الجزء الأول: من نبع الشعر
مركب شراعي
هل ضحك الجسر؟
النبع القديم
اثنان
الصبي الذي كان يحمل اسمي
نيشت فيرشتاندن
أغنية النساجة في الليل
أمثولة الخواتم الثلاثة
نافورة
كأسك المرة ورسالة استغاثة في زجاجة البريد
القبر الجديد
كل شيء يفنى إلا الفناء
قرطبتي وحيدة وبعيدة
البالونة
رسائل حب
إلى أمي الحبيبة
الغسل
أيتها الأميرة الصغيرة
غناء الشحرور
الغراب
انتظر فسوف تستريح
الملاك الجريح
الجزء الثاني: من نبع العمر
التوائم الثلاثة
عندما بحثت عنهما
تحت الخيمة
يوسف والجب
كبرية
ستي ستيتة
القلم
مع أبي
أمام الفرح
مع أمي
النبوءة
أحمس ...
أول فيلم
العتبة
الخروج من الكهف
محرقة الشعر
القارئة الحجرية والمومياء الجرمانية
عدم ... عدم
كوجيتو مصري
الجسور
هذا البلد مكاني ... هذا الزمن زماني
الرجل الصغير، والبدء والمصير
الجزء الأول: من نبع الشعر
مركب شراعي
هل ضحك الجسر؟
النبع القديم
اثنان
الصبي الذي كان يحمل اسمي
نيشت فيرشتاندن
أغنية النساجة في الليل
أمثولة الخواتم الثلاثة
نافورة
كأسك المرة ورسالة استغاثة في زجاجة البريد
القبر الجديد
كل شيء يفنى إلا الفناء
قرطبتي وحيدة وبعيدة
البالونة
رسائل حب
إلى أمي الحبيبة
الغسل
أيتها الأميرة الصغيرة
غناء الشحرور
الغراب
انتظر فسوف تستريح
الملاك الجريح
الجزء الثاني: من نبع العمر
التوائم الثلاثة
عندما بحثت عنهما
تحت الخيمة
يوسف والجب
كبرية
ستي ستيتة
القلم
مع أبي
أمام الفرح
مع أمي
النبوءة
أحمس ...
أول فيلم
العتبة
الخروج من الكهف
محرقة الشعر
القارئة الحجرية والمومياء الجرمانية
عدم ... عدم
كوجيتو مصري
الجسور
هذا البلد مكاني ... هذا الزمن زماني
الرجل الصغير، والبدء والمصير
النبع القديم
النبع القديم
لوحات قصصية
تأليف
عبد الغفار مكاوي
إلى ذكرى أمي وأبي.
الجزء
من نبع الشعر
مركب شراعي
قادتني قدماي من مسكني في جزيرة الروضة إلى شارع البحر الأعظم.
كم أحببت السير في هذا الشارع الكثيف الظلال والشجون، هذا الشارع الذي لا تسلط عليه شركة الكهرباء أنوار مصابيحها التي تفضح الأسرار، وتطارد همسات القلب المتعب وهواجسه. كنت - كالعادة - أفضل السير والسرى في هذا الشارع، الذي لم يسموه عبثا بالبحر الأعظم. فأنا أقترب فيه من نفسي الممزقة من عناء العمل ومتاعب الحياة، أحاورها وتحاورني، وأجد الفرصة السانحة لمحاسبة الماضي والخروج من نفق الحاضر الخانق، والتفكير على مهل وبلا وجل في المستقبل - هنا أيضا لا يزعجني أحد ولا أزعج أحدا - فالمارة قليلون جدا، والأكواخ المبنية من اللبن أو من أعواد البوص تضفي على الشاطئ روح الخشوع والتواضع، وتعين الحائر على الرجوع إلى الذات. وما أكثر الهموم التي كنت في أشد الحاجة لأن ألقي بها في ماء النيل المنساب إلى جانبي كشيخ وديع ووقور، أو لأن ألفها في الظلال التي تحوطني من كل جانب كأن يد أم حنون تنشر عباءتها على جسدي وروحي. وها أنا ذا أفكر في هذه الهموم، وأفتش عن وسيلة للخلاص منها حتى أستطيع السير على طريق الحياة بلا قيود ولا أغلال؛ غدر زملائي في العمل، وكيدهم لي بتقديمي إلى التحقيق في تهمة ظالمة وكاذبة، تخلي خطيبتي عني وتركها الدبلة والهدايا مع أمها، وإعلانها عن رفضها حتى لرؤيتي أو التفاهم معي على هذا القرار المنفرد، تعثر حياتي الأدبية وشعوري المتزايد بأنني غير موفق، ولا أجد نفسي في مئات الصفحات التي أسودها وأسهر عليها، وأحيانا تقتضيني أن أذرف دموعي عليها فتبتل كأوراق الخريف الذابلة في يوم مطير.
لفت انتباهي صوت غناء يطرق سمعي من جهة النهر. اقتربت من الشاطئ، ونزلت الدرجات المهترئة المبنية من الحجر الجيري لأكون قريبا من الصوت وصاحبه. جذبني هذا الصوت الذي يطلق الأغنية المعروفة «سلمى يا سلامة» بطريقة مؤثرة وإن خلت من العذوبة. وأمامي وبالقرب مني كانت تمر على مهل شديد، مركب شراعية متوسطة الحجم ومحملة بأكياس رملية وألواح خشبية وأدوات حديدية مختلفة، والمراكبي الذي يذهب ويجيء على متنها، ويرسل عقيرته بالغناء الخشن، يدفع بالمجداف في قاع النهر؛ ليحرك مركبه الذي لا تقوى النسمات الضعيفة على ملء شراعه في هذا الوقت الذي يسوده السكون، الذي شمل كل شيء.
تعلقت بالمشهد، ووقفت أمامه خاشعا وذاهلا، كأنني أتابع موكبا مقدسا يمر في صمت في طريقه إلى معبد مقدس. يا للراحة التي غمرت أحاسيسي وأنا أتابع المركب الشراعي، وأبتسم لمرأى المراكبي الذي أخذت أتعاطف معه، وأشعر بالجهد الخارق الذي يبذله وهو يدفع مجدافه في الماء، فيتحرك المركب إلى الأمام. ويا للإعجاب الذي تملكني وأنا ألمح من على البعد عظامه البارزة من جلبابه القديم، الذي يشبه الخرق البالية، وأقدر مدى الجهد الذي يتكبده والألم الذي يعانيه، ويحاول مع ذلك أن يصرفه بغنائه الأجش الذي ينفذ في القلب.
هذا هو المركب الشراعي - البدائي سليل مراكب الأجداد القدماء - يتحرك النيل الهائل من تحته، وتهتز السحب والنجوم من فوقه. إنه يترك نفسه للنسمات الخافتة الرقيقة التي تلمسه وتكاد تتأوه من عجزها عن تحريكه، وهو يمضي في سبيله إلى الأمام، وينطلق في هدوء إلى البعيد البعيد. وها هو أمام عيني يترنح في دلال، وربما باعتزاز وفخار، كأن يد القدر هي التي تحركه. ويمر ويعبرني، أشبه بإوزة كبيرة أو بجعة فاتنة مختالة بنفسها، أو فراشة كبيرة هائلة الحجم تسكرها النسمات، وتهدهدها الأمواج، ويستحثها الغناء، فتسبح في طريقها غير عابئة بشيء حولها ولا وراءها ولا أمامها. آه! هل هو مركب شراعي وحسب، يسوقه مراكبي فقير متعب، يداري همه بالصوت الظمآن إلى عين الحبيب وحضن الابن والأب والأم بعد السفر والغياب؟ أم هو قارب سماوي يصعد منسابا على أجنحة الحرية، ويضيء ظلمات وجداني، ويهش وطاويط الهموم التي تتخبط في روحي وتعشش في ذهني؟
لا ... لم يكن أبدا مجرد مركب شراعي!
ذلك الذي رأيته وعشته ذات مساء وأنا أنقل قدمي الثقيلتين على الشاطئ الهادئ، في شارع البحر الأعظم.
