Nadwa Ulum al-Hadith Ulum wa-Afaq
ندوة علوم الحديث علوم وآفاق
ژانرونه
بَيَانُ الحَدّ
الذي يَنْتهِي عِنْدَهُ أَهْلُ الاصطلاحِ والنَّقْد
في علوم الحديث
د. الشريف حاتم بن عارف بن ناصر العوني
الأستاذ المساعد بقسم الكتاب والسنة
بجامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فلا شك أن علم الحديث (كغيره من العلوم) قد مَرّ بأطوار مختلفة، من حين نشأته إلى هذا العصر. وقد كان في أطواره هذه (كغيره من العلوم أيضًا) قد نشأ ونَمَا وترعرع حتى اكتمل، ثمّ أخذ يضعف شيئًا فشيئًا. إلا أنه من حينٍ لآخر تقوم جهودُ بَعْثٍ وتجديد في علوم الحديث، تُعيد إليه بعضًا من مظاهر حياته، وتَدْفَعُ عنه أخطارَ موته وفنائه، تحقيقًا لوعد الله تعالى بحفظ هذا الدين.
وقد كان من فضل الله تعالى علينا في هذه الأيام، أننا نعيش فترة انتعاش لعلوم السنّة وعنايةٍ بتعلُّمها وتعليمها لم تكن موجودةً قبل زمنٍ يسير من الآن. وفي هذه الفترة التي نعيشها: نشهدُ جهودًا كثيرةً لخدمة السنة، وهي جهودٌ وإن لم تصل إلى درجة الكفاية أو قريبٍ منها، إلا أنها قد تكون أكثر نفعًا وأعظمَ بركةً لو كانت جميعُها تنطلق من قواعد راسخة، وتبنى على أصول صحيحة.
وهذا الخللُ المعاصرُ في تعلّم علوم السنة أو في خدمتها هو أمرٌ طبيعي، نتيجةً لفترة الركود الطويلة التي مَرّت عليها. لكنَّ الأمر غير الطبيعي أن نأبى إصلاحَ ذلك الخلل بعد أن تبيّنّاهُ، أو أن نَرْفُضَ الاعترافَ بوجوده أصلًا بعد أن قام المصلحون ببيانه والسَّعْي في إصلاحه.
1 / 1
وحيث إن حركة الإصلاح هذه قائمةٌ عَلى محاولة الرجوع بعلوم السنة إلى نبعها الصافي، وإلى زمن ازدهارها، «يومَ كان شأنُ الحديث فيما مضى عظيمًا، عظيمةٌ جموعُ طلبته، رفيعةٌ مقاديرُ حُفّاظِه وحملته. وكانت علومه بحياتهم حيّة، وأفنان فنونه ببقائهم غضّة، ومغانيه بأهله آهِلةٌ» (١) فقد فُوجئ الداعون إلى هذا الإصلاح، والمنادون إلى تلك العودة الحميدة، باعتراضٍ عليهم، رافضًا ذلك الإصلاح، معرضًا عن ذلك النداء، مُشَغّبًا عليه.
ويقوم ذلك الاعتراضُ على أساس، يتبعُه اعتراضاتٌ تنبني عليه.
فكان على من أراد أن يدعمَ حركة الإصلاح تلك، أن يُجيب على ذلك الاعتراض، عسى أن يكون الجوابُ داعيًا لرجوع المعترِض عن وقوفه في سبيل الإصلاح، بل لعله أن يكون أحدَ الساعين فيه، إن تبيّنَ له الحق. وذلك هو الظنّ بالجميع، إذ الجميعُ لا يقصدون إلا خدمة سنة النبي ﷺ.
إن ذلك الاعتراض قائمٌ على نَسْفِ مبدأ الإصلاح السابق ذكره، بنفي أحقّية عصرٍ ما في أن يكون علماؤه هُمْ المرجع في معرفة قواعد العلم وفي تقرير معاني مصطلحاته، وأن مَنْ بعدهم يحتكمون إليهم. فأصحاب هذا الاعتراض يرون أنّ علم الحديث لم يزل في تطوُّرٍ، وأنه قابلٌ للتطوير، وأنّ إلزامَ الناس بقواعد أو معاني مصطلحات عصرٍ ما تحكُّمٌ لا وَجْهَ له. ثمّ منهم من يتناقض ليقف بهذا التطوّر عند الحافظ ابن حجر مثلًا، ومنهم من يطّردُ في مقالته إلى اليوم، ويرى أن التطوير حقٌّ مُشَاعٌ إلى قيام الساعة.
_________
(١) اقتباسٌ من مقدّمة كتاب ابن الصلاح: علوم الحديث (٥ - ٦) .
1 / 2
إن هذا الرأي رأيٌ خطيرٌ، من شأنه أن يُدَمّر علوم السنة لو توسَّعَ نطاقُ تطبيقه فوق ما هو عليه، ويكفي من أثره السلبي ما قد وقع منه دلالةً على خطورته. إن هذا الرأي هو ما كنتُ أسميتُه في كتابي (المنهج المقترح) بفكرة تطوير المصطلحات، وبيّنتُ هناك خطرها وخطلها (١) . ولا أُريد هنا أن أتحدّث عن آثارها السلبيّة، فقد تحدثتُ عن ذلك في غير هذا الموطن، وتحدّث غيري أيضًا عن ذلك.
لكن الذي أريده هنا: أن أُبيّنَ ما إذا كان هناك عَصْرٌ ما هو الذي يُحْتكم إلى علمائه ويُرجعُ إليهم في معرفة علم الحديث: قواعدَ ومصطلحات. وما هي أسباب اختيار أولئك العلماء دون غيرهم؟ ولمَ لا يكونون في عصورٍ مختلفة غير محدودةٍ بحدّ؟
إن الجواب عن هذه الأسئلة في غاية الأهميّة لخُطّة الإصلاح تلك، وبغير الجواب عليها، أو بالجواب غير السديد فيها لن يُمكن لهذه الخطة أن تستمرّ وأن تصمد أمام المعترضين.
