وفي وسط هذه الزوبعة ثبت رجل واحد لم تفتنه فتون العامة، ولم ينزله عن مكانه الصخب الذي يملأ الفضاء عن كثب منه، أو يغره ميدان السياسة بمخادعة نفسه، والاحتيال بلغة الثورات على تضليل أذهان أمته، ولو أنه أراد أن يجمع الناس حوله بباطل تلك اللغة المنمقة، لسد على القوم جميعا منافس الكتابة، فتلقاها هو باليمين، وحمل لواءها، وبز الخطباء أجمعين؛ إذ لم يكن ليصعب عليه أن يعتلي ذوائب المنابر، على أعين النظارة، فيرسل فيضا من عبارات محبوبة جميلة المظهر، طلية الحاشية؛ فيخلب بها الألباب، ويخفي الحق في ركام من الكلم، وعصف من الألفاظ، ولكنه رجل وإن أوتي بلاغة منطق، وروعة أدب، وجلال نفسية لا يزال مخلصا فيما يقول للناس، وفيا فيما يشعر به، ولقد رأيناه خطيبا في عدة مواطن، فإذا به كما يقول الفيلسوف الروسي «إيفان ترجنيف» يصل إلى غرضه بضربة فأس واحدة.
ومثل هذا الرجل قد يجد الطريق إلى إقناع الجماهير الضالة الجامدة على رأي واحد، موحشا شاقا، ولكنه قمين أن ينتصر ملي بأن يبلغ الغرض، ويقف على الثنية؛ إذ تزول نشوة الرؤوس، وتخفت حدة الأذهان، ويجيء الناس يسمعون في هدوء ليقتنعوا في صمت ورفق، وليروا قناع الشك منحسرا عن وجه الباطل، ويشهدوا الحقائق متجلية أمامهم، تصدعهم حججها، وتمشي بهم إلى التفاهم والتهاون، والاتحاد والوئام.
لمحة من الماضي
قبل أن نبسط للناس شيئا من تاريخ حضرة صاحب الدولة رأس الوزراء عبد الخالق ثروت باشا، ونسرد لهم ترجمة حياته، يخلق بنا أن ندلهم على حقيقة قد غابت عن أذهان فريق منهم، ونسيتها طائفة من جماعاتهم، وذلكم أنه في جميع الأدوار التي مر فيها، ومراحل الحياة التي تنقل بينها، ظل يسير في طريقه بماض نقي، وسيرة ناصعة، فلم يسئ يوما إلى فرد، أو يحمل أذاة إلى مجموع، أو يضرب الأمة في مقاتلها، أو يحملها على ما لا تريد، أو يكرهها فيما تحب، أو يحببها إلى ما تكره، ولم يرتفع من منصب إلى منصب على أعناق الناس، ولم ينهض من وظيفة إلى أخرى أسمى منها بالملق، يكيله لأهل السلطان، أو بإرضاء الحكومة لإغضاب الأمة، أو بالوساطات يتشفع بها، والتوصيات يداهن ويصانع من أجلها، أو بالخمول يخلع عليه ألوانا مصطنعة من النباهة، أو الغباء يزجيه إلى أولي الشأن في ثوب الذكاء الملتهب.
كلا لم يفعل الرجل شيئا من ذلك، بل مضى شريفا في عمله، عاملا لشرفه، منكمشا إلى منصبه، لا يتهاون فيه، ولا يعطيه أكثر مما يستحق لتعطيه الحكومة أكثر مما يستأهل، ونحن لم نر لرجل حكومي ارتفع إلى منصب الوزارة في بلدنا هذا تاريخا ماضيا هو في نقائه أنصع من ماضي صاحب الترجمة، ولا يزال في تاريخ هذه الحكومة منذ ألقى الإنكليز أيديهم عليها، واستبدوا بمناصبها هنات كثيرة، وسيئات لوزرائنا السابقين إذا ذكرناها، أو تحدث عنها الناس على أسماعنا، فلا نلبث أن يعلو وجوهنا الخجل، ويتولانا الاشمئزاز والاستنكار، ولو كان لنا وزراء في الماضي على غرار وزيرنا هذا، يحملون الإنكليز على احترام شخصياتهم، ويقفون على مرصد من أعمالهم ونواياهم، ومآرب سياستهم، ولا يسهمون معهم في قتل روح الوطنية في صفوف أمتهم، لما مضى نصف قرن من تاريخنا معيبا مشينا، خامد الأنفاس، مسكينا متطامنا لا يحوي غير يوميات بطعام الأمة وشرابها، وسكون نأمتها، وخسة أفراد من أهلها، فقد عشنا كل تلك الحقبة من الزمن بأمعائنا نملق الإنجليز لنوال ما في أيديهم، وكان أحق أن يكون في أيدينا، وكان أولى بأن يتملق لنا، ولا نكون نحن المتملقين الصغار النفوس العجزة الأوكال، وقد هدأت ضمائر الحكوميين منا؛ إذ خدعهم ما رأوا من ضخامة الألقاب، وهي جوفاء في غير موضعها، ومن الرواتب يرضون بها، وهي لا تغني عن فقدان الضمائر شيئا.