1
هل ضحك الجسر؟
في هذا العنوان مبالغة شديدة؛ فالجسر الذي أقصده لم يكن يطلق عليه أحد كلمة «الجسر»، التي تعلمتها في المدرسة. الذي كنت أعبره كل صباح وكل مساء في ذهابي إليها، وعند الإياب. لقد كان مجرد معدية بدائية أو كبري متواضع الحال، بناه الأجداد قبل أن أولد. ثم إنني لم أسمعه يضحك أبدا؛ إذ كان على الدوام لا يكف عن الشكوى والبكاء؛ تطقطق أضلاعه الخشبية العتيقة كلما مشى عليه الفلاحون في طريقهم إلى الحقول وعند عودتهم منها، ومعهم أبقارهم النحيلة بعيونها البريئة الصافية، وجواميسهم ذات الأجساد السوداء الضخمة، وحميرهم الصابرة المسكينة التي تميل بأفواهها على آذان بعضها لتسأل - فيما تقول الحدوتة القديمة - سؤالها الذي لا ينقطع منذ الأزل وإلى الأبد: متى يصل ملاك الحمير؟ بالطبع لا يعرف أحد غيري أن الجسر يشكو أو يئن بالبكاء، كلما مر حمل ثقيل يقطع أنفاسه، ويغرز قوائمه الحديدية الصدئة في ماء الترعة المواجهة لبيتنا. لكنني كنت أتعاطف معه إلى حد الاندماج فيه، واستشعار مواجعه وآلامه التي يكتمها في صمت. كنت أستقبله كل صباح كأنه صديق عجوز، أحن دائما للقائه وسماع حكاياته، ومواساته في أحزانه. تمر يداي على سوره الخشبي الذي يترنح من أي هزة بسيطة، وأسير عليه في تؤدة وبطء حتى لا تؤلمني طقطقة ضلوعه، التي ترتفع كلما عبره موكب الأبقار والجواميس والحمير والفلاحين في رحلة شقائهم اليومية. بل إنني كلما تلفت حولي ولم أجد أحدا غيري، كنت أجاذبه أطراف الحديث - كما علمنا مدرس اللغة العربية - أسأله عن أحواله، وأهون عليه كربه، وأعزيه بالأمل البعيد في أن يجدده مجلس القرية أو يشمر أهلها الطيبون عن سواعدهم، ويبدلوا ألواحه المهترئة وأرضيته الطينية المليئة بالنقر والمطبات بألواح وأرضية أخرى جديدة. وكم كنت أبكي معه عندما ننفرد في الليل، ويبثني أحزان يومه وعذاب أمسه ويأسه من غده. وكم تهورت في وعودي له، وبشرته بأنه سيعيش حتى يرى السعادة، ويعوض أيام الصبر والأسى بساعات، أو ربما بأيام ينطلق فيها بالضحك حتى يهتز ويميل، ويبادل أمواج الترعة ضحكا بضحك، وغناء بغناء. ولكم منيته أيضا بأن العصافير والهداهد ستحط عليه وتمرح على جسده وسوره الهش العجوز، وأن النجوم ستلمع من فوقه وترسل إليه أشعتها الفضية الصافية، ويقول له الجميع: لست وحدك في هذا الكون!
كنت أشعر - في حديثي الهامس معه، ونحن وحدنا، ولا شيء ولا صوت من حولنا سوى رفيف النسيم على أبداننا، وخرير الماء المنساب من تحتنا، وهمسات النجوم اللامعة العيون من فوقنا - كنت أشعر أنه لا يصدقني، وأنه يقول لي، وهو يتأوه، إنه قد تعود على الظلم والقسوة، ولا يصدق أي وعد من وعودي التي كنت أنا نفسي أشك فيها أحيانا، ومع مرور الأيام التي لا تأتي بأي جديد في حياته أو حياتي.
حتى كان صباح يوم غادرت فيه البيت، والزغاريد والضحكات تجلجل فيه بأصوات رنانة يسمعها القاصي والداني. قلت له في ذلك الصباح: أبشر يا عم، فأختي الكبرى التي يجهزونها اليوم للزفاف، ستعبر عليك اليوم ومعها العريس وأهل العروس والجيران والأقارب والأحباب، وكلهم ضاحك وسعيد. هل يمكن أن تكشر في وجوههم، أو تلوذ باكتئابك العتيد أمام هذا الحشد الصاخب السعيد؟ لن تفعل هذا، ولن أكلمك أو أستمع لشكواك الأزلية لو فعلت ...
وعبر موكب العرس في الليلة نفسها فوق الجسر المتقشف الحزين، وضحك كل من في الزفة وهتفوا للعروسين، وتصايحوا وغنوا ودقوا الطبول، وعزفوا على الأراغيل والمزامير. كنت معهم بطبيعة الحال، لكنني كنت كذلك مع الجسر طوال الوقت، أقول له: لا بد الآن أن تسعد يا صاحبي وتضحك! آن أوان الخروج من ظلمات تاريخك القديم مع الصمت والاكتئاب، أظنك توافقني على أنني حققت وعدي ورسمت على وجهك ابتسامة عريضة، سرعان ما تتحول إلى ضحكة بهيجة لن يسمعها أحد غيري. ترى هل ضحك الجسر العجوز في تلك الليلة كما توهمت؟ هل استطاع موكب العروس وزغاريد البنات والنساء ودوي الطبول ورنين المواويل، أن يخرجه من بؤسه القديم ولو مرة واحدة في حياته المملوءة بالعناء والشقاء؟
سألت نفسي هذا السؤال بعد عقود طويلة من الزمان. وعندما كنت أعبر الجسر الحديدي والأسمنتي الجديد الذي حل مكان صديقي القديم، في طريقي لزيارة شقيقي الذي خلا عليه البيت بعد رحيل أبي وأمي وإخوتي. لم أعرف إلى اليوم إن كان صديقي القديم قد ضحك في تلك الليلة المشهودة قبل أن يغرق - مع صباح اليوم التالي، وعبور المشاة والحيوانات عليه - في أحزانه القديمة. ولم يكن من الممكن أن أعرف ذلك من خلفه الحجري والأسمنتي المتجهم والمتعالي، بل لم يكن من الممكن حتى أن أسأله أو أتحدث معه.
النبع القديم
أطفئ النور، إذا شئت، ونم. نم في أمان، فأنت هنا بالقرب من النبع. النبع الذي يسميه الناس حينا بالعين الضاحكة، وحينا آخر بالعين الباكية. وإن كنت أنا أفضل أن أسميه النبع وحسب؛ لأنه يفور من قلب الأرض الغني بالأسرار. وسواء رأيت أن مياهه الصافية دموع منهمرة، أو ضحكات متلألئة؛ فهو يجيش بها على الدوام، وخريره مسموع ومتصل لمن يكلف نفسه بالاقتراب منه أو الإصغاء إليه. هل يزعجك هذا الخرير الذي يترنم أبدا بأغنيته، كأنه طفل يحلم بالشرب من الثدي المفعم بالسكينة والنقاء؟ إن كل الضيوف الذين يشرفون بيتنا الوحيد المتواضع، ويبيتون تحت سقفه، سرعان ما يتعودون على أنين هذا الخرير وأصدائه الموغلة في الأعماق.
هل قلت إنك لا تريد أن تنام الآن؟ ربما تفكر في تأليف قصيدة أو كتابة قصة أو تدوين لحن أو رسم صورة. هذا شيء متروك لك، نحن هنا لا نتطفل على أحد. وربما تكون شاعرا أو كاتبا أو مصورا أو ملحنا، أو مجرد إنسان يلتمس عندنا الهدوء وراحة البال. إنسان استغنى عن العالم، أو استغنى العالم عنه، وترك وراء ظهره ضجيج المدن وفساد القرى وأسواق اللغط والصراع والزحام. إنسان جاء إلى هنا ليكون بالقرب من الأصل والمنبع، بجوار مسكن الحقيقة ومأوى البراءة ومثوى الصفاء والنقاء. هل ذهبت اليوم إلى النبع فشربت واغتسلت؟ وهل تجولت في الصحراء الشاسعة الممتدة حتى اللانهاية، والمطهرة من كل رجس وإثم؟ لا بد أنك تعبت من السير ومن التأمل والتفكير. العشاء الخفيف - عشاء الزاهدين المعتكفين - جاهز وفي انتظارك. فإذا أكلت ورجعت لتنام، فلا تنزعج إن لاحظت شيئا من القلق أو الاضطراب حول البيت والنبع المخلدين على الدوام إلى السكون والكتمان. وحتى إذا صحوت فجأة من حلمك ومنامك، فاعلم أن الحصى المتناثر حول النبع، قد داسته خطى أقدام غريبة فأخذ يخشخش ويطقطق ويقطع عليك سماع خرير الماء وأنينه وترنيمته الأزلية. عندئذ لا تفزع ولا تنزعج! فالنجوم ساطعة ومكتملة العدد فوق النبع وفوق السقف الذي تنام تحته. إن هو إلا متجول وحيد، أو مسافر متعب اتجه إلى حوض النبع القديم ليطفئ ظمأه، ويغسل تراب العيش والعالم عن وجهه ويديه. ولعلك لو نظرت من النافذة لرأيته يغترف الماء براحة يده، ولو دققت النظر فقد تلمح رعشة فمه، الذي يتمتم ويدندن ويبارك أرواح الماء الراقصة تحت قبة السماء. اطمئن إذا سمعت هذا أو رأيته، فسوف يرجع الغريب من حيث جاء، وسيستأنف النبع خريره، وتصل أغنيته إلى أذنيك. وافرح إذا قالا لك على لسان المسافر الغريب: لست هنا وحدك مهما تمسكت بالوحدة. كم من متجول وجواب جاء إلى هنا وشرب وغمر عينيه ووجهه بالماء، ثم مضى وبريق النجوم الفضي يلمع فوق رأسه. وكم من متجول غريب، لا يزال كذلك في الطريق إليك وإلى النبع القديم.
