[نهج البلاغة تحقيق(فارس تبريزيان)]
نهج البلاغة
وهو مجموعة خطب مولانا أمير المؤمنين عليه السلام
وأوامره وكتبه ورسائله وحكمه ومواعظه
تأليف :
الشريف الرضي
أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد
بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام
تحقيق: الشيخ فارس تبريزيان ( 5 )
مخ ۱
مقدمة التحقيق
الحمد لله حمدا حمده به الأنبياء والأولياء والعباد الصالحون والصلاة والتسليم على أنبياء الله ورسله أجمعين ، بالأخص خاتمهم وأفضلهم محمد المصطفى وأهل بيته الذين طهرهم وأذهب عنهم الرجس وجعلهم القدوة للناس إلى يوم الدين .
في طريق تحقيق نهج البلاغة
إن كتابا ككتاب نهج البلاغة ، الذي جمع بين دفتيه من خطب ومواعظ وحكم ورسائل لسيد الفصحاء والبلغاء الذي تربى منذ نعومة أظافره في حجر الرسالة وغذي بلبان النبوة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه الذي اتبع الرسول صلى الله عليه وآله اتباع الفصيل اثر أمه وكان منه كالصنو من الصنووالذراع من العضد.
لمن المؤسف عليه أن يقع تصحيحة وضبط نصه وشرح ألفاظه بأيد غير أمينة على تراثنا الخالد العريق ، أمثال محمد عبده ومحيي الدين الخياط وصبحي الصالح !!! الذين جعلوا كل اهتمامهم في تحقيقه جهة البلاغة والفصاحة فيه ، غاضين طرفهم عما فيه من مسائل مهمة ، بالأخص تلك المباني التي تختلف مع مذهبهم اختلافا جوهريا ، فحاولوا وبشتى الطرق تحريفها وتغييرها عن معناها لتتلائم وما يعتقدونه ويذهبون إليه !!.
ومن هذا المنطلق كانت تدور في خلدي فكرة تحقيق نهج البلاغة تحقيقا يتناسب مع شأنه ، ولكن
--- ( 6 )
مخ ۵
خطورة الخوض في أعماقه كانت ترددني كثيرا في الشروع به ، إلى أن رفع ترددي بعض أصحاب الخبرة ومن عليه المعول في هذا المجال وشجعني وبعث اطمئنانا في قلبي ، فعزمت على تحقيقه واضعا خطة بدائية لهذا العمل تتكون من :
(1) مقابلة الكتاب على أهم نسخه المعتبرة التي تمتاز بالقدم والقراءة والبلاغ ، وكذا مقابلته على أقدم شروحه المعتبرة.
(2) تثبيت أهم الاختلافات بين النسخ في الهامش
(3) ذكر أسانيد ماورد في نهج البلاغة من خطب وحكم ورسائل متصلة إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، مع ذكر المصادر المتقدمة على زمن الشريف الرضي .
(4) عرض ما جاء في متن الكتاب من خطب ورسائل وحكم وكلمات قصار على المصادر القديمة والإشارة إلى ما وقع من اختلافات بينها.
(5) ذكر مصادر الروايات الواردة في الكتاب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وبالاعتماد على أهم الكتب عند الفريقين .
(6) الأبيات الشرعية التي استشهد بها أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، تشرح وتذكر أقدم مصادرها .
(7) الأمثال والحكم التي استشهد بها أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه ، تشرح ويذكر قائلها .
(8) أسماء البلدان ، تشرح بالاعتماد على أقدم المصادر .
(9) أسماء الحيوان والنبات ، تشرح بصورة مختصرة.
(10) وضع ترجمة للأعلام المذكورين في نهج البلاغة .
(11) شرح الكلمات اللغوية الصعبة الفهم على عامة الناس ، بالاعتماد على كتب اللغة وشروح نهج البلاغة القديمة.