ولهذا فقد جاء هذا المقال ليحاول الإجابةَ عن تلك الأسئلة، لكي تتضح سبيلُ المصلحين!!
وأسأل الله تعالى العون والتوفيق، وإخلاص النيّة والقصد، وقبول صالح الأعمال.
المقالة الأولى:
التاريخ النظري لأطوار علوم الحديث
لا يختلف اثنان من أهل العلم، في أن نَقْل السنة خلال القرن الأول والثاني والثالث كان كافيًا للحفاظ على السنة الحفاظ الكامل، بعدم تَفَلُّتِ شيءٍ منها عن الأُمّة، وعدم تَسَلُّلِ ما ليس منها إليها. وهذا أمرٌ بدهي عند من يعتقد أن السنّة قد بلغتنا كاملة؛ لأن اعتقاد وقوع خلل في منهج نَقْل السنة خلال القرن الأوّل مثلًا، سيؤدِّي إلى أن لا يجد القرنُ الثاني إلا ذلك الإرث المُخْتَلّ، إذ لا سبيل له في النقل إلا ما يؤدّيه إليه الناقلون.
_________
(١) المنهج المقترح (١٧٦ - ١٧٨) .
1 / 3
وكذلك لا يختلف اثنان من أهل العلم أن منهج نقد السنة خلال القرن الأول والثاني والثالث كان كافيًا لمعرفة صحيح السنة وثابتها وتمييزه عن سقيمها وغير الثابت منها؛ لأن اعتقاد وقوع خلل في منهج النقد في القرن الأول مثلًا، يعني أن الأمّة في ذلك القرن قد ضَلّت دينَ ربِّها، فنسبت إلى وَحْي السنة ما ليس منه، أو ردّت هدايةً من هداية ربِّها.
ولا يعني ذلك أن علوم الحديث (نقلًا ونقدًا) لم تمرَّ بمراحل تطوّر خلال قرونها الثلاثة الأولى، ولا أن علوم الحديث في القرن الثالث هي تلك التي وُلدت في القرن الأول. وعلى هذا: فكيف يَلْتَئمُ أن تكون علوم السنة قد مَرّت بمراحل تطوّر، ومع ذلك فهي في كل مرحلةٍ كانت كفيلةً بالحفاظ على السنة وبتمييز صحيحها من سقيمها؟
الجواب عن ذلك: أن انتقال علوم السنة من مرحلة إلى مرحلة لم يكن بسبب قصور فيها في المرحلة الأولى عن القيام بواجب الحفاظ على السنة، ولكن لأن عواملَ جديدةً طرأت في المرحلة الثانية تستلزم تطوّرًا في العلم. فالتطور لم يكن لنقص العلم قبل تطوّره، وإنما لحدوث أمرٍ لم يكن موجودًا يقتضي ذلك التطوّر. فتجدُّدُ ضروريات، وحدوث حاجيّات، وبروز أخطار لم تكن موجودة كل ذلك هو الذي كان يجعل السنة تنتقل من مرحلة إلى مرحلةٍ، حيث إن علماء السنة كانوا يبادرون إلى استحداث وسائل في التعلُّمِ والتعليم وفي التعامُل مع العلم تحقّقُ لهم تحصيلَ تلك الضروريات، وتلبية الحاجيات، ودَفْع هاتيك الأخطار.
1 / 4
ولمّا كانت الغاية الكبرى من علوم السنة هي الحفاظ عليها كاملة صافيةً من الشوائب، ولمّا كان التلقّي الشفهي عن محفوظات الصدور لم يكن ليكفي للاطمئنان إلى صحّة المنقول (١)، لأسباب منها أن الحفظ خوّان وأن النسيان من جبلّة الإنسان كان لابُدّ من أن يرافق ذلك التلقّي الشفهي ميزانٌ نقدي، يتميّزُ به الصواب من الخطأ والصدق من الكذب، إذ الخطأ والكذب هما آفتا الأخبار، فلا يُردّ الخبر إلا لواحدٍ منهما؛ لأنه قد جمع بينهما أنهما السببان الوحيدان للإخبار بخلاف الواقع، وإن كان الخطأ إخبارًا بخلاف الواقع بغير عمد، والكذب إخبارًا به لكن بعمد (٢) .
_________
(١) ألا ترى كيف بادر الصديقُ والفاروق ﵄ إلى كتابة المصحف من ذلك الوقت المبكر، خوفًا من ضياعه، مع أن كتاب الله العزيز الذي قد يسّره ربُّنا أجلّ وآثرُ وأعظمُ محفوظ في صدور الأمّة علماءَ وعامّةً!!!
(٢) ولذلك فإن شروط قبول الأخبار، المذكورة في تعريف الحديث الصحيح، كلّها إنما اشتُرطت لضمان سلامة الخبر من هاتين الآفتين: الكذب، والخطأ.
١ - فالعدالة: لضمان عدم الوقوع في الكذب المتعمّد.
٢ - والضبط: لضمان عدم الوقوع في الخطأ.
٣ - والاتصال: لضمان عدم وقوع الآفتين كلتيهما؛ لاحتمال أن يكون الساقط من السند ليس أهلًا لضمان وقوعه في إحدى الآفتين.
٤ - وعدم الشذود.
٥ - وعدم العلّة: لضمان عدم وقوع الخطأ ممّن الأصل فيه عدم وقوعه فيه، إذ إن الضابط غير معصوم من وقوعه في الخطأ.
