كأسك المرة يا حبيبتي المستحيلة التي يراها بالصدفة كل سنة كل سنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس: تحفك المرارة من الجانبين، تسبق خطاك وتمشي مع ظلك، تتحرك مع حركة قدميك وذراعيك، مع لفتاتك ونظرات عينيك حين ترفعينهما وحين تخفضينهما، مع ما تقولينه لمن يصحبك وما تفكرين فيه. مرة أنت والمرارة تحيطك وتغمر ما تكونينه وما تملكينه وما ترتدينه - وهو - إذا رآك مرة بمعجزة الصدفة، يسألك في سره ويسأل نفسه: مرة أنت ولكن، هل تدرين أنك عندي عذبة، وعذوبتك هي أعذب ما رسخ في نواة كياني التي تشرب كأسك المرة في الصباح ... تشربها في الليل ... تشربها حين يراك وحين لا يراك، تشربها وتشربها وتشربها؟
أصبحت الآن أما وأصبحت جدة، ربما أحلت للمعاش أو أحلت نفسك إليه، وانسدت للأبد الآبد كل الطرق إليك، والرجل الطيب المكتئب كم تمنى - كلما رآك وأسعفت الصدفة البخيلة - لو يستطيع أن ينادي باسمك، أن يوقفك لحظة ليسلم عليك وتلمس يده يدك. وكم يشرب كأسك المرة حين ينقض عليه التصور القاتل بأنه سيحتضر يوما من الأيام قبل أن يقلب عينيه في عينيك، وتلمس يده يدك، ويسألك الصفح عن الحرج الذي وضعك فيه وسط الطريق. وهو يحتضر سيشرب كأسك المرة، كأسك المرة، حين يتذكر أنهم سيلقونه في الكفن ويضعونه في القبر، ويغلقونه عليه قبل أن يقلب عينيه في عينيك، وتلمس يده يدك، ويسألك عن أحوالك وأولادك، ويطلب منك السماح والغفران ...
كأسك المرة يا حبيبتي البعيدة المستحيلة يشربها ويستغيث بك، ثم يخطر بباله - والجسور كلها مقطوعة ومعدومة بينه وبينك - أن الغرقى القدماء كانوا يرسلون رسائل استغاثة في زجاجات يلقونها في البحر، وحين ترسو بها الأمواج على شاطئ يقرؤها من يتصادف وقوفه على الشاطئ وعثوره عليها، فيفكر - مجرد تفكير - في أن يهب لنجدتهم ويستجيب لاستغاثتهم، وذلك بعد أن يكونوا قد غرقوا وشبعوا موتا ...
الرجل الطيب المكتئب ذو الشعر الأبيض كالثلج، يضع رسالته في زجاجة، زجاجة يلقيها في البحر، ويجرفها الموج بعد أيام أو شهور أو بعد سنين إلى الشاطئ. لكن من يضمن حتى في الحلم أن تكوني أنت هناك، واقفة على الشط حين تصل الزجاجة إلى يديك، وحين تفتحينها وتعرفين أنها موجهة لك أنت - لك أنت وحدك - يا كأسي المرة التي أشربه في الصباح، أشربها في المساء، وأشربها حين أكتب كتبي السخيفة، وحين أسود قصصي ومسرحياتي التي لم تحرك ماء راكدا في البحيرة، ولم تترك صدى واحدا في كهف وجودنا الخانق البليد، ولم تصل أبدا إليك أنت يا كأسي المرة مع أنها لم تكتب إلا لك، ولم تكن إلا لأجلك ومن وحيك.
كأسك المرة ... الرجل الطيب المكتئب يرسل إليك استغاثة في زجاجة لن تصل إليك ... يحتضر دون أن يخاطب لسانه لسانك، أو تلمس يده يدك ... يموت ويغلقون عليه قبره قبل أن يسألك الصفح والسماح والغفران قبل أن يكلمك، قبل أن يلمس يدك ...
كأسك المرة يشربها ليل نهار، وصبح مساء. يشربها حين يئن من المرض، وحين يكتب ويكتب ويكتب ما لا تقرئينه أبدا، ولا يصل إليك، ولن يصل إليك ...
يشرب كأسك المرة في الصحو والنوم، في الحركة والسكون، في الحلم والعلم، يشربها ويشربها ويشربها.
1
القبر الجديد
اللحظات التي قضاها في قبره الجديد في الظلام والصمت، في قلب الظلام والصمت، في القلب الغائر الدفين، كانت لحظات فارقة في حياته وفي أيامه الباقية. كان جمع الأهل المحتشدين أمام الضريح الحديث البناء، قد فوجئوا بفعلته العجيبة الغريبة. فبعد أن عاين المكان، وتأكد من متانة السور العالي والبوابة الحديدية، وبعد أن ضحك كثيرا مع شقيقه الأكبر من ضخامة القفل الذي وضع عليه، وتساءل بصوت مرتفع: وما الداعي للقفل والراقد في الداخل لا يمكنه أن يخرج، والواقف في الخارج لا يريد الدخول؟ وسط كلمات الإعجاب بفخامة البناء، وبذمة البنا وصنعته البارعة، وبينما الجميع يتابعون ملاحظات الدكتور على الموقع والطلاء، والرخامة المحفورة داخل واجهة القبر وعليها بالخط الكوفي البديع نقش بارز باسم الميت المرموق وصنعته ومكانته: ... أستاذ التاريخ والحضارة بكلية وجامعة، وتحتها مسافة فارغة لوضع اليوم والشهر الهجري والميلادي والسنة للمتوفى الذي لم يتوف بعد. بعد كل ما سبق فوجئ الجميع بفعلته العجيبة الغريبة التي تمت في أسرع من لمح البصر. أذهلت المفاجأة المدهشة الجميع، فلم يستطع أحد أن يمنع الميت - بالقوة لا بالفعل - من أن ينفذ بسرعة الريح من الفتحة الكبيرة للقبر الجديد الذي فرغ من معاينته، وصار من الواضح أنه رضي عنه كل الرضا. لم يكن الجمع الحائر الذاهل يفيق لما حدث، ويفتح العيون غير مصدق، حتى تعالت الأصوات الحميمة المشفقة: حاسب يا دكتور ... الأرض ما زالت طرية ومرشوقة بالزلط والحصى ...
ناپیژندل شوی مخ