(12) رد الشبهات الواردة حول نهج البلاغة ، كل في محله في أثناء الخطب والرسائل والحكم .
(13) التعريف ببعض المبهمات والاشارات في نهج البلاغة ، كذكر الاسماء التي أشار اليها عليه السلام في كلامه أوالبلدان والوقائع ، أوماذكره بالكنية ، كل ذلك وبالاعتماد على شروح نهج البلاغة المعتبرة والمصادر الام في التاريخ والحديث والرجال و...
(14) ومسائل أخرى كثيرة تستجد أثناء العمل .
وفي أثناء وضعي خطة العمل وفي بدايات الدخول في هذا المشروع الجبار ، حصل لي لقاء مع سماحة الشيخ محمد النقدي حفظه الله ، وأطلعني على عزمه لتجديد طبع نهج البلاغة بصف حروفه وإخراجه بحله قشيبة من الناحية الفنية ، ذلك وبالاعتماد على طبعة صبحي الصالح .
--- ( 7 )
مخ ۶
فأخبرته بما في هذه الطبعة من تحريفات وأخطاء كثيرة !
فطلب مني تصحيح الكتاب وضبط نصه ورفع ما وقع فيه من تحريف ، من دون إطالة أوتعليق .
فانتهزت الفرصة لكي أقدم عملي هذا بصورة بدائية ، وذلك بمقابلته على أقدم نسختين وضبط نصه من دون الاشارة إلى الاختلافات .
وكلي أمل من العلماء وأصحاب النظر في أن يمدوني بنظراتهم العلمية ، لتطوير العمل ، ورفع جميع الاشكالات عنه ، وإخراجه بصورة يكون مفخرة لمذهبنا وتراثنا الغني الخالد .
صبحي الصالح وعمله في نهج البلاغة
لم يبتكر صبحي الصالح في تحقيقه لنهج البلاغة شيئا يذكر ويقدر ، سوى ما صنعه من فهارس فنية للكتاب لم يسبقه بها أحد ، وفي الفهرس الأول منها الذي خصصه للألفاظ المشروحة ، يندهش القارئ عند مطابقتها مع ما شرحه محمد عبده ، فيرى أكثرها أن لم نقل كلها منقولة نصا من شرح محمد عبده ، نعم محمد عبده شرح كل عدة كلمات في هامش واحد وصبحي الصالح أفرد لكل كلمة هامشا على حدة !! ونوه صبحي الصالح في مقدمته إلى هذا المطلب ، واعتذر عن هذا بأن محمد عبده عول في شرحه على شرح ابن أبي الحديد وأخذه منه حرفيا ، وهو أيضا عول على شرح ابن أبي الحديد وأخذه منه حرفيا!!.
وأما تقويم نص الكتاب فتشاهد صبحي الصالح في مقدمته ينقد محمد عبده بعدم اعتماده على مخطوطات نهج البلاغة في التصحيح ، وأنه اكتفى بنسخة واحدة ، ولم يجشم نفسه عناء البحث عن النسخ المختلفة ومقابلة بعضها ببعض ضبطا للنص وتصحيحا للأصل واختيارا للأدق الأكمل وانسجاما مع أمانة العلم ومنهجية التحقيق .
وبعد كلام صبحي الصالح هذا نوجه له سؤالا ونستفهم منه عن النسخ التي اعتمدها وجشم نفسه عناء البحث عنها و....؟!!
فلم يذكر لنا وصف نسخة اعتمدها في تحقيقه ، واعتمد في ضبط النص على ما ضبطه محمد عبده ، حتى أنه تابعه في الأقواس والتنصيص وتقطيع النص ، وفي بعض الموارد التي خالف فيها محمد عبده ، كان الحق مع محمد عبده ، نعم يحتمل أن يكون قد قابل الكتاب مع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الذي حققه محمد أبوالفضل إبراهيم .
