ويمر ببيت الست عدلات، ويله من الست عدلات، إنه لا يشتهي مطلقا أن يذهب إليها؛ فهي كثيرة التقليب في الأقمشة، غزيرة الكلام بطيئة الحركة، شحيحة المال، قليلة الشراء، نادرة الدفع.
يعبر البيت ويستمر سائرا في ذلك الشارع الجميل، الذي يرافق النهير العظيم، الذي سماه أهله وذووه بحر مويس، فلم يكفهم في شأنه أن يرفعوه من نهير إلى نهر، بل أفاضوا عليه بما عرف عنهم من كرم، وأطلقوها عليه بحرا فأصبح بحرا، وكان يقوم بين البحر والشارع سور من الأعواد الحديدية العريضة بعض الشيء والمدببة الهامة، وهكذا استطاع أهل الزقازيق أن يحموا مويس من أن يكون موئلا لمن يفكر أن يلقي به ما يشوه جماله، واستطاعوا أيضا أن يردوا الأطفال عن خوضه والتعرض لمائه العميق.
وفي هذه الأيام التي كان فوكيون يماشي فيها النهر في ذلك السعير، لم يكن على الجانب الآخر من النهر إلا قليل من المباني، على قلة عددها جليلة الشأن عظيمة الخطر، فمن هذه المباني المدرسة الابتدائية، وكان كثير من التلاميذ يعبرون إليها في مراكب صغيرة، لقاء مليم أو مليمين يتقضاهما صاحب المركب، فقد كانت الكباري لا تزيد على اثنين، أحدهما على رأس النهر حين يتجه شرقا إلى القاهرة عن طريق أبي حماد، والكوبري الآخر في الجهة المتجهة غربا إلى منيا القمح فبنها، وكان منزل الباشا المدير في هذا الجانب أيضا.
أما الجانب الذي يسير فيه فوكيون، فهو زقازيق تلك الأيام بكل ما فيها من معالم، وحيث يدور النهر تمتد بجانبه تأبى أن تبتعد عنه، وكان فوكيون يسكن في شارع البوستة، وهو أهم شارع بالزقازيق، وحين تزوج - أتينا فروسو وشدد السين حتى تصل إلى النطق الصحيح - أقاما بنفس البيت، فقد عرفها فيه وهي تقيم مع أخيها متراكي، صاحب محل البقالة الشهير بالزقازيق.
دام زواج فوكيون لأتينا فروسو اثنتي عشرة سنة، ولم ينجبا أطفالا، والعجيب أن كليهما لم يحزن لهذا، فقد كانا يعرفان كيف يعملان حين يعملان، وكيف يستمتعان بالإجازة حين يرغبان.
كانت أتينا تذهب مع فوكيون كل شهر إلى محل الحاج محمدين الطوخي في الحمزاوي، وتنتقي منه الأقشمة لسيدات الزقازيق، وكانت تعرف الغالبية العظمى منهن من قبل أن تتزوج فوكيون، فقد كانت هي التي تقوم بتفصيل ملابسهن، وقد كانت على ذكاء حاد فعرفت أذواقهن، وهكذا استطاعت أن تكون ذات فائدة عظمى لزوجها، وبعد أن كانت الأقمشة التي يشتريها يتخلف منها جزء غير يسير فترات طويلة عنده، مما يضطره آخر الأمر أن يبيعها بغير مكسب أو بخسارة، أصبحت الأقمشة التي تنتقيها فروسو تنفد في أسابيع قليلة، إلى درجة أنه كان أحيانا ينزل مع فروسو مرتين أو ثلاثا إلى القاهرة ليتزود ببضاعة جديدة.
وكان الزوجان يصران على أن ينالا شهرا إجازة في كل عام، وكانا يختارانه شهر يوليو، ففي هذا الشهر تكون السيدات في الصيف هن أيضا قد انتهين من إعداد ملابس الصيف، ويكون الشتاء بعيدا، فأغلبهن يبدأ بشراء الأصواف قبل أغسطس إن لم يكن سبتمبر.
سنوات طيبة عاشها الزوجان معا، العمل عند كليهما يحميهما من الفراغ والشجار، والإجازة السنوية تجدد نشاطهما، والخروج إلى الفسحة كل أسبوع يدخل على حياتهما اليومية الرتيبة تجديدا، وكانا يذهبان في كل يوم أحد إلى كنيسة الأروام، ثم يتناولان الشطائر عند الغداء في حديقة وابور النور، الذي يقع في آخر الزقازيق بعد منشأة أباظة، ثم يذهبان إلى سينما أبولون في حفلة الساعة السادسة، ولا يمنعهما شيء عن هذا البرنامج إلا المرض ونادرا ما كانا يعرفانه، والعجيب أو ربما لم يصبح عليهما عجيبا أنهما كانا يستمتعان غاية المتعة بالموسيقى العربية والمارشات العسكرية، التي كانا يسمعانها من فرق الجيش في كشك وابور النور، فقد كانت موسيقى الجيش تعزف أيام الخميس والجمعة والأحد من بعد الظهر.
وكانت كثير من السيدات يمزحن مع فروسو وهي تخيط لهن ملابسهن، ويقلن لها إنك مصرية يا فروسو أكثر من المصريات، فلماذا لا تتكلمين مثلنا وتتركين لهجتك الجريجية هذه.
وتضحك فروسو وتقول: دا سغل يا خبيبتي، أقصد أقول دا شغل يا حبيبتي.
ناپیژندل شوی مخ