وأخيرا توج «النص نص» أبحاثه في خلال بضعة شهور، بأن استطاع اكتشاف نظرية جديدة لتركيب الكون؛ إذ كان الناس يتصورون الكون من خلال تصورهم للجزء الذي يستطيعون رؤيته منه، أو حتى من خلال الجزء القادرين على تصور مقياسه، والتصور البشري يبدأ من تصور جزء على عشرة مليون جزء من الملليمتر إلى ألف مليون سنة ضوئية، تلك هي المسطرة التي كنا نقيس بها الكون، في حين أن هذه المسطرة لو وضعت على المقاييس الحقيقية للكون لبدت وكأنك تضع مسطرة طولها قدم واحدة على المسافة بين الأرض والشمس؛ فهناك مقاييس نسميها أصغر بكثير من الجزء على مليون جزء من الملليمتر، ومقاييس أكبر بكثير من الألف مليون سنة ضوئية، أصغر إلى ما نسميه المالانهاية وأكبر من المالانهاية المزعومة، في حين لا توجد المالانهاية. والذرة ليست سوى كون كامل يشبه مجرتنا، والإلكترون الموجود في الذرة ليست سوى كرة أرضية بأكملها، وداخل هذا الإلكترون توجد مجموعة إلكترونية عبارة عن نواة وحولها أجسام تدور وكل جسم منها عبارة عن فلك كامل، وهكذا إلى أن تصل إلى دقائق تنجذب إلى بعضها البعض بسرعة فائقة، حتى تصل إلى الحد الأدنى من القرب، وحينئذ تبدأ تتنافر وتتباعد. وهذا هو نبض الكون؛ إذ نفس هذا النبض يحدث وبنفس السرعة للأكوان الكبيرة التي تتجاذب إلى الحد الأدنى من المسافة، لتعود تتنافر وتفقد تكوينها مكونة السديم، الذي يبدأ يصنع منه التجاذب الأصغر فالأكبر فالأكبر، حتى تتكون المجرات والأفلاك، ويحدث التجاذب من جديد. سرعة نبض الكون ثابتة، ولا يوجد أكبر أو أصغر؛ فطريق التقائه ليس سوى تجمع لذرات نراها نحن من داخلها في حين أنها من الخارج قد تكون جزءا من مادة، أو حتى جزءا من جزيء داخل في تكوين كائن حي من الصعب تصور حجمه. القانون الواحد الذي يحكم هذا الكون كله هو قانون التجاذب للتنافر أو التنافر للتجاذب، على أساسه يمكن تفسير كل شيء، حتى تفسير نشأة الحياة وتعدد الأنواع؛ فالجزيئات تظل تتجمع وتكبر إلى أن تصل إلى الحد الأعلى، فتتنافر وتنقسم وتتحدد مكوناتها الجديدة مكونة أنواعا أخرى من الجزيئات حتى يؤدي التجميع إلى الانقسام، وإعادة التكوين إلى جزيء الحمض الأميني الذي يتجمع على هيئة خلية واحدة تظل تنمو إلى الحد الأعلى، ثم تنقسم ليحدث بين مكوناتها المنقسمة وبين مكونات خلية أخرى مختلفة معها قليلا نوع من التزاوج، يؤدي إلى ظهور الحيوان عديد الخلايا. وبتكرر العملية تتعدد الأنواع، حتى تصل إلى القرود والإنسان الذي يتطور بعد هذا بسبب تطور العلاقات الاجتماعية، التي تحكم الصلة بين أفراده.
وعشرات غيرها من الاكتشافات والاختراعات، حتى إنه اكتشف فيما اكتشف دواء لمعالجة الذمم الخربة لأصحاب البيوت، بحيث إن ملعقة منه قبل توقيع العقد تستطيع أن تجعل صاحب البيت يتنازل بمطلق إرادته عن جميع الشروط الواردة بالعقد، وكلها للأسف حقوق لصاحب البيت لدى المستأجر.