ولو كان صبحي الصالح اعتمد في تحقيقه على مخطوطات لنهج البلاغة ، لما وقع في اشتباهات كثيرة ستأتي الإشارة إليها .
--- ( 8 )
مخ ۷
وأما ما كتبه صبحي الصالح في مقدمته لنهج البلاغة والتي عنونها «لمحة خاطفة عن سيرة الامام علي عليه السلام» فتراه يراوغ فيها بين مدح وذم دفين يجعل القارئ مصدقا بما يقوله ويحرف ذهنه عن الواقع من دون أن يشعر به .
فمثلا تراه يمدح أمير المؤمنين عليه السلام بأنه كان : ثاقب الفكر ، راجح العقل ، بصيرا بمرامي الأمور ، له سياسة وحكمة وقيادة رشيدة.
ولكن سرعان ما تراه يعقب على كلامه هذا ويهدم كل ما بناه ويلقي بسمه ، وذلك عندما يقول : لكن مثله العليا تحكمت في حياته ، فحالت دون تقبله للواقع !! ورضاه بأنصاف الحلول !! بينما تجسدت تلك الواقعية في خلفه معاوية !! وكانت قبل متجسدة على سمو ونبل في الخليفة العظيم عمر بن الخطاب !!
الفوارق بين هذه الطبعة وطبعة صبحي الصالح
تبلغ الفوارق بين هذه الطبعة وطبعة صبحي صالح المئات ، فتجد في كل صفحة فوارق كثيرة ، بل في كل سطر ، وهذا ما يدل على أن صبحي الصالح لم يعتمد على أي أصل أو مخطوط ، بل حاول في بعض الموارد تحريف النص عن معناه الأصلي ، ولو أردنا استقصاء جميع الفوارق وبحثها لطال بنا المقام، فنقتصر هنا على الاشارة إلى بعض الفوارق ونترك الاستقصاء بمطابقة هذه الطبعة مع طبعة صبحي الصالح إلى القارئ الكريم :
صبحي الصالح
المخطوط
رقم (180) من الحكم : واعجباه أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة ؟
واعجباه أتكون الخلافة بالصحابة ولاتكون بالصحابة والقرابة ؟!
رقم (243) من الحكم : والأمانة نظاما للأمة .
والإمامة نظاما للأمة
رقم (319) من الحكم : فما جاع فقير إلا بما متع به غني
فما جاع فقير إلا بما منع به غني
رقم (233) من الخطب : روى ذعلب اليمامي
روى اليماني
--- ( 9 )
مخ ۸
رقم (72) من الحكم : ضرار بن ضمرة الضبائي
ضرار بن ضمرة الضبابي
رقم (52) من الحكم : قال الرضي وقد روي هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لم ترد هذه العبارة في المخطوط.
رقم (23) من الكتب : أقيموا هذين العمودين وأوقدوا هذين المصباحين وخلاكم ذم.
أقيموا هذين العمودين وخلاكم ذم.
رقم (378) من الحكم : ألا وإن من صحة البدن تقوى القلب.
ألا وإن من النعم سعة المال ، وأفضل من سعة المال صحة البدن ، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب
رقم (1) من الخطب : والبلة والجمود واستأدى الله
والبلة والجمود والمساءة والسرور واستأدى الله
رقم (1) من الخطب : إلا إبليس اعترته الحمية وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقة النار واستوهن خلق الصلصال
إلا ابليس وقبيله اعترتهم الحمية وغلبت عليهم الشقوة وتعززوا بخلقه النار واستوهنوا خلق الصلصال
رقم (52) من الخطب : ومن خطبة له عليه السلام وهي في التزهيد في الدنيا وثواب الله للزاهد ونعم الله على الخلق
ومن خطبة له عليه السلام قد تقدم مختارها برواية ونذكرها هاهنا برواية أخرى لتغاير الروايتين
رقم (126) من الخطب : ومن كلام له عليه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء
ومن كلام له عليه السلام لما عوتب على تصييره الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل إلى السابقات والشرف قال :
--- ( 10 )
مخ ۹
رقم (31) من الكتب : المستسلم للدنيا
المستسلم للدهر الذام للدنيا
رقم (3) من الخطب ، آخر الخطبة ، في شرح الشريف الرضي :
وردت عبارة لم ترد في المطبوع وهي : وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله خطب الناس وهو على ناقة قد شنق لها وهي تقصع بجرتها .