1 / 5
ولك أن تتصوّر: لو قَدّر الله تعالى أن تُدَوّنَ السنةُ كُلُّها بين يدي النبي ﷺ، كما دُوِّن القرآن الكريم، هل كُنّا سنحتاج إلى ذلك الميزان النقدي؟ لاشك أننا لم نكن سنحتاج إليه، كما لم نَحْتَجْ إليه مع القرآن الكريم؛ لأن الكتابة حينها ستكون وعاءً شاملًا وصافيًا، فلا يضمّ فيه إلا الصدق والصواب. لكن شاء الله تعالى بحكمته أن لا يحصل ذلك؛ لأسباب قدريّة كونيّة، ولأسباب شرعيّة، ليس هذا أوان تفصيلها.
ومن هُنَا يتبيّن لك: أن علاقة الميزان النقدي بتدوين السنّة علاقةُ تلازم كامل، إلى درجة أن تصل هذه العلاقة إلى أن تكون سببًا للوجود وسببًا للعدم، كما سبق. حيث بيّنّا أن سبب نشوء الميزان النقدي هو التلقّي الشفهي وعدم شمول التدوين في زمن النبي ﷺ، وبيّنّا أن التدوين لو كان شاملًا في زمن النبي ﷺ لما احتجنا إلى ذلك الميزان النقدي أصلًا، ولما كان له وجود، كما لم يكن له وجود مع القرآن الكريم.
وما دامت علاقة الميزان النقدي بتدوين السنة على هذه الدرجة الكاملة من الترابط والتلازم، فهذا سيعني أن تطوّر الميزان النقدي مرتبطٌ أيضًا بتطوّر التدوين. وهذا هو ما وقع بالفعل؛ لأنه لا يُمكن إلا أن يكون كما وقع!!
ومع أني لا أرى أن هناك حاجةً للاستدلال على وقوع ذلك الترابط بين تطوّر النقد وتطوّر التدوين، بعد أن بيّنتُ أنهما غير منفكّين وجودًا وعدمًا - إلا أني لن أُغْفِل الحرصَ على كَمال وضوح هذا الترابط، وأنه كان لابُدّ أن يكون.
1 / 6
فقد قرّرنا آنفًا أن عدم شمول التدوين في زمن النبي ﷺ، وأن استمرارَ الرواية الشفهيّة المعتمدةِ على حفظ الصدور هو الذي طَرَّق إلى الأخبار احتمالَ أن تكون مخالفةً للواقع، خطأً أو عمدًا، وأن هذا الإخبار بخلاف الواقع قد وقع فعلًا، فلم يكن مجرّدَ احتمال. وقرّرنا أيضًا أن الميزان النقدي نشأ مع الرواية في وقت واحد؛ لأن غرضَ الراوي هو الاستفادة من الخبر، ولن تتحقق الإفادة من خبرٍ مخالفٍ للواقع، وما دام يتطرّق إلى الخبر هذا الاحتمال فلابُدّ من وَضْع معايير لتمييز الخبر الموافق للواقع والخبر المخالف للواقع، وهذا هو الميزان النقدي.
1 / 7
ولاشك أن احتمال أن يكون الخبرُ مخالفًا للواقع خطأً (بغير عمد) سيزداد قوّةً كُلَّما ابتعد الخبر عن أصله وناقله الأول؛ «لأنّه ما من راوٍ من رجال الإسناد إلا والخطأ جائزٌ عليه، فكلما كثرت الوسائط وطال السند كَثُرت مظانُّ التجويز، وكلّما قَلّتْ قَلّتْ» (١) . وكذلك حال الإخبار بخلاف الواقع عمدًا (كذبًا)، سيزداد احتمال وقوعه بزيادة عدد الناقلين، الذين يُحتمل في كل واحدٍ منهم (قبل العلم بعدالته) أن يكون كذّابًا. كما أنّ العدالة في الرواة والناس عمومًا لم تزل في نقصانٍ ببُعْدِ الناس عن زمن النبوّة، مصداقًا لقول النبي ﷺ «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قومٌ تسبق شهادةُ أحدهم يمينَه ويمينُه شهادتَه» (٢)، وفي حديث آخر قال في الرابع: «ثم يفشو الكذب» (٣) .
وهذه الزيادة في احتمالاتِ حُصُولِ الإخبار بخلاف الواقع (عمدًا أو خطأً) بسبب امتداد الزمن، لم تكن زيادةً في عدد تلك الاحتمالات فقط، بل هي زيادةٌ في العدد وفي صُوَر تلك الاحتمالات أيضًا.
_________
(١) اقتباسٌ من كلامٍ للحافظ ابن حجر في نزهة النظر (١١٦) .
(٢) أخرجه البخاري (رقم ٢٦٥٢، ٣٦٥١، ٦٤٢٩، ٦٦٥٨)، ومسلم (رقم ٢٥٣٣)، من حديث عبد الله بن مسعود ﵁.
(٣) أخرجه الترمذي وصحّحه (رقم ٢١٦٥)، وابن ماجه (رقم ٢٣٦٣)، وابن حبان (رقم ٤٥٧٦، ٥٥٨٦، ٦٧٢٨، ٧٢٥٤)، والحاكم وصحّحه (١/١١٤، ١١٤ - ١١٥)، والضياء في المختارة (١/١٩١ - ١٩٣ رقم ٩٦ - ٩٨) (١/٢٦٧ رقم ١٥٧) (١/٢٩٤ - ٢٩٥ رقم ١٨٥)، من حديث عمر بن الخطاب ﵁.
والحديث وقع فيه اضطرابٌ على أحد رواته، لكن له طريقُ من غير طريق الراوي الذي اضطُرب عليه فيه، ثم إن الاضطراب الذي وقع فيه مما لا يُعَلّ به الخبر. فانظر: العلل الكبير للترمذي (٢/٨١٦ - ٨١٧)، والعلل للدارقطني (٢/١٢٢ - ١٢٥ رقم ١٥٥) .
1 / 8
فمثلًا: (التدليس) المذموم و(الإرسالُ) المردود لم يكن ليظهر في جيل الصحابة؛ لأن الصحابة كلّهم عدول، وإنّما ظهر بعدهم، و(الإعضال) لم يكن ليظهر عند من لا يروي عن النبي ﷺ إلا بواسطةٍ واحدة، لكنه يُمكن أن يظهر عند من يحدث عنه بواسطتين فأكثر.
