فابتسم لها «همتي دمتي» ابتسامة المزدري، وقال: بالطبع أنت لا تعلمين معناها حتى أدلك أنا على هذا المعنى، فقد قصدت بكلمة «المجد» نقاشا أهزم فيه معارضي هزيمة ساحقة.
فقالت «ألس» معترضة: لكن كلمة «المجد» ليس معناها هزيمة العدو في المجادلة هزيمة ساحقة.
فأجابها «همتي دمتي» في نغمة الساخر: إذا استخدمت أنا كلمة لتدل على شيء معين، فإنها لا تعني إلا ذلك الشيء الذي قصدت بها إليه، لا أكثر ولا أقل.
إن هذه السخرية الجادة التي أوردها لويس كارول على لسان «همتي دمتي» هي الصواب بعينه؛ فمدلول الكلمة إنما يتحدد بعد الاتفاق، ولا يكون إلا ما قد تم عليه الاتفاق. ولقد كان «مارك توين» يتفكه فكاهته الحلوة حين صور آدم وحواء جالسين تمر أمامهما صنوف الحيوان ليطلقا على كل صنف منها اسما يعرف به بعدئذ، ومر حيوان وأخذت آدم حيرة بماذا يسميه، فسأل حواء: بماذا نسمي هذا الحيوان؟ فأجابته حواء: نسميه «حصانا». فسألها آدم: وفيم اختيارك هذا اللفظ دون سواه؟ فقالت: لأني أرى هذا الحيوان يشبه الحصان. أقول إن «مارك توين» كان يتفكه فكاهته الحلوة بهذه الصورة وهذا الحديث من أولئك الذين قد يتوهمون أن للكلمة معنى أزليا سابقا على اتفاق الناس عليها وعلى ما يكون معناها؛ فالشيء يسبق اسمه في الوجود، حتي إذا ما وجد ورأي الناس ضرورة الاتفاق على لفظ يسميه اتفقوا جزافا على لفظ كائن ما كان، وفي ذلك يقول شيكسبير قوله المشهور: «ماذا في اسم؟ إن ما قد أطلقنا عليه اسم وردة كان سيظل على رائحته الزكية مهما يكن الاسم الذي أطلقناه عليه.»
وكأنني أسمع القارئ يهمس لنفسه بأن هذا الذي نقوله إن هو إلا البدائه، وهل هناك من يقول عن اللفظة إنها تعني غير ما اتفق الناس على أن تعنيه؟ مع أن هذا القارئ نفسه - في أغلب الظن - سيكون بين الساخطين الغاضبين الناقمين إذا ما رآني أتطلب منه التطبيق الكامل لهذا المبدأ، فإذا وردت في حديثنا - مثلا - كلمة «عقل» طالبته بأن يحدد لي الشيء المسمى بهذه الكلمة والذي بغيره لا يكون للكلمة معنى، أو وردت كلمة «شعور» أو كلمة «قوة» أو ما إلى ذلك من كلمات، طالبته بتطبيق المبدأ، وأغلب الظن عندئذ أنه سيغضب من هذه «السفسطة»، فكيف أطالبه بمدلول لفظة «عقل» والأمر هنا لا يحتاج إلى ريبة؟ إنه لن يرضيه مني أن أجعل مدلول هذه اللفظة حركات معينة يتحركها البدن أو يتحركها اللسان إذ هو ينطق بعبارات معينة، أو أن أجعل مدلول هذه اللفظة ذرات من مداد تجمعت على ورق أو تجمعت من طباشير على سبورة، لن يرضيه شيء من هذا؛ لأن هذه كلها - عنده - أمور ظاهرة، وأما العقل فكائن غيبي خفي قائم وراء هذه الظواهر كلها؛ فليس «العقل» هو العبارات اللغوية، إنما هو الذي يوحي بها ويمليها، لكننا سنصر على تطبيق المبدأ بحذافيره؛ المبدأ الذي ظنه أول الأمر من البدائه التي لا تكون موضع ريبة؛ أعني المبدأ الذي يقول إن الكلمة كائنة ما كانت ما دامت تساق لتسمي شيئا فلا بد أن يكون هنالك الشيء المسمى، وإلا كانت كلمة بغير معنى. لا بد أن يكون هنالك طرفان؛ طرف الرمز من جهة، وطرف الشيء المرموز إليه من جهة أخرى ليتم للغة التفاهم ما جاءت من أجله.
