وهكذا يكون المثل الأعلى للمعرفة عند ديكارت هو البناء المتسق من القضايا الصادقة، التي يكون صدق كل منها متوقفا على موضعها من البناء؛ فأساس البناء هو الحقائق التي نراها رؤية مباشرة، وطوابقه هي الحقائق التي نستمدها من ذلك الأساس اليقيني، فتكون بدورها يقينية. على أن هذا الصدق الذي ننسبه إلى كل قضية مما يرد في البناء النسقي، صدق مطلق؛ بمعنى أنها تكون صادقة دائما، فليس هنالك نسق آخر ممكن، بحيث يتغير فيه الأساس فتتغير بالتالي مجموعة القضايا الصادقة المترتبة عليه.
ولئن كانت السلسلة في ارتباط حلقاتها بعضها ببعض صورة توضح كيف تتحد أجزاء المعرفة عند ديكارت وكيف تتسق تلك الأجزاء بحيث يؤدي السابق إلى التالي، فمثل هذه الوحدة ليس هو ما يقره هيجل وتلاميذه، وهم أيضا ممن يأخذون بمذهب الاتساق في الحق، لكنهم يتصورونه على وجه آخر.
فليس الأمر أمر «حقائق عدة» ارتبطت واتسقت في بناء يخلو من تناقض الأجزاء وتنافرها، كما قد تصوره ديكارت، بل هو «حق واحد»؛ ف «الاتساق» - كما يراه هيجل وأتباع مدرسته - ليس صفة تضاف إلى القضايا من خارجها؛ بمعنى أن تكون القضية الواحدة حقا وهي مفردة معزولة قائمة وحدها ثم تظل على حقيتها أيضا بعد أن تضاف إلى غيرها في بناء، وغاية الأمر أنها في هذه الحالة الثانية يظهر اتساقها مع غيرها من أجزاء البناء، فمثل هذا الاتساق الديكارتي لا يكون هو الشرط الضروري للصدق، ما دام الصدق ليس متوقفا عليه كما رأينا في احتفاظ القضية الصادقة بصدقها حتى وهي مفردة. كلا، إنما الحق عند هيجل لا يتوافر إلا للبناء كله، ولا تكون القضية الواحدة حقا إلا وهي جزء من البناء، ولو عزلتها لكنت بمثابة من يجذ جزءا صغيرا من جسم حي لا يكمل وجوده إلا وهو متكامل الأجزاء.
تلك صور ثلاث قدمناها بين يديك لمذهب يري صدق القضية الصادقة مستمدا من اتساقها مع غيرها من القضايا لا في مقابلتها للأمر الواقع. وفي رأينا أن مثل هذا «الحق» الذي يعتمد كل الاعتماد على علاقة الصيغ اللفظية بعضها ببعض هو حق صوري يصلح في مجال المنطق الخالص والرياضة البحت وما يجري على غرارهما من ضروب التفكير الاستنباطي، لكنه لا يصلح وحده أبدا في مجال الإخبار عن الطبيعة؛ ففي هذه الحالة الثانية لا محيص لنا عن مقابلة الصيغة الكلامية التي نسوق فيها اعتقادا ما، مع الطرف الخارجي الذي جاءت تلك الصيغة رمزا يرمز إليه. ومثل هذه النظرية في طبيعة «الحق» تسمى بنظرية المطابقة؛ لأنها تريد أن يكون ثمة تطابق بين الرمز من ناحية والواقعة المرموز إليها من ناحية أخرى.
إنه لا خلاف بيننا وبين أنصار «الاتساق» في أن القضية إذا كانت مشتقة من سواها، كانت وسيلة تحقيقها هي أن ننظر في استدلالها من أصلها لنرى هل كان سليما في استخراجه النتيجة من مقدماتها، أو بعبارة أخرى فالقضية المراد تحقيقها إن كانت منتزعة من قضية سواها، كانت علامة صدقها هي اتساقها مع الأصل الذي انتزعت منه، ولكن موضع الخلاف الرئيسي هو القضايا الأولية التي منها نبدأ بناءنا العلمي حين يكون هذا البناء مشيرا إلى الطبيعة؛ فكيف نتبين وجه الحق في تلك القضايا الأولية؟ أما أنصار «الاتساق» فيكلون الأمر إلى الحدس؛ فبالحدس ندرك صدق البدايات البسيطة، وأما أنصار نظرية التطابق فيجعلون صدق القضايا الأولية مرهونا بإدراك شيء خارج عن حدود القضايا نفسها، وهو شيء جاءت تلك القضايا لترمز إليه، وعلى هذه القضايا الأولية أن تطابق ما قد جاءت لتصوره أو لتشير إليه إشارة دالة على طبيعته؛ فإن شاهدت بقعة صفراء مستديرة ذات خصائص فريدة مميزة، كانت هذه المشاهدة معطى أوليا لا يمكن تحليله وإسناده إلى مصدر سابق عليه، وكانت الجملة التي أعبر بها عن تلك المشاهدة جملة أولية لا يمكن ردها إلى مقدمة أسبق منها، لكنني بعد ذلك أستطيع من هذه البداية الأولية أن أمضي في طريق الاستدلال العقلي، فأحكم أحكاما يتوقف صدقها على صدق تلك البداية الحسية الأولية، كأن أقول مثلا: إنه ما دامت هذه بقعة صفراء فهي ليست بيضاء، أو إنها ما دامت مستديرة فيستحيل أن تكون مربعة الأضلاع ولا مربعة الزوايا، وهكذا. فالصدق في هذه الجمل المشتقة يقوم على الاتساق بينها وبين الجملة الأصلية، وأما صدق الجملة الأصلية فلا بد أن يستند إلى علاقة بينها وبين شيء لا تكون طبيعته من طبيعة الرموز اللغوية، بحيث يصح أن نقول إن الرمز اللغوي إنما جاء ليرمز إليه.