وأن يعمل ويكتشف كان مسألة سهلة، كان باستطاعته أن يصل إلى ما هو أخطر، وأن يكتشف أشياء أهم بكثير من تلك، ولكن المشكلة التي كانت تؤرقه أنه لم يكن يستطيع أن يفعل بهذه الاكتشافات شيئا، كان يحملها ويذهب بها إلى أصحاب الشركات وأساتذة الجامعة والمسئولين، فينظرون إليه نفس نظرتهم إلى حيوان غريب ويضحكون، وأحيانا يقبضون عليه، ويحملونه في جيوبهم ليفرجوا عليه زوجاتهم، ويجعلوا الأولاد يلهون به بعض الوقت، وذات يوم ضاق به أحدهم إلى الدرجة التي أمسكه وقذف به من النافذة فسقط فوق رأس فلاح ما كاد يراه حتى استبشر، وقال: ياما أنت كريم يا رب! وأخذه إلى بيته في القرية وأبقاه محبوسا ستة أشهر، حتى يحين موعد القطن كفأل حسن، وحين لم يزد المحصول كما كان يتوقع أقسم أن يطعمه لحماره، ولم ينقذه في اللحظة الأخيرة إلا زوجته حين راحت تستحلفه أن يبقيه لكي يجلب لأختها العاقر الحمل. وبالتأكيد لم يستطع أن يجلب شيئا، ولكنه أفلح في الهرب، ووصل إلى حيث المعمل ومركبة الفضاء التي كانت قد تمت، وبغيظ أدار الجهاز، وبعد سبعة وثلاثين يوما كان في الكرة الأرضية المقابلة. وحين هبط فوجئ بأعظم وأروع فرحة في حياته؛ فقد وجد الناس هناك في مثل حجمه، ورحبوا به وطافوا به أنحاء الكرة وممالكها باعتباره «إنسان الأرض» الذي ترقبوه طويلا، ولأنهم كانوا يمرون بنفس الطور الحضاري الذي تمر به كرتنا الأرضية، فقد زودهم باكتشافاته التي طبقوها في الحال، وجعلت من حياتهم جنة، فأقاموا له التماثيل، وكاد قسم كبير من سكان تلك الأرض يقدسونه ويعبدونه من دون الله سبحانه، ولكنه كان في شغل عن التكريم والتقديس والعبادة بالشوق الغريزي الشديد، الذي كان يحسه لكرتنا الأرضية وقاهرته، ومصر، شوق جعله يكتشف قانونا آخر من قوانين الكون، وهو أن المادة الحية تحن إلى المواد الخام المخلوقة منها، وهكذا يحن الإنسان إلى مسقط رأسه، ويحن الجزء من الشيء إذا انفصل عنه للجزء الأكبر، حتى سفينة الفضاء تحن إلى المعمل، الذي صنعت فيه. وهكذا جاء عليه اليوم الذي لم يعد يطيق وتحايل، حتى وصل إلى سفينة الفضاء، وبكل ما يهزه من شوق شغل الجهاز، وما أروعها من أرض كروية وما يغطيها من سحابات تلك التي طالعته في صباح اليوم السابع والثلاثين! ما أروعه من شريط رفيع ينحني ويتهادى وبرفق يصب في بحره الأبيض! ما أروع مصر التي هبط في صحرائها، حيث غادر المركبة قرب أهراماتها! وما لبث أن ضاع في زحمة مدينتها يقيم حيثما اتفق ويأكل وينام كيفما اتفق، وسعادته كلها أنه يحيا على الأرض، أرضه حتى لو كان قد تخلى عن كل طموحه.
