أما ابنه فؤاد فهو حزين من أجله غاية الحزن، فقد تزوج من كريمة بنت الشيخ إسماعيل الحريري، وحملت منه ولكنها ماتت في الولادة ومات معها ابنها، ومنذ ذلك الحين وفؤاد مضرب عن الزواج، يقول كلما فاتحه في الأمر: يا أبويا جربت حظي وعرفته.
ويدمى قلب أبيه: يا ابني ليس لي غيرك. - البركة في أبناء عائشة أختي. - أبناء البنت لأبيهم وأبناء الابن لجدهم. - ربنا يقدم ما فيه الخير يا أبويا.
ويدرك الحاج محمدين أن ابنه يريد أن ينهي الحديث.
ويرى في محيا ولده ما يتكتمه الابن وتبيحه ملامحه، لقد أحب كريمة وكبر الرجال فيه يمنعه أن يعلن حبه.
حين عرف سويلم الحاج محمدين، كان الحاج قليل العمل يكتفي بأن يجلس في الدكان، تاركا البيع والشراء جميعه لفؤاد.
فقد أصبح لمبرو يرسل سويلم وحده ليشتري الأقمشة من الحاج محمدين، وكان في أول الأمر يوصيه أن يترك اختيار الألوان للحاج محمدين أو لفؤاد، ومع التجربة ترك لسويلم التصرف جميعا، فقد أصبح يحسن الاختيار كما أصبح على دراية تامة بأذواق السيدات اللواتي يشترين.
صار سويلم قريبا إلى نفس الحاج محمدين وولده فؤاد، فهما يأنسان إليه ويقبلان على حديثه، يجدان النقاء بغير زيف، والرضى بغير شكوى، وقبول الحياة بغير شروط، فقد تعود كلاهما ألا يجدا عند الناس إلا التذاكي مع الغباء، والسخط بغير جهد، والشروط يضعها كل ابن آدم في عقده مع الحياة، وكأن الحياة أمه التي لم تنجب سواه.
في يوم ذهب سويلم إلى محلات الحاج محمدين فلم يجد فؤاد، فاشترى الكمية التي يريدها وجلس إلى الحاج. - ابا الحاج. - خير يا سويلم؟ - أريد أن أقبل يدك. - أستغفر الله لماذا يا ابني؟ - ربنا استجاب لدعواتك لي. - خيرا؟ - نعمات حامل. - صحيح؟ - والختمة الشريفة. - ألف مبروك يا ولد.
ثم نادى: يا سليمان هات ثلاثة أمتار حرير ياباني فستقي، وقيد ثمنها على حسابي ولفها وأعطها لسويلم.
وأشرقت الفرحة في عيني سويلم، فرح بحب الحاج أكثر من فرحه بالقماش وصاح: والله عندي نداؤك السريع على سليمان يساوي مال الدنيا كلها، إيدك أبوسها، أبي مات وأنا عندي سبع سنوات ولحقت به أمي بعد سنتين، وقد يجد الإنسان المال عند الناس، ولكن الحنان الذي أجده عندك يجعلني أنسى يتمي. - أترضى بي أبا يا سويلم؟ - وأين أنا من هذا؟ - يا ابني أنت طيب ولك قبول، وريحك خفيفة وربنا سيوفقك؛ لأنك تجمع إلى كل هذا الذكاء والمهارة. - يا ابا الحاج الناس قد يخرجون المال، ولكنهم يكنزون الحنان لأولادهم. - وأنت منذ اليوم أخ لفؤاد. - فأنا أعظم الناس حظا؛ لأن ربنا عوضني عن أبي بأبوين. - الخواجة فوكيون رجل طيب يا سويلم. - يا سلام يا ابا الحاج، والله لو كان خلفني ما كان يعاملني هذه المعاملة الطيبة، بعد كم شهر أصبحت أنا الذي أبيع وأشتري وأعمل كافة الأشياء، وبعد الشهر الأول لم يعد يحاسبني قط. - الأمانة عمرها طويل يا سويلم يا ابني. - إن يكن أبواي قد ماتا وأنا طفل، إلا أني يا ابا الحاج تعلمت وحفظت القرآن، وربنا أكرمني كل الإكرام حين عرفت الخواجة الذي عرفني بك. - أرضاك الله يا ابني. - ألا قل لي يا ابا الحاج. - نعم؟ - هو حبيبنا فؤاد عمره كم الآن؟ - آه، لا تذكرني يا سويلم. - قارب الأربعين؟ - يفوتها السنة دي. - ولا زال ... - ويرفض حتى أن أكمل معه الحديث فيه. - واذا جعلته يتزوج؟ - كيف؟ - هذا شغلي. - والله يا سويلم أعطيك مائة جنيه. - حد الله، لماذا تشتمني يا حاج؟ أتسحب مني أعز ما أملك في لحظة إعطائه؟ ألم تقل إنني أخو فؤاد؟ - صدقت. - فأنا الذي سأزوجه. - من؟ - اسمع يا ابا الحاج، الزبائن اللواتي يجئن إلى هنا بنات يحاولن أن يوقعنه ويتزوجنه، وبهذا يجعلنه ينصرف عنهن فهو تاجر لسابع جد، ولا يمكن أن يضحك عليه أحد، وأما سيدات من بنات الأثرياء يجئن في السيارات الفخمة ومعهن السائق والزفة، وغالبا يكن مخطوبات أو غالبا تكون قلوبهن مع أصحاب النصيب. - والله يا ابني كلامك كبير. أستمع إليه وكأنني أنا الشاب وأنت الشيخ، إنما يبدو أن عملنا في التجارة يجعلنا لا نفكر إلا فيها، قل يا سويلم. - العمدة في بلدنا الفؤادية. - اسمها الفؤادية؟ - كان اسمها شقلبان وسعينا حتى أسميناها الفؤادية. - عجيبة. - كأننا أسميناها الفؤادية ليتزوج فؤاد ابنك ابنة عمدتها. -كم عمرها؟ - ستندهش. - كم؟ - خمسة وعشرون سنة. - وما الذي جعلها تنتظر؟ - أكملت تعليمها في الجامعة. - الجامعة وهي ابنة العمدة؟ - عقلها يزن بلدا بأكمله. - ولماذا لم تتزوج زميلا لها؟ - القسمة، زملاؤها كن يخفن منها. - أهي ...؟ - إن لم تكن قمرا في تمامه أكون غير جدير أن تقول لي ابني، لقد صمم أبوها أن يلازمها في ذهابها إلى الكلية والعودة منها، الرجل الذي رباها عم حسنين أبو سعفان، وأقامت والدتها في مصر طوال دراستها في الجامعة. - أليس عند العمدة غيرها؟ - اسم الله عليك، وأرادها أن تتعلم كما لو كانت ولدا. - وهل تقبل؟ - فؤاد متعلم. - ولكن لم يتخرج في الجامعة. - بل تخرج في أحسن جامعة، جامعة محلات الحاج محمدين الطوخي وولده.
ناپیژندل شوی مخ