فقد فرق ليبنتز تفرقة واضحة بين ما أسماه ب «حقائق العقل» وما أسماه ب «حقائق الواقع»، أما «حقائق العقل» فأزلية وضرورية؛ أي إن صدقها لم يحدث في لحظة معينة من لحظات الزمن، بل هي صادقة منذ الأزل وستظل صادقة إلى الأبد، وصدقها «ضروري» بمعنى أنه يستحيل عليها احتمال ألا تكون صادقة. ومثل هذه الحقائق العقلية إنما تستمد صدقها من مبدأ عدم التناقض؛ أي إننا لو حكمنا عليها بالكذب كنا بمثابة من يناقض نفسه؛ فقولك - مثلا - عن المثلث إنه شكل محوط بثلاثة أضلاع، حقيقة عقلية من هذا القبيل؛ لأن نقيضها مستحيل، فلا يجيز العقل ألا يكون المثلث محوطا بأضلاع ثلاثة، ولو قلنا قولا كهذا ناقضنا أنفسنا؛ لأن تعريف «المثلث» هو أنه شكل محوط بثلاثة أضلاع، وتقريرنا لنقيض هذه الحقيقة مساو لقولنا «المثلث ليس مثلثا». وأمثال هذه الحقائق العقلية إما أن تكون واضحة بذاتها، أو أن تكون مستنبطة من حقيقة واضحة بذاتها، كأن أستنبط من الحقيقة السالفة حقيقة أخرى، وهي أن للمثلث زوايا ثلاثا.
ويذهب ليبنتز إلى أن «عقولنا هي مصدر الحقائق الضرورية، فمهما أكثرنا من الأمثلة الجزئية التي تعرض لنا في خبرتنا مما عساه أن يؤيد حقيقة كلية معينة، فلن يكون في مقدورنا أن نثق بصدقها إلى الأبد لمجرد أننا استقرأنا عددا من الأمثلة التي تؤيدها، بل لا بد أن ندرك ما فيها من ضرورة الصدق عن طريق العقل؛ فقد تستطيع الحواس أن توحي لنا بهذه الحقائق الكلية وأن تؤيدها وأن تثبت صدقها، لكنها لن تستطيع أن تقيم البرهان على استحالة تعرضها للخطأ وعلى يقينها الدائم.»
4
تلك هي «حقائق العقل» في يقينها الأزلي الضروري، وأما «حقائق الواقع» فصدقها عرضي؛ فهي وإن تكن - في رأي ليبنتز - حقائق فطرية في النفس، شأنها في ذلك شأن الحقائق العقلية الضرورية سواء بسواء، إلا أنها - على خلاف هذه - لا ترتكز في صدقها على مبدأ عدم التناقض، بل ترتكز في ذلك على ما أسماه ليبنتز بالعلة الكافية؛ فلو قلنا - مثلا - عن الماء إنه يتجمد بالبرودة عند درجة معينة، كان هذا القول حقيقة عرضية الصدق وليست بضروريته؛ أي إنه ليس من التناقض عند العقل ألا يتجمد الماء عند هذه الدرجة المعينة من البرودة؛ فقد كان يمكن ألا تكون هذه هي حالة الماء، وكان هنالك حالات كثيرة جدا كلها ممكن، ولكن الذي جعل هذه الحالة المعينة - دون سائر الممكنات جميعا - هي حالة الواقع، هو أن الله قد اختارها لتكون مع سائر حالات العالم الواقع أحسن عالم ممكن.
وتحصيل هذه الحقائق العرضية عن أمور الواقع إنما يكون بالملاحظة التي تتعقب وتستقرئ الحالات الجزئية التي تقع لنا في خبراتنا التجريبية. إنها ليست «واضحة بذاتها»؛ إذ ليس هناك عند العقل ما يحتم أن تكون كما هي كائنة، لا، ولا هي مستنبطة من حقائق واضحة بذاتها بحيث نستطيع أن نقيم على صدقها البرهان العقلي، وليس لها من سند إلا أن حواسنا هكذا أدركتها.
