نظرة الإغريض في نصرة القريض
نضرة الاغريض في نصرة القريض
يا شقيقَ النفسِ من حكَمِ ... نِمْتَ عن ليلي ولمْ أنَمِ
وقول والبةَ أبلغُ لأنّه قال: لم أكَدِ ومن لم ينَمْ قد يكادُ ينام. ومعظمُ شِعر أبي الطيّب من هذا القِسْم، فمن ذلك قوله:
كفَلَ الثناءُ له برَدِّ حياتِه ... لمّا انطوى فكأنّهُ منْشورُ
أخذَهُ من أبي القوافي الأسديّ حيثُ يقول:
ردّتْ صنائِعُهُ عليهِ حياتَهُ ... لمّا انطَوى فكأنّه منشورُ
وقال المتنبي:
وإنّي لتُغْنِيني عن الماءِ نُغْبَةٌ ... وأصبرُ عنه مثلما تَصبِرُ الرُّبْدُ
أخذَه من مروانَ بنِ أبي حفصة حيثُ يقول:
وإنّي لتُغنيني عن الماءِ نُغْبَةٌ ... وأصبرُ عنه مثلَ صبْرِ الأباعِرِ
وأرفعُ نفسي عن صِغارِ مطامِعٍ ... إذا أعوزتني مُرغباتُ الأكابرِ
وقال المتنبي:
ومن نكَدِ الدُنيا على الحُرِّ أن يرَى ... عدّوًا لهُ ما مِنْ صداقَتِهِ بُدُّ
أخذهُ من إسحاق الموصلي حيث يقول:
ومنْ نكَدِ الدُنيا على الحُرِّ أن يرى ... عدوًّا فيَهْوى ان يُقالَ خليلُ
وقال المتنبي:
كأنّ بناتِ نعْشٍ في دُجاها ... خَرائِدُ سافراتٌ في حِدادِ
أخذَه من أبي العبّاس الناشئ حيثُ يقول:
كأنّ مُحجّلاتِ الدُّهْمِ فيهِ ... خرائدُ سافراتٌ في حِدادِ
وقال المتنبي:
كالشّمسِ في كَبدِ السّماءِ وضوؤها ... يَغْشى البِلادَ مَشارِقًا ومَغارِبا
أخذَه من ابن الروميّ حيث يقول:
كالشمسِ في كبِدِ السّماءِ محلُّها ... وشُعاعُها في سائرِ الآفاقِ
ولو استقصَيْنا أقسامَ سَرقاتِه في هذا القِسْم خاصةً لأفْرَدْنا لها كتابًا.
ومن حقّ الشاعر أنه إذا أخذ معنىً قد سُبقَ إليه أن يغيّر ألفاظَه ويصنعَه أجودَ من صَنعةِ السابق إليه، أو يزيدَ فيه عليه حتى يستحقّه. فأما إذا أتى بلفظِهِ ومعناهُ فذاكَ عيْبٌ قبيحٌ عندَ الشُعراء المقصّرينَ فضلًا عن المُجيدين.
وينبغي للشّاعرِ أن يوفّقَ بين التشبيهِ والمُشبّهِ به ويراعي ذلك، بحيثُ لا يأتي الكلام متنافرًا والمعاني متباعدةً، فإنّه إذا أنعم النظرَ في تأليفِ شِعرِه، وتنسيقِ أبياتِه، ووقفَ على حُسْنِ تجاوُرِه أو قُبْحِه فلاءم بينها، ونظمَ معانيها، ووصل الكلامَ فيها، كان مُجيدًا، مع الشعراء المجيدينَ معدودًا. ألا ترى ابنَ هرْمَة وقولَه:
وإني وترْكي نَدَى الأكرمينَ ... وقَدْحي بكفّي زِنادًا شِحاحا
كتارِكَةٍ بيضَها بالعَراءِ ... ومُلْبِسةٍ بيْضَ أخرى جَناحا
والفرزدقَ وقولَه:
وإنّك إذْ تهجو تميمًا وترْتَشي ... سَرابيلَ قيْسٍ أو سُحوقَ العمائِمِ
كمُهْريق ماءٍ بالفاةِ وغرَّهُ ... سَرابٌ أذاعتْهُ رياحُ السّمائمِ
قال ابنُ طَباطِبا العلوي: لو أنّ ثاني بيْتَي ابن هرْمة عِوَضٌ عن ثاني بيْتَي الفرزدق، وثاني بيْتَي الفرزدق عوض عن ثاني بيتي ابن هرمة لصحّ التشبيهُ لهما واتّسقَتْ معاني شِعْرَيْهما، وإلا فالتشبيهُ في الشّعرين غيرُ واقعٍ موقِعَهُ وهذا نقدٌ من ابن طباطبا في أعلى درجاتِ الحُسنِ والإدراك.
وينبغي للشاعر ألا يصِفَ ممدوحَه في فنٍّ من فنونِ كرَمِه وعلمِه وبراعتِه وشجاعتِه وشرفِ محْتِدِه وأصالةِ بيتِه وجميع ما يُضَمّنُه شعرَهُ من مدحه، إلا ويطلبُ فيه الغايةَ ولا يقتنعُ فيه بدونِ النهاية. فإنّ الشّاعِرَ إذا أتى بمعنىً قد قصّر فيه لا يعذِرُهُ ناقدُهُ ولا يقول: عملُهُ على قدرِ ممدوحِه. ولمّا أنشدَ كُثيّرٌ عبدَ الملكِ مدحَتَه التي يقول فيها:
على ابنِ أبي العاصي دِلاصٌ حَصينةٌ ... أجادَ المُسَدّي سَرْدَها وأذالَها
يَؤودُ ضَعيفَ القومِ حمْلُ قتيرِها ... ويستَضْلِعُ القرْمُ الأشَمُّ احتمالَها
قال له عبد الملك: ألا قُلتَ كما قال الأعشى لقَيْس بن معْديكَرب:
وإذا تجيءُ كتيبةٌ ملمومَةٌ ... خرْساءُ يخْشى الذائِدونَ نهالَها
كُنتَ المُقدَّمَ غيرَ لابِس جُنّةٍ ... بالسّيْفِ تضْرِبُ مُعلِمًا أبْطالَها
1 / 87