كتاب نهج الإيمان مصنف الكتاب السيد الجليل ينقل عن جده أبي عبد الله الحسين بن جبر رحمه الله كذا وجد
مخ ۱۷
بسم الله الرحمن وبه نستعين الحمد لله المحمود على الآلاء (1)، الواسع العطاء، المشكور بفضله على جميع [أهل] (2) الأرض والسماء، الذي عرقت (3) في مطالعة فيض نور كبريائه أنظار الأولياء وتحير في القليل من مبتدعات مخلوقاته أفكار الحكماء، وظهر فيها آيات بينات لوحدانيته تعقلها قلوب العلماء، ونطق لبيانها بعجيب الأدلة القاهرة فسمع دعاءه آذان الفضلاء.
حمدا جسيما عظيما يعجز عن وصفه لسان أهل الحمد والثناء، لأنه لا حمد إلا دون حقه، ولا مدح إلا دون كرمه، ولا عدد إلا دون إحسانه، ولا مدد إلا دون سلطانه.
وأشرف التحيات وأفضل الصلوات على خاتم الأنبياء، وسيد الأصفياء، وخلاصة الأولياء، ومشكاة الضياء، المختار من الذروة العلياء (4)،
مخ ۱۹
وسرة البطحاء (1)، الهادي في الظلمة الطخياء (2)، محمد وآله النجباء، البدور الخلفاء.
وبعد:
فإني عزمت على تصنيف كتاب كبير بسيط في الإمامة والمناقب يكون هذا الكتاب كالجزء منه أو كالمدخل إليه، فعاقت دونه العوائق من محاجزة الإيام (3) ومماطلة الأزمان، فرأيت أن الأخذ في القليل خير من تمني الكثير، فإن أمهل الله الكريم أستأنف الكلام المشبع في المستقبل إن شاء الله تعالى.
وها أنا ذاكر في هذا الكتاب من دلائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ومناقبه قليلا من كثير وقطرة من بحر غزير، لأن دلائله ومناقبه وفضائله وسوابقه يعجز عن حصرها باع الإحصاء لأنه سيد الأوصياء، وبعد النبي صلى الله عليه وآله أجل من فوق رقعة الغبراء (4)، أبو الأئمة الكرماء، العالم الرباني، الذي أعطته الحكمة مقاليدها (5)، وخلعت عليه صور الكمالات جدودها (6).
مخ ۲۰
فهو معدن الحكمة وينبوعها، الصادر عن أنفاسه الطاهرة وعلومه القاهرة الباهرة. كلام [...] (1) وعبقة نبوية (2). فمثل كلامه عليه السلام مستحيل أن يطرق المسامع، والدهر بإيجاده لغيره عقيم غير طائع.
فهو الواجب التقدم بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل، بالنظر الصحيح والدليل الريح (3). وأبين ذلك بيانا واضحا صحيحا مكشوفا أشهر من الشمس وأوضح من الصبح، بالآيات الإلهية والأخبار النبوية الواردة من طريق الفرقة المحقة الاثني عشرية وطريق أصحاب المذاهب الأربعة، ليظهر الحق بقول الفريقين ومن كلي الطريقين ويرتفع عنه الشك، حيث هو مستنبط (4) من القرآن العظيم وكلام الرسول الكريم وبالدلائل العقلية، وهي أولى بالتقدم، لأن السمع فرع على العقل، وسأذكر ذلك على ما يقتضيه الحال إن شاء الله تعالى.
وقد جمعت أخباره من مواضع متفرقة ومظان متباعدة ومذاهب مختلفة وآراء متشعبة، ربما بلغ عدد الكتب المنقول منها والمشار إليها ألف كتاب أو يقاربها.
مخ ۲۱
فاتفقت في المعنى بعد أن كانت متباينة المغيى (1)، وأزهر ربيعها بنواحي ربوعها (2)، فكأن ناظرها ينظر في جنة قد اغدودق ماؤها وأينعت ثمارها (3)، أو يطالع خزانة في الكتب مختلفة أجناسها. [...] (4) بألفاظ تنبه على المقاصد وترشد إلى الدلائل، حتى نطقت ألسنة الحق بأندية المذاهب المختلفة، فصدق بعضها بعضا وشهد بعضها بصحة بعض، وما دق على رؤوس الأشهاد.