هذه التفرقة التي ميز بها ليبنتز بين «حقائق العقل» و«حقائق الواقع» هي التي إذا نقلناها إلى عالم القضايا أصبحت تفرقة بين «القضية التحليلية» و«القضية التركيبية»، أو إن شئت فسم الأولى قضية تكرارية والثانية قضية إخبارية؛ الأولى يقينية لأن محمولها يكرر ما في موضوعها من عناصر، والثانية احتمالية لأن محمولها يضيف إلى موضوعها خبرا جديدا. وهي تفرقة - كما أسلفنا - تكون ركيزة هامة في بناء الفلسفة التحليلية المعاصرة؛ ولهذا كان «ليبنتز» أحد الرواد الذين مهدوا لنا الطريق.
وكذلك كان «عمانوئيل كانت» (1724-1804م) رائدا آخر من جماعة الرواد الذين دقوا شعاب الطريق إلى الفلسفة الوضعية في شكلها الراهن، وإن بدا هذ الزعم غريبا عند النظرة الأولى؛ إذ قد يسأل سائل: كيف يكون وضعيا هذا الفيلسوف الذي امتد به السير حتى بلغ آمادا هي أبعد ما تكون عما تراه الأعين أو تحسه الأيدي؟ لكن النظرة الفاحصة سرعان ما تتبين أشد الروابط وأوثق الصلات بين «كانت» من جهة، وجماعة الوضعية المنطقية من جهة أخرى، وحسبنا أن نذكر حقيقة واحدة واضحة عن «كانت» ليظهر صدق دعوانا، وهي إصراره على أن تكون «الخبرة» هي المجال الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يغترف منه أحكامه العلمية، أما إذا جاوز الإنسان حدود «خبرته» فقد جاوز بذلك حدوده المشروعة وعرض نفسه للوقوع في الخطأ.
لقد تصدى «كانت» لتحليل العقل الخالص في مجال التفكير العلمي، سواء كان هذا العلم علما رياضيا أو علما طبيعيا، فانتهى به التحليل إلى هذه النتيجة الهامة، وهي أن العقل الإنساني وإن تطلب في قيامه لما يقوم به من فكر مبادئ ومقولات لا محيص له عنها كي يؤدي ما يؤديه، وهي مبادئ ومقولات ليست مستمدة من عالم الخبرة، إلا أن هذه المقولات وتلك المبادئ لا يمكن استخدامها وتطبيقها إلا في حدود الخبرة الإنسانية، نعم إنها لم تشتق أصولها من عالم التجربة، ولكنها لا تستخدم إلا في عالم التجربة؛ أي إنه على الرغم من أن الإنسان محال عليه أن يستقي ما يستقيه من خبرات إلا إذا استعان بما فطر عليه عقله من مبادئ ومقولات، إلا أن هذه المبادئ والمقولات العقلية نفسها لا تجاوز به حدود «الظواهر» التي تقع له في خبراته؛ فحين أنظر إلى هذه المنضدة التي أمامي، فيستحيل علي إدراكها على الصورة التي أدركها بها، إلا إذا كان ثمة مبدأ مجبول في فطرة العقل ينظم لي أشتات المعطيات الحسية التي تجيء إلي منها، وإلا ظلت تلك الأشتات أشتاتا لا تستقيم ولا تتعين في «شيء» بذاته. نعم إن «المبدأ» الذي أعانني على إدراك المنضدة المحسوسة ليس هو بذاته أحد المعطيات الحسية، إلا أنه يقف بي عند حدود تلك المعطيات في إدراكي لهذه المنضدة، وأما «الشيء في ذاته» الذي هو مصدر تلك المعطيات الحسية، فمحال علي بلوغه عن طريق ذلك المبدأ نفسه؛ أي محال علي بلوغه عن طريق العقل الخالص.
