16
إزاء التركيب اللغوي واستخراج ما يكمن فيه من مبادئ منطقية، ولعل كارناب هو أول من تصدى لمثل هذا البحث بكتابه «الأساس المنطقي في التركيبات اللغوية»
17
الذي أخرجه سنة 1934م، وذلك بعد أن سبقه وتجنشتين إلى التنبيه بأن قواعد المنطق إن هي إذا ما حللناها إلا قواعد اللغة. وإن هذا التوازي بين قواعد المنطق من ناحية وقواعد اللغة من ناحية أخرى، ليتبين واضحا إذا ما صورنا كلا منهما في نسق رمزي صوري قوامه رموز عارية من مضمونات المعاني؛ فعندئذ نرى أن النسقين متماثلان. ولقد حاول المناطقة منذ أرسطو قديما حتى برتراند رسل حديثا أن يقيموا للمنطق نسقه الرمزي الصوري، وبقي أن يتصدى الباحثون لمثل هذا العمل نفسه في اللغة، فيحاول تفريغ العبارات اللغوية من مضمونها لتبقى هياكلها الفارغة أو إطاراتها الخالية؛ فجملة مثل «الكتاب على المنضدة» تصبح «س على ص»، بل قد نتخلص من كلمة «على» الدالة على العلاقة بين الطرفين، فيكون الرمز هو ع
2 (س، ص)، ومعناها أن شيئين يرتبطان بعلاقة ذات طرفين . وهكذا نقول إن المنطق قد وجد على مر العصور من يحاول بيان قواعده خلال نسق رمزي صوري، وبقي أن تجد اللغة من يحاول ذلك فيها لنتبين صدق هذه الدعوى التي كان وتجنشتين أول من ذهب إليها، وهي أن صورة المنطق وصورة اللغة متشابهتان، أو إن شئت فقل إن الفكر واللغة شيء واحد؛ فكان «كارناب» هو أول من استجاب لهذا التحدي.
لم يرد «كارناب» أن يدير بحثه على التركيبات الصورية للغة بعينها، كالألمانية مثلا أو الإنجليزية؛ لأن هذه اللغات المستعملة فعلا إنما يتميز بعضها من بعض بمميزات قد تستر عن أعيننا الأسس المنطقية التي تكون في اللغة كائنة ما كانت؛ فكما أن المنطق الصوري حين يستخرج قواعد الاستدلال السليم لا يقصر اهتمامه على مشكلة بعينها في هذا العلم أو ذاك، بل يستخرج القواعد المنطقية التي تصدق مهما تكن المشكلة الفكرية المطروحة أمام الفكر، فكذلك - في رأي كارناب - لا بد لنا في مجال اللغة من مجاوزة حدود اللغات القائمة فعلا في هذا البلد أو ذاك - ويسميها باللغات الوصفية - لنحصر انتباهنا في البناء الصوري المنطقي للغة باعتبارها لغة على الإطلاق.
في هذه اللغة الصورية الرمزية التي يريد «كارناب» أن يخلقها من عنده خلقا ليتبين خلالها طبيعة اللغة، كما يضع العالم نموذجا من مادة في مخبار ليتبين طبيعتها، لا يشير إلى الأشياء بكلمات، بل يشير إليها بأرقام - كما نفعل في دنيانا العملية حين نسمي المنازل أو السيارات أو الجنود بأرقام - وبهذا يضمن - من الوجهة النظرية البحتة - أن يكون لكل شيء واحد من أشياء الوجود رمز واحد، وألا يشير الرمز الواحد إلا إلى شيء واحد - لاحظ هنا الفرق بين هذه اللغة الصورية وبين لغتنا كما نستخدمها في الحياة اليومية؛ فنحن في لغتنا نجيز - مثلا - أن نستخدم كلمة واحدة مثل «إنسان» أو «طائر» لندل بها على ملايين الأشياء في العالم؛ ومن ثم ننصب لأنفسنا الفخاخ، فنزل في الخطأ من حيث لا ندري.
وكما نضع لكل شيء رمزا رقميا يدل عليه وحده ولا يدل على سواه، فكذلك نرمز برموز كهذه لشتى الصفات وشتى العلاقات التي تصف الأشياء أو تصل بينها؛ وبهذا الجهاز الرمزي الصوري نستطيع أن نصف أي واقعة من وقائع العالم؛ لأن الواقعة كائنة ما كانت لا تخرج عن كونها مركبة من أشياء بما لها من صفات وما بينها من علاقات.
وبعد أن يفرغ كارناب من وضع الرموز التي تعيننا على تكوين الصيغة المصورة للواقعة المراد تصويرها، يأخذ في وضع قواعد التحويل؛ أي قواعد اشتقاق صيغة من صيغة أخرى، بادئا هذه القواعد بطائفة من البديهيات التي هي عبارة عن تحديد لاستعمال الرموز المنطقية؛ ليشتق بعدئذ من البديهيات ما يترتب عليها من نتائج. وما دمنا قد وضعنا قواعد تكوين الجمل ثم قواعد اشتقاق جملة من جملة، فقد وضعنا هيكل اللغة وإطارها، مهما تكن هذه اللغة؛ فاللغة العربية واللغة الإنجليزية واللغة الصينية وما شئت من لغات الأرض كلها، واقعة أو ممكنة، إن هي إلا مجموعة من رموز وضعت لها قواعد لتكوين الجمل ثم قواعد لاشتقاق جملة من جملة.
إنه إذا كان الفكر هو اللغة نفسها، بحيث يجيء تحليل اللغة تحليلا للفكر في الوقت نفسه، كان هذا التحليل المنطقي للغة ركيزة هامة وعملا ذا خطر وشأن في الفلسفة الوضعية المنطقية التي تجعل مدارها في قبول الفكرة المعينة أو رفضها على تحليل الجملة المجسدة لتلك الفكرة، والتحليل وحده كاف لبيان منزلة هذه الجملة من حيث القبول أو الرفض؛ ذلك لأنه ما دام الناس المستخدمون للغة ما قد اتفقوا على «بديهياتها» أولا؛ أي إنهم قد اتفقوا على تحديد معنى رموزها المنطقية، مثل «ليس» و«أو» و«كل» و«إذا» وما إليها، ثم اتفقوا على طريقة تكوين الجمل كيف تكون، كما اتفقوا على قواعد اشتقاق جملة من جملة، بحيث إذا قلت - مثلا - «محمد وعلي يتسابقان»، كان هذا مساويا لقولي «علي ومحمد يتسابقان»، ومساويا لقولي «السباق قائم بين محمد وعلي»، وهكذا، أقول إنه ما دام أصحاب اللغة الواحدة قد اتفقوا على هذا كله، فقد بات ميسورا لمن يحلل كلام المتكلم في موضوع ما ، أن يقول إذا كان هذا الكلام مما يمكن أن يحمل للسامع معنى أو أنه ليس كذلك؛ قياسا على ما قد تواضع عليه الناس من قواعد في استعمال لغتهم.
ناپیژندل شوی مخ