وقد أفلت كثيرون من كبار هذه الأمة بماض سيئ، لا يخلو من عاب، ولا يتبرأ من ذام؛ فنسي الناس اليوم ما كان منهم، وتشفعوا لهم بحاضرهم عن ماضيهم، ولا ننكر أن هذه فضيلة من فضائل هذا الشعب، فإنه يحمل روح التسامح المكينة فيه إلى أبعد حد؛ فهو لا يني ينسى الإساءة إذا كفر عنها المسيء، وأتبعها مكرمة من المكرمات، وقفاها بحسنة من الحسنات، وإن الرجل منا ليحزن ويغضب إذا رأى من أحد ما يعده غضاضة عليه، وانتقاصا من كرامته؛ وتهاونا بحقه؛ ثم لا يلبث أن يبتسم ، ويقبل ضاحكا مستهلا إذا وجده قد عاد من إساءته إلى التكفير والتوب، ولكن لا يزال بجانب هذه الفضيلة العذبة الجميلة ما يشوه جمالها، ويردها في بعض الأحايين دميمة مشنوءة، وتلك منقصة الاستخفاف.
فإذا كنا نسبل على الإساءة ستر الرحمة والصفح، فنحن بجانب ذلك قد ننسى يوما ما كان من ماضي الرجل وحسناته، ونقاء سجله، وطهر تاريخه، وذلك ضرب من التناقض في العاطفة لا نعرف له مثيلا في نفسيات الشعوب، ولم نشهد شيئا من أعراضه في تاريخ الاجتماع، إذ لم نر الجمود والصفح والتجاوز عن الإساءة الماضية متضاربة في فؤاد واحد، مختلطة متمازجة تحت نبض صدر رجل بمفرده. •••
ولد صاحب الترجمة في شهر صفر الخير عام 1290 من الهجرة و1873 من مولد المسيح، فهو اليوم لم يحطم بعد الخمسين، وبذلك يكون أصغر من جلس في رئاسة الوزراء سنا منذ سبعين عاما، أو يزيد في بلدنا هذه، وليست الخمسون بالسن التي يجلس الرجل بها في ممالك الغرب فوق مقعد الوزير الأول، ويتولى فيها منصب الرئاسة في الحكومة، بل لا تزال سنا فتية في عمر الرجل السياسي، ولا يكون الحكومي في الخمسين إلا من الشباب السياسي الذي لم يرتفع معه إلى تلك المرحلة التي تجيز بلوغ الغاية، والتربع في الوزارات.
ونحن نرى هذه السن قد وقفت على ثنية الشيخوخة، ونعدها في بلادنا متقدمة تمشي متخطية الكهولة والرجل منا تبرد عاطفته قبل الرجل في بلاد الغرب، ولا يكون صاحب الستين لدينا إلا رجلا متمهل الخطر، ثقيل الحركة، لا يجلد على عمل مجهد، ولا يطيق الاشتغال عدة ساعات مستمرة بينما ترى الرجل في السبعين من الإنكليز، أو الألمان، أو الفرنسويين واثبا فوق الدراجة عاديا في معلب الجولف، سباقا في حلبة السباق والربع ميل، مسرعا قافزا يحمل مضرب الكرة في يده، مشمرا عن ساعديه، متحفزا للهجوم، والتدافع بالأيدي والأرجل، وعلة ذلك أننا شرقيون تنمو جسومنا غير متمهلة، عاجلة غير متوانية، وأن عواطفنا حادة ملتهبة، لا تلبث أن تخفت وتنطفئ؛ إذ تحترق الأعصاب، وتهين الأنسجة، وتأكلها النار المشبوبة في الجانحة، والجهاز العصبي.
ولكن وزيرنا الأول لا يزال يلوح شديد الأسر ممتلئ القوة فتيا، نشيطا حاد الذهن، مصقول الخاطر إلا وخطا من شيب بدا في تفاريق شعره، ولاح في فوديه؛ فجعل مظهره جليلا رائعا، وما ذلك إلا لأنه حفظ بدنه من هماهم نفسه، وحي أعصابه، ولقد تقلد مناصب تستلزم عملا ناصبا، ونصبا جاهدا، وكان يحمل فيها على ذهنه بالعمل والدأب، ويكد في إنفاذ واجبه غير مستأن، ولا متراخي النشاط، فلم يحدث ذلك الدأب أثرا كبيرا في بدنه، وقوة ذهنه. •••
ناپیژندل شوی مخ