إما الموت الداهم السريع، وإما أن تحدث المعجزة - أجل المعجزة - وتمحو كل ما حدث، وكأنما تمسحه ب «أستيكة»، وكأنه ما حدث، وتعود الحياة إلى مثل ما كانت عليه قبل ساعة، أو بالدقة قبل شهر، لا بل لا بد أن تعود كما كانت من خمسة أعوام مضت، بل حبذا لو عادت إلى العمر الذي بدأت فيه تعي وتهتف لها الهواتف. إنها على استعداد لأن تملأ بحر النيل دمعا، مستعدة أن تظل تبكي وتستغفر من يومنا هذا إلى يوم القيامة في مقابل ليس حتى أن يغفر لها الله، ولا أن يمحو تماما كل ما حدث، وإنما في مقابل أن يجعلها تعيش و«حامد» ليوم واحد، بل لساعة واحدة، بل للحظة واحدة، واحدة يا رب، وكأن شيئا مما حدث لم يحدث. ولكن المؤلم، المؤلم ألما لا يحتمله بشر أن شيئا مما تتمنى لن يكون، وأن السهم قد نفذ، وأن ما حدث كان وانتهى وقضى القضاء؛ فالمصيبة الكبرى أن هذا الذي كان ودار ليس غريبا عليها، فلقد شاهدته بعيني رأسها، كله، يحدث طوال الأعوام الخمسة الماضية، وبالذات طوال العام الكئيب الماضي، والفكرة تراودها وتطاردها، والهاتف يهتف بها، ونفس هذا المشهد الذي دار بنفس تفاصيله الدقيقة، صحيح لم يكن نفس الأفندي، ولكنه أفندي، وبنطلون مخلوع، ورقدة، والباب يدفع ويدخل «حامد»، كله بالضبط رأته، وكانت متأكدة تماما أنه سيحدث؛ ولهذا هي تعيش هذا كله كما تعيش الحادث المعاد، وكأنه جرى قبل هذا مرة، بل ربما جرى مرات، لم يحدث شيء واحد غريب عنها، أو عما كان في رأسها وما رأته لسنين، بل إن هذا الأفندي كان دائم التربص لها، وأيضا يترقبها في حقل مشغولياتها اليومية الكثيف. فجأة والطفل على صدرها ترضعه، والآخر فوق كتفها ينهش شعرها طلبا للطعام، والطعام على النار، ويداها مشغولتان بطهوه، وعقلها مشغول بتدبير كساء الشتاء ومطالب رمضان، فجأة يخرج لها الأفندي عاريا إلى منتصفه! باركا فجأة فوقها، حتى لتموت رعبا، وفي اللحظة التالية تماما يفتح الباب، ويقف «حامد» على عتبته، تماما مثلما وقف، ويتم كل شيء مثلما تم الآن كل شيء.
أتكون شيخة؟ أفي أعماقها التي أصبحت نجسة مدنسة ترقد قديسة مكشوف عنها الحجاب، ترى المستقبل؟
وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف تم هذا كما رأته مرارا وعاشته؟
إنه لأمر فوق قدرتها على التفكير والفهم. إنه لشيء يتوه فيه العقل، وقد تاه فيه عقلها وضل، حتى تاه عن تحديد ذنبها إن كانت مذنبة؛ فقد كانت تؤكد لنفسها إذا هتف بها الهاتف، وارتسمت الصورة أنها بجماع نفسها ستقاوم وستموت حتما قبل أن يستطيع - إنسيا كان أو أفنديا - أن يلمسها. ومع أن الهاتف نفسه كان يؤكد لها أن مقاومتها لن تفلح، وأنها حتما ولا بد في النهاية سترضى وتستسلم، بحيث تقع الكارثة ويكون المقدر، إلا أنها كانت تقاوم وسوسة الهاتف نفسها وتقسم، وتموت غيظا مؤكدة لنفسها أن شيئا مما يقوله لن يكون، ليعود الهاتف يؤكد لها أنه حتما سيكون، برضاها أو بعدم رضاها سيكون، بل هو كائن وحادث فعلا، ودائم الحدوث، إن هي إلا لحظة يغيب عقلها في أدغال مطالب حياتهم ومشاكلها لتفاجأ - كمجيء يوم القيامة - بالأفندي يخرج لها عاليا لترتجف منه وترتعش ارتعاش ستنا مريم، وتقع لها الواقعة!
