والناس في بلدنا هذا قد اعتادوا أن يظنوا أن كل رجل منا يظفر بمديح، أو اعتراف بكفاءة من رجل من الإنكليز إنما يصيبه من طريق الممالأة، ولا يناله إلا كما ينال المولى الذليل كلمة تشجيع، أو خير من سيده، وأن الإنكليزي لا يكون معترفا إلا إذا كان مملوقا ممن اعترف له، محبوبا منه، عونا له، صنيعة معه على سياسته؛ لأننا عشنا على النفاق جيلا طويلا، وتعلمنا الملق والمداهنة، إذ ظننا ذلك سبيلا إلى الحظوة، مطية إلى التفوق في المنصب، والصعود إلى المقاعد العالية، فحسبنا كل ابتسامة من الإنكليزي علما على الخيانة، ودليلا على الممالأة، وإشارة إلى المصانعة، وقد يصح هذا على قوم ارتفعوا بهذه الوسيلة، وبلغوا الغاية بهذه السبيل، ولكن العظمة الذهنية قمينة أن تحمل عدوها على التهيب منها، والاحترام لها، والاستكانة أمامها، وإذا ظفر النابغة من نوابغنا في الحكومة بشهادة من رئيسه، أو كلمة مديح من الإنكليزي، فلا يكون الإنكليزي فيها إلا صادقا، ولا يكون إلا مكرها على تلك الشهادة إكراها بدافع نفساني، ودهشة في أعماق نفسه؛ إذ يرى في الأمة المحكومة به عبقرية تصدعه وتروعه، وتملك عليه نفسه، وتغريه بأن يظهر ما كمن في صدره من الإعجاب بها، والخشوع أمام مظهرها وجلالها، وقلما ظفر منا النوابغ بهذه الشهادة ، وندر من أصاب أمثال هذا الاعتراف، بينا ترى ألوفا منا يظفرون بابتسامات الإنكليز وتحياتهم، ودلائل التحبب إليهم، ومساعدتهم، والمشي بهم إلى المناصب السامية، ولو اطلعت إلى قلوب أولئك المادحين المزهوين المتكبرين لرأيت أشد الاحتقار يكمن في إضعاف نفوسهم لهؤلاء المالقين الأذلاء، وشهدت العبث والسخرية مستعرة في حنايا ضلوعهم لهم.
وأما الأذكياء منا، وأهل الضمائر الحية التي لا تصبر على ما يهين أصحابها، أو يغريهم بخيانة بلادهم، والنوابغ العاملون المالئو مراكزهم بحق، فإنما إذ يصيبون مدائح الإنكليز يغتصبونها اغتصابا، وينالونها منهم قسرا وانتهابا، بما يدخل على نفوس رؤسائهم من الرهبة، والإعجاب بتلك الشخصيات القوية؛ والضمائر المتقدة الوثابة، والأدمغة الناضجة، ودلائل النشاط، والوطنية العاملة.
ولعمري ما كان بالمديح أن يقال عن صاحب الترجمة: إنه من الأذكياء، وما كان ثناء أن ينعت بالكفاءة، ويوصف بالمقدرة، ويشار إليه بالنبوغ، فتلك معالم ذلك ظاهرة في كل عمل تقلده، وفي كل منصب اعتلاه، ولم يكن المادح شاعرا كاذبا، ولا مشجعا محبذا، ولو أنها جاءت من أي إنسان آخر غيره، لكانت من تحصيل الحاصل، ومن الأمور التي بدهت الناس جميعا، ولا حاجة إلى إعلانها؛ لأنها معلنة عن نفسها، ولكنا إنما نغتبط بها، ونقف أمامها مثلجي الصدور، لما يختفي تحتها من ذلك المعنى البليغ الذي نشعر به، وهو شهادة العدو بالفضل، ومغالبته الكتمان، وإنكار المقدرة، وعجزه عنها، ووثوب ما في ضميره على ما في ذهنه من مبادئ رمي المحكومين بالجهالة، وتنقصهم، والتجني عليهم بالخمول، وضعف الأذهان، والإقفار من النبوغ والذكاء.
وفي عام 1907 خلت وظيفة مستشار في محكمة الاستئناف الأهلية، فانتقل صاحب الترجمة إليها، وكان ذلك تحقيقا لرغبته، وإنفاذا لطلبه؛ إذ كان مكانه في الإدارة، قد أغراه بالعودة إلى مكانه في القضاء، وقد شاقه أن يجلس في الناس مجلس الحكم، ويرى الناس جناة ومجنيا عليهم؛ ليعود إلى دراسة أخلاق الإنسانية، وطبائعها، وشهوات أنفسها، ومنازع غرائزها.
وأبى إلا أن يرجع إلى منصة القاضي، وينصب في مقعد المستشار، على الرغم من الإلحاح عليه كثيرا في البقاء بوظيفته في الإدارة القضائية، والعدول عن مناصب القضاة، والسكون إلى الإدارة في الوزارة؛ فلم يجد ذلك الإلحاح، وأصر على طلبته فكانت له.
ولكنه لم يلبث طويلا في ذلك المنصب، بل اتفق له في شهر نوفمبر من العام بعينه 1907 أن طلبت وزارة الداخلية إليه أن يكون مديرا لأسيوط، فلم ير من حيلة له إلا قبول ذلك المنصب، ولكنه اشترط لنفسه حق الرجوع إلى منصب القضاء في محكمة الاستئناف إذا قدر له يوما أن يعود عن الإدارة إلى سابق مكانه، أو إذا أراد هو أن يعود بدافع رغبته، ومن تلقاء نفسه.
فلما نزلت الحكومة على رأيه، وصدقت بشرطه، واعتمدت مطالبه، وتولى منصبه الجديد في مديرية أسيوط، لم يلبث أن أنعم عليه برتبة «الميرميران» الرفيعة.
ولما اعتزل المستر كوربت النائب العمومي خدمة الحكومة في عام 1908 وقع الاختيار على صاحب الترجمة ليخلفه على ذلك المنصب، فعرضته عليه يومذاك؛ فلم يتقبله إلا بشروط اشترطها على الحكومة صونا لأهميته، وما يجب أن يكون لمتولي ذلك المنصب من حرية العمل.
وكان المترجم به رهيبا في مكانه ذاك، قوي الشخصية في ذلك المنصب، محترم الجانب حتى أمام وزيره، وقد وقع في ذلك العهد من الأحداث السياسية ما حدا بالمترجم به إلى المرافعة في كبرياتها.
ولعل الناس لا يزالون يذكرون وقفته تلك في قضية الورداني، وتلك المرافعة البليغة المتدفقة الفياضة التي راح يصبها في أسماع الناس في ساحة المحكمة، فقد مضت بلاغته صدرا إلى صدر بجانب البراعة في القانون، والتعمق في البحث، والإيغال في صميم أسفار القضاء.
ناپیژندل شوی مخ