هلموا - رحمكم الله - إلى ما ظهر سبيله [...] (5).
وسميته ب (نهج الإيمان) حيث كان إليه (6) قائدا وعليه هاديا، بعد الاعتراف بقلة البضاعة وعدم [الاستطاعة، فرب] (7) حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
وقد تسجع الورقاء وهي حمامة * وقد تنطر الأوتار وهي جماد (8) وحيث كان المولى الصاحب الصدر الكبير المعظم ذو الأخلاق الجميلة
مخ ۲۲
والبهجة الحميدة والغرة الرشيدة شرف الإسلام والمسلمين جمال الدين (محمد بن محمود الرازي) أدام الله في عز الدين والدنيا مدته وأطال بالتأييد نصره وقدرته وحرس من الغير مهجته، من رؤساء الملة ونبلاء الإمامية، محبا للعلوم راغبا في انتشارها، أهديت هذا الكتاب لخزانته ليكثر له وللمؤمنين به النفع إن شاء الله.
وها أنا أسمل من الناظر (1) أثواب صفحه وجلابيب عفوه. مستمدا من الله تعالى المعونة والتوفيق، عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون.
فصل [تعريف المؤلف بكتابه] أسوقه إلى فضل هذا الكتاب ليحصل العلم بعظيم فضله وثوابه وجسيم أجره وحسن مآبه.
معلوم أن علم الإمامة علم شريف جليل، وهو من الواجبات المهمات، فلا يقبل عمل ممن لا يعرف إمام زمانه، وقد ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع، ولم يستبد بالمعقول دون المنقول، وقد أخذ من صفوهما واغترف من بحرهما، واجتنى الثمرة من أغصانهما.
وهذا كتاب سمط (2) قد حوى أربعة دلائل (3): إما دلالة على إمامة إمام حق وصدق، أو ذكر منقبة أو فضيلة له، أو نقض حجة وشبهة يعتقد بها إمامة
مخ ۲۳
من عداه أو كلام يكون تمهيدا وسببا ووسيلة إلى أحدهم.
فما بين دفتي (1) هذا الكتاب لا يخرج عن هذه الدالي الأربعة، والدلالة والنقض أفضل من المناقب، لأنهما أصلان والمنقبة فرع، وذكر المناقب عبادة، وهي أيضا دالة على إخلاص المحبة، ومن أخلص في محبته غنم أجره، واختص بأوصاف أوردها.
روى الفريقان (2) المختلفان والرهطان المتباينان أن ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عبادة (3)، روى ذلك كثير من الأصحاب:
منهم الشيخ الجليل محمد بن علي (4) بن الحسين بن شاذان رحمه الله تعالى في آخر باب من كتابه (كتاب المناقب)، روى حديثا مسندا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ذكر علي بن أبي طالب عبادة (5).
روى الخطيب الخوارزمي في كتابه (كتاب الأربعين) (6) في الفصل
مخ ۲۴
الثالث والعشرين حديثا مسندا إلى عائشة قالت: قال رسول الله (ص):
ذكر علي بن أبي طالب عبادة (1).
وروى الخوارزمي في أول كتابه المقدم ذكره بروايته عن الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن الله تعالى جعل لأخي علي بن أبي طالب فضائل لا تحصى عددها كثرة (2)، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرا بها غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر [ولو وافى القيامة بذنوب الثقلين] (3)، ومن كتب فضيلة من فضائل علي لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لذلك الكتابة رسم، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفر الله له ما الذنوب التي اكتسبها بالنظر (4) وهذا الحديث بعينه رواه جماعة كثيرة من الأصحاب.
وروى الشيخ الجليل محمد بن علي بن الحسين بن شاذان في كتابه (كتاب المناقب المائة) في المنقبة السابعة والثلاثين حديثا مسندا عن عبد الله بن عمر قال: سألت (5) رسول الله صلى الله عليه وآله عن علي بن أبي طالب، فغضب وقال: ما بال أقوام يذكرون من له عند الله منزلة [كمنزلتي] ومقام كمقامي إلا النبوة، ألا من أحب عليا فقد أحبني، ومن أحبني رضي الله عنه، [ومن رضي الله عنه] كافأه بالجنة. [ألا ومن أحب عليا استغفرت
مخ ۲۵
له الملائكة، وفتحت له أبواب الجنة] يدخل من أي باب شاء بغير حساب.