اطمئن يا ضيفنا العزيز ولا تجزع. أنت الآن بالقرب من النبع. فابق بقرب النبع! ابق بقرب النبع!
1
اثنان
وقفت ممسكة في يدها بالكأس المتألقة كاللؤلؤة. كم كانت حافة هذه الكأس الرقيقة النحيلة تشبه فمها الرقيق وذقنها الدقيق. كانت قد لمحته من بعيد وهو يتحسس بحنان رقبة فرسه البني الرشيق، واتجهت نحوه بخطى خفيفة واثقة، كأن يدا خفية تشدها إليه فتمشي كالسائر في نومه. مع ذلك لم ترتجف الكأس في يدها، ولا سقطت منها قطرة واحدة على الأرض.
أما الفارس فكانت يده خفيفة وراسخة. وبهذه اليد وضع السرج البهيج الألوان على ظهر فرسه الشاب، ثم قفز عليه قفزة سريعة لم تكد تستغرق لحظة واحدة. وباليد نفسها، بإشارة غير ملحوظة وإيماءة غير مقصودة، أمر الفرس أن يقف في مكانه، بينما كان جسده يختلج وساقاه ترتعشان.
لكن هذه اليد تخلت عنها خفتها، وغادرها رسوخها وثباتها عندما شعرت باليد الأخرى تمتد نحوها. أرادت أن تمسك الكأس وفردت أصابعها بقدر ما أمكنها لكي تتلقاها منها. كذلك فعلت اليد الأخرى الممدودة بالكأس، وحاولت أن تصل إليها، لكن كليهما أحس بجبل من الرصاص يرزح فوقهما. وتاهت كل يد عن الأخرى وعجزت عن أن تلقاها، وأخذ الاثنان يرتجفان بفعل زلزال ينفضهما ويهز جذورهما وفروعهما. وتساقطت الخمر المعتمة من الكأس، وشربها التراب.
1
الصبي الذي كان يحمل اسمي
زارني الصبي الذي كان يوما يحمل اسمي. وقف أمامي، على حين فجأة، واستند إلى جدار المكتبة صامتا شاحب الوجه. لم أدر كيف تسلل إلى حجرة مكتبي بينما كنت أقرأ أو أكتب بحثا أو أترجم نصا أو أحاول أن أعد كلمة أقولها في ندوة أو مؤتمر. لكنني وجدته أمامي ولم يكن هناك مفر من المواجهة. راح كل منا يتأمل الآخر دون أن يقوى على التلفظ بكلمة. نعم هذا وجهه، نفس الوجه البريء المتعب، نفس العينين الشاردتين التائهتين، نفس الانكسار والإحباط، وخيبة الأمل تكسو الملامح وتنسكب من النظرات الحزينة. كان هو أيضا يتطلع إلي في دهشة من لا يصدق؛ ربما أذهله الشعر الأبيض الذي يغمر رأسي كالثلج المتجمد، أو كلال العينين اللتين بدأ نور شمعتهما في الخفوت والخمود، أو التجاعيد التي حفرتها السنين على الوجه الذابل الذي غادرته نضارة الشباب من أمد طويل. وكان لا بد أن يبدأ أحدنا الكلام، فأردت أن أحييه وأرحب به في مسكني وبين كتبي المتراكمة من حولي. لكن وهج الغضب الذي كان يتأجج من عينيه، ويلهب وجنتيه، وينبئ عن اتهام وشيك لم يسعفني بكلمة واحدة. وما هي إلا لحظات حتى سمعت رنين أصوات تخترق أذني كأنها تلطمها وتهزها بعنف وقسوة: ماذا فعلت بي؟
رفعت حاجبي وأنا أسأل ببراءة: ماذا تقصد؟
رفع يده وهي يسدد إبهامه نحوي: كنت شاعرا في صباي، فإلى أين وصلت بي؟
قلت وأنا أحاول أن أرسم ابتسامة على فمي: أما أنك كنت شاعرا فهذا حق. ما زلت أذكر أنك عارضت غير مجد في ملتي واعتقادي، ويا نائح الطلح أشباه عوادينا ... وما زلت أذكر أيضا أنك كنت تدون قصائدك الأولى في كتيبات صغيرة تضع عليها اسمك، وتذكر أنها صدرت عن مطبعتك، لكنها انتهت جميعا إلى الفرن.
قال مندهشا: الفرن؟!
قلت ضاحكا: نعم، جمعتها أمي مع مسودات قصص أخرى سخيفة، ومسرحيات ساذجة، وألقتها في الفرن. كانت حجتها أنها تعطلني عن المذاكرة، وأن الفائدة الوحيدة منها هي أن تشعل بها النار وأن تصير إلى الرماد، وتتحول إلى التراب الذي جئنا منه وإليه نعود.
سأل وهو يفتح عينيه على اتساعهما: هل معنى هذا أنك لم تواصل قول الشعر؟
قلت كأنني أحكي قصة خطيئة كبرى: أنا لم أتخل عنه إلا بعد أن تخلى عني ... لكن الشعر كما تعلم لا يغادر العظم واللحم الذي سكنه ذات يوم. بقيت منه الشاعرية التي كانت وراء ترجماتي ودراساتي التي لا آخر لها للشعر. لقد عجزت مع بلوغي العشرين عن كتابة قصيدة واحدة، بعد أن تهت وتورطت في المتاهة ...
قال وهو يقترب مني مستطلعا: تهت؟ ومتاهة؟ ماذا تقصد؟
قلت كأني أتذكر، أو كأني أعترف: نعم، شدتني الحكمة من يدي، فتهت منذ شبابي الباكر في صحراء العقل المجرد. راح الحكماء من الغرب والشرق يجذبونني إليهم واحدا بعد الآخر، فأنساق وراءهم وأدخل بيوتهم وصوامعهم وأعيش مع أفكارهم وتجاربهم، وأكتب وأكتب، أو أترجم عنهم. كنت أغوص في الصحراء اللافحة فيزداد عطشي مع كل خطوة، وكلما لاح سراب من بعيد، جريت نحوه وتصورت أنه واحة أستظل بها وأستريح من وهج القيظ ومرارة الحرمان، فأحاول أن أرجع إلى النبع المنسي.
سأل مندهشا: النبع المنسي؟
قلت: أجل. النبع الأصلي الذي كانت تشغلني عنه المهنة التي تورطت فيها، ولقمة العيش التي لم يكن منها مفر، وزحام المعرفة والثقافة الذي كنت مضطرا للمشاركة في أسواقه الصاخبة ... هل فهمت يا عزيزي الغائب الحاضر؟
هز رأسه آسفا، وقال: وماذا كنت تريد من ذلك النبع؟
قلت متعجبا: وماذا يطلب المرء من النبع الطاهر النقي؟ أن ينهل منه ويغتسل من رماد العالم، ويجد ذاته الضائعة ...
ضحك فجأة، وقال: ما زلت لا أفهم ... نبع ورماد وذات ... ماذا تريد أن تقول؟
قلت: كنت في تلك اللحظات السرابية القليلة، أجد نفسي في قصة أو مسرحية أو خاطرة أكتبها وأستمتع بها قبل أن أكتشف أن السراب هو السراب، وأن قيظ الصحراء وضياع المتاهة لن يلبثا أن يجراني كالعبد المغلول بالسلاسل والقيود.
قال، وعلى فمه بسمة ساخرة : وصرت قصاصا وكاتبا مسرحيا يتحدث عنه.
قاطعته، وأنا أشير بيدي ساخطا: النقاد؟ باستثناء اثنين أو ثلاثة يذكر القصاصون فلا يذكر اسمي، ويعد كتاب المسرح فلا يتذكرني ناقد ولا مسرح ... وإذا ذكرني أحد فأنا عنده مترجم الشعر وشارحه، أو معلم الحكمة الذي قضى شبابه على أبوابها. وهكذا تراني الآن أيها الصبي الطيب الحبيب، تراني شيخا هده المرض والغدر والتجاهل وخيبة الأمل.
اقترب مني، وثبت عينيه في عيني: ألست أنت الذي تجاهلت نفسك وانشغلت عن نبعك ... لا تلم إذن إلا نفسك.
قلت: معك الحق، لا يصح أن ألوم إلا نفسي ... ولا ينبغي علي إلا أن أتدارك ما فاتني ... هل تتصور أن البقية الباقية ...
