول كلمة «أحمر»؛ لأنهم يتفقون اتفاقا قاطعا على مدى الموجات الضوئية التي يدخلونها تحت هذه التسمية، ومع ذلك فكلمات «التحليل» و«العلم» و«الفن» وما إليها، إن تكن قد فاتتها هذه الدقة في تحديد المعنى، إلا أنها ليست خلوا من كل تحديد؛ إذ إن كلا منها ما يزال ينطبق على مسميات إن تكن مختلفة فيما بينها بعض الاختلاف، فهي كذلك متشابهة تشابها يبرر جمعها تحت اسم واحد من هذه الأسماء، كأفراد الأسرة الواحدة، بينهم اختلافات في الشكل والشخصية، لكنهم مع ذلك يكونون أسرة واحدة، فكذلك قل في المعاني المختلفة التي يأخذ بها الفلاسفة المعاصرون في معنى «التحليل» المنطقي الذي يريدون له أن يكون هو الفلسفة وعملها، فهذه المعاني على اختلافها، تتشابه بغير شك وتتجه كلها وجهة واحدة، بحيث تكون أفرادا من أسرة هي التي نطلق عليها اسم «التحليل المنطقي».
إنه لخير لنا في تحديدنا لمعنى «التحليل» أن نعتمد على الاستعمال الفعلي لهذه الكلمة بين الفلاسفة المشتغلين به؛ فلسنا نقول إن التحليل المنطقي «يجب» أن يكون بهذا المعنى أو ذلك، بل نقول إنه فعلا بهذا المعنى عند فلان وفلان، وبذلك المعنى عند فلان وفلان، وفيما يلي سنتعقب الخيوط الرئيسية للاتجاهات المختلفة في مدرسة التحليل.
3
لفظتا «تحليل» و«تركيب» شائعتان معروفتان في التفكير الفلسفي، والمقصود بهما هو معناهما المباشر الذي يتبادر إلى الذهن من استعمالها المألوف في لغة الحديث الجارية؛ فالفيلسوف «تحليلي» إذا جعل مهمته استخراج المقومات أو استنتاج النتائج مما يتصدى لتحليله، سواء كان هذا «شيئا» أو «عبارة لغوية»، وهو «تركيبي» إذا لم يكتف بمجرد تفتيت ما يتناوله - شيئا كان أو عبارة لغوية - بل هو يضيف من عنده أحكاما عن الوجود، كله أو بعضه؛ فإذا راح فيلسوف، مثل هيوم، يحلل الفكر إلى عناصره الأولية لينتهي إلى أن تلك العناصر الأولية هي إما انطباعات أو أفكار، حين يكون معنى «فكرة» باصطلاحه انطباعا حسيا غاب مؤثره وبقي في الذهن صورة تتفاوت درجة وضوحها ونصوعها، كان بذلك فيلسوفا تحليليا، وأما إذا تبرع الفيلسوف بأحكام إيجابية من عنده يصف بها الوجود، كأن يقول أفلاطون إن هناك عالما عقليا قوامه أفكار إلى جانب هذا العالم الحسي الذي نعيش فيه والذي قوامه أفراد جزئية، كان فيلسوفا تركيبيا. الفيلسوف التحليلي يبدأ بموضوع المشكلة، كالطبيعة أو الإنسان مثلا، ثم يحاول رده إلى وحداته الأولية التي منها يتركب ذلك الموضوع، والتي لا يمكن بدورها أن تنحل إلى ما هو أبسط منها، كما يفعل برتراند رسل حين يحلل الطبيعة إلى وحدات أولية هي «الحوادث» بالمعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة عنده؛ فلمعة الضوء الآتية إلي من هذا المكتب الذي أمامي الآن «حادثة»، ولمسة القلم الذي بين أصابعي «حادثة»، وهكذا، أو كما يفعل برتراند رسل أيضا حين يحلل الكلام إلى قضايا أولية يكون موضوع الواحدة منها دائما حادثة من حادثات الطبيعة بالمعنى الذي أسلفناه، وأما الفيلسوف التركيبي فعلى خلاف ذلك، يحاول أن يبني الوجود في خياله بناء قوامه العناصر البسيطة التي يفترض وجودها، كما يفعل سبينوزا مثلا حين يفترض بسائط أولية ثم يبني منها الكون كما تقتضيه بداهة عقله وقوة خياله.
