وجاءت العصور الوسطى بطابعها الديني، فوجدت هذا المنطلق الأرسطي أداة طيعة نافعة لخدمة أغراضها؛ فها هو ذا كتاب أو كتب نزل بها الوحي؛ وإذن فكل ما فيها صادق، ويمكن اتخاذ هذا العلم الصادق مقدمات لا سبيل فيها إلى الشك، فننتهي من تلك المقدمات إلى نتائج يقينية كذلك. وما يزال هذا الضرب من التفكير أداة يستخدمها كل من أراد أن يرتكز على سند يزعم له اليقين ليستدل منه ما استطاعت قدرته أن يستدل.
كان الافتراض الكامن وراء المنطق الأرسطي كله هو أن العلم الذي هو جدير بهذا الاسم، لا بد أن يبلغ درجة اليقين، وما ليس يبلغ اليقين فهو «ظن» لا يجوز الأخذ به، لكن هذا اليقين المنشود إذا جاز لنا أن نلتمسه في الرياضة وما يجري مجراها من ضروب التفكير، فلا يجوز أن يكون هدفنا إذا كانت «الطبيعة» هي مجال البحث؛ ذلك لأننا في الرياضة لا نزيد على استخراج نتيجة كانت كامنة في مقدماتها فأبرزناها، وأما في التحدث عن الطبيعة فالأمر مختلف، فها هنا ننبئ عن الظواهر أنباء قد نصيب فيها وقد نخطئ؛ ومن ثم فلا مندوحة لنا في هذا المجال الطبيعي عن اصطناع منهج فكري آخر؛ أي عن اصطناع منطق آخر، يكون عماده الترجيح لا اليقين، ما دام مجال القول هو النبأ الجديد لا مجرد تكرار النتيجة لما كان متضمنا في مقدماتها.
غير أن هذا المنطق الجديد الذي تلزمنا به ضرورة اتساع مجالات الفكر والقول لا يأتي على أنقاض المنطق القديم، بل هو يبني إلى جوار المنزل القديم منزلا جديدا؛ لأن مجال التفكير الذي من أجله نشأ المنطق الأرسطي ما يزال ولن يزال قائما، وكل ما في الأمر أن أضيف إلى القديم جديد من الفكر، يستوجب أن يضاف إلى المنطق القديم منطق جديد يسد حاجة هذا الفكر الجديد.
كان علم الهندسة في الرياضة لا يعرف سوى الهندسة الإقليدية التي أنشأها إقليدس، والتي ألممنا بطرف منها أو أطراف أثناء دراستنا الثانوية، لكن «هندسات» جديدة نشأت إبان القرنين التاسع عشر والعشرين إلى جانب هندسة إقليدس؛ فلئن كان إقليدس يبني علمه الهندسي على أساس استواء المكان، فهذه الهندسات الجديدة «اللاإقليدية» تبني بناءاتها على أسس أخرى؛ فواحدة منها تبني بناءها على أساس انحناء المكان كما هي الحال على سطح الأسطوانة؛ فإذا ما كنت إزاء سطح صغير نسبيا، كسطح هذه المنضدة التي أكتب عليها، جاز لك أن تفترض أنه مستو لا انحناء فيه؛ وبالتالي لا تخطئ إذا استخدمت هندسة إقليدس بالنسبة لما عساك أن ترسم عليه من مثلثات ودوائر، ولكنك لا تستطيع ذلك إذا ما تصديت لرقعة كبيرة من المكان، كالمكان الممتد بين الشمس والأرض، فها هنا يتحتم عليك أن تقلع عن افتراضك استواء المكان؛ لأنه يسلمك عندئذ إلى نتائج خاطئة، ولا بد لك من افتراض آخر يتمشى مع حقائق العلم الجديد، وهو أن المكان منحن، بحيث تسير أشعة الشمس فيما يشبه الأقواس لا في خطوط مستقيمة. وخلاصة القول هي أن هندسة إقليدس ما تزال صالحة ولكن في مجال محدود، ولا بد فيما عدا ذلك المجال المحدود من هندسات «لا إقليدية».
وكذلك الحال في فيزيقا نيوتن؛ فإذا كنت إزاء أجسام عادية تسير بسرعات عادية، فلا حرج عليك أن تستخدم علم الطبيعة كما عرفه نيوتن، وكما لا نزال نعرفه في مجال الحياة العلمية التي تتناول الأشياء المادية كأشياء، دون أن تتعرض للذرات الصغيرة التي هي قوام تلك الأشياء المادية؛ فالمهندس الذي يقيم جسرا أو بناء يكفيه علم الطبيعة النيوتوني في معالجته للمواد التي يستخدمها، أما إذا كان مجال البحث هو الذرة الصغيرة، فها هنا سنجد أنفسنا إزاء «طبيعة» أخرى، أجسامها ليست هي نفسها أجسام الأشياء كما نألفها، وسرعاتها ليست هي السرعات التي نألفها في تلك الأجسام؛ ولذلك اضطررنا اضطرارا إلى علم طبيعي «لا نيوتوني» إلى جانب علم الطبيعة النيوتوني؛ أما أولهما فللطبيعة الذرية، وأما الآخر فللطبيعة بمعناها المألوف.