إنها لم تكن معتوهة أو ذات لوثة، وليس في سيرها أو سلوكها ما يخدش. إنها بنت طيبة من بنات ريفنا ذات عقل راجح، نفس العقل الذي جعلها تفضل «حامد» على «مصطفى»، مع أن «مصطفى» خفير نظامي ماهيته مضمونة، خمسة جنيهات وتسعون قرشا، ويزرع نصف فدان أيضا، وله «عجلة»، بينما «حامد» ليس «حيلته اللضى» وأكبر من «مصطفى» في العمر بخمسة أعوام على الأقل، وأسمر غامق السمرة، ولكنها تظلم عقلها أي ظلم إذا قالت إنه هو الذي اختار، فمن وراء عقلها كان دائما أصبع يشير، أصبع ضبابي غامض يكاد يهمس لها ويصر ويطالبها أن تأخذ «حامد»، وتترك «مصطفى»؛ ف «حامد» يعمل في مصر، وهي على يقين دائم أن حياتها في بلدهم محدودة، وأنها حتما بطريقة أو بأخرى سيكتب لها أن تعيش في مصر، ذلك المكان الرائع الواسع «أم الدنيا» الفخم الفاخر الذي يجلو الصدأ عن الجلد، ويحيل من يعيشون فيه إلى «سنايير». ألم تعد منها «فاطمة» بنت خالتها التي كانت تعمل «خادمة»، وهي كالخواجات بالكاد استطاعت أن تتعرف عليها وهي هابطة من القطار بالفستان والشنطة؟ فما بالك وهي لن تكون «خادمة»، وإنما زوجة وزوجة لبواب يسكن في عمارة أعلى من السماء من عشرة طوابق؟
يا لله! إن الهاتف الذي يهتف بها، ويؤكد أن مقامها سيكون في القاهرة عنده حق، فهي - كما يؤكد لها الكل - ليست مخلوقة لتنغرز من طلعة الشمس إلى مغيبها في الطين. إن جسدها الأبيض الناصع البياض مخلوق للبندر، وحلاوتها من حلاوة مصر؛ فبمقاييس القرية كانت «فتحية» حلوة، بل من أحلى البنات؛ فقد كانت بيضاء وكأنها ابنة أحد الأغنياء؛ إذ الأغنياء وحدهم هم البيض، بيضاء طويلة نحيفة هذا صحيح، ولكنها نحافة سببها الزيت والأذرة، غدا حين تأكل العيش الخاص الغلة، وتغمس بالسمن «ستسمن». مقامها لا بد في مصر، هكذا راح يؤكد لها هاتف، والغريب أنه لم يكن من خارجها، وإنما من داخل نفسها ذاتها كان يوسوس ويهتف. هناك تقيم حيث الشوارع الواسعة الحلوة النظيفة التي تنام على أسفلتها دون أن تعلق بك ذرة تراب واحدة؛ حيث النور الكثير البراق في الليل يحيل الظلام إلى نهار ساطع، بل إلى ما هو أحلى وأروع من النهار الساطع. هناك حيث الستات حلوين وكأنهن من أوروبا، والرجال حمر الوجوه أغنياء يركبون العربات، ويصرفون بالجنيه الكامل في اليوم الواحد دون أن يحسوا والنقود تغادر جيوبهم بلذعة الحسرة. هناك حيث الطعام الكثير والكباب والروائح الحلوة واللوكاندات وبحر النيل الأعظم، حيث يبدأ النيل وينبع.
هناك في تلك الجنة سيكون مقامها، هكذا كان يؤكد لها الهاتف الخفي باستمرار، ولهذا لم تعجب أبدا والأمور ترتب نفسها و«حامد» يتقدم لها وأهلها يترددون، ولكنها هي التي تتحمس وتوافق.
وبعد أسبوع واحد تسافر، وتصبح أخيرا وكما حلمت ألف مرة ومرة في قلب مصر، وفي العمارة التي طالما حاولت تصور أدوارها العشرة، صحيح أن مقامها لم يكن في دور منها، وإنما في حجرة «حامد» التي بناها له صاحب البيت على عجل تحت «السلم»، بناها بتحريض من زوجته على أمل أن يجدوا في زوجة «حامد» حين يتزوج «خادمة» تحل لهم مشكلة الخدم.
ولكن معلهش، الحجرة فسيحة رغم كل شيء، وفيها سرير بمرتبة حقيقية، ودولاب صغير، وتضاء بالكهرباء، واللمبة لها «زر» تدوس عليه هكذا، فإذا ب «تك» ويغمر النور الوهاج الحجرة.
وصحيح أن «فتحية» الحلوة في قريتهم بدت غريبة في القاهرة، وبدت لسكان العمارة كعروس من مسرح العرائس؛ فقد كانت بيضاء طويلة، هذا حقيقي، وملامحها جميلة في حد ذاتها، عيناها جميلتان وأنفها صغير جميل، لا يمكن أن يكون أنف فلاحة، وفمها دقيق بالضبط كخاتم سليمان، ولكن المشكلة أن ملامحها تلك تبدو غير مناسبة مطلقا لقامتها ولحجمها، وكأنها وجه طفلة صغيرة ورأسها قد ركبا لامرأة، أو كأن الرأس قد صغر بطريقة ما ووضع فوق جسد عادي.
ناپیژندل شوی مخ