وما دام احتمالُ إصابة الأخبار بآفتيها (الكذب والخطأ) سيزدادُ بامتداد الزمن، فلابُدّ أن علماء الأمّة ستزداد عنايتهم في إيجاد الوسائل التي تُخَلِّصُ الأخبار من هاتين الآفتين، وهذا هو تطوّر الميزان النقدي.
ولمّا كان سبب حصول هاتين الآفتين هو الرواية الشفهيّة غير المدوّنة، فقد سارع العلماء إلى التدوين، الذي لم يزل يتطوّر، مواكبًا حاجة السنة للحفظ (١) وللحماية من الكذب (٢) أو الخطأ (٣) .
_________
(١) قال عبد الله بن المبارك:» لولا الكتاب ما حفظنا «، وقال إسحاق بن منصور:» قلتُ لأحمد: مَنْ كَرِهَ كتابة العلم؟ قال: كرهه قومٌ كثير، ورخّصَ فيه قوم. قلتُ: لو لم يُكتب ذهبَ العلم، قال أحمد: ولولا كتابتُهُ أيّ شيءٍ كُنَّا نحن؟! «.
انظر: المحدث الفاصل للرامهرمزي (٣٧٧ رقم ٣٦٠)، وتقييد العلم للخطيب (١١٤، ١١٥) .
(٢) حيث إن التدوين الذي به يتمُّ ضبط المنقول ومعرفته، به يتمّ معرفةُ الكذّابين وفَضْحُهُم، وبحصوله يهابون التجرؤَ عليه، وتُعْرفُ نُسَخُهم فلا يتهافت عليها أشباههم. يقول ابن معين: «كتبنا عن الكذّابين، وسجرنا به التنّور، فأخرجنا به خُبزًا نضيجًا»، ويقول: «وأيُّ صاحب حديث لا يكتب عن كذّابٍ ألفَ حديث؟!» .انظر: المجروحين لابن حبان (١/٥٦)، والكامل لابن عدي (١/١٢٤) .
(٣) إن علاقة الضبط بالكتابة أمرٌ لا خفاء به. يقول الإمام أحمد:» حدثنا قومٌ من حفظهم، وقومٌ من كتبهم، فكان الذين حدثونا من كتبهم أتقن «. تقييد العلم للخطيب (١١٥) .
1 / 9
وبذلك نعود إلى تأكيد تلك العلاقة بين تطوّر التدوين وتطوّر الميزان النقدي، فلئن بيّنّا سابقًا ما بينهما من علاقة في المنشأ، تقتضي استمرار تلك العلاقة بينهما بعد النشأة فقد بيّنا هنا أيضًا حقيقةَ تلك العلاقة خلال مراحل التطوّر لكليهما، ممّا لا يدع مجالًا للشك في حصول تلك العلاقة بين التدوين والنقد في كل مراحل تطوّرهما.
فإذا انتهينا إلى اليقين من هذه النتيجة، وهي أن التدوين والميزان النقدي متلازمان نشأةً وتطوّرًا، تلازُمَ الروح بالجسد الحيّ، فهذا سيعني أن الزَّمنَ الذي يبلغُ التدوينُ فيه نهايتَه، بشموله لجميع المنقولات، وبعدم بقاء روايةٍ غير مدوّنةٍ ممّا كان يذكره الناقلون منذ نشأة الرواية إلى ذلك الزمن سيعني أيضًا أن النقد قد بلغ في ذلك الزمن نهايته، وأنه بعد بلوغه هذه النهاية سيكون قادرًا على تصفية المنقولات كُلِّها بلا استثناء، وأنه لم يعد فيه مجالٌ للتطوّر بعد ذلك.
إن هذه النتيجة، وهي أن اكتمال التدوين يعني اكتمال المنهج النقدي، لم يَعُدْ بحاجةٍ إلى استدلال بعدما سبق.
لكني أعود فأقول: إن المنهج النقدي إنما نشأ بسبب وجودِ رواياتٍ أصابتها آفةُ الأخبار (الخطأ والكذب)، وحصولُ هذا للأخبار إنما وقع بسبب عدم التدوين (كما سبق)، فكان ذلك المنهجُ النقديُّ قادرًا على تمييز الصواب من غيره خلال أزمنة الرواية الشفهيّة غير المدوّنة أفلا يكون هذا المنهجُ النقدي أقدَر على القيام بمَهمّته، بعد حصول ما كان من شأنه أن يُغنينا عنه لو أنه تمّ من حين نشوء النقل (ألا وهو التدوين)، وبعد أن سَهَّلَ له التدوينُ القيامَ بتلك المهمّة؟!
وبعبارة أخرى: إن منهجًا لنقد المنقولات كان قادرًا وكافيًا لنقدها يوم أن كانت بين رواية شفهيّة ورواية مدوّنة، ألن يكون قادرًا وكافيًا لنقد المنقولات بعد أن أصبحت مكتوبة فقط؟!!
1 / 10
وبعبارة ثالثة: إن منهجًا كان قادرًا على تصفية المنقولات حينما كانت تتزايد بالخطأ والكذب كل يوم، ألن يكون قادرًا على تصفيتها بعد أن انحصرت بالتدوين الشامل (صوابَها وخطأها وكذبها) في عدد معيَّن؟!! (١) .
وأخيرًا: هل يُمكن أن يوجد منهجٌ للنقد أفضل من ذلك المنهج الذي استطاع تصفية السنة في أخطر مراحل وُجودها؟! هل يُمكن لأحدٍ أن يدّعي منهجًا مخالفًا لذلك المنهج يكفل لنا به ما كفله لنا ذلك المنهج؟!! لاشك أن المنهج الذي استطاع أن يواجه تلك الأخطار، وأن يدفعها كلها، هو أفضل المناهج على الإطلاق. وأنّ من أراد أن يستبدل به منهجًا آخر، أقلّ ما يُقال له: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير (البقرة: ٦١) .