لم أكد أقول هذه الكلمات حتى خيل إلي كأن الصبي قد كبر فجأة في السن، وطالت قامته، ووقف أمامي متحديا ومحذرا. مد يده في جنب صداره، فأخرج ساعة كبيرة مستديرة تشبه الساعة العتيقة التي كان أبي يضعها في جيب جلبابه، ويخرجها منه كلما أراد أن يعرف مواقيت الصلاة. وبدأ الرجل الطويل الشامخ القامة، الذي كان قبل قليل صبيا غريرا، دائم الحزن والشرود، بدأ يهتف بصوت مرتفع: الحياة وقت، ولكل وقت قلب؛ أي له مركز ومنتصف. من أراد الحقيقة وصمم عليها استجاب لنبض هذا القلب، لزم المركز ولم ينحرف عنه. ألا يقاس الوقت بالسنين والشهور والأيام واللحظات؟ الحياة سنة ومركزها وقلبها هو أجمل شهورها، لكنك ضيعت على نفسك هذا الشهر. والحياة يوم له مركزه وقلبه ومنتصفه، لكنك ضيعت اليوم وأنت تحلم مفتوح العينين. والحياة آن أو لحظة لها مركزها وقلبها ومنتصفها، لكنك فوت على نفسك الفرصة فلم تعشها ولم تتذوقها، ولم تغترف كما ينبغي من نبعها. لكن انس هذا الآن، انسه وامنع أسنانك أن تعض لحمك. فها هي الحياة ما زالت تقدم لك قلبها ومركزها ونبعها المتدفق من أعماقها. قم ولا تضيع هذه اللحظة كما ضيعت غيرها.
نظرت إليه مذهولا من هيئته وكلامه. ويبدو أن الدموع التي ملأت عيني منعتني من أن أنتبه لاختفائه المفاجئ، كمجيئه المفاجئ. لم أجد أمامي ولا حولي إلا الكتب التي تنظر إلي صامتة خرساء من فوق الرفوف. ومع ذلك، فربما ناديت الشبح المتلاشي، وأنا أسائله بصوت هامس: وهل بقيت في العمر بقية ...؟!
1
نيشت فيرشتاندن
أمدد ساقي المتيبستين على الكنبة البلدي في صالة شقتي المتواضعة بالزيتون، وأسمع زوجتي هنية تجهز الماء الدافئ في المطبخ لكي تغسلهما ثم تدهنهما بالمرهم الأحمر الذي يلطف من ألمهما المستمر بالليل والنهار. كذلك أنتظر بين لحظة وأخرى أن يفتح الباب ابني عاطف، الذي ذهب إلى الصيدلية؛ ليحضر لي أدوية الظهر والمعدة والرعشة والصداع التي لا أستطيع أن أعيش بغيرها. ولأني الآن - أنا حامد حمودة، نجار المسلح الذي جاوزت شهرته العاصمة إلى الأرياف - لم أعد أقوى على تسلق سقالة، ولا حمل سيخ حديد واحد، ولا تحريك إصبع لتوجيه عامل أو الإشراف على عمال بناء. فقد أصبحت في حالي البائسة أحيا مثل المحالين إلى المعاش على ذكريات الصبا والشباب، وأقضي الوقت مع الصور الباقية في ذهني وخيالي من المدن والحدائق والعمارات والشوارع والميادين والجبال والغابات التي كان من حظي أن أراها، أو آكل فيها لقمة عيش. وفي هذه الأيام التي أشعر فيها - على الرغم من تأكيدات الأطباء والزوجة والأبناء - بأن دبيب النهاية يسري في دمي وأعضائي، وأنني أرى نفسي في المنام وفي اليقظة ملفوفا في كفن أبيض وملاءة بيضاء، وراقدا وحدي في قبر ضيق ومظلم ووحيد. في هذه الأيام تلح علي صورة الإنسان الذي تصورت لجهلي وقلة حيلتي أن اسمه «نيشت فيرشتاندن»، ويؤلمني أن أتذكر أيضا أنني لم أره ولم أتعرف عليه أبدا، وأنه يرقد الآن في الغالب في تابوته الخشبي داخل قبر عليه شاهد رخامي في إحدى المقابر - أو ساحات السلام كما يسمونها - في ضواحي هامبورج، تلك المدينة الضخمة ذات الميناء المهول على ضفاف الراين، التي قدر لي أن أعيش فيها عدة سنوات، وأنا آكل فيها - كما سبق أن قلت - لقمة عيش قسمت لي. كان ذلك في أواخر الخمسينيات حتى أوائل الستينيات، عندما أرسل إلي صديقي عبده المسلح - فكذلك كان زملاؤه يلقبونه ؛ لبراعته الشديدة في توضيب سقف المسلح - عندما أرسل إلي عقد عمل من شركة المقاولات المتحدة التي كان قد سبقني بالعمل فيها في تلك المدينة التي ذكرتها. لم أكذب خبرا، وسافرت على الفور إلى هناك، مدفوعا بإعجابي بأهلها وناسها من ناحية، والإحساس بضرورة الوقوف إلى جانبهم لتعمير ما خلفته الحرب وراءها من دمار وخراب.
وصلت إلى المدينة بعد رحلة مرهقة بالطائرة، في يوم ظننته حالة استثنائية قبل أن يثبت لي أن معظم أيامهم لا تختلف عنه كثيرا. يوم ممطر تسح فيه سماء مكفهرة ومثقلة بالضباب والعتمة من آلاف آلاف القرب المفتوحة التي تصب منها على رءوس البشر المساكين شياطين البروق والرعود والصواعق والسحب والبخار التي لا تهدأ ولا تستريح في صيف ولا شتاء. رحت أتجول - بعد الانتهاء من إجراءات الجمارك والجوازات - في شوارع هذه المدينة التي تطؤها قدماي لأول مرة. شعرت بأنها مدينة عظيمة واسعة تشغي كخلية النحل الهائلة بنشاط تجاري وملاحي لا مثيل له، وتعمرها - برغم الأطلال والأنقاض التي تشاهد في كل مكان - مباني ضخمة ومنازل جميلة، تزدان شرفاتها ونوافذها بالزهور المتنوعة الأشكال والألوان، وتزدهي معظم ميادينها بتماثيل لملوك وفرسان وقسس عديدين، أو بنوافير تسكب أنهارا من الحياة الفائرة التي تجذب إليها الحمام والأطفال والمتسكعين الذين يتخذون من درجاتها الرخامية اللامعة كسلالم قصور الجنة، ملجأ لهم يستريحون فيه. رحت أشبع عيني من المناظر المتتابعة في الشوارع والحارات والحدائق والمقاهي والقصور التي نجت من دمار الحرب، وسلمت من قنابل الطائرات. بينما أتفرس في الوجوه الحادة الصارمة إلى حد القسوة، وأتعجب من أنني لم أجد بينها وجها واحدا يضحك أو يبتسم، مع أن صفارات البواخر التي تجأر وتنادي من بعيد، وصيحات الأطفال الخارجين لتوهم من المدارس، وضوء الشمس الذي بدأ يصارع السحب الجهمة المتكاثفة، ويفرش أشعته الذهبية على الأشجار والبيوت والأسوار والجدران وأسفلت الشوارع. مع أنها جميعا يمكن أن تبعث الرضا وتبسط قسمات الوجوه إن لم تستطع أن تكسوها بالسعادة والابتسام.
لفت انتباهي وأنا سائر - كثور الله في برسيمه، الذي لا أفهم لغته ولا أعرف أحدا من أهله! - بيت رائع الجمال، فسيح الأرجاء، لم أر في حياتي بيتا يدانيه في الأبهة والفخامة والجلال. أخذت أتأمل هذا البيت، بل هذا القصر، بل هذه التحفة المعمارية، وأنا واقف أمامها كالمذهول، تزدحم في نفسه نوازع الإعجاب والحسرة والاندهاش أيضا من بديع صنع سقفه وواجهته وسلالمه المرمرية الناصعة، ونوافذه الطويلة والمستطيلة التي تشبه الأبواب في بلدي، وقصاري الزرع المتعددة الألوان التي صفت على جوانب الدرج العريض ومدخل البيت ومعظم أركانه ونتوءاته. قلت لنفسي: لا بد أن هذا القصر يملكه ويسكنه شخص عظيم، ملك أو وزير أو تاجر كبير يحتكم على أساطيل من السفن التي تجلب البضائع من الشرق ومن شتى بقاع العالم وموانيه. وانتظرت حتى مر علي أحد العابرين، فاقتربت منه وسألت بلغتي التي لا أعرف غيرها: قل لي أيها الرجل الطيب، هل تعرف اسم صاحب هذا البيت الرائع، أو هذا القصر المنيف، الذي يزدهي كالعروس بألوان الزهور والزينات؟ لكن الرجل الذي بدا عليه الانشغال الشديد ربما أغضبه أن يوقف أحد خطواته السريعة، رد باختصار، وبوجه متجهم، بهذه الكلمات التي دخلت أذني كوشيش قطار مسرع: «نيشت فيرشتاندن». شكرت الرجل الذي ألقى علي نظرة تفيض بالضيق وعدم الاكتراث، وكأن الذي سأله لم يكن سوى حيوان غريب وغير مألوف. ولما عبر بي عذرته، وتذكرت أنني كلمته بلغتي التي لا يفهم منها حرفا، كما رد علي بلغته التي لا أعرف منها إلا قدر ما يعرفه هو من لغتي. لكنني شكرته بيني وبين نفسي. وقلت ربما يكون قد أدرك من ذهولي أمام القصر أنني سألته عن اسم صاحبه، ولذلك ظللت أكرر ذلك الاسم الصعب طوال سيري على القدمين متوجها ناحية الميناء للقاء بلدياتي، وكأنني تلميذ يحاول أن يحفظ كلمة أجنبية صعبة ومليئة بالشينات، التي بدت لي كلهاث شاحنة ثقيلة أو صفير سفينة توشك على الرحيل.
