لكن الرجلين وإن يكونا قد اتفقا على أن ينهجا في البحث نهج العلوم الرياضية ليبلغا ما تبلغه هذه العلوم من يقين، إلا أنهما قد اختلفا في طريقة استخدامهما لهذا المنهج؛ فأما سقراط - كما رأينا - فقد استخدمه في طريقته الجدلية؛ بمعنى أنه كان يعارض مختلف الآراء في الموضوع الواحد بعضها ببعض، كان عندئذ يلجأ إلى أن يضع فرضا يفترض فيه الصواب ويجعله نقطة ابتداء، ثم يستدل منه ما وسعه استدلاله من نتائج، ثم يغير الفرض الأول ويمضي في استدلاله وهكذا؛ لكي تتضح الفوارق بين الآراء خلال ما يترتب عليها من نتائج. والمنهج هنا رياضي؛ بمعنى أنه يصطنع ما تصطنعه الرياضة من فرض مسلمات أولية تكون هي نقطة الابتداء، ثم يكون السير بعد ذلك استنباطا للنتائج.
وأما ديكارت فلم يستخدم المنهج الرياضي على هذا النحو، على الأقل كراهية منه للطريقة الجدلية التي كانت شائعة في العصور الوسطى، والتي كانت تدور بأصحابها في طاحونة لفظية لا تغني ولا تفيد؛ فكيف استخدم ديكارت المنهج الرياضي تحقيقا للعلم اليقيني المنشود؟ إنه بالطبع لم يرد أن يتعلم الرياضة لذاتها، بل أراد أن يطبق منهجها على سائر العلوم؛ إذ الرياضة نفسها ليست سوى حالة من حالات التطبيق لذلك المنهج. وعنده أن كل موضوع علمي صالح للمنهج الرياضي - طبيعة كان أو إنسانا أو ما وراء الطبيعة - فما خصائص هذا المنهج؟
خصائصه الرئيسية هي اعتماده على الحدس أولا في رؤية الطبائع البسيطة، ثم الاستنباط من هذه البسائط ما يمكن استنباطه من نتائج، لكن هذا الكلام الموجز بحاجة إلى مزيد من الشرح ليتضح أولا، ولندرك الفرق بين هذا المنهج الديكارتي والقياس الأرسطي ثانيا.
فنحن نسمي الإدراك حدسا (بالاصطلاح الفلسفي) إذا ما كان نتيجة عيان عقلي مباشر، كأنما هو لمعة يلمع بها فكر الإنسان فيرى؛ فالإدراك الحدسي لقطة عقلية واحدة تتم في لحظة زمنية واحدة، وليس الأمر مرهونا بمقدمات يتلو بعضها بعضا ونقارن بعضها ببعض لنستدل منها نتائجها. ومثل هذا الإدراك الحدسي هو أقرب شيء إلى النور الفطري، أو إن شئت فقل أقرب إلى الإدراك الغريزي الذي جبل عليه الإنسان ليرى بعض الحقائق رؤية لا تتوقف على تعلم أو تدريب. وبطبيعة الحال لا يقال عن الإدراك الحدسي إنه قد «يخطئ»؛ إذ الخطأ إنما يكون في الحكم لا في مجرد الرؤية المباشرة، والحدس رؤية مباشرة.
