ظلت الشفتان تتحركان وتتمتمان، وبقيت العينان على السطور السوداء. - أنا ابنك الذي عدى البحر قبل سنوات، رجعت من رحلة الدرس والتحصيل لأغرس بذور علمي في أرض أجدادي، وأصب في نهرها شحنة طاقتي وجهدي، وأقيم جسرا بيننا وبين الآخرين ...
لا حركة ولا صدى، كأني أتكلم بلغة أخرى أو كأني أكلم نفسي في منام غامض طويل ... - أنا لم أنسك يا أبي أبدا، كنت هناك أفكر فيك ليل نهار. وكنت أتذكر كلمتك لي ذات يوم: لو نجحت في الفلفسة - كما كنت تسميها متعمدا أو ساخرا - فسوف آكل مع الكلاب في وعاء واحد. ابنك أصبح دكتورا في الفلسفة يا أبي، ولست مضطرا للأكل مع الكلاب. أعرفك أيضا أنه تم تعييني بالجامعة، وسوف أبدأ التدريس فيها عن قريب ... هل سامحتني يا أبي؟ هل رضي قلبك علي؟ - وقبل أن يصلني نبأ رحيلك بأسابيع قليلة، أرسلت إليك بالبريد المسجل أشياء تصورت أنها ستدفئك في ليالي البرد الشديد. كنا في فبراير أو مارس، وأنا أرتجف في جو حرارته تحت الصفر بكثير، فكرت أن أدفئك معي، فأرسلت غطاء للرأس من الفراء وقفاز من الجلد السميك وغطاء للأذنين وشرابا من الصوف ... وكم حزنت يا أبي حين عرفت أنك ودعت الحياة قبل أن تصلك رسالتي، التي تعثرت في البريد الحكومي الكئيب. وسمعت أيضا من أخي الأكبر أنك كنت تسأل عني أحيانا، عندما تتذكر ابنك الذي عبر البحر من سنين ... - هل أقول لك أيضأ ما قاله ابن شقيقي الذي كان يلازمك في أيامك الأخيرة؟ قال لي إنك تذكرتني فجأة في آخر لحظاتك. كنت يا أبي تحتضر. مال ابن الأخ الصغير على صدرك، ووضع أذنه على شفتيك التي لم تكف عن الحركة حتى النهاية. كنت تتلو آيات من الكتاب، ثم تدعو لابنك الذي عدى البحر - وإن لم تتذكر اسمه أبدا - بأن يرجع بسلامة الله ... فأي عزاء تركته لي طول العمر، أي عزاء! - وما زلت يا أبي صامتا وبعيدا، كأنك صممت ألا تسمعني أو تنظر إلي نظرة واحدة ... متى يا أبي ترد علي؟ متى تجيب عن أسئلتي أو تنطق بكلمة تدل على أنك عرفتني؟ عيناك مطرقتان ومثبتتان على المصحف بين يديك، شفتاك تتحركان وتتمتمان بالآيات الكريمة دون توقف. وأنا واقف أمامك كأني أصرخ من داخل غيمة أو سحابة كثيفة تطويني ... وما زلت يا أبي، أصرخ كما فعلت طول العمر، وأهتف كشبح عاجز مخبول: كلمني يا أبي ... رد علي! متى بالله عليك تراني وتجيب سؤالي؟ متى؟ ... متى يا أبي؟
يوسف والجب
رأيتني فجأة في غيابات الجب. هتف هاتف من فوقي: أنت الآن في الجب الذي ألقي فيه يوسف! ثم أردف بصوت متحشرج ومخيف: اعلم أنك أنت نفسك يوسف! أفزعني الصوت، كما زادني الظلام رعبا. كان أول ما فعلته أن أطمئن على خلو الجب من الحيات والثعابين والعقارب والحشرات. ولما استراح قلبي، عدت بالذاكرة إلى ما قبل وقوعي في هذا الجب، أو هذا البئر الملعون. بدا لي كل شيء غريبا لا يصدق، فأنا لم أكن أرتع وألعب مع إخوتي، ولم يكن بيني وبينهم شيء حتى يكيدوا لي. ثم إن ذهني خال تماما عن يعقوب، وأستبعد أن يكون هذا اسم أبي الذي أعلم تمام العلم أنه مات منذ أكثر من أربعين سنة، عندما كنت أعيش وأدرس في الغربة. وأما عن الذئب الذي قال الإخوة لأبيهم إنه قد أكلني، فأنا واثق أنه بريء من دمي، وأن التهمة نفسها تثبت أن البشر أنفسهم ذئاب أفظع وأبشع من كل الذئاب. لكن ما العمل إذا كان الصوت الهاتف يؤكد أنني وقعت في الجب. وها هو ينطق من جديد لينذرني، ويحذرني من أن أشك لحظة واحدة في أنني يوسف نفسه؟!
لم يكن أمامي إلا أن أنتظر. مددت قدمي في الفراغ المعتم، وأسندت رأسي إلى الجدار الصخري، وقلت لنفسي عسى أن يأتي بعض السيارة فيلتقطوني. ما هي إلا لحظات حتى صدق ظني، وسمعت همهمات بشر وثغاء جمال وأصداء هتاف وصياح، تتناهى إلي في سجني السفلي العميق. اقتربت الأصوات المتداخلة من حافة الجب، ورأيت فيما يرى النائم أكثر من وجه بدوي صلب الملامح، يطل علي من أعلى. بادرت بالصراخ بأعلى نبرة تقدر عليها حنجرتي وصدري ورئتاي، اللتان خيل إلي أنهما امتلأتا بالتراب والرمال: أخرجوني من هنا! أرجوكم أخرجوني! ...
ملأ الوجه العريض الذي أحرقته الشمس فتحة الجب، وأخذ صاحبه يسألني: من أنت، ومن الذي رماك هنا؟ - أنا يوسف. أنا الذي ألقوه في غيابات الجب وتركوه. أنزلوا الحبال حتى أصعد إلى الأرض، وأرى الشمس، وأتنفس الهواء ... - ليس قبل أن تحكي لنا قصتك. قبل أن تروي لنا رؤياك ... - وماذا أحكي لكم وكل شيء مأثور ومعروف. أنا الذي رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين.
رنت ضحكة مجلجلة سرعان ما أعقبها سؤال ساخر: وماذا أيضا؟ هل ستقول إننا نحن السيارة الذين سنمر عليك وندلي دلونا، ويصيح فينا صائح: يا بشرى هذا غلام، ثم يشتريك شار من مصر يربيك ويسلمك لملكها فتعيش في قصره؟
صحت، وأنا أشد منه خيط القصة وأهتف: نعم نعم، وتراودني امرأة العزيز عن نفسي وينجيني الله منها، وتقطع النسوة أيديهن حين يذهلن بجمال وجهي، وأتهم وأدخل السجن، وألقى هناك فتيين أعبر لهما الرؤيا ...
تعالت ضحكة الوجه المطل علي من أعلى، ثم انتشرت كالدوامة بين الرعاة المتحلقين حوله: وربما تدعي أيضا أن فرعون جعلك وزيرا، وائتمنك على خزائنه، ومكن لك ولإخوتك في الأرض بعد أن نجحت خطتك في إنقاذ مصر من المجاعة، ولم تسمح للبقرات العجاف أن يأكلن البقرات السمان.
قلت في صوت تبلله الدموع: المهم الآن أن تخرجوني من هنا. أنزلوا الحبل حتى أصعد إلى الهواء والنور. كل ما قلته وتقولونه مأثور ومعروف حتى لأصغر الأطفال ...
ناپیژندل شوی مخ