حفظت الكلمة التي لم أعرف معاناها إلا بعد ذلك من صاحبي عبده المسلح، ثم من اجتهادي على مدى شهور طويلة في تعلم بعض الكلمات والجمل التي تساعدني على الحياة، والتعامل مع زملائي في العمل وسكان هذا البلد. المهم أنني اعتقدت بحسن نية، وبثقة لا أعرف مصدرها، أن هذه الكلمة الصعبة تدل على اسم صاحب ذلك البيت الذي وقفت أمامه وقفة الشحاذ على باب قصر السلطان. وكم قلت لنفسي إن هذا الرجل «نيشت فيرشتاندن» لا بد أن يكون ثريا جدا، وسعيدا جدا جدا.
مضيت في طريقي إلى الميناء وأنا أفكر في الرجل ذي الاسم العسير العجيب، وفي صاحبي الشهم عبده، وفي الناس المتجهمين المسرعين الذي أقابلهم مع كل خطوة أو أمر بهم في الطريق. وأخيرا، وبعد أن سألت بعض العابرين باللسان واليدين، بالصفير والشخير وتقليد حركات الأشرعة والبحارة والملاحين، أخيرا وصلت إلى الميناء الذي بدا لي كذلك مدينة وحده، مفتوحة على البحر الواسع المترامي الأمواج. وقفت في ذهولي على الشاطئ أراقب السفن التي تدخل الميناء أو تخرج منه، فلفتت انتباهي بجانب العجائب والغرائب الكثيرة، سفينة عظيمة بدا أنها رست على الميناء قبل قليل، وشرع العمال والحمالون والونشات الكبيرة في تفريغها من شحناتها وحمولاتها الملفتة للأنظار: صفوف الصناديق الكبيرة، والأكياس المنتفخة المتراصة بجوار بعضها على رصيف الميناء، أوعية وبراميل وكراتين تفوح من بعضها روائح البن والشاي والفلفل والتوابل، فضلا عن أجولة السكر والأرز التي كان من السهل التعرف عليها. توقفت طويلا أتأمل السفينة والبحارة والحمالين والصناديق المتنوعة الأشكال والألوان، وأنا أقول لنفسي إنها قادمة بغير شك من الهند الشرقية أو بالتأكيد من بلد آسيوية غنية بمحاصيلها ومنتجاتها وموادها الخام. ووخزني حب الاستطلاع المغروس في فطرتي والموروث من أهلي، فاقتربت من رجل طويل ومهيب كان يقف مثلي على الرصيف ويتأمل السفينة والشعب المشغول بأمورها بانبهار لا يقل عني. كان كل همي في تلك اللحظة هو أن أعرف اسم المحظوظ مالك هذه السفينة، بل هذه المدينة العائمة، فسألته بلغتي التي لا أعرف غيرها عن صاحب هذه السفينة الرائعة الزاخرة بأعجب السلع والبضائع. أجاب الرجل بعد أن نظر إلي من عل بامتعاض وغضب ظهرا على حاجبيه المعقودين، وعينيه الساخرتين، وشفتيه الممطوطتين: «نيشت فيرشتاندن». ضربت بكفي على ركبتي، وهتفت صائحا والرجل يرمقني وهو ينصرف كأني مجنون أو مختل العقل: ومن غير مالك القصر يمكن أن يملك هذه المدينة العائمة على سطح الموج؟! لا عجب! لا عجب!
انصرفت أنا أيضا وابتعدت عن الشاطئ وأنا أتفكر في تصاريف القدر وقسمة الحظوظ، وأعي عن يقين مدى فقري وبؤس حالي بالقياس إلى أمثال هذا الرجل الذي غمره الثراء والنعيم بغير حساب. وبينما كنت خارجا من منطقة الميناء في طريقي للبحث عن مبنى شركة المقاولات القريبة التي يعمل فيها صديقي عبده - وأعترف الآن أنني كنت أتحسر على نفسي، وأتمنى عليها أن أعيش كما يعيش هذا السيد نيشت، الذي لا أعرف حتى كيف ينطق اسمه ولو ليوم واحد - إذا بي ألمح من بعيد موكب جنازة مهيبة يشق طريقه في سكون وجلال إلى «ساحة السلام» الواقعة غير بعيد من الميناء. كانت تتقدم الموكب العظيم أربعة خيول وقورة ومتدثرة بأشرطة قطيفية سوداء، تكسوها من العنق إلى الذيل، وتجر وراءها عربة سوداء كبيرة لنقل الموتى تنسدل على نوافذها الزجاجية ستائر سوداء أيضا. ويمشي خلفها جمع غفير من المشيعين الذين يرتدون معاطف سوداء في بطء وحزن شديدين، كان من الواضح أنهم من أصدقاء المتوفى ومعارفه وأقاربه، الذين جاءوا لتوديعه إلى مقره الأخير في بيت الأبدية. وكانوا يسيرون أزواجا أزواجا في صفوف صامتة خرساء، بحيث لا يسمع غير أصوات الموسيقى الجنائزية التي تصاحب الموكب، ورنين أجراس صغيرة تدق من أبراج كنائس قريبة وبعيدة ... أخذت أتأمل المشهد المؤثر في أسى شديد، على الميت وعلى نفسي المسكينة التائهة في أرض غريبة وسط أناس لا تعرف لغتهم ولا يعرفون لغتها ... وعندما حاذتني عربة الموتى وجدت نفسي تتمتم بالفاتحة، وأرفع يدي وإبهامي دون أن أشعر وأردد الشهادتين. ولما جاوزتني العربة، قلت لنفسي وأنا أفكر في المصير المحتوم: هم بشر مثلنا على كل حال، مهما قست وجوههم ونطقت ألسنتهم بلغة لا تفهم! ولكنني اندفعت نحو آخر زوج من المشيعين لأسألهما وأنا أعتذر لهما بانحناءة شديدة من رأسي عن اسم المتوفى المرموق، الذي تحمله العربة السوداء ذات الخيول الأربعة السوداء. وقلت في أسى حقيقي، وبلغتي التي أعلم أنهما لن يفهما منها حرفا: لا بد أن المرحوم كان صديقا لكما، ولا شك أنه كان رجلا بارزا في المدينة، ولهذا تدق له الأجراس ويسيطر الحزن والخشوع على كل من يمشي في جنازته، أليس كذلك أيها السيدان؟ نظر إلي السيدان في تعجب، وخرجت من أفواههما في نفس واحد، الكلمة نفسها التي سمعتها قبل ذلك مرتين: «نيشت فيرشتاندن» ...
لا أدري كيف فوجئت وأنا أسمع الاسم بدمعتين تسقطان على خدي، وبحجر ثقيل يجثم فوق صدري ويوشك أن يخنق أنفاسي. أخذت أقول لنفسي بعد أن تابع السيدان سيرهما خلف الجنازة: مسكين أنت والله يا سيد نيشت الذي لا أعرف حتى كيف أنطق اسمه، ما الذي أخذته من كل ثروتك؟ سبحانك ربي في علاه. لم تأخذ يا عبد الله الألماني إلا ما يأخذه فقير مثلي جاء بعقد عمل إلى بلادكم - مجرد كفن وملاءة بيضاء - لا قصر ولا سفينة، لا مال ولا مجد، بل عملك الصالح أو الطالح يا سيد نيشت هو الذي يدخل معك في ليل الظلمة الأبدية، فيؤنسك أو يزيد من كربك ووحشتك ... هكذا قلت لنفسي والله، ولم أتردد لحظة عن أداء الواجب. سرت خلف السيدين اللذين بدا عليهما الضيق من سؤالي عن الميت، وربما أخذا يلعناني بكلمات لن أفهمها. مشيت ومشيت وراء المشيعين، ونسيت كل شيء عن العمل والصديق الذي ينتظرني في مقر الشركة. وعندما دخلت «ساحة السلام» مع الداخلين، تعجبت من نظامها الجميل وتنسيقها المتقن، وكأني داخل بستان شاسع الأرجاء، أشجاره وزهوره ليست سوى القبور وشواهدها المصفوفة في صفوف بديعة الصنع والتكوين. نعم، تبعت جثمان الرجل الذي أعجبت به إلى حد الحسد، ثم بكيت عليه لما فهمت أنه هو نفسه صاحب القصر والسفينة - المدينة - وظللت واقفا مع المشيعين وهم ينزلون السيد «نيشت» في قبره، كما استمعت حتى النهاية لكلمات الوداع التي ألقاها قسيس شاب بصوت جهوري واضح، وإن لم أفهم منها كلمة واحدة. ثم دخلت مع معظم المشيعين بعد انتهاء مراسم الدفن مطعما صغيرا أقيم - ويا للعجب! - بالقرب من ساحة السلام، وأدهشني أنه كان مستعدا لاستقبال هذا العدد الضخم من الأهل والأصدقاء الذين راحوا - وأنا معهم - يشبعون جوعهم ويروون عطشهم على روح المرحوم.