الشيء الذي لم يحسب له «النص نص» حسابا قط هو أن يستخدم أهل الأرض المقابلة معلوماته التي أعطاها لهم إلى درجة أن يصنعوا مراكب فضاء مثل مركبة فضائه، وأن يفاجأ أهل الأرض ذات يوم بسرب من هذه المركبات، وقد ظهر يحوم حول مدن الكرة الأرضية الكبرى، ويرقب الحياة التي تموج فيها. ولا تحدث عن الحمى التي اجتاحت الدنيا لهذا الحادث الخطير، ولا عن الصحافة والإذاعة والتليفزيون - خاصة في أمريكا - وقد خرجت تتحدث عن غزو الأرض، وتطلب من حكوماتها إخراج ما لديها من قنابل ذرية وأيدروجينية لاستعمالها ضد الغزاة (تماما نفس العقلية التي كانت تصنع أفلام الفضاء)، ولكن قبل أن يحدث شيء من هذا كان سرب المركبات قد هبط فوق جبال سويسرا، وخرج منه سكان الأرض الثانية في حجم عقلة الأصبع، يستعملون أجهزة الترانزستور في تضخيم أصواتهم إلى الآخرين، وفي استقبال أصوات الآخرين، واندفعت إلى سويسرا جموع هائلة من الصحفيين والمخبرين ومحبي الاستطلاع يريدون الوقوف على أسرار تلك الحضارة الراقية التي غزت الفضاء بمثل ذلك الإعجاز وغزت الأرض. وكانت المفاجأة المذهلة حين ذكر رجال الفضاء هؤلاء أن سفن الفضاء تلك ليست من ابتكارهم، إنما هي من ابتكار واحد من أهل الأرض اسمه «النص نص» من بلد اسمها مصر، كان قد زارهم في مركبة مماثلة منذ عام مضى، وزودهم بمعلومات هائلة عن المادة والحياة والأحياء، من ضمنها هذا الجهاز الذي أمكنهم به أن يتغلبوا على جاذبية أرضهم، وأن يسافروا بتلك السرعة الخارقة في الفضاء، حتى يتمكنوا من الوصول إلى بنت عمتهم الأرض.
وهكذا في أقل من ساعة كان الناس قد فقدوا الاهتمام بأهل الكوكب الآخر كلية حتى لم ينتظر أحدهم ليودعهم وهم في الطريق مرة أخرى إلى كرتهم، واندفعوا في أعداد هائلة يحجزون الأمكنة في الطائرات إلى القاهرة، حتى اضطرت شركات الطيران إلى تحويل خطوطها جميعا إلى القاهرة.
ولم ينتظر المصريون وصولهم؛ فهم منذ إعلان تلك الأنباء وجموعهم في حالة بحث دائب عن «النص نص». ولأول مرة يعترف أساتذة الجامعة الذين امتحنوه، ولأول مرة يذكره أولئك الذين ذهب يطلب منهم العمل وهزءوا به، والجميع من سائل إلى مسئول قد ركبته حمى البحث، والكل يحاول أن يتتبع الخيط، وكل خيط ما يكاد ينمو وينمو معه الأمل، حتى ينقطع فجأة، وعلى غير انتظار - حتى الفلاح الذي احتفظ به كفأل حسن وقصته معه - ثبت خيط تتبعه الناس إلى أخت زوجته العاقر، ثم انقطع تماما، ولكن كان لا بد أن تنتهي مرحلة الفوضى التلقائية تلك؛ فالأمر جد خطير للعالم كله، ولا بد من العثور على «النص نص»، ومن الشرق والغرب جاء خبراء البحث والتقصي، وأعيد استجواب كل من سبق، وكان له ب «النص نص» أي اتصال لمعرفة الأماكن التي يحبها، أو أين كان يمضي وقته، حتى خدم السلطان الذين أصبحوا مرشدين سياحيين في قصره، الذي تحول إلى متحف استجوبوهم بدقة، وكانت النتائج دائما مخيبة للآمال؛ فقد بدا أن باستطاعته أن يوجد ويعيش في أي مكان بالقاهرة أو بغيرها من المدن، في أي اثني سنتيمتر مكعب يمكنه أن يبقى إلى الأبد مختفيا. النتيجة الإيجابية الوحيدة التي خرج بها الخبراء المحليون والعالميون