بهذا الحدس ندرك الطبائع البسيطة إدراكا مباشرا، ويكون إدراكنا لها - كما هي الحال في المنهج الرياضي - هو نقطة الابتداء؛ فما هي تلك التي أسماها ديكارت بالطبائع البسيطة والتي هي من بناء المعرفة بمثابة الأساس؟
العجيب هنا هو أن فيلسوف الوضوح لم يكن واضحا كل الوضوح في أمر «الطبائع البسيطة» على خطرها في بنائه الفلسفي؛ فهي - كما أسلفنا - حجر الزاوية من البناء كله؛ لأنها هي البداية التي لا نبحث عما هو أبسط منها لنبدأ به؛ هي البداية التي نطمئن إليها لأنها يقينية حتما، واضحة حتما، متميزة حتما، وإلا لما كانت «بسيطة» كما نزعم لها. ومهما يكن من أمرها فهي عند ديكارت أربعة أنواع رئيسية؛ بسائط تصدق على الأشياء كلها كائنة ما كانت، مثل «الوجود» و«الجوهر» و«العدد» و«الوحدة» و«الأمد»؛ فكل شيء كائنا ما كان تستطيع أن تقول عنه إنه «موجود»، وتستطيع أن تقول عنه إنه يتصف بكذا وكيت من الصفات مما يدل على أن له جوهرا ثابتا تطرأ عليه الصفات، وهكذا دون أن تكون بحاجة لفهم هذه الطبائع - «الوجود» و«الوحدة» و«الجوهر» ... إلخ - إلى شيء غير النظر المباشر في ذاتك الشاعرة، وبمثل هذا العيان العقلي تدرك معاني هذه الأشياء. والنوع الثاني من البسائط يصدق على الأشياء الطبيعية وحدها دون الكائنات العقلية، مثل «الامتداد» و«الشكل» و«الاستقامة» و«الحركة»؛ فلك أن تقول عن هذا الكتاب - مثلا - إنه يمتد فيشغل حيزا من المكان، أو إنه مستطيل، أو إن طرفه خط مستقيم، أو إنه يتحرك من أعلى إلى أسفل إذا ما أخليت عنه قبضتك، دون أن تكون بحاجة إلى وسيلة غير الرؤية العقلية المباشرة لتعلم ماذا يعني قولك عن الكتاب إنه ممتد أو إنه مستطيل الشكل، وهكذا. والنوع الثالث من البسائط يصدق على الأشياء العقلية وحدها دون الكائنات الطبيعية، مثل «فكر» و«شك» ... إلخ؛ فأنت تعلم علما حدسيا مباشرا أنك الآن «تفكر» في كذا وكذا، وأنك «تشك» إن كانت السماء ممطرة أو لم تكن. وأما النوع الرابع من البسائط فهي علاقات أو بديهيات تستخدم في ربط بسائط الأنواع الثلاثة المتقدمة؛ فمن العلاقات علاقة «التساوي» وعلاقة «التشابه» وعلاقة «علة ومعلول»، ومن البديهيات البديهية القائلة إنه «إذا أضيفت كميات متساوية إلى كميات متساوية كانت النتائج متساوية»، والبديهية القائلة إنه «إذا كان هنالك شيئان كل منهما يطابق شيئا ثالثا، كان الشيئان متطابقين»، والبديهية القائلة «إن لكل شيء سببا». وبسائط النوع الرابع هذه (أي العلاقات والبديهيات) هي التي تمكننا من توليد المعرفة من بسائط الأنواع الثلاثة الأولى؛ فهنالك - مثلا - في بسائط النوع الأول «العدد »، فأستطيع بواسطة علاقة التساوي أن أستولد نتيجة كقولي إن اثنين وثلاثة تساويان خمسة. وهنالك في بسائط النوع الأول «الجوهر»، وفي بسائط النوع الثاني «الامتداد»؛ فأستطيع أن أرى رؤية حدسية ما بينهما من علاقة تجعل الامتداد محالا بغير جوهر يرتبط به.