وقد عثرت بعد ذلك على صديقي العزيز، وانخرطت في العمل الشاق بكفاءة دهش لها كل العاملين. وقضيت عدة أعوام في عمارة البيوت والمؤسسات ومباني الحكومة، قبل أن أرجع إلى بلدي راضي النفس، قرير العين. وها أنا يا زوجتي العزيزة التي تغسل ساقي المتيبستين بالماء الدافئ قبل دهنهما بالمرهم الأحمر اللون، لا أفتأ كلما ضاق بي الحال بعد ذلك، وكلما فكرت أن الدنيا فيها أغنياء مثل السيد نيشت فيرشتاندن، وفقراء متواضعو الحال مثل العبد لله، أقول لا أفتأ أتذكر هذا الميت المجهول الذي أخطأت في فهم اسمه، كما أذكر نفسي بأنه وإن امتلك القصر الرائع البديع والسفينة المهيبة المهولة، قد استقر في النهاية في لحده المظلم الضيق الذي لن يختلف كثيرا عن ذلك القبر المظلم الضيق الذي سيواريني لا محالة بعد سنين أو شهور أو أيام ...
1
أغنية النساجة في الليل
قبل سنوات بعيدة، سنوات طويلة، كان البلبل أيضا يغني معنا.
بصوته العذب الشجي كان يغني، عندما كنا معا واجتمع شملنا.
ها أنا ذا الآن أغني وحدي، وأحاول أن أبكي فلا أستطيع. أنسج وأنسج على النول وحدي، وبأناملي أشبك الخيط الرقيق بالخيط الدقيق. وسأبقى أنسج وأغني، طالما القمر يسطع في السماء.
عندما كنا معا يا حبيبي، كان البلبل يغني ويغني، والآن ينبهني صوته الحنون أنك سافرت ورحت إلى البعيد البعيد.
كلما طلع القمر في السماء، فكرت فيك وحدك يا حبيب، وراح قلبي النقي الكئيب يدعو الله أن يجمع شملنا عن قريب.
لم يزل البلبل لا يكف عن الغناء، منذ رحلت بعيدا عني، وما زلت لا أفكر حين أسمع صوته يا حبيب، إلا في يوم لقائنا القديم.
ليأذن الله لنا باللقاء، فأنا هنا أنسج وأنسج وحدي، القمر نوره ساطع وصاف في السماء ، وأنا أغني وأغني يا حبيب، لأغالب رغبتي في النشيج والبكاء.
1
أمثولة الخواتم الثلاثة
(صيغة مختصرة)
في سالف الأيام، كان يعيش في الشرق رجل يمتلك خاتما لا تقدر قيمته بمال، أهدته له يد حبيب عزيز وغال. كان الحجر النفيس الذي صنع منه الخاتم من «الأوبال»،
1
وكان يشع منه ما يزيد على المائة من الألوان، وكانت له خاصية خفية تجعل كل من يحمله محبوبا ومرضيا عنه من الله والناس. لا عجب إذن في أن الرجل الشرقي كان حريصا عليه على الدوام، ولم يخلعه من إصبعه أبدا في يوم من الأيام، ولا عجب أيضا في أن يدبر كل ما يستطيع للاحتفاظ به في بيته وأسرته إلى أبد الآبدين!
وهكذا قرر أن يترك الخاتم لأحب أبنائه إلى قلبه، كما استقر رأيه أيضا على أن يورث هذا الابن بدوره الخاتم لأحب أبنائه وأعزهم على نفسه، بشرط أن يبقى أحب الأبناء باستمرار، وبصرف النظر عن أصله ومولده، وبالقدرة الكامنة في الخاتم وحدها أن يبقى هو أمير البيت والرأس المدبر للعائلة. •••
هكذا وصل هذا الخاتم، في مسيرته من ابن إلى ابن، إلى يد أب له ثلاثة أبناء. كان الأبناء الثلاثة متساوين في طاعتهم له، ولم يكن في مقدروه أن يحرم أحدا منهم من حبه وحنانه. لكن الأيام دارت دورتها، وبدأ الأب يدخل في دائرة الموت كما يدخل في دائرة الحيرة والارتباك، فكم آلمه وحز في نفسه أن يتسبب في ألم اثنين من أبنائه يثقان بصدق كلمته وعهده. لكن ماذا يفعل؟
هداه عقله أن يستدعي في السر صانعا اشتهر بتفوقه في صنعته، وطلب منه أن يصنع نسختين من الخاتم بحيث لا يدخر جهدا ولا مالا في أن يجعلهما مطابقتين تمام التطابق مع الخاتم الأصلي. نجح الصائغ الفنان في مهمته، وعندما حضر إليه ومعه الخواتم الثلاثة، تعذر على الأب نفسه أن يميز الخاتم الأصلي من النسختين. وسعد الأب سعادة كبيرة، ونادى في صوت مفعم بالفرح ليلقاه كل منهم على انفراد، وفي هذا اللقاء باركهم واحدا واحدا، وأعطى كلا منهم خاتمه، ثم مات ...
لم يكد الأب يموت ويواري التراب حتى رجع كل واحد من الأبناء ومعه خاتمه، وكل واحد منهم مصمم على أن يكون هو أمير البيت ورأسه المدبر. طال البحث، وشب النزاع والشجار، وارتفعت الأصوات بالشكوى والاتهام. عبث كان ذلك كله وبلا فائدة، فقد استعصى عليهم أن يتبينوا الخاتم الأصلي ... تماما كما يستعصي علينا اليوم أن نتبين أي الديانات الثلاث هو الأصح.
قال القاضي: سمعت أن الخاتم الصحيح يمتلك الطاقة العجيبة في أن يجعل صاحبه محبوبا ومرضيا عنه من الله والناس. هذا الخاتم هو الذي يمكنه أن يحسم الأمر! لأن الخواتم الزائفة لا تستطيع بطبيعة الحال أن تحدث هذا الأثر! والآن، من هو الابن الذي يحبه اثنان منكم أعظم الحب؟ هيا! تكلما! إنكم تلوذون بالصمت، فهل يتراجع تأثير الخواتم وينقطع تأثيرها على الخارج؟ وهل أفهم من هذا أن كل واحد منكم لا يحب إلا نفسه أعظم الحب؟ آه! إذا صح هذا كنتم جميعا خادعين ومخدوعين! وكانت خواتمكم الثلاثة غير أصيلة. ربما كان الخاتم الأصلي قد ضاع، وربما كان هذا هو السبب في أن يحاول الأب إخفاء الخسارة، أو التعويض عنها، وهو الذي جعله يصنع الخواتم الثلاثة بحيث يستحيل تمييز أحدها عن الآخر. •••
إن شئتم أن تسمعوا نصيحتي، بدلا من أن تسمعوا حكمي، فهيا انصرفوا! لكن نصيحتي لكم هي هذه: ليأخذ كل منكم الأمر على ما هو عليه. وإذا كان كل واحد منكم قد أخذ الخاتم من أبيه، فليعتقد كل واحد منكم أن خاتمه هو الخاتم الأصلي، لعل الأب لم يشأ أن يصبر على استبداد خاتم واحد بالأمور كلها في بيته! بيد أن الشيء الذي لا شك فيه هو أنه أحبكم أجمعين، وأنه لم يفرق في حبه بينكم، إذ لم يطاوعه قلبه أن يميز واحدا منكم أو يؤثره على أخويه الباقيين.
هكذا كان الحال! فليسرع كل منكم ويسعى بكل جهده لاقتفاء أثر حبه الحر المنزه عن التحيز! ليراهن كل منكم على أن يظهر للعلن تلك الطاقة العجيبة الكامنة في طوايا خاتمه! وليعمل من جانبه على أن يشحذ هذه الطاقة بكل ما أوتي من دماثة، وتسامح، وإحسان، وخشوع خالص لله! وعندما تظهر قوة هذه الخواتم وطاقتها العجيبة عند أحفاد أحفاد أحفادكم، فسوف أدعوهم مرة أخرى بعد الآلاف المؤلفة من السنين لكي يمثلوا أمام هذا الكرسي نفسه. ويومئذ سيجلس على هذا الكرسي من هو أحكم مني بكثير، وسوف يقول أيضا كما أقول لكم الآن: انصرفوا!