فماذا عسى أن تكون طبيعة هذا الشيء المشار إليه بالرمز اللغوي، حين تكون القضية الرامزة أولية غير مسبوقة بمقدمة أعم منها؟ هنا ينشعب مذهب التطابق شعبتين؛ أولاهما توجب أن تشير القضية الأولية إلى جزء من خبرة الإنسان، والأخرى تجيز للقضية أن تكون مشيرة إلى واقعة خارجية دون أن تحتم دخول تلك الواقعة في مجال خبرات الإنسان.
إنه محال - عند أنصار الشعبة الأولى - أن نحكم على قضية بأنها صادقة إلا إذا كانت مفهومة المعنى أولا، وفهم المعنى لا يكون إلا إذا كان لنا في خبراتنا ما يوضح لنا إلى أي شيء تشير الكلمات الواردة في القضية التي نقول عنها إنها مفهومة لنا وإنها فوق ذلك صادقة. ولو خلت خبراتنا خلوا تاما من كل ما يوضح لنا إلى أي المدلولات تشير الألفاظ المستخدمة في جملة ما، لاستحال علينا فهم المعنى المقصود فضلا عن الحكم على العلاقة القائمة بين الرمز ومعناه بأنها علاقة التطابق. وإن جملة تقولها لي لا أعرف كيف أترجم مضمونها في حدود خبرتي، لهي جملة خارجة عن النطاق الذي أستطيع الحكم في حدوده بصدق أو ببطلان، فأقف إزاء جملتك لا موقف المصدق ولا موقف المكذب، بل موقف الذي لا يحكم على قولك بشيء حتى يفهم أولا.
لكن هذا الرأي الذي يجعل الحديث الخارج بموضوعه عن حدود خبرة السامع، لا هو بالصادق ولا هو بالكاذب، هو رأي سرعان ما يسلمنا إلى مشكلة منطقية، وهي التنكر لمبدأ الثالث المرفوع الذي يبدو كأنما يفرض نفسه على العقل فرضا؛ فأنت تعلم أن أحد قوانين الفكر الثلاثة التي أخذ بها أرسطو، والتي رأي أن لا تفكير بغير افتراض قيامها، هو هذا القانون الذي يجعل الشيء المعين الواحد إما «س» أو «لا - س»، ولا ثالث لهذين الاحتمالين؛ فالشيء الملون إما أن يكون أبيض أو غير أبيض، والخط إما أن يكون مستقيما أو غير مستقيم، وهكذا؛ فكذلك القضية المعينة إما أن تكون صادقة أو غير صادقة ولا ثالث لهذين الفرضين. أما أن تقول عن قضية إنها لا هي بالصادقة ولا هي بغير الصادقة لأن مضمونها خارج عن حدود خبرتك فلا تستطيع فهمها وبالتالي لا تستطيع الحكم عليها، فذلك قول يجافي قانونا أساسيا من قوانين الفكر كما رأينا.
لهذا نشأت شعبة ثانية من مذهب التطابق، لا تجعل صدق القول متوقفا على مطابقته لجزء من خبرة المتكلم أو السامع كما هي الحال مع أنصار الشعبة الأولى، بل تجعله متوقفا على مطابقته لواقعة من وقائع العالم الخارجي، سواء دخلت تلك الواقعة في مجال خبرتنا أو لم تدخل، وبهذا نحافظ على مبدأ الثالث المرفوع؛ لأن القول عندئذ سيكون إما صادقا أو غير صادق ولا ثالث لهذين الاحتمالين، فهو صادق إن كانت هنالك الواقعة التي تقابله، وهو ليس بصادق إذا لم تكن هنالك تلك الواقعة، دون أن نشترط لتلك الواقعة أن تكون بين ما خبرناه.
ولعلك تلاحظ في هاتين الشعبتين من مذهب التطابق في القول الصادق أنهما تتفقان في جزء كبير من مجال القول؛ ذلك لأن كل ما هو صادق بناء على خبرتنا التي خبرناها بالواقع، هو صادق أيضا في رأي الشعبة الثانية التي تجعل الصدق علاقة بين القول من جهة والواقعة المقول عنها القول من جهة أخرى، لكن العكس غير صحيح؛ أي إن ما يصدق بهذا المعنى الثاني قد لا يصدق بالمعنى الأول. وشرح ذلك هو أن خبرتنا إنما تتناول جانبا من العالم الواقع دون جانب، وإذن فكل خبرة لنا هي خبرة بواقع، لكن ما كل واقع قد وقع لنا في الخبرة؛ ولهذا كان القول الذي نحكم عليه بالحق مستندين إلى الخبرة، هو قول نحكم عليه نفس الحكم مستندين إلى الواقع. أما في حالة القول الذي نحكم عليه بالحق مستندين إلى الواقع مباشرة، فقد يكون هذا الواقع جزءا من مجالنا الخبري وقد لا يكون.
ناپیژندل شوی مخ