ولو سئل «كانت» ما هو هذا «الشيء في ذاته» الذي تنبعث عنه المعطيات الحسية، أو الذي هو مصدر وراء الظواهر التي تنشأ عنها خبراتنا الحسية، لأجاب: لست أدري، ولا حاجة بي إلى هذه الدراية. فهو لا يدري لأن «الشيء في ذاته» بحكم التعريف لا يقع له في خبرته؛ إذ الخبرة محدودة «بالظواهر» لا تجاوزها إلى الحقائق الكامنة وراءها، ثم هو في غير حاجة إلى العلم بهذه الحقائق الكامنة وراء الظواهر؛ لأنها لن تكون جزءا من علم، كائنا ما كان ذلك العلم. وجدير بنا في هذا الموضع أن نشير إلى نقطة اختلاف رئيسية في هذا الصدد بين «كانت» وبين أتباع الوضعية المنطقية المعاصرة، وتلك هي أنهما وإن يكونا على اتفاق في وجوب انحصار الإنسان في حدود خبرته، إلا أنهما يختلفان في «الحقائق» المزعومة وراء تلك الخبرة، أو ما يسميه «كانت» «الأشياء في ذواتها»؛ فبينما يعترف «كانت» بوجود هذه الحقائق فوق متناول الإدراك الإنساني، يرى الوضعيون المنطقيون المعاصرون أن كل عبارة يقولها قائل عن أمثال تلك «الحقائق» إنما يتبين في ضوء تحليلها المنطقي أنها ليست بذات معنى؛ ولهذا فهم يختلفون مع «كانت» في السبب الذي من أجله لا يجوز الحديث العقلي في عالم «الأشياء في ذواتها»؛ فمثل هذا الحديث عندهم غير جائز؛ لأنه حديث محتوم عليه بحكم طبيعته أن يجيء فارغا من المعنى، وأما «كانت» فلا يجيز مثل هذا الحديث؛ لأنه يختص بعالم إدراكه مستحيل على العقل ما دام العقل مركبا على نحو ما هو مركب عليه.
أيجوز للإنسان - مثلا - أن يتحدث عن «النفس» باعتبارها كائنا مستقلا عن الجسد؟ الجواب عند «كانت» وعند أتباع الوضعية المنطقية المعاصرة معا هو أن ذلك لا يجوز؛ لأن مثل هذا الكائن لا يقع في خبراتنا؛ ففي هذا الصدد يقول «كانت» إننا نخطئ إذا استدللنا وجود «نفس» مستندين في هذا الاستدلال إلى «الوحدة» التي تنتظم فاعلية الوعي عندنا فتجعلها كيانا واحدا متصلا. نعم، يخطئ الإنسان لو استند إلى مثل هذه الوحدة في مجرى وعيه ليستدل وجود كائن عنصري مستقل قائم بذاته اسمه «نفس»؛ لأنه عندئذ يستدل وجود عنصر بسيط من عملية تركيبية لا بساطة فيها. إن الوحدة الصورية في فاعلية نشاطنا الواعي ليست وحدها دليلا على ما قد يكون وراءها من جوهر قائم بذاته، كل ما في وسعنا إدراكه هو ماذا يدور في مجال الوعي وكيف يدور، وأما «النفس» التي هي وراء هذا النشاط، فلا حيلة أمامنا للوصول إلى كنهها. إن حياتنا الواعية ليست كائنا بسيطا، إنها ليست كائنا عنصريا واحدا يعرض نفسه دائما في هوية واحدة، بل هنالك حالات كثيرة، أو حاضرات كثيرة، تمثل في الوعي، بينها علاقات تجعل منها شعورا واحدا، لكن هل يجوز لنا أن نستنتج من هذه الحاضرات النفسية الكثيرة وجود «نفس» واحدة بسيطة؟ إن طريق البحث العلمي مأمونة طالما كان مجال البحث هو هذه «الحاضرات» في مجري الشعور؛ لأننا عندئذ نحصر أنفسنا في حدود ما هو في نطاق الملاحظة والخبرة. وليس هنالك فرق جوهري بين ملاحظة تلك الحاضرات النفسية وملاحظة الظواهر الطبيعية؛ ولهذا فلا فرق في حقيقة الأمر بين «علم النفس» و«علم الطبيعة» من حيث مادة البحث ومنهجه، وكما أنه لا يجوز لعالم الطبيعة أن يجعل «الشيء في ذاته » موضوع بحثه، فكذلك لا يجوز لعالم النفس أن يجعل «النفس» - باعتبارها جوهرا بسيطا مستقلا قائما بذاته وراء الحاضرات النفسية الجزئية - موضوع بحثه. هكذا يقول «كانت»، وهكذا يقول التجريبيون العلميون المعاصرون.
ناپیژندل شوی مخ