ومن الشاهد على أن أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي :
ساءها ما بنا تبين في الأيدي
وأشناقها إلى الأعناق
رقم (161) من الخطب : لا يتفاخرون ولايتناسلون
لا يتفاخرون ولايتناصرون ولايتناسلون
رقم (90) من الخطب : أولي أجنحة تسبح
أولى أجنحة مثنى وثلاث تسبح
رقم (3) من الخطب : وإنه ليعلم
وإنه ليعلم
رقم (64) من الخطب : وكل ظاهر غير باطن
وكل ظاهر غيره غير باطن
رقم (3) من الخطب : وقسط آخرون
وفسق آخرون
آخر الكتاب
كلام الشريف الرضي في ختمه للكتاب لم يرد بأكمله في طبعة صبحي الصالح
--- ( 11 )
مخ ۱۰
عملنا في هذاالكتاب
تمركز عملنا في هذالكتاب على ضبط وتقويم النص وعرضه بصورة خالية من الأخطاء والتحريف وبقدر الإمكان.
فعرضنا الكتاب وقابلناه على أقدم مخطوطتين لنهج البلاغة:
(1) المخطوطة المحفوظة في المكتبة العامة لآية الله المرعشي في قم المقدسة ، رقم (3827) ، بخط النسخ ، واضح مشكول ، مضبوط متقن ، كتب هذه المخطوطة الحسين بن الحسن بن الحسين المؤدب، أتم الكتابة في شهر ذي القعدة سنة (499 ه) أو (469 ه) ، وكاتب هذه النسخة من علماء الشيعة المقاربين لعصر الرضي والمرتضى، وقد أجازه تلميذه الشيخ محمد بن علي بن أحمد بن بندار رواية نهج البلاغة ، كتبها في آخر الجزء الأول منه.
وفي هوامش هذه النسخة قيود مختصرة أكثرها لغوية يحتمل أن تكون من الناسخ ابن المؤدب .
والأوراق الثمانية الأولى والورقة الرابعة والعشرين ، ليست من أصل النسخة ، بل كتبت متأخرا بعد القرن العاشر.
ولم يرد في هذه النسخة في باب حكم أمير المؤمنين عليه السلام من الرقم 138 إلى الرقم 376 ، ومن الرقم 453 إلى آخر الكتاب.
(2) المخطوطة المحفوظة في مكتبة نصيري في طهران ، كتبها فضل الله بن المطهر الحسيني في الرابع من رجب سنة 494 ه ، وهذه النسخة ناقصة من أولها إلى آخر الخطبة رقم (31) ، فقابلنا مقدار النقص على نسخة أخرى في مكتبة النصيري ، قديمة نفيسة بدون تاريخ .
وفي هذه النسخة سقط من الخطبة رقم (235) إلى آخر الخطب ، ووردت الخطب رقم (185) إلى (192) بعد الخطبة رقم (234).
ووردت الخطب رقم (311) إلى (332) بخط يختلف عن خط أصل النسخة ، ولعله يرجع إلى القرن العاشر.
فاعتمدنا في ضبط النص على المخطوطتين ، وأثبتنا ما كان متحدا بينهما في المتن ، وفي موارد الاختلاف أثبتنا الأصح والأرجح في المتن من دون الإشارة إلي الاختلاف إلا في موارد نادرة جدا ، وفي موارد السقط من إحدى النسخ استعنا بطبعة محمد عبده ، وفي الموارد التي لم ترد في المخطوطتين ووردت في طبعة صبحي الصالح ومحمد عبده وغيرهما، وارتأينا اثباتها، فوضعناها بين معقوفين، فكل ما تجده بين معقوفين فهو ممالم يرد في المخطوطتين، أوإضافة عناوين.
