وهو بذلك إنما يتابع التوراة، ويعني ببيت المقدس «بيت إيل الفلسطيني»، ولكن لأن للحقيقة أقدامها الثابتة، فقد نفذت في رواية ابن كثير، تلك الحقيقة التي - لا شك - تواترت محفوظة في ذاكرة الأجيال، حتى وصلته شفاهة أو مدونة، أقصد بتلك الحقيقة اسم تلك الأرض التي توجه إليها النبي عندما غادر مصر، التي ذكرها ابن كثير باسم «التيمن»، والمدقق لا يجد التيمن في فلسطين، وإنما يجدها ترجمة للمعنى الوارد في التوراة أن النبي عندما خرج من مصر «توجه جنوبا»، فالمسعودي وهو يلبس ثوب أستاذ الجغرافيا، ويشرح لنا تضاريس الأرض وحدود البلدان والبحار، نجده يستخدم مصطلحين للدلالة على الجنوب، الأول هو «يمن» أما الثاني فهو «تيمن»،
3
ثم نلجأ للمتخصصين في أركيولوجيا اليمن نستقرئهم عسانا نجد المبتغى، فنجد «فرتزهومل» يحدثنا عن الموضع «يمنت» على الشاطئ الغني بالبخور جنوب حضرموت القديم،
4
و«يمنت» بالقلب هي «تيمن»!
كما لا يغيب عن الفطن أن الكلمة «تيمن» والكلمة «يمن» تشتركان في جذر واحد في حال كون «تيمن» اسما، أما في حالة حسبانها فعلا (مع تشكيل حركات حروفهما بالفتح)، فستكون فعلا ماضيا يعني اتجه إلى اليمن، ارتحل جنوبا، وتيمن بالشيء سعد به واستبشر وبلاد اليمن هي بلاد العرب السعيدة، أو بلاد السعد.
ثم تقول التوراة: «وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب، وسكن بين قادش وشور» (تكوين 20: 1)، وتكرر التوراة الإشارة إلى الموضع «شور» عدة مرات، كموضع أو مدينة شهيرة في تلك البلاد الجنوبية التي ارتحل إليها إبراهيم (انظر كمثال: تكوين 16: 7؛ وأيضا 25: 18؛ وأيضا 20: 1)، ولأن الباحثين لم يعيروا مسألة الخروج من مصر إلى الجنوب اهتماما، فقد أخذوا بالقول التوراتي، وحسبوا وجهته إلى «بيت إيل» الفلسطيني، ومن ثم افترضوا أن المقصود من «شور» هو بلاد آشور الرافدية شمال شرقي فلسطين، وكانت تتمركز آنذاك في الجزء الشمالي من بلاد الرافدين.
ومما يشكك لدينا في كون «شور» قصد بها دولة «آشور» الرافدية، فهو قول التوراة في موضع آخر «شور التي أمام مصر» (تكوين 25: 18)، بينما بلاد آشور لا تقع في الطريق إلى مصر، ولا أمامها ولا خلفها، ثم إن التوراة في مواضع أخرى كانت تتحدث عن بلاد آشور بالكلمة «آشور» وعن أهلها ب «الآشوريين»، وليس «شور»، ومن ثم تساءلت: لماذا لا تكون شور حسب أطروحاتي موضعا باليمن، وتكون بذلك من خير القرائن على صدق فروضي؟ وبالفعل أخذت أبحث عن «شور» في بلاد اليمن، وجمعت المعلومات الجغرافية القديمة وإحداثيات الأماكن، ووزعتها على خريطة اليمن، مؤسسا ذلك على فرض أن المصريين الذين تواجدوا في جزيرة العرب (الجراهمة العمالقة بني منف) قد سكنوا اليمن أول أمرهم، وسبق أن أشرنا للمسلمات الموروثة التي سجلها المسعودي وابن هشام في كون العمالقة من بلاد اليمن، وأن على هذا الفرض تتأسس فروض جزئية أهمها أن هؤلاء العمالقة كانوا سببا في إطلاق اسم مصر على منطقة سكناهم في بلاد اليمن السعيد، لكن جهودي ضاعت هباء وأنا أرهق النظر والجهد في خريطة تلو أخرى، وكدت أصرف النظر عن هذا الأمر حتى جاءني الدليل، وأنا أقلب في صفحات موسوعة «د. جواد علي» وهو يؤرخ لدولة قتبان اليمنية القديمة، ويقول: إن أهم المدن القديمة فيها وأكثرها شهرة، كانت مدينة «شور».
5
وعليه يصح ممكنا تدعيم الموقف بمزيد من الأدلة التي أخذت تتتالى وتفرض وجودها.
ناپیژندل شوی مخ