2
نافورة
أمر عليها في الذهاب وفي الإياب.
أقف أمامها لأشاهدها وأتأملها بعد ما شاهدتها وتأملتها عشرات بل مئات المرات دون أن أشبع أو أقنع ...
ها هي شعلة الماء ترتفع - كما فعلت على الدوام - وتصعد لي أعلى، تميل على شعلة ثانية، تميل هي أيضا على ثالثة، ثم رابعة ...
وتدفق الماء المنحدر كشلال صغير وعنيف في حوض من المرمر؛ فيسقط الماء في قاع الحوض يدمدم ويدوم ويحوم كآلاف الطيور البحرية الصارخة.
يمتلئ الحوض بالماء المتموج حتى يندلق من حوافه ويفيض، يندلق ويفيض وهو متلألئ مختال بكنزه الفضي الرقراق فيصب في حوض ثان يقع أسفله، ويظل يتدفق حتى يؤلم القاع، يغني هذا الحوض بثروته فيعطي ويسخو فورا وبلا تردد على الحوض الثالث الذي يقع تحته ويتقبل عطاءه الجياش. هكذا أرى كل حوض يأخذ ويعطي، يتدفق ويستقر في نفسه، يكون ولا يكون في وقت واحد.
وبعد أن أشبع عيني من المشهد - دون أن أكتفي أو أقنع! - أكاد أسمع صوتا لا أدري حين يتردد في سمعي إن كان قد هبط علي من أعلى، أو صعد من داخل كياني وعمق ذاتي:
لو أنك كنت فقيرا، أفقر مما أنت عليه، «لو تصمت في حركتك وتتحرك في صمتك»،
لو تتعلم أن تتحقق حين تسيل وتدفق،
لو تعرف كيف تكون غنيا في فقرك، وفقيرا بغناك،
لاستطعت أن تعطي وتأخذ، أن تتلقى وتجود!
مثل هذه النافورة التي تتدفق فتسخو، وتمتلئ
فتنهمر، وتصب عطاءها في حوض بعد حوض.
1
كأسك المرة ورسالة استغاثة في زجاجة
البريد
كأسك المرة يشربها في الصباح، يشربها في المساء، يشربها في الصحو وفي النوم ، يشربها في النهار والليل، يشربها يشربها.
كأسك المرة يا رجاء، يا دعاء، يا هناء، يا سناء، يا أسما - لا أفصح عنه - يحوي الأسماء، يشربه في الليل والنهار، في الصبح والمساء ...
والرجل الطيب المكتئب ذو الشعر الأبيض، كالثلج يشرب كأسك المرة يشربها، يحفر لنفسه في كل الأوقات قبرا يسكنه، لا يبرحه، قبرا لا يرى فيه غيرك ولا يحس بغيرك، ويشرب كأسك المرة في أوقات الليل والنهار ... يشربه يشربه منذ شبابه الباكر عندما أحبك - يا جارته المرة - حب الجنون، ومنذ أن خذلته ورفضت حبه الكسير المستحيل، منذ أن شله العجز والخجل الفطري الملعون فلم يخاطب لسانه لسانك، ولم تلمس يده يدك، ولم يعرف إلا نظرة عينيك القاسيتين الساحرتين، من شباكك أو شرفة مسكنك، عينيك السوداوين الواسعتين اللتين نفذت سهامهما المشتعلة في صدره، ولم يزل يشرب كأسهما المرتين في الصباح والمساء، في العمل وفي الراحة، وهو جالس إلى مكتبه يقرأ ويكتب، وهو في قاعة المحاضرات أو الندوات والمؤتمرات يثرثر ويثرثر، منذ ذلك اليوم الذي رآك فيه ونفذت سهامك المشتعلة في صدره، في غرفه السرية الدفينة، في قلب كيانه البائس الكئيب، وهو يشرب كأسك المرة، يشربها، ويشرب ويشرب.
كأسك المرة يا حبيبتي المستحيلة التي يراها بالصدفة كل سنة كل سنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس: تحفك المرارة من الجانبين، تسبق خطاك وتمشي مع ظلك، تتحرك مع حركة قدميك وذراعيك، مع لفتاتك ونظرات عينيك حين ترفعينهما وحين تخفضينهما، مع ما تقولينه لمن يصحبك وما تفكرين فيه. مرة أنت والمرارة تحيطك وتغمر ما تكونينه وما تملكينه وما ترتدينه - وهو - إذا رآك مرة بمعجزة الصدفة، يسألك في سره ويسأل نفسه: مرة أنت ولكن، هل تدرين أنك عندي عذبة، وعذوبتك هي أعذب ما رسخ في نواة كياني التي تشرب كأسك المرة في الصباح ... تشربها في الليل ... تشربها حين يراك وحين لا يراك، تشربها وتشربها وتشربها؟
أصبحت الآن أما وأصبحت جدة، ربما أحلت للمعاش أو أحلت نفسك إليه، وانسدت للأبد الآبد كل الطرق إليك، والرجل الطيب المكتئب كم تمنى - كلما رآك وأسعفت الصدفة البخيلة - لو يستطيع أن ينادي باسمك، أن يوقفك لحظة ليسلم عليك وتلمس يده يدك. وكم يشرب كأسك المرة حين ينقض عليه التصور القاتل بأنه سيحتضر يوما من الأيام قبل أن يقلب عينيه في عينيك، وتلمس يده يدك، ويسألك الصفح عن الحرج الذي وضعك فيه وسط الطريق. وهو يحتضر سيشرب كأسك المرة، كأسك المرة، حين يتذكر أنهم سيلقونه في الكفن ويضعونه في القبر، ويغلقونه عليه قبل أن يقلب عينيه في عينيك، وتلمس يده يدك، ويسألك عن أحوالك وأولادك، ويطلب منك السماح والغفران ...
كأسك المرة يا حبيبتي البعيدة المستحيلة يشربها ويستغيث بك، ثم يخطر بباله - والجسور كلها مقطوعة ومعدومة بينه وبينك - أن الغرقى القدماء كانوا يرسلون رسائل استغاثة في زجاجات يلقونها في البحر، وحين ترسو بها الأمواج على شاطئ يقرؤها من يتصادف وقوفه على الشاطئ وعثوره عليها، فيفكر - مجرد تفكير - في أن يهب لنجدتهم ويستجيب لاستغاثتهم، وذلك بعد أن يكونوا قد غرقوا وشبعوا موتا ...
الرجل الطيب المكتئب ذو الشعر الأبيض كالثلج، يضع رسالته في زجاجة، زجاجة يلقيها في البحر، ويجرفها الموج بعد أيام أو شهور أو بعد سنين إلى الشاطئ. لكن من يضمن حتى في الحلم أن تكوني أنت هناك، واقفة على الشط حين تصل الزجاجة إلى يديك، وحين تفتحينها وتعرفين أنها موجهة لك أنت - لك أنت وحدك - يا كأسي المرة التي أشربه في الصباح، أشربها في المساء، وأشربها حين أكتب كتبي السخيفة، وحين أسود قصصي ومسرحياتي التي لم تحرك ماء راكدا في البحيرة، ولم تترك صدى واحدا في كهف وجودنا الخانق البليد، ولم تصل أبدا إليك أنت يا كأسي المرة مع أنها لم تكتب إلا لك، ولم تكن إلا لأجلك ومن وحيك.
كأسك المرة ... الرجل الطيب المكتئب يرسل إليك استغاثة في زجاجة لن تصل إليك ... يحتضر دون أن يخاطب لسانه لسانك، أو تلمس يده يدك ... يموت ويغلقون عليه قبره قبل أن يسألك الصفح والسماح والغفران قبل أن يكلمك، قبل أن يلمس يدك ...
كأسك المرة يشربها ليل نهار، وصبح مساء. يشربها حين يئن من المرض، وحين يكتب ويكتب ويكتب ما لا تقرئينه أبدا، ولا يصل إليك، ولن يصل إليك ...
يشرب كأسك المرة في الصحو والنوم، في الحركة والسكون، في الحلم والعلم، يشربها ويشربها ويشربها.