وإنه على الرغم من أن الفلاسفة الإنجليز - «لك» و«باركلي» و«هيوم» و«ستيوارت مل» و«برتراند رسل» وغيرهم - يتميزون أساسا بطابعين؛ هما التحليل من ناحية، والنزعة التجريبية من ناحية أخرى، بحيث تراهم دائما ينتهون بتحليلهم إلى أن العناصر الأولية هي الإحساسات البسيطة التي تتأثر بها الحواس، ثم على الرغم من أن الفلاسفة في بقية القارة الأوروبية - فرنسا وألمانيا بصفة خاصة، مثل ديكارت وسبينوزا وهيجل - يتميزون أساسا بطابعين آخرين؛ هما التركيب من ناحية، والنزعة العقلية من ناحية أخرى، فتراهم يقيمون مبدأ يبنون عليه بناء متسقا مع ذلك المبدأ لأنه مستنبط منه، أقول إنه على الرغم من أن التحليل والنزعة التجريبية قد ارتبطا غالبا، وأن التركيب والنزعة العقلية قد ارتبطا غالبا كذلك، إلا أنه ليس من الضروري أن يكون الفيلسوف التحليلي تجريبيا؛ ف «الطبائع البسيطة» التي قال بها ديكارت هي نتيجة تحليل، لكنها موضوعات لحدس عقلي، وليست هي بالموضوعات الحسية التي تتأثر بها الحواس، وكذلك «الوحدات الروحية» التي أخذ بها ليبنتز هي أيضا نتيجة تحليل، لكنها ليست مما تدركه الحواس؛ وإذن فها هنا عمليات فلسفية تحليلية لم تقتض أن يكون القائم بها من الفلاسفة التجريبيين الذين يردون الأمر كله إلى الحواس وإدراكها، والعكس صحيح أيضا، وهو أنه ليس من الضروري أن يكون الفيلسوف التجريبي فيلسوفا تحليليا، وخير مثل نسوقه لذلك هو الفيلسوف الإنجليزي الحديث «صموئيل إسكندر» في كتابه «المكان والزمان والألوهية»؛ فها هنا تراه - على عادة الإنجليز - فيلسوفا تجريبيا يستقي من الحواس معارفه، لكنه يستقيها ليبني منها بناء فلسفيا شبيها بالنسقات التي يقيمها الفلاسفة العقليون، وإذن فهو فيلسوف تجريبي تركيبي معا، وهو يعتقد أن الفلسفة لا تختلف عن العلم إلا في كونها تبحث في مشكلات أعم من مشكلات العلم، لكنهما معا يدوران حول موضوعات بعينها.
4
إننا حين نصف هذا الفيلسوف بأنه تحليلي وذلك الفيلسوف بأنه تركيبي، فلا يفوتنا أنه يندر جدا أن تجد الفيلسوف الواحد قد انصرف إلى التحليل وحده من أول فلسفته إلى آخرها، أو إلى التركيب وحده؛ ذلك لأن الفيلسوف في الحقيقة يضع أمامه مشكلات يحاول حلها ولا يبالي كيف جاء ذلك الحل؛ فهو مثلا ينظر في مشكلة المادة والعقل، أو في القيم الأخلاقية والجمالية وما إلى ذلك، ليرى ما حقيقتها، ولا يعنيه بعد ذلك أن تكون السبيل الموصلة إلى هذه الحقيقة المنشودة تحليلا أو تركيبا، لكننا مع ذلك نزداد فهما للفيلسوف حين نعلم أن التحليل أو التركيب يغلب على عمله، بل كثيرا ما يسود التحليل عصرا بأكمله كعصرنا هذا،
ناپیژندل شوی مخ