22
وهكذا لا نرى المسألة قد حلها «الثعلبي» أو «ابن كثير» رغم اجتهادهما، ورؤيتهما الاحتمالية لموطن إبراهيم عليه السلام بين «حاران» وبين «أور»، ولا حلها القس «ماير» بتخلصه السريع الفكه، ولا حلها الدارسون المحدثون في علوم التوراة، وضربنا منهم مثلا بالأستاذين «دي فو» و«فيلبي». وعليه فتبقى الإشكالية تطلب حلا، ممثله في التساؤل: هل كان موطن النبي إبراهيم عليه السلام هو: «أور الكلدانيين»، أم «حاران»، أم «أرام النهرين» أم «فدان أرام»؟ وهل كان في أقصى جنوب العراق على الحدود العربية؟ أم في أقصى الشمال داخل الحدود الأرمينية؟
المبالغات والتلفيقات
تأتينا في القرآن الكريم مزيد من الأخبار عن النبي إبراهيم عليه السلام، لم تعرفها التوراة بالمرة، لعل أهمها أن إبراهيم عليه السلام كان موحدا، بينما كان أبوه عابدا للأوثان صانعا لها. هذا إضافة إلى قصة تكسير إبراهيم عليه السلام لأصنام قومه، وما ترتب على ذلك من حدث إلقائه في النار، ونجاته منها بأمر الله بلطف منه. وما دار بينه وبين «نمروذ» من جدل حول صحيح العقيدة مع شروح أخرى كثيرة، وإضافات أكثر جاءت بكتب التراث الإسلامية، بعضها ترديد للقصص القرآني، وبعضها ما أنزل الله به من سلطان، ويعد من قبيل الشغف بالمبالغات. وأكثرها لم يرد له في التوراة ذكر، وبعضها الآخر نوع من الإسرائيليات الواضحة التي أخذها الإخباريون المسلمون دون تحقيق أو تدقيق، لذلك رأينا التوقف هنا للتعرف على الصورة التي خططها هؤلاء للنبي إبراهيم عليه السلام، وهي تتعلق في رأي أصحابها، بالفترة التي قضاها الخليل في موطنه الأول قبل هجرته إلى أرض كنعان.
تقول هذه الروايات: إنه ما إن استقرت البذرة الإبراهيمية المباركة في بطن أم إبراهيم عليه السلام، حتى لاحظ القوم أن الأصنام قد نكست رءوسها (؟!)، وظهر وقتها نجم في السماء له طرفان
1
وأن الدارس للأساطير وتاريخ الأديان يمكنه أن يلحظ، دون جهد، أن مثل هذه الإضافات المبالغة، تلحق بقصص الأبطال الأسطوريين لدى الشعوب القديمة وبشكل متواتر، حيث كان لابد أن تسبق ميلاد البطل إشارات ونبوءات، من نوع الخوارق الطبيعية للإعلام بمقدمه، فمثلا إله فارس القديم «ميثهرا» صحب مولده نجمة بذيل عظيم، كذلك «نيرون الروماني»، كذلك «زرادشت» المزعوم أنه نبي فارس، كذلك قاد شعاع هذه النجمة المجوس إلى حيث ولد «يسوع المسيح» حسب رواية الأناجيل ... إلخ.
وعندما ولد النبي إبراهيم عليه السلام كان يحكم بلاد الرافدين الطاغية «نمروذ الجبار بن كنعان» الذي ادعى الألوهية. هذا ما ترويه كتبنا التراثية، وقد بحثنا عن اسم «نمروذ» في قوائم ملوك العراق القديم، فلم نظفر بنتيجة وطاشت جهودنا، غير أننا لحظنا وجود منطقة آثارية يطلق عليها هذا الاسم «نمروذ»، ومن الواضح أن هذا الاسم قد أطلق في بداية العصور الإسلامية تأثرا بهذه الروايات، ومن المعلوم أن هناك أسماء كثيرة وغفيرة قد أطلقت على مواضع مختلفة في كثير من البلدان نتيجة لمثل هذه الروايات، وفقدت أسماءها القديمة، أو أصبحت الأسماء القديمة علامات تاريخية في كتب المؤرخين والآثاريين المتخصصين فقط، وكثير من مواطن فلسطين والشام والعراق قد أعيدت صياغة أسماء المواضع فيها أكثر من مرة، وكان للتسميات التوراتية بالتحديد نصيب الأسد في هذه المعمعة التلفيقة.
وتستمر الروايات فتقول: إن «نمروذ» قد غالى في طغيانه، وأخذ يجبر الناس على عبادته. وذات يوم ذهب إليه كبير كهانه وعرافيه؛ ليعلمه بأنه قد آن أوان ميلاد شخص جليل، وأنه على يدي هذا الشخص سينتهي شأن النمروذ، فما كان من هذا الملك الطاغي إلا أن أمر بتقتيل جميع الذكور الذين ولدوا في هذا العام، ولنلحظ مرة أخرى أن البطل في القصص القديم عادة ما كان يتعرض لمحنة القتل والموت، وحتى يكون بطلا فإنه لابد أن يجوز المحنة ويقضي على الطاغية، الذي يمثل دور الشر في الأسطورة، إضافة إلى العنصر الدرامي الثالث وهو النبوءة، التي عادة ما يمثلها كاهن شرير لديه قدرات خرافية على رأسها معرفة الغيب، ومن ثم يحاول الملك الشرير أن يبطل مفعول النبوءة السحري بالتحايل على القدر، أو محاولة التغلب عليه، لكن القدر بالمرصاد، ولابد أن ينتصر الخير على الشر، فينجو الطفل من المذبحة لتكتمل فصول الملحمة القدرية. والدارس للأساطير القديمة يلحظ بوضوح سيادة فكرة القدر في القصص الميثوبي، فهذا «سرجون الأول» ملك أكاد يتعرض للمحنة، فتلقي به أمه في صندوق من القش في مياه النهر.
2
ناپیژندل شوی مخ