وهنا يأتي السؤال الأهم: فمن أراد أن يتعرّف على منهج نقد السنّة عمّن يأخذه؟ من هُمْ أهل ذلك المنهج (المكوّنِ من قواعد ومصطلحات) الذين إن أردنا أن ندرس منهج نقد السنة لزمنا أن لا نتجاوزهم وأن لا نخالفهم؟ ومن هم الذين يُحتكم إليهم في تصويب المنهج أو تخطئته؟ ويُمدح من سار على منهجهم ويُذمّ من خالفه؟
لا يخفى على أحدٍ منكم الجواب عن هذا السؤال (أو الأسئلة) .
_________
(١) ولا يعني ذلك أن الخطأ والكذب قد انتهى بعد اكتمال تدوين السنة، ولكن يعني أنه لن يشتبه بالصواب، وسيكون نَقْدُهُ أسهل بعد التدوين؛ لأنه خرجَ عن احتمال أن يكون صوابًا، بعدم وجوده مدوَّنًا بعد اكتمال التدوين.
وهذا ما ذكره البيهقي عندما قال: «وهو أنّ الأحاديث التي قد صحّت، أو وقفت بين الصحّة والسُّقْم قد دُوّنت وكُتبت في الجوامع التي جمعها أئمةُ أهل العلم بالحديث، ولا يجوز أن يذهب منها شيءٌ على جميعِهم، وإن جاز أن تذهب على بعضهم؛ لضمان صاحب الشريعة حفظها. فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم، لم يُقبل منه..» . مناقب الشافعي للبيهقي (٢/٣٢١) .
1 / 11
إذ إن الجوابَ قد تقدّم، وهو أن منهج نقد السنة يجب أن يؤخذ عمّن أسّسه وبناه حتى اكتمل، وهؤلاء هم أهل ذلك المنهج، الذين يُحتكم إليهم، ويُمدح من سار على منهجهم، ويُذمّ من خالفهم (١) .
وهنا قد ينقدح سؤال، كنت قد أجبت عنه سابقًا، لكنه يحتاج إلى زيادة بيان؛ وهو: لمَ لمْ تقتصر على العلماء الذين عاصروا اكتمال المنهج؟ لمَ أدخلتَ معهم من سبقهم؟ مع أن من سبقهم لم يكن المنهج في زمنهم مكتملًا!! ألا يُطرِّق ذلك احتمالَ تَعَدُّدِ المناهج بسبب اختلاف أزمنة أهل المنهج الذين تُحيل إليهم، وبسبب اختلاف أطوار العلم الذي تُرجعنا إليه؟!
والجواب:
أوّلًا: إنه ليس من حقّي أن أقتصر من عند نفسي على عصرٍ دون عصر، لقد بَنَيْتُ ما قلتُه على الدرس العميق لمراحل تطوّر العلم، كما مَرّ بكم آنفًا. فلست بالذي يختار، وإنما سنةُ التطوّر والارتقاء هي التي تختار.
ثانيًا: إن هذا السائل لم ينتبه إلى ما كنتُ قررتُه سابقًا، من أن انتقال منهج النقد من طور إلى طور لم يكن لنقص في الطور الأول، وإنما لتجدّد أمور اقتضت الإضافة إليه فقط. فكل الذي كان يحصل خلال انتقال المنهج من طور إلى طور، هو أن الطور الثاني يضيفُ إلى الطور الأول ما يُمَكّنُهُ من مُوَاجهةِ الأخطار المستحدثة فيه. فقواعد المنهج خلال الطور الأول لم تزل معمولًا بها خلال المنهج الثاني، وانضافت إليها قواعدُ جديدةٌ.
_________
(١) وأهل النقد هم في ذلك كأهل اللغة الذين يُحْتَجُّ بلغتهم، فكما أن دأب اللغويين تقييد لغة هؤلاء، فكان ينبغي أن يكون دأب المصنفين في علوم الحديث من المتأخرين أن يكون دأبهم تقييد لغة أولئك وقواعدهم في علمهم، الذي كان حيًّا بينهم، لا يحْتاجون فيه إلى من يترجم لهم ألفاظه ومصطلحاته. فوجه الشبه بين الفريقين: حياة العلم عند أهل الحديث، وحياة اللغة عند من يحتج بلغتهم.
1 / 12
وكل دعوى عن اختلافِ المنهج، خلال أزمنة أهل المنهج، وبين أهله دعوى باطلة، بعيدةٌ كل البُعْد عن فقه المسألة، وعن التدبّر في نشأة المنهج ودواعيه وأطواره.
وكيف يُتصوّرُ حصول اختلافٍ في المنهج، والمنهج إنما نشأ لحماية المنقولات من آفتي الخطأ والكذب؟! هل هناك من يقبل الخطأ؟! هل هناك من يقبل الكذب؟! هل هناك من يقبل ما يغلب على الظن أنه خطأ؟! هل هناك من يقبل ما يغلب على الظنّ أنه كذب؟!
أمّا إن ضربتَ أمثلةً للمسائل التي ادُّعي فيها الخلاف في المنهج: كالمرسل، والرواية عن أهل البدع، وزيادة الثقة، واشتراط عدم الشذوذ، واشتراط عدم العلّة ... ونحوها من المسائل التي حُكي فيها الخلاف.
فإني أقول لك: لقد درسنا هذه المسائل وغيرها مسألةً مسألةً، فتبيّن لنا عدمُ صحّة وجود ذلك الخلاف المدَّعى، والذي نُقِل في أكثره أيضًا الإجماعُ، وإن اشتهر عند المتأخرين القول بالخلاف!!
