بل بدلا من التشجيع كان بالضرورة يناله كم غير قليل من شتائم الأستاذ الدكتور أدهم أستاذ الجراحة، وليس هذا رئيس القسم فقط، إنه كبير أساتذة الجراحة في المستشفى كله. والجراح في المستشفى يحتل مكانة لا يحتلها زميله طبيب الأمراض الباطنية أو طبيب الأطفال مثلا. إنه له بجانب العلم مكانة دنيوية؛ فهو ليس عالما فقط، ولكنه عالم يزاول العلم أمامك ، وأمامك يحيي ويميت. ولأن المهنة هي التي تفرض الخلق والتصرف، فعند الجراح أسهل الطرق البتر، وأي كلام ليس له فاعلية المشرط وحسمه هذر فارغ لا يقال، وما دامت إرادته هي نفسها الدواء، فإحساسه بنفسه يتعاظم، وكلمته مهما تكن أمر واجب النفاذ. وليس صدفة أنهم يسمون حجرة العمليات بمسرح العمليات؛ فالجراح في هذا المسرح هو الإرادة الكبرى والعقل المفكر، والحاضرون جميعا من بشر أو أجهزة أو عقاقير ليسوا سوى أدوات في يد تلك الإرادة تصنع بهم الشفاء. ولأن إحساس الآخرين عند الجراح غير مهم؛ إذ المهنة تحتم عليه أن يلقي شعوره بإحساسهم؛ إذ هو لو شعر أن جرحه يؤلم لارتعشت يده، ولربما نفق مريضه، ولهذا هو أيضا لا يهتم بوقع كلماته عند الآخرين، حتى لو جاءت شتائم ولعنات؛ فمسئوليته الخطيرة أن تنجح العملية، وملعون أية حركة أو خطأ يحول دون هذا النجاح.
كانت شهرة الأستاذ أدهم إذن كرئيس لا يرحم تكاد تعادل شهرته كأستاذ جراحة ممتاز، ولأن أطباء الامتياز يحتلون أدنى مرتبة في سلم المستشفى الطبقي، فنصيبهم من شتائمه ولكزاته وافر، ومعاملته لهم أسوأ بكثير من معاملته للممرضات أو التمورجية، وويل لمن يفكر في الاحتجاج أو الذود عن كرامته؛ فمعنى هذا نهايته؛ فهو لا يجر عداوته أو غضب رئيس القسم فقط، ولكن الدكتور أدهم كان أيضا كبير الأساتذة والقائم بعمل عميد الكلية، ومستشار وزارة الصحة.
ورغم كل ذلك، ومن فرط الحب والانتماء للجراحة، وكأنها المبدأ أو العقيدة التي ظل يبحث عنها، فقد راح ينظر للأستاذ أدهم باعتباره قائده لهذا المبدأ، ووسيلته للوصول. وليس مثلها سعادة تلك التي يجد الإنسان مبدأه فيها وقد تجسد على هيئة قائد وعقل أكبر. وليكن الأستاذ أدهم شيطانا مرعبا في نظر الآخرين، ولترتجف له الأوصال إذا حضر، وحتى إذا غاب، ليكن! فقد وجد فيه الأستاذ الكبير والراعي والعالم، ويبدو أن الأستاذ أدهم هو الآخر قد وجد فيه نعم التلميذ، فقد راحت شتائمه إليه تقل، حتى انتهت وحتى أصبح يناديه باسمه الأول، وفي هذا من التكريم ما لم يحلم به أحد، وليأخذ حياته كلها بإشارة منه لو أراد، فلم يعد في الحياة شيء يجلب السعادة قدر أن يتلقى عبد الرءوف الأمر، أي أمر، وقدر أن يفني نفسه تماما لتنفيذه، وقد أصبح رضا الأستاذ أدهم من رضا الضمير، من رضا الله، الله المتجسد بكل قواه وخيره وكماله.
3
ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما.
ورواة الحواديت يقولون: كان فيه امرأة، وكان فيه رجل. ثم يحدث الحدث، ويتساءلون: الحق على المرأة أو على الرجل؟
ولكن لا الأقوال المقدسة، ولا الأساطير قد تعرضت بذكر للموقف الذي هو فيه، فهو الرجل صحيح، وانشراح المرأة، ولكن ثالثهما هو الموت.
وصحيح أنهما ينتظران معا نهاية السيدة المسجاة أمامهما، وإلى الآن وكل منهما ينتظر الموت بمفرده؛ فهي منكبة على إبر «التريكو»، وهو منكب على خواطره وبينهما ما هو أكثر من الموت، الحياة نفسها وكل ما سمعه أحدهما عن الآخر. وما سمعه عنها أشياء مرعبة لا تشجع أبدا؛ فلقد أخطأ أحد زملائه وهو يعمل معها في ظلام غرفة الأشعة مرة، وحاول لمسها، وانفتح فمها لتكتسح ظلام الحجرة ومن بعدها ضجة قسم الأشعة كله وممرات المستشفى وعنابره، حتى إن المسكين لم يجرؤ على أن يري وجهه لزملائه أو للعاملين بالمستشفى إلا بعد إجازة عشرة أيام، وكان لا يزال وجهه محمرا بالخجل حين عاد منها.
ولا بد أنها هي الأخرى سمعت عن عبد الرءوف وعن انكبابه المجنون على العمل، ذلك الذي كان له تفسير واحد عند الممرضات والحكيمات والسسترات، أنه متكبر، وأنه وهو طبيب الامتياز المفعوص يتخلق بأخلاق الجراحين الكبار، وبالذات يصنع كما يصنع الأستاذ أدهم، ويضرب بالشلوت أحيانا.
والحقيقة أن قولهم هذا لم يكن يخلو من الصحة، فقط لاحظ عبد الرءوف على نفسه أنه كثيرا ما يعبس، وأنه لم يضبط مرة متلبسا بضحكة أو كلمة هزل مع طبيبة أو حكيمة من التي تقال همسا في أركان المستشفى وما أكثرها من أركان! وإذا كان قد تعلم أن يعبس بوعي، فما أكثر ما نضح إليه من خصال الأستاذ أدهم بغير وعي منه، ودون أن يلحظ أصبح يبدأ الجمل من نهايتها كما يفعل أستاذه، وتخرج كلماته الأولى همهمات صعبة التمييز، وبنفس طريقة أدهم يترك محدثه يتكلم، ثم يفاجئه في منتصف كلامه بتحديقة فاحصة مخترقة من عينيه الواسعتين، بحيث يرتج دائما على المتحدث أو ينهار لو كان يكذب، حتى لازمة أدهم المعروفة: يا اسطى! أصبحت لازمته.
ناپیژندل شوی مخ