وشيء كهذا لا بد أن يحدث للمنطق - والمنطق هو دائما تحليل التفكير العلمي - فلئن كان المنطق الأرسطي صالحا لأنواع التفكير الاستنباطي كما عرفها اليونان وكما عرفتها العصور الوسطى بعد اليونان، بل كما عرفتها العصور الحديثة حتى القرن التاسع عشر، فلا بد إلى جانبه من منطق آخر «لا أرسطي» على غرار الهندسة «اللاإقليدية» والفيزيقا «اللانيوتونية» ليواجه التفكير العلمي في تطوره الأخير.
ولنضرب بعض الأمثلة الموضحة؛ يقوم المنطق الأرسطي على دعائم أولية يعدها «قوانين» للفكر لا بد من سريانها في كل عملية فكرية، وأول تلك «القوانين» قانون الذاتية، الذي يرمزون له بقولهم «أ هي أ»، وهم يريدون بذلك أن الشيء المعين يحتفظ بذاتيته مهما تغير السياق من حوله؛ فهذه المنضدة التي أكتب عليها هي نفسها التي كانت بالأمس، على الرغم مما قد تغير من التفصيلات المحيطة بها، وأنا اليوم هو نفسه الذي كان أمس على الرغم من أنني قد ارتديت ثيابا أخرى وأتحدث حديثا غير حديثي بالأمس، وهكذا. يقوم النطق الأرسطي أول ما يقوم على افتراض أن الشيء الواحد المعين يحتفظ بذاتيته، وقد يكون هذا الاقتراض هو نفسه ما تنطوي عليه حياتنا العملية؛ ولذلك فلا بأس من تطبيق المنطق الأرسطي حيث يقوم هذا الافتراض.
ولكن ماذا تكون الحال إذا ما تحدثنا بلغة العلم الحديث، فقلنا إن هذه المنضدة التي تبدو للعين المجردة «شيئا واحدا بذاته» إن هي في الحقيقة إلا كومة هائلة من الذرات الصغرى التي لا تنفك متحركة مغيرة من أوضاع كهاربها؟ إنها وإن تكن قد حافظت على الإطار الخارجي لشكلها محافظة نسبية، إلا أن حشوها في تغير دائب لا ينقطع، إنها في حقيقتها سلسلة من «حالات» أو من «حوادث»، أفنكون على صواب إذا قلنا للعالم الطبيعي الذري «تمسك بأهداب المنطق الأرسطي، واحسب هذه المنضدة «شيئا واحدا بذاته» حتى لا تجاوز «قانون الذاتية» لأنه قانون من قوانين الفكر»؟ كلا، إنه لو أخذ بنصحنا كان خائنا لعلمه. كانت دنيا أرسطو سكونية مؤلفة من «أشياء» كل شيء منها ثابت على طبيعة بعينها؛ ولذلك أمكن تصنيف هذه الأشياء أنواعا أنواعا؛ وعلى هذا الأساس قام العلم الأرسطي كله. أما دنيا علمنا الراهن، فذات حركة مستمرة وصيرورة دائبة، لا يمكن تصنيفها «أشياء» كما يصنف البقال بضائعه في صناديق ورفوف؛ لأنها سير وحركة لا يحتفظ الشيء فيها بذاتية واحدة، إن «أ» لن تكون دائما هي «أ»، بل سرعان ما يتحول تركيبها الذري، ومهمة العلم الآن لم تعد كمهمة العلم الأرسطي، وهي أن يدرك «طبائع الأشياء» لأنه لا أشياء ولا طبائع، بل مهمة العلم الآن هي أن يرصد مجرى الحوادث ليلقف منه الاطرادات في سير تلك الحوادث، وكلما وقع على اطراد وقع بذلك على قانون من قوانين العلم؛ فلئن كان القانون العلمي عند المنطق الأرسطي رمزه هو «كل أ هي ب»؛ أي إن «أ» من طبيعتها كذلك أن تكون «ب»، كأن نقول «كل إنسان فان»، فيكون معنى ذلك أن الإنسان من طبيعته الفناء، فإن القانون العلمي عند المنطق الحديث رمزه هو «إذا وقعت أ لازمتها ب»، دون أن يكون معنى ذلك أن «طبيعة» أ تستلزم بالضرورة أن تلازمها ب، بل معناه أن ملاحظة الحوادث في مجراها الدائب المتغير قد دلت على أن أ، ب قد اطرد حدوثهما متلازمين، وكذلك «يرجح» أنه إذا حدثت «أ» مرة أخرى حدثت «ب» كذلك. هكذا تغيرت وجهة النظر إلى العالم، فتغيرت أسس العلم؛ وبالتالي وجب أن يتغير منطق التفكير.
الفصل الثاني
شعاب الطريق
ناپیژندل شوی مخ