ألا من أحب عليا أعطاه الله كتابه بيمينه وحاسبه حسابا يسيرا إلى حساب الأنبياء. ألا ومن أحب عليا لم يخرج من الدنيا حتى يشرب من الكوثر، ويأكل من [شجرة] طوبى، ويرى مكانه في الجنة. ألا ومن أحب عليا هون الله عليه سكرات الموت، وجعل قبره روضة من رياض الجنة. [ألا] ومن أحب عليا أعطاه الله [في الجنة] بكل عرق في بدنه حوراء، وشفعه في مائتين (1) من أهل بيته، وله بكل شعرة في بدنه مدينة في الجنان. ألا ومن عرف عليا وأحبه بعث الله إليه ملك الموت كما يبعثه إلى الأنبياء، ورفع الله عنه أهوال منكر ونكير، ونور قبره وفسحه مسيرة سبعين عاما، وبيض وجهه يوم القيامة. ألا ومن صاحب عليا (2) أظله الله في ظل عرشه مع الصديقين والشهداء والصالحين، وآمنه يوم الفزع الأكبر والأهوال الصاخة (3). ألا ومن أحب عليا تقبل الله منه حسناته، وتجاوز عن سيئاته، وكان في الجنة رفيق حمزة سيد الشهداء. [ألا ومن أحب عليا ضحك الله إليه، ومن يضحك الله إليه نجاه من النار. ألا ومن أحب عليا أثبت الله الحكمة في قلبه، وأجرى على لسانه بالصواب، وفتح الله له أبواب الجنة] (4) ألا ومن أحب عليا سمي أسير الله في الأرض، وباهى الله به ملائكة
مخ ۲۶
السماوات (1) وحملة العرش. ألا ومن أحب عليا ناداه ملك من تحت العرش: أن (2) يا عبد الله استأنف العمل فقد غفر الله [لك] الذنوب كلها. [ألا ومن أحب عليا جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر]. ألا ومن أحب عليا وضع الله على رأسه تاج الكرامة، وألبسه حلة العز. ألا ومن أحب عليا مر على الصراط كبرق خاطب (3) ولم ير صعوبة المرور. [ألا ومن أحب عليا كتب الله له براءة من النار، وبراءة من النفاق، وجوازا على الصراط، وأمانا من العذاب]. ألا ومن أحب عليا لا ينشر له ديوان، ولا ينصب له ميزان، وقيل له: أدخل الجنة بغير حساب. ألا ومن أحب عليا (4) أمن من الحساب ومن الصراط (5). ألا ومن أحب عليا وبات على حبه صافحته الملائكة (6)، وزارته أرواح الأنبياء، وقضى الله له كل حاجة كانت له عند الله عز وجل. ألا (7) ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله بالجنة (8).
وروى في كتابه المقدم ذكره في المنقبة الحادية والأربعين حديثا مسندا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
مخ ۲۷
يقول: معاشر المسلمين اعملوا أن لله بابا (1) من دخله أمن من النار ومن الفزع الأكبر فقام إليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إهدنا إلى هذا الباب حتى نعرفه. قال: هو علي بن أبي طالب سيد الوصيين وأمير المؤمنين وأخو رسول الله (2) وخليفته (3) على الناس أجمعين. معاشر الناس من أحب أن يتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليتمسك بعلي بن أبي طالب عليه السلام، فإن ولايته ولايتي وطاعته طاعتي. معاشر الناس من أحب أن يعرف الحجة بعدي فليعرف علي بن أبي طالب. معاشر الناس من يتوالى ولاية (4) فليقتد بعلي بن أبي طالب بعدي والأئمة من ذريته، فإنهم خزان علمي.
فقام جابر بن عبد الله الأنصاري وقال: يا رسول الله وما عدتهم (5)؟
فقال: يا جابر سألتني رحمك الله عن الإسلام بأجمعه، عدتهم عدة الشهور، وهي عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض (6)،
مخ ۲۸
وعدتهم عدة نقباء بني إسرائيل، وبعث الله منهم اثني عشر نقيبا، أولهم علي وآخرهم القائم عليه السلام (1).