وأما شرح الكلمات التي أوردها صبحي الصالح في آخر الكتاب في فهارس الكتاب ، جعلناها في
--- ( 12 )
مخ ۱۱
هامش كل صفحة تسهيلا للقارئ.
وهذه الشروح رتبتها وصححتها حسب المتن، بالأخص إذااختلفت الكلمة المشروحة في المتن، وأضفت بعض الشروح القليلة حسب ما تقتضيه الحاجة، وحذفت شروحا أخر.
وذكرت بعض التعليقات على موارد قليلة وحتمتها بكلمة (المصحح).
وفي باب حكم أمير المؤمنين عليه السلام وردت بعضها التي كانت تحمل عدة أرقام في حكمة واحدة، فوضعت لها رقما واحدا ووحدتها، وفقا للنسختين.
وفي باب الخطب ورد في المخطوطتين في موارد كثيرة بدلا من «ومن خطبة له» «ومن كلام له» وبالعكس، فرتبناه حسب المخطوط.
وفي أماكن متعددة من شرح الشريف الرضي للنص لم ترد مقاطع منه في المخطوطتين ، ووردت في المطبوع ، فحذفناها وفقا للأصل المخطوط .
فتمركز عملنا على تقويم نص الكتاب وتقطيعه بما يوافق المناهج الجديدة، وملاحطة إعراب الكلمات وتصحيحها، وملاحظة الشروح، وترتيب الفهارس على أرقام صفحات هذه الطبعة.
فارس تبريزيان
--- ( 13 )
مخ ۱۲
صورة الصفحة الأولى من النسخة المعتمدة
في المكتبة العامة لآية الله المرعشي
--- ( 14 )
مخ ۱۳
صورة ما ورد في آخر الجزء الأول من النسخة المعتمدة
في المكتبة العامة لآية الله المرعشي
--- ( 15 )
مخ ۱۴
صورة الصفحة الأخيرة من النسخة المعتمدة
في المكتبة العامة لآية الله المرعشي
--- ( 16 )
مخ ۱۵
صورة الصفحة الأخيرة من النسخة المعتمدة
في مكتبة فخر الدين النصيري
---
مخ ۱۶
(17)
[مقدمة السيد الشريف الرضي]
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه، ومعاذا(1) من بلائه، ووسيلا(2) إلى جنانه، وسببا لزيادة إحسانه.
والصلاة على رسوله نبي الرحمة، وإمام الائمة، وسراج الامة، المنتخب من طينة الكرم، وسلالة المجد(3) الاقدم، ومغرس الفخار المعرق(4)، وفرع ( 18 )
مخ ۱۷
العلاء المثمر المورق.
وعلى أهل بيته مصابيح الظلم، وعصم(1) الامم، ومنار(2) الدين الواضحة، ومثاقيل(3) الفضل الراجحة صلى الله عليهم أجمعين، صلاة تكون إزاء لفضلهم(4)، ومكافأة لعملهم، وكفاء لطيب فرعهم وأصلهم، ما أنار فجر ساطع، وخوى نجم(5) طالع.
فإني كنت في عنفوان شبابي(6)، وغضاضة الغصن(7)، ابتدأت بتأليف كتاب في ( 19 )
مخ ۱۸
خصائص الائمة(عليهم السلام): يشتمل على محاسن أخبارهم، وجواهر كلامهم، حداني عليه(1) غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام.
وفرغت من الخصائص التي تخص أميرالمؤمنين عليا(عليه السلام)، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الايام، ومماطلات الزمان(2).
وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا، وفصلته فصولا، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه(عليه السلام) من الكلام القصير في المواعظ والحكم والامثال والاداب، دون الخطب الطويلة، والكتب المبسوطة.