من بحثهم واستقصائهم أنه قال ذات مرة: إنه يجب أن يمشي على بلاج الإسكندرية، خاصة في الشتاء. وإلى هذا البلاج تحول البحث كله، ليس فقط بحث الأجهزة والإخصائيين، وإنما بحث الناس العاديين. ناس، آلاف الناس المزدحمة صيفا وشتاء لا يطلبون أسرار قوانين الكون والحركة والجاذبية، وإنما يطلبون أشياء تبدو أسهل بكثير، الأصلع يريد دواء ينبت له الشعر، والآخر الذي يريد القضاء على الشيب، والسيدة العاقر التي تنام وتحلم بالولد، والمقطوع الساق والأعمى والأعور، والأبرص، والذي به داء استعصى على الشفاء، جيوش لمرضى من أيام موسى وعيسى، ومحصول النوايا، القاهرة التي تفيض بها أضرحة المشايخ وأهل البيت، ورسائل المحبين إليهم بعدد سكان الأرض وسكان مصر، لكل كونه المفقود الذي يبغي العثور عليه، عالمه الطلسمي، الذي يود لو عرف قوانينه، والجماعات - جماعات وأفرادا - في حالة بحث دائب، في الصيف وفي الشتاء، في الربيع وفي الخريف، إلى أقصى ما يستطيع أن يصعر كل منهم خده ويكبش من الرمال ويغربل، عله هذه الكتلة، عله تحت هذه المحارة، عله في كومة حشائش البحر تلك، عله من تلقاء نفسه يظهر غدا، ومن كل صوب تنهال الاتهامات: السبب أساتذة الجامعة الذين لم يعيروه اهتماما، السبب البيروقراطية والبيروقراطيون الجالسون فوق المكاتب يمنعون العبقريات عن الظهور، بل كلنا مسئولون، هكذا كتب صحفي كبير عن الجريمة، كلنا أهملناه واحتقرنا شأنه، وها نحن اليوم نقلب الأرض بحثا عنه، كلنا مسئولون. •••
وعن الجماعة التي اتجهنا إليها صدرت صيحة، وكأنها صيحة رعب، تلتها اندفاعات وصرخات واستغاثات كأصوات الهنود الحمر حين تهجم أو فرق الصاعقة، وفجأة أيضا وجدنا المجموعة وقد استحالت إلى كتلة بشرية متكورة، كتل متضاربة متصارعة صارخة مولولة ممزقة ممزقة. لا تحسبن أنهم عثروا عليه، فهكذا الحال دائما، إنه واحد منهم خيل إليه أن قطعة الطين التي اصطدمت بها يده هي «النص نص»، وتسابق الآخرون ينتزعونه منه. تلك كانت آخر كلمات صديقي، ليس في ذلك اليوم فقط، وإنما في كل الأيام؛ إذ ما لبثت الكتلة البشرية أن راحت تتضخم وقد فقد الكل عقله، ولم يكن هناك أحد ليتابع؛ فمنذ اللحظة الأولى يتحدد الوقت وقد كتب عليك الصراع: إما صراع من أجل الحصول على «النص نص» المزعوم، أو صراع من أجل استخراج نفسك من كثرة البشر المتزايدة المتضخمة المهددة بفعص كل من يقربها أو تقربه. وفجأة تطلعت فلم أجد صديقي، كانت الكرة قد ابتلعته ولم أره إلا في اليوم التالي بين عشرات الجثث الممدة فوق رمال الشاطئ.
لم تكن آخر كرة بشرية تتكون أو أول كرة؛ فهكذا الحال دائما وكل بضع ساعات أو أيام تحدث الصرخة التي يعقبها التدافع والتكور والفعص.
أما «النص نص» فمنذ أن عاد إلى الكرة الأرضية ووطئ بقدميه القاهرة، فلم يعرف له أحد مكانا، البحث قاد حقيقة إلى مركبة فضائه التي استعملها، أما أين وكيف يعيش الآن؟ فذلك لغز لم يستطع أحد ولن يستطيع حله، من يدري ربما يكون هذه الكتلة البارزة من الرمل أو من التراب، ربما تحت هذه المحارة أو أسفل كومة الحشائش، ربما في جيبك أنت، وأنت لا تدري.
النقطة
ناپیژندل شوی مخ