وروى في كتابه المقدم ذكره بالمنقبة الثمانين حديثا مسندا عن عثمان بن عفان قال: سمعت عمر بن الخطاب قال: سمعت أبا بكر [بن أبي قحافة] يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن الله [تبارك و] تعالى خلق من نور [وجه] علي بن أبي طالب ملائكة يسبحون الله تعالى ويقدسونه (2) ويكتبون ثواب ذلك لمحبيه ومحبي ولده صلوات الله عليهم (3).
وروى في كتابه المقدم ذكره في المنقبة الخامسة والتسعين حديثا مسندا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: [من أحب عليا عليه السلام قبل الله منه صلاته وصيامه وقيامة واستجاب دعاءه، ألا و] من أحب عليا أعطاه الله بكل عرق في بدنه مدينة في الجنة، ألا ومن أحب عليا (4) أمن من الحساب والميزان والصراط، ألا ومن أحب عليا وآل محمد أنا (5) كفيله بالجنة معا لأنبياء، ألا ومن أبغض عليا (6) جاء يوم القيامة مكتوب بينه عينيه: آيس من رحمة الله (7).
مخ ۲۹
فصل [مؤهلات الناظر في الإمامة] ينبغي أن يعلم الناظر أولا أن لكل مسألة موضعا مخصوصا من العلم الذي هو جزء منه، لا يقدم عليه ولا يؤخر عنه.
وهذا العلم بالإمامة إنما هو مبني على الأصول الثلاثة، وهي (1) التوحيد والعدل والنبوة. وموضع هذا العلم أن يكون رابعا لهذه الأصول المذكورة.
فعلى الناس في هذا العلم أن يسلم المبادئ التي عليها بناء الإمامة ولا يعترض عليها بها، فإن خالجه شك أو وهم فليرجع إلى الكتب المخصوصة بتلك العلوم الشريفة، ففيها ما يشفي الغليل وينقع الصدي (2)، ويؤخر النظر في الإمامة إلى إتقان المبادئ التي هي الأصول لهذا العلم.
ألم تر أن الباحث عن قدرة الله تعالى لا يتكلم في حدوث الأجسام بل يكون ذلك عنده معلوما. وكذا هذا العلم مبني على تلك الأصول الصحيحة، فيسلم أن العالم محدث والله تعالى محدثه من غير أصول قديمة ولا ثابتة في العدم بل كانت منتفية على كل حال. وأنه تعالى واجب الوجود لذاته أزلا وأبدا، وأنه تعالى واحد فرد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، قادر على جميع المقدورات لا يعجزه شئ منها، عالم بجميع المعلومات لا يشتبه عليه شئ فيها، بصير بالمدركات، مريد للطاعة كاره للمعصية، حي موجود، ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ، ويسبح كل محدث له عظيم
مخ ۳۰
عزته، ويقدس علو صمديته، ويدل على جلال أحديته ودوام سر مديته وكمال قدرته، ويعتقد عدله في قضيته، لا يخل بواجب ولا يفعل قبيحا، لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وأزاح عللهم، وبعث إليهم الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، بل تكون له الحجة البالغة على خلقه.
وختم برسول محمد صلى الله عليه وآله الأنبياء، وأنه رسول صدق أمين معصوم، قائل بالصدق حامل لأعباء الرسالة. وأن شرعه ناسخ لما قبله، مؤبد إلى يوم الدين.
إلى غير ذلك من الأصول التي يجب العلم بها على كل مكلف.
فهذا ما يجب عليه علمه أولا على سبيل الجملة، لأن الأمة من أهل الحق مجتمعة والاتفاق منعقد على أن الإخلال بمعرفة الله تعالى وتوحيده والإخلال بمعرفة رسله وحججه عليهم السلام كفر محض.
ولا فرق بين الإخلال بهذه المعارف وبين الشك فيها أو اعتقاد ما يقدح فيها، لأن الإخلال بالواجب يعم الكل. وإذا كان الجهل بهذه المعارف كفرا فالعلم بها - لوجوبه أو لوجه وجوبه - هو الإيمان.