فاستحسن جماعة من الاصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره، معجبين ببدائعه، ومتعجبين من نواصعه(3).
وسألوني عند ذلك أن أبتدىء بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام)في جميع فنونه، ومتشعبات غصونه: من خطب، وكتب، ومواعظ وأدب.
علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب(4) الكلم الدينية والدنياوية، ما لا يوجد مجتمعا في كلام، ولا مجموع الاطراف في ( 20 )
مخ ۱۹
كتاب; إذ كان أميرالمؤمنين(عليه السلام)مشرع(1) الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه(عليه السلام)ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذاكل قائل(2) خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ.
ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وتقدم وتأخروا، لان كلامه(عليه السلام)الكلام الذي عليه مسحة(3) من العلم الالهي، وفيه عبقة(4) من الكلام النبوي.
فأجبتهم إلى الابتداء بذلك، عالما بما فيه من عظيم النفع، ومنشور الذكر، ومذخور الاجر.
واعتمدت(5) به أن أبين عن عظيم قدر أميرالمؤمنين(عليه السلام) في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسن الدثرة(6)، والفضائل الجمة.
وأنه(عليه السلام) انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الاولين الذين إنما يؤثر(7) عنهم منها القليل ( 21 )
مخ ۲۰
النادر، والشاذ الشارد(1).
فأما كلامه(عليه السلام) فهو البحر الذي لا يساجل(2)، والجم الذي لا يحافل(3).
وأردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به(عليه السلام) بقول الفرزدق:
أولئك أبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ورأيت كلامه(عليه السلام) يدور على أقطاب(4) ثلاثة:
أولها: الخطب والاوامر.
وثانيها: الكتب والرسائل.
وثالثها: الحكم والمواعظ.
فأجمعت(5) بتوفيق الله جل جلاله على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم والادب، مفردا لكل صنف من ذلك بابا، ومفضلا فيه أوراقا، لتكون مقدمة لا ستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا، ويقع إلي آجلا.
وإذا جاء شيء من كلامه(عليه السلام) الخارج في أثناء حوار، أوجواب سؤال، أوغرض آخر من الاغراض في غير الانحاء التي ذكرتها، وقررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الابواب به، ( 22 )
مخ ۲۱
وأشدها ملامحة(1) لغرضه.
وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة(2)، ومحاسن كلم غير منتظمة; لاني أورد النكت واللمع(3)، ولا أقصد التتالي والنسق(4).
ومن عجائبه(عليه السلام) التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها، أن كلامه(عليه السلام)الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر، إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه المتفكر، وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره، ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملكه ، لم يعترضه الشك في أنه من كلام من لا حظ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع(5) في كسر بيت(6)، أوانقطع إلى سفح جبل(7)، لا يسمع إلا حسه، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه(8)، فيقط الرقاب(9)، ويجدل الابطال(10)، ويعود به ينطف(11) دما، ( 23 )
مخ ۲۲
ويقطر مهجا(1)، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد، وبدل الابدال(2).
وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة، التي جمع بها بين الاضداد، وألف بين الاشتات(3)، وكثيرا ما أذاكر الاخوان بها، وأستخرج عجبهم منها، وهي موضع للعبرة بها، والفكرة فيها.
وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد، والمعنى المكرر، والعذر في ذلك أن روايات كلامه(عليه السلام)تختلف اختلافا شديدا: فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير موضعه الاول: إما بزيادة مختارة، أولفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد، استظهارا للاختيار، وغيرة على عقائل الكلام(4).
وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا فأعيد بعضه سهوا أونسيانا، لا قصدا واعتمادا.
ولا أدعي مع ذلك أني أحيط بأقطار جميع كلامه(5)(عليه السلام) حتى لا يشذ عني منه شاذ، ( 24 )
مخ ۲۳