ثم إن الخلاف المنهجيَّ لا يخفى، وهو أولى بالظهور والوضوح من الاختلاف في آحاد المسائل الجزئيّة، وأولى بالنقل، وأحرى بأن تقوم له المعارك العلميّة، وبأن تُصنَّفَ فيه الردودُ والردودُ على الردود ... هذا هو المعتاد من سُنّه العلوم جميعًا؛ لأنه اختلافٌ منهجيٌّ ينبني عليه اختلافٌ عظيم في كثيرٍ من المسائل الجزئيّة.
وبَعْدُ ... فأين هو هذا الاختلاف المنهجيّ في الصُّور التالية:
- أين هو في التوافق العجيب بين نقاد الحديث، من زمن شعبة والقطان وابن مهدي، إلى زمن البخاري ومسلم وأبي حاتم ومن بعدهم: في التصحيح والتضعيف والتعليل والجرح والتعديل؟ هل وجدتم أحدًا منهم ردّ حكمًا من آخر بدعوى اختلاف المنهج؟
1 / 13
- أين هو في ثناء المتأخر منهم على المتقدّم في علمه واطلاعه ودقّة أحكامه؟ كما فعل ابن أبي حاتم في (تقدمة الجرح والتعديل)، التي عقد فيها أبوابًا لبيان عظيم مواقع الأئمة في النقد، ينقل فيها نماذج من أحكامهم على الأحاديث والرواة على وَجْه الإجلال والتعظيم لهم. وهم أئمةٌ مختلفةٌ أعصارهم، متباينةٌ طبقاتهم. ولم يقل مَرّةً واحدة: إن منهج فلان غير مقبول، أو يجب علينا أن ننتبه إلى منهجه الخاص في هذه المسائل أو تلك.
وفعل مثلَ ابن أبي حاتم جماعةٌ: كابن حبان في مقدّمة المجروحين، وابن عدي في مقدّمة الكامل.
- وكيف يقبل بعضُهم من بعضٍ الجرحَ والتعديلَ في الأعمّ الأغلب، ولا يختلفون إلا في جزئيات المسائل؟ أولو كان منهج النقد بينهم مختلفًا كانوا سيقبلون من بعضهم أحكامَهم في الرواة؟! أوليس الحكم على الراوي مرتبطًا كل الارتباط بالحكم على حديثه؟! والحكم على حديثه مرتبطًا بالحكم عليه؟! أين اختلاف المناهج في هذه المسألة؟!!!
- أولم يكونوا يتذاكرون العلم فيما بينهم، ويتناظرون في الأحاديث والرواة، ويفهم بعضهم كلام بعض، ولم يُنقل لنا قطّ أنه قال أحدهم للآخر: منهجك ليس هو منهجي، أو أنهم كانوا يختلفون في غير المسائل الجزئية.
- أولم يعرض البخاري صحيحه على بعض حفاظ زمنه؟ أولم يفعل ذلك مسلم؟ أولم يجمع الترمذي أقوال البخاري وأبي زرعة والدارمي في التعليل والجرح والتعديل في كتاب واحد؟ أولم يفعل نحو ذلك وأكثر منه ابن أبي حاتم في كتابه (العلل) و(الجرح والتعديل) و(المراسيل)؟ هل كان أولئك القوم مختلفي المنهج أم متفقين؟ إن كانوا مختلفين، كيف تسنَّى أن يؤخذ بأقوالهم جميعًا، وأن تُساق مساقًا واحدًا؟ وإن كان هؤلاء هم الذين اتفقوا، وأن المخالفين لهم سواهم، قلنا: فمن القوم بعد هؤلاء، يا رجل؟!!! هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
1 / 14
- لقد نُقِل عن المحدثين اختلافٌ كثيرٌ في آحاد الرواة والأحاديث، وناقش بعضهم بعضًا في كثير من ذلك. فما بال الاختلاف في المنهج لا يُنقل عنهم فيه نقاشٌ ولا اعتراض؟! والحاصل أن نقل اختلاف المنهج أولى وأحْرى (كما سبق) .
كل هذا وغيره يقطع باتّحاد المنهج، وإنّما يَدّعي الاختلاف من لم يُراع تلك الكليّات، ووقف عند بعض العبارات المشتبهة، ليبني عليها مذاهبَ ومناهج!! ومن هُنا أُتي من أُتي في هذا الباب. ولو ردّوا تلك المشتبهات إلى هاتيك المحكمات وأمثالها، لتبيّن لهم الحق بلا ارتياب.
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى ما كنّا فيه: من التأريخ النظري لعلوم الحديث، والذي خلصنا منه إلى أن الزمن الذي اكتمل فيه تدوين السنة هو نفسه الذي اكتمل فيه نقد الحديث، وأنه لذلك كان منهجُ النقد الذي ينبغي أن يُرجع إليه هو ذلك المنهجَ الذي نشأ وتطوّر حتى اكتمل.
هذا ما كنّا وصلنا إليه أخيرًا.
ولكن هناك بقيّةٌ لذلك العرض التاريخي النظري، لابُدّ أن نعرض له.
ذلك أن بلوغ منهج النقد درجة الاكتمال في زمنٍ ما، لاشك أنه سيعني أن بداية النقص ستبدأ من حيث اكتمل، اتّباعًا للسنة الكونية في ذلك:» لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ «. فما بعد بلوغ الغاية إلا النكوص، وما بعد صعود القمة إلا الهبوط.
ولكن هذا النقص لا يصح أن يُتصَوّر أن يبلغ حدَّ الهُوِيّ في القاع، ولا القفزة الواحدة التي تعود بصاحبها إلى حيث بدأ، بل لابُدّ أن يكون نقصًا تدريجيًّا. كما أنّه قد لا يشمل كل علماء ذلك العصر، فقد يبقى بعضهم على إرثه القديم محافظًا عليه.