إن من أفحش الخطأ أن يظن ظان بأن الكلمة من كلمات اللغة هي في حد ذاتها ضمان كاف لوجود مدلولها؛ لأن الإنسان - لسوء حظه - قد أكثر في حديثه من الألفاظ التي راح الناس يتداولونها دون أن يكون لها من المدلولات في عالم الأشياء ما يجعلها ألفاظا كاملة الأداء. وقد تسأل: ومن ذا اضطره إلى خلق رموز لا يكون لها في حياته أشياء يرمز بها إليها؟ ونجيبك بأنه إنما فعل ذلك ليعبر عن أوهامه وأحلامه، فأطلق طائفة من الرموز ليشير بها إلى طائفة من أوهام وأحلام؛ فهو يخاف الوحدة والظلام - مثلا - ويخاف أن يكون هنالك في جوف الظلام كائنات خفية تتربص به؛ وإذن فليطلق أسماء على هذه الكائنات. ولا غبار على ذلك ما دام المتكلم والسامع على وعي تام عند استخدام هذه الأسماء وما إليها بأنها إنما أطلقت على أوهام؛ وعندئذ يؤخذ الكلام من زاويته الفنية من حيث استثارته لضرب من المشاعر أحسها المتكلم وأراد أن يثير مثلها في نفس سامعه. أما أن ينسى المتكلم أو السامع ذلك، بحيث لا يري فرقا بين كلمتي «عفريت» و«منضدة»، ويظن أن كلا منهما اسم دال على شيء، كأنما وجود الاسم بذاته كفيل لنا بوجود مسماه، فهو بهذا بمثابة من يخلق الصنم ثم يخشاه ويعبده؛ فالكلمات - كما يقول هوبز - وسيلة يستخدمها العاقلون أدوات للحساب والعد، أما الغافلون فيجعلونها هي نفسها النقود التي يعيشون بها وعليها. الكلمات لا تقصد لذاتها (إلا في مجال الفن)، بل تقصد من أجل ما تشير إليه من أشياء، ومن كانت ثروته ألفاظا لا تشير إلى شيء كان هو الفقير المدقع الذي لا يملك من دهره شيئا.
3
على أن الرموز اللغوية التي نستخدمها - بل التي لا بد أن نستخدمها - دون أن تكون بذاتها كفيلة لنا بوجود مسميات لها، أكثر جدا من الأسماء التي نسمي بها كائنات نسجها لنا الخيال كالعفريت والعنقاء وما إليها، هي أكثر جدا من هذا، بل هي توشك أن تكون ألفاظ اللغة كلها إذا استثنينا عددا قليلا منها وهو أسماء الأعلام، وسنبين لك فيما يلي كيف تكون الكثرة الغالبة من ألفاظ اللغة رموزا ناقصة - بتعبير برتراند رسل - أي إنها رموز وضعت دون أن تكون بذاتها ضمانا مؤكدا لوجود الأشياء التي ترمز إليها.
ولنبدأ أولا بشرح الرمز الكامل الذي هو الرمز الذي نطلقه على مسمى محدد جزئي معلوم، بحيث إذا ذكر الرمز عرف الشيء المرموز إليه في عالم الأشياء معرفة جازمة حاسمة لا لبس فيها ولا ازدواج.
وأول ما يرد إلى الذهن من هذا القبيل هو أسماء الأعلام؛ أي الأسماء التي نطلقها على هذا الفرد من الناس أو ذاك، على هذا النهر أو ذاك، وهكذا، كاسم «العقاد» يميز فردا من الناس دون سائرهم، واسم «النيل» يميز نهرا معينا، واسم «المقطم» واسم «القاهرة»، إلى آخر هذه الأسماء الجزئية الفردية التي يقال إنها تشير بكل واحد منها إلى فرد واحد.
ناپیژندل شوی مخ