والإخلال بالإمامة وشروطها يعود بالنقض على أدلة التوحيد والعدل من وجهين:
(أحدهما) أن الإمامة لطف في التكاليف العقلية التي يجب فعلها إقداما أو تركها إحجاما، فمتى لم يعرف المكلف الإمامة بشروطها مع ما تقرر في عقله من كونها لطفا، أداه ذلك إلى الشك في عدل الله سبحانه وتعالى، وأنه ممن يجوز أن يخل بشرائط التكليف ولا يزيح علة المكلفين فيما كلفهم.
مخ ۳۱
وهذا هو الكفر بالله تعالى.
(والوجه الثاني) أنه قد تقرر في الشريعة أفعال هي ألطاف للمكلفين إلى يوم القيامة. فمتى لم يعلم المكلف أن لها حافظا من قبل الله تعالى معصوما لا يجوز عليه الخطأ، لم يبق له وثوق بالشرع ولم يأمن من أن يضل عن اللطف، فيؤدي ذلك إلى القدح في العدل. فإذن لا بد من المعرفة بالإمامة وشروطها.
والخلق الكثير والجم الغفير - مع اتفاقهم على وجوب الإمامة - قد اختلفوا في وجه وجوبها، وفي شروطها، وفي طريق ثبوتها ، وفي أعيان الأئمة. فيكون الكلام في هذا الكتاب في مقدمة وفصول:
فالمقدمة مشتملة على وجوب الإمامة ووجوب عصمة الإمام من غير تعين زيد أو عمرو.
والفصول تشتمل على أن علي بن أبي طالب عليه السلام هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل، وأنه معصوم منصوص عليه من الله سبحانه وتعالى ومن رسوله (ص)، وأن الأئمة المعصومين الأحد عشر من ذريته عليهم السلام، وأن أبا بكر والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ليس لهم في الإمامة مراح ولا مغدى (1)، وأن بعدهما عنها مثل بعد المشرقين.
مخ ۳۲
ذكر المقدمة:
فصل (في ذكر وجوب الإمامة وبيان حقيقتها) الإمامة لها حقيقة في اللغة، وهي التقدم. والايتمام: هو الاقتداء، ومعناه الاتباع (1).
والإمامة غير الإمام (2)، والإمام هو المتبع، ولهذا يسمون من يصلي بالناس (إماما) لتقدمه عليهم واقتدائهم به.
وأما عند المتكلمين:
فهي رئاسة دينية مشتملة على ترغيب عموم الناس في حفظ مصالحهم الدينية والدنياوية وزجرهم عما يضرهم بحسبهما.
وقال آخرون: الإمامة رئاسة عامة لشخص من الأشخاص بحق الأصالة لا نيابة عن غير هو في دار التكليف.
واحترزوا بقولهم (لشخص) من الأمراء والقضاة، وبقولهم (بحق الأصالة) ممن استخلفه الإمام نائبا عنه، وبقولهم (لا نيابة عن غير هو في
مخ ۳۳
دار التكليف) احترازا من نص النبي أو الإمام على إمام بعده، فإنه لا يثبت رئاسة مع وجود الناص عليه. وعلى هذا القول يكون كل نبي إماما ولا ينعكس، فيقع التفاوت بينهم تفاوت العام والخاص.
وأما الإمام: فهو الإنسان الذي له الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا بحق الأصالة في دار التكليف.
واختلف الناس في الإمامة على أربعة أقوال:
منهم: من لم يوجبها أصلا، وهم الخوارج والأصم من المعتزلة.
وحجتهم في ذلك أن قالوا: يجوز أن يتناصف الناس [بينهم] (1) ولا يحتاجون إلى إمام.
وهذا القول باطل، من حيث أنه تقدير لأمر لم يحصل، لأن التناصف غير حاصل بين الناس على مرور الأوقات. ولو قيل لهم: في أي وقت حصل التناصف بين الناس؟ ما أمكنهم الإشارة إلى وقت قط، فعلم بطلان ذلك.
وربما قالوا: ليس لها وجه وجوب في العقل، وإذا لم يكن لها وجه وجوب فيه لم يجب. قالوا: وإنما قلنا ذلك لأن ما ليس له وجه وجوب في العقل فليس بواجب، لأنه إذا لم يكن له جهة وجوب لم يكن بأن يجب أولى من [أن] لا يجب وبالعكس، واعتلوا لنفي هذا القول.
وقولهم (ليس لها وجه وجوب في العقل) باطل بما يذهب إليه الإمامية وغيرهم.