ولذلك فقد يصح لنا نظريًّا أن نعتبر الزمن الأوّل بعد اكتمال نضج العلم، من أزمان أهل ذلك المنهج الذي يُرجع إليهم ويُحتكم إلى علمهم؛ لأنهم استطاعوا أن يكونوا امتدادًا حقيقيًّا للزمن الذي اكتمل فيه المنهج، وأن لا يكونوا مجرّد وعاءٍ لذلك المنهج، بل أن يشاركوا أصحابه في تمام العلم به وكمال الأهليّة فيه.
1 / 15
وقد يشهد لذلك، ولمعرفة حدِّ ذلك الزمن الذي تعتبر علماءَهُ من أهل المنهج: ما لو وجدنا أولئك العلماء قد صنفوا في أصول العلم، وطبّقوا ذلك المنهج الذي ورثوه عمن سبقهم تطبيقًا يشهد لبلوغهم رتبة الاجتهاد المطلق فيه.
وسنستمر على اعتبار الزمن التالي لزمن اكتمال المنهج من عصور من يُحتجّ بمنهجه، إلى أن يبدو لنا أن ذلك النقص التدريجي قد ظهرت آثاره، وقويت ملامحُه واتّضحت؛ إلى حدِّ ظهور النقص في أهليّة علماء ذلك العصر عن رتبة الاجتهاد المطلق فيه، وإلى حدِّ إعلان علمائه أنّهم ليسوا سوى مترجمين لعلوم من سبقهم، وأنهم يتلمّسون آثار خطاهم تلمُّسَ من تخفى عليه بعض مدارجهم.
1 / 16
إن هذا التدرّج في مراحل تطوّر العلوم أمرٌ طبيعي، إذ إن انتقال العلم من مرحلةٍ إلى مرحلة لا يتمُّ فجْأة، ولكن يتم بالتدريج. بأن يكون العلم في المرحلة الأولى له خصائصه التي تميّزه، ثم يبتدئ بفقدان شيءٍ من خصائصه لصالح خصائص المرحلة التالية، التي تحلُّ شيئًا فشيئًا محل الخصائص الأولى. حتى يصل هذا التناقصُ التدريجي إلى درجة الانتصاف، فيكون العلم قد بلغ مرحلةً تحمل في طيّاتها نصف خصائص المرحلة الأولى ونصف خصائص المرحلة الثانية. وهذه المرحلة هي المرحلة الانتقالية، التي لا يُمكن معها أن تَفْصِل مرحلةً عن مرحلة (١) . ثم بعد ذلك تبتدئ كفة المرحلة الجديدة بالرجحان، وتتضح خصائصها بصورة أكبر، حتى تصلَ درجةَ الاتّضاح الكامل. والتي بوضوحها هذا تيقّنّا من مرور ذلك العلم بمراحل، وبوضوحها هذا استطعنا أن نعرف خصائص كل مرحلة التي تميّزها عن غيرها، وبوضوحها هذا (أخيرًا) استطعنا أن نؤرّخ لذلك العلم (٢)
_________
(١) لقد ابتدع الأدباء لأصحاب هذه المرحلة الانتقالية اسمَ المخضرمين، الذين جمعوا في خصائص شعرهم بين خصائص زمنين، كالشعراء الذين عاصروا الدولتين الأمويّة والعباسيّة.
(٢) وهنا أنبّهُ إلى أنه من الخطأ البيِّن أن نجعل من عدم وضوح ملامح المرحلة الانتقاليّة، أو من تَأَرْجُح علمائها بين مرحلتين دليلًا على عدم مرور ذلك العلم بمراحل مختلفة؛ لأن هذا لا يختص بعلم دون علم، فالمرور بهذه المرحلة لا يخلو منه علم. فلم يكن ذلك بقاضٍ على حقيقة مرور تلك العلوم بمراحل، ولا منع ذلك من وضع حدود زمانيّة لتلك المراحل، ولم يفهم أحدٌ منها أنها حدودٌ فاصلة، وإنما هي حدود تقريبيّة.
فلئن اشتبهَ عندي إلحاقُ بعض أصحاب المرحلة الانتقاليّة بإحدى المرحلتين، وكان لإلحاق هذا البعض أثرٌ وأهميّة (افتراضًا) فلن يشتبه عندي إلحاقُ أقوامٍ آخرين بإحدى المرحلتين، ولا أشك فيهم أدنى شك.
فلمَ الشَّغبُ بالقليل النادر قليلِ الثمرة أو عديمِها، على الأصل الغالِب عظيمِ الثمرةِ واضحِها؟!!!
1 / 17
وبعد هذا البيان الطويل، الذي أعتذر من جفافه، أدخل في بيان التحديد الزمني لتلك المراحل، ليكون لذلك العرض الثمرة المنشودة (١) .
المقالة الثانية:
التاريخ الواقعي لأطوار علوم الحديث
المرحلة الأولى: بعد وفاة النبي ﷺ إلى مقتل عثمان ﵁ سنة (٣٥هـ) .
وتتميّز هذه المرحلة بصفائها وبُعدها عن أسباب الخطأ والكذب، لعدم الإسناد، وقوّة الحافظة، وعدم ظهور الفتن، وشدّة الاحتياط في التبليغ للسنة.
وكان التدوين في هذه المرحلة قليلًا، ولم يكن بغرض التخليد، وإنما كان بغرض الإعانة على الحفظ في الصدور.
المرحلة الثانية: من مقتل عثمان ﵁، إلى انتهاء جيل الصحابة، بموت غالبهم، وكان ذلك نحو سنة (٨٠هـ) .
وتميّزت هذه المرحلة بحصول الفتنة التي فرّقت المسلمين أحزابًا وشيعًا، وبظهور بعض البدع، وبانتشار الصحابة في البلدان شرقًا وغربًا.
_________
(١) أرّخ للسنة كثيرٌ من العلماء والباحثين قديمًا وحديثًا، ولذلك فسأكتفي هنا بعرض مختصر، محيلًا إلى الدراسات في ذلك الإحالة الإجمالية التالية، إلا ما رأيت ضرورة الاستشهاد له.