هنالك - إذن - طبائع بسيطة كالتي ذكرناها، وهنالك علاقات بسيطة كذلك. ونعني ب «البساطة» هنا أنها تدرك بالنور الفطري إدراكا مباشرا. وبعض العلاقات يربط بعض الطبائع البسيطة ربطا ندرك إزاءه أنه ضروري يستحيل أن يكون على غير ما هو كائن؛ فكون الاثنين أو الثلاثة من جهة والخمسة من جهة أخرى يتساويان علاقة ضرورية بين الطرفين، وكون الامتداد يرتبط بجوهر ما أمر ضروري لا مندوحة عنه. والعلاقات الرياضية كلها هي من هذا الضرب الذي يدرك الإنسان فورا أنه ضروري وأنه محال ألا يكون على نحو ما هو كائن. وسؤالنا الآن هو: من أين جاءت هذه الضرورة؟
إنه إذا كانت الحقيقة البسيطة بسيطة حقا، بالمعنى الذي أسلفناه، وجب ألا يعتمد إدراكها على شيء سواها؛ فكل «بسيطة» من البسائط مستقلة بذاتها، يدركها الحدس إدراكا مباشرا، بغير أن يشترك في إدراكها إدراك «بسيطة» سواها؛ فيجب - مثلا - أن أفهم «الوجود» معنى قائما وحده بغض النظر عن «الامتداد» أو «العدد» أو غيرهما؛ ومعنى ذلك أنه كان ينبغي أن تفهم «البسائط» بغير حاجة إلى علاقات تربطها بعضها ببعض. دع عنك أن تكون هذه العلاقات «ضرورية» بحيث يستحيل ألا تكون البسائط المرتبطة بها غير مرتبطة على النحو الذي هي مرتبطة به؛ فالحقيقة «البسيطة» ما دامت تدرك وحدها إدراكا مباشرا فيه وضوح تام وفيه تميز يميزها من كل ما عداها، فهي مما لا يمكن «تعريفه» بغيره؛ أي إنها مما لا يمكن تحليله إلى ما هو أبسط منه، مع أنه إذا كان بعض هذه البسائط مرتبطا ارتباطا ضروريا بغيرها، كان معنى هذا الارتباط الضروري أنها لا هي مدركة وحدها، ولا هي واضحة بذاتها، ولا هي متميزة مما عداها، ولا هي مما لا يمكن تعريفه أو تحليله.
ولو كان ذلك كذلك في أمر البسائط من حيث وجوب استقلالها في الإدراك الحدسي، بحيث يمكن استغناء الواحدة منها عن كل ما عداها، فمن أين تأتي «ضرورة» الرياضة، مع أن الرياضة إن هي إلا ضروب من العلاقات بين حقائق بسيطة، بحيث نحس إزاء تلك العلاقات أنها ضرورية وأنها محال ألا تكون على غير ما هي عليه؟ إن ديكارت يعلق أهمية كبرى على يقين الحقائق الرياضية وضرورتها، إلى الحد الذي يجعل الرياضة عنده نموذجا لا مناص من احتذائه في العلوم الأخرى لنبلغ فيها مثل اليقين الذي تحققه الرياضة؛ وإذن فمن المهم أن نسأل سؤالنا هذا: من أين جاءت للرياضة ضرورتها عند ديكارت؟
إنه لمما يجدر ذكره هنا أن ديكارت في «التأمل الأول» من تأملاته قد شك في إدراكه الحسي أولا، وبقيت لديه الحقائق الرياضية لا يعرف كيف يكون سبيل الشك فيها إلا أن يفترض وجود شيطان خبيث يضلله فيوهمه أن اثنين وثلاثة تساويان خمسة، وأن للمربع أضلاعا أربعة، مع أنها ليست كذلك؛ أقول إن ديكارت في التأمل الأول لا يجد الشك في الحقائق الرياضية من اليسر بمثل ما وجده في الحقائق الطبيعية المدركة بالحس؛ فبالنسبة لهذه الحقائق الطبيعية يستطيع - مثلا - أن يحتمل إمكان أن تكون هذه الأشياء كلها مرئية في الحلم لا في اليقظة، أما بالنسبة للحقائق الرياضية «فسواء كنت متيقظا أو نائما، هنالك حقيقة ثابتة، وهي أن مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائما، وأن المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبدا».
ناپیژندل شوی مخ