ومنهم: من يوجبها سمعا، مثل أبي هاشم وأبي علي ومن وافقهما.
مخ ۳۴
وحجتهم أن الرئاسة لا تجب قبل ورود الشرع، وإنما تجب من حيث الشرع لإقامة الحدود، كالجرم للزاني والقطع للسارق والحد للمفتري، إلى غير ذلك.
وليس لأحد من الأمة أن يقيم هذه الحدود وإنما يقيمها الإمام، من غير خلاف بين الأمة، فعند ذلك تجب الرئاسة. ويستدلون على وجوبها بالآيات والأخبار.
ومنهم: من أوجبها عقلا لدفع الضرر، وأوجب نصب الإمام على المكلفين بهذا الاعتبار، وهم النظام والخياط وأبو الحسن البصري ومن وافقهم.
ومنهم: من أوجبها عقلا وسمعا، لكونها لطفا في أداء الواجبات واجتناب المقبحات، وأوجب نصب الإمام على الله سبحانه وتعالى، وهم الإمامية الاثنا عشرية. وهذا هو المذهب الصحيح على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فقد بان على هذه الأقوال الأربعة أن علم الإمام (1) قد ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، ولم يستند بالمنقول دون المعقول، وقد أخذ من صفوهما واغتر ف من بحرهما واجتنى الثمرة من أغصانهما، فهو لأجل ذلك من أشرف العلوم وأجلها.
مخ ۳۵
فصل (في ذكر وجوب نصب الإمام على الله سبحانه وتعالى) الدليل على وجوب نصب الإمام على الله تعالى هو: أن العادة جارية في جميع الأزمنة أن الناس متى كان لهم رئيس يرجعون إليه في تدبير أمورهم ويفزعون إليه عند اختلاف أحوالهم، مهيب ذو قوة يردع الناس (1) وينصف المظلوم من الظالم، يؤدب الجناة ويقم العصاة ويقمع الغواة ويضع الأشياء مواضعها، كانوا إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد ويكثر الصلاح ويقل الفساد، ومتى خلوا من رئيس موصوف بما ذكر انعكس الأمر فيما بينهم [...]، فهو واجب على الله سبحانه وتعالى [...] (2) تحققها، والدافع لهم جاحد للضروريات.
وقد ضربوا لذلك الأمثال وأنشدوا فيه الأشعار، فمن أمثالهم: مثل الملك والدين مثل الروح والجسد، فلا انتفاع بروح من غير جسد ولا بجسد من غير روح. وقالوا: إن الملك والدين أخوان توأمان لا قوام لأحدهما إلا بالآخر.
ومن أشعارهم في المعنى ما ذكروه عن الأفوه الأودي (3) - قالوا: وكان من حكماء العرب:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم * ولا سراة إذا جهالهم سادوا إذا تولى سراة القوم أمرهم * نمى على ذلك أمر الناس فازدادوا
مخ ۳۶
تهدي الأمور بأهل الرأي ما صلحت * فإن تولت فبالأشرار تنقاد (1) وقال النابغة:
فلا خير في حلم إذا لم تكن له * موانع تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له * حليم إذا ما أو ورد القوم أصدرا (2) وقال آخر:
* تهدى الرعية ما استقام الرئيس * فما يكون عليه الحكماء والعقلاء والشعراء لم يمكن إنكاره ولا يجوز إبطاله.
وأما الثانية - وهي أن اللطف واجب على الله تعالى - من حيث الحكمة وعدله يقتضي ذلك، ولا يماري في ذلك من يقول بالعدل.
ولأن اللطف أيضا لطفان: لطف يؤدي تركه إلى فساد، وذلك يجب فعله على الله تعالى كنصب النبي أو الإمام للخلق يهتدون به. ولطف لا يؤدي تركه إلى فساد، كترك زيد أن يدخله الله الجنة تفضلا منه وتلطفا بزيد.
فإن قيل: لا نسلم أن الإمامة لطف في أمور الدين، وكونها لطفا فيها غير معلوم، غاية ما يعلم حصول المضار الدنيوية بفواتها، ودفع المضار الدنيوية غير واجب على الله تعالى، مع تمكنة المكلف من الاحتراز منها وإرشاده إليها.
مخ ۳۷