فانظر: ذمّ الكلام وأهله للهروي (٣/١٤٨ - ١٥٠)، وجامع الأصول لابن الأثير (١/٣٩ - ٤٣)، وشرح علل الترمذي لابن رجب (١/٣٥ - ٤٣)، وهدي الساري لابن حجر (٨ - ٩)، والسنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب، ودراسات في الحديث النبوي للأعظمي، وغيرها، ومنها كتابي المنهج المقترح (١٣ - ٦٥) .
1 / 18
وفي هذه الفترة ظهرت المطالبة بالإسناد (١)، وفي المطالبة به دليلٌ على نشوء علم الجرح والتعديل (٢)، وفي أن الجهل بحال المحذوف من الإسناد علةٌ يُردّ به الخبر (٣) .
ولم يزل التدوين في هذا الجيل قليلًا، لإمكان حفظ الصدورِ القيامُ بواجب النقل الكامل.
المرحلة الثالثة: وهي عصر التابعين، والذي يبتدئ من نحو سنة (٨٠هـ) إلى نحو سنة (١٤٠هـ)، بموت غالب التابعين.
وقد كان لبداية طول الإسناد في هذه المرحلة، ولتشعّب الأسانيد، واختلاف رواتها، مع زيادة انتشار السنة، وزيادةِ الغلو في البدع ونشوء بدع أخرى، مما أدّى إلى أن يروي من ليس بأهلٍ للاطمئنان إلى روايته أن كان الهاجسُ الأكبر لدى علماء التابعين حينها هو: خوفُ تفلُّتِ شيءٍ من السنّة، وتحديثُ من لا يؤمن على النقل، ووقوعُ الاختلال في ضبط المنقول.
فواجهوا كل خطرٍ من هذه الأخطار بما يدفعه:
- فخوف تفلُّتِ شيءٍ من السنة واجهوه بأمور، منها:
١ - استنفار الأمّة لجمع السنة، وذلك يظهر من كثرة عدد التابعين الذين نقلوا السنة؛ إذ إن كثرةَ الحَمَلَةِ يجعل فوات شيءٍ من السنة على جميعهم مستبعدًا.
_________
(١) مقدّمة صحيح مسلم (١/١٥) . ومن أغرب المواقف في ذلك استحلافُ أحد التابعين، وهو عَبيدة السلماني، لعلي ﵁، في روايته لحديث، هل سمعه من رسول الله ﷺ!، انظر: صحيح مسلم (٢/٧٤٧)، موازنة بمسند البزار (رقم ٥٨١) .
(٢) فقد نهى عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود عن الأخذ عن الأصاغر، ففسّر عبد الله بن المبارك ذلك بأنه الرواية عن أهل البدع، فانظر: الزهد لابن المبارك (رقم ٨١٥)، والمدخل إلى السنن للبيهقي (رقم ٢٧٥)، وشرح أصول أهل السنة للالكائي (رقم ١٠١، ١٠٢) .
(٣) كما دل عليه موقف ابن عباس من المراسيل، فانظر: مقدّمة صحيح مسلم (١/١٢ - ١٣) .
1 / 19
٢ - الأمرُ بكتابة السنة أمرًا رسميًّا من قبل عمر بن عبد العزيز، وذلك في آخر القرن الهجري الأول أو أوّل الثاني، وائْتِمارُ التابعين لذلك، حتى كثر عدد التابعين الذين كتبوا السنة (١) .
لكن مدوّنات هذا العصر كانت غالبًا بغرض أن تُعين على الحفظ في الصدور، ولذلك كان بعض التابعين يمحو ما يكتب أو يغسله بعد حفظه (٢) . ولم يكتب للتخليد إلا القليل منهم مصنفاتٍ مختصرة: في التفسير، والسيرة، وبعض أبواب الأحكام (كالطلاق، والمناسك، والصلاة) (٣) .
ويظهر من تلك المدوّنات استيلاءُ هاجس التفلّت على أصحابها، حتى كانت أبعد ما تكون عن العناية بحُسْن الترتيب والتبويب، ويختلط فيها المرفوع بالموقوف والمقطوع.
٣ - زيادة ظاهرة الرحلة في طلب الحديث، لمواجهة واقعِ انتشارِ السنة في الآفاق (٤) .
وفي ذلك يقول الشعبي عن مسروق:» ما علمت أحدًا من الناس كان أطلب لعلم في أفق من الآفاق من مسروق «.
وقال مكحول الشامي:» طُفْتُ الأرضَ في طلب العلم» .
- وخطورةُ تحديث من لا يُؤْتَمَنُ على النقل، واجهوه بأمور، منها:
١ - التشديد في المطالبة بالإسناد.
وهنا تأتي عبارة ابن سيرين علمًا لهذا العصر، عندما قال: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم» (٥) .
_________
(١) أحصى الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه (دراسات في الحديث النبوي) أكثر من (١٥٠) تابعيًّا ممّن دوّن، ومع كثرة هذا العدد، لكنه إنما هو شيءٌ يسيرٌ ممّا يمثِّلُ الواقع؛ فهو أوّلًا إحصاءٌ غير مستقصي، لأخبار لم يعتن العلماءُ بنقلها، فوصول هذا العدد إلينا يدلّ على ما وراءه.
(٢) انظر: الجامع للخطيب (١/٣٥٣) .
(٣) انظر: دراسات في الحديث النبوي للأعظمي (١/١٤٨، ١٤٩، ١٥١، ١٥٩ - ١٦٠، ١٩٦، ٢٠٨، ٢١٣، ٢١٨) .
(٤) انظر الرحلة في طلب الحديث للخطيب (رقم ٤٥، ٤٧ - ٤٨، ٤٩، ٥٢، ٥٣، ٥٤، ٥٧، ٩٣، ٩٤، ٩٥، ٩٧) .
(٥) مقدّمة صحيح مسلم (١/١٤) .
1 / 20