1
القبر الجديد
اللحظات التي قضاها في قبره الجديد في الظلام والصمت، في قلب الظلام والصمت، في القلب الغائر الدفين، كانت لحظات فارقة في حياته وفي أيامه الباقية. كان جمع الأهل المحتشدين أمام الضريح الحديث البناء، قد فوجئوا بفعلته العجيبة الغريبة. فبعد أن عاين المكان، وتأكد من متانة السور العالي والبوابة الحديدية، وبعد أن ضحك كثيرا مع شقيقه الأكبر من ضخامة القفل الذي وضع عليه، وتساءل بصوت مرتفع: وما الداعي للقفل والراقد في الداخل لا يمكنه أن يخرج، والواقف في الخارج لا يريد الدخول؟ وسط كلمات الإعجاب بفخامة البناء، وبذمة البنا وصنعته البارعة، وبينما الجميع يتابعون ملاحظات الدكتور على الموقع والطلاء، والرخامة المحفورة داخل واجهة القبر وعليها بالخط الكوفي البديع نقش بارز باسم الميت المرموق وصنعته ومكانته: ... أستاذ التاريخ والحضارة بكلية وجامعة، وتحتها مسافة فارغة لوضع اليوم والشهر الهجري والميلادي والسنة للمتوفى الذي لم يتوف بعد. بعد كل ما سبق فوجئ الجميع بفعلته العجيبة الغريبة التي تمت في أسرع من لمح البصر. أذهلت المفاجأة المدهشة الجميع، فلم يستطع أحد أن يمنع الميت - بالقوة لا بالفعل - من أن ينفذ بسرعة الريح من الفتحة الكبيرة للقبر الجديد الذي فرغ من معاينته، وصار من الواضح أنه رضي عنه كل الرضا. لم يكن الجمع الحائر الذاهل يفيق لما حدث، ويفتح العيون غير مصدق، حتى تعالت الأصوات الحميمة المشفقة: حاسب يا دكتور ... الأرض ما زالت طرية ومرشوقة بالزلط والحصى ...
هل هذا معقول يا ناس؟! ولماذا الاستعجال وأمر الله في علم الغيب؟ يا دكتور اعمل معروف ... اخرج يا دكتور اخرج ... ما زلت بحمد الله في كامل صحتك وفي عز شبابك ... اتق الله واخرج يا دكتور.
لم يصدر أي صوت عن الراقد الممدد على راحته في القبر ... والأعجب من صمته المطبق أنه خيل إليهم في هذا الموقف الغريب المستحيل أنهم سمعوا ضحكة قصيرة واضحة كرنين كئوس تصطدم ببعضها - تلفتوا لبعضهم وهم يستنكرون ما يشاهدون وما يسمعون - وتجمعوا حول الفتحة الواسعة التي غافلهم أستاذ التاريخ والحضارة ودخلها واختبأ فيها، كطائر ضخم يلوذ بنفق مظلم بعد أن أتعبه التحليق والدوران في الجو بحثا عن ملجأ يحميه ...
لم يشعر المحتشدون المتجمعون أمام فتحة القبر بأنهم قدموا للراقد الممدد في داخله أعظم خدمة كان يتمناها ... لم يخطر على بالهم أنهم بتجمعهم أمام فتحة القبر قد أكملوا دائرة الظلام والصمت التي طوقته في الداخل، وأعطته الفرصة الفريدة لكي يحاسب نفسه بعد أن وضع نفسه وجسده على البرزخ المعتم بين الحياة والموت.
همهموا وجمجموا، وتناثرت من أفواههم عبارات الدهشة والعجب. ثم أخلدوا للصمت الذي استولى عليهم فجعلهم يتسمعون لما يجري وراء الفوهة المخيفة الفاغرة الفم. كانوا يسألون أنفسهم وقلوبهم ترتعش وتدق بعنف خشية أن يكون الدكتور قد أصابه مكروه، أو أن يكون قد عملها فجأة بطريقة لا يدرونها ولم يحسبوا لها أي حساب. أما الدكتور نفسه فقد اختلى بنفسه ربما لأول مرة في حياته خلوة حقيقة. أخذ يسأل نفسه أو ربما سمع أصواتا تنبعث من حوله ومن داخله تسأله: ماذا فعلت بنفسك؟ وماذا فعلوا بك؟ ها أنت تحال إلى المعاش بعد أن ظللت تلهث وتلهث طول العمر ... أخذك علم التاريخ والحضارة إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب، قدمت عصارة العصور المزدهرة وأهوال الحقب المتدهورة من عشرات المراجع والكتب باللغات التي تقرأ بها ... ووقفت أمام المئات من تلاميذك والمئات من قرائك وفي يدك الكئوس الممتلئة برحيق الفكر الشرقي والغربي، رحيق الحكمة التي فاضت من أفواه بوذا وكونفوشيوس ولاو-تزو، وسقراط وأفلاطون وأرسطو، إلى آخر صفوف العلماء والمفكرين والرواد وشهداء المعرفة والحضارة والتقدم على مر العصور ... لم تفرط في شيء، ولم تقصر في سيرة أحد ... شخص واحد قصرت في حقه ونسيته وكدت أن تخنقه بيديك القاسيتين، ذلك الشخص هو أنت نفسك يا دكتور ... يا من بدأت حياتك في صباك وشبابك شاعرا، أين شعرك؟ يا من حاولت القصة والمسرحية، لماذا توقفت؟ صحيح أنك انتزعت لقيمات صغيرة من فم الأسد الذي يطاردك بالليل والنهار، في قاعات المحاضرات وفي الندوات والمؤتمرات وحتى في أحلامك وكوابيسك. لكنك يا دكتور لم تكن نفسك أبدا، وربما نسيت نفسك ويئست ولم تحاول، مت الآن أيها اللاهث المطارد، وحاول أن تخرج من ظلام ماضيك بخروجك من ظلام قبرك الجديد، عش يا مسكين قبل أن يضعوك إلى الأبد في هذا المكان ... جرب أن تعيش بحق يا من سرق العمر منك، ولم يكن ذلك بدون ذنب منك. عش ... عش ... لا تتردد بعد اللحظة! ...
يبدو أن الجمع المحتشد بدأ يفيق للوضع المأساوي العجيب؛ فقد اخترق شقيقه الأكبر الصفوف وانحنى أمام فتحة القبر، وهتف صارخا وهو يمد ذراعيه داخل الفوهة ولا يرى أي شيء: يا الله يا دكتور ... اخز الشيطان وتعال يا رجل! ربنا يعطيك العمر والصحة يا رجل يا طيب ... نحن استعجلناك لتتفرج على القبر الذي كلفتنا ببنائه، ونفذنا أوامرك كما رأيت وشاهدت وعاينت بنفسك ... اخرج يا رجل ... اعمل معروفا واتق الله ...
وخرج الدكتور برأسه أولا، ثم استند إلى ذراعيه، وسارع الجميع يتلقفونه وينفضون عنه تراب القبر وحصاه الذي علق ببذلته وأكمامه ... وعندما وقف أمامهم وهو يضحك، ويمر بيده على صدورهم وظهورهم، ويتلفت حوله وقد اكتست قسمات وجهه بالذهول والرضا في وقت واحد. خيل إليه أن النور أصبح هو النور، وأن الشجر هو الشجر، وأن الزهور والسعف المنشور فوق معظم القبور يكاد في خضرته ولمعانه تحت الضوء أن يبتسم له ويحييه، وأن الموتى الذين أحس بهم في تلك اللحظات النادرة في قلب الظلام والصمت هم الموتى الطيبون الحقيقيون، كما أن البشر الذين التفوا حوله، وراحوا يضحكون لضحكه ويضربون كفا على كف على نكتته العجيبة هم بشر طيبون وحقيقيون. ضمه شقيقه الأكبر إلى صدره، وأخذ ينهنه ويقهقه في وقت واحد: حمدا لله على سلامتك يا أخي، ربنا يجعل يومي قبل يومك ... يالله يا رجل، عش حياتك وربنا يطول في عمرك ... هل هذه عملة تعملها يا رجل يا طيب؟ ... العربة في انتظارك أمام مدخل الجبانة، مبروك عليك بعد عمر طويل ... المهم أن تعيش لنا وللناس والأجيال يا رجل ...
قال الدكتور وصوته مختنق بالدموع: نعم نعم! المهم أن أعيش.
كل شيء يفنى إلا الفناء
لست أدري لماذا وقع اختيار أترابي في المدرسة وفي اللعب، على هذه المساحة المهجورة الواسعة لتكون ملعبا للكرة. ألأنها بعيدة عن البلد والزحام ودبيب أرجل البشر والحيوانات؟ أم لأنها تمتد وراء مزلقان السكة الحديدية، ويسهل الوصول إليها بعد انصرافنا من المدرسة وقبل عودتنا إلى بيوتنا؟ وهل خطر على بال زملائي أنها ملاصقة للجبانة الكبيرة الغارقة في نعاس الموت الذي لا يقظة منه؟ لا شك أنهم لم يفكروا في ذلك. ولو فعلوا لحظة واحدة لما تمادوا كل مرة في صراخهم وصياحهم ومعاركهم الطاحنة على الكرة، التي كانت تشتد أحيانا إلى حد يوقظ عفاريت الظهر والعصر وربما يوقظ الموتى من نومهم الأبدي.
كنا في ذلك اليوم قد خرجنا من المدرسة مبكرين قبل أن تتوسط الشمس كبد السماء. قالوا لنا إن الناظر أمر بأن يكون ذلك اليوم نصف يوم فحسب بمناسبة الاحتفال بأحد الأعياد التي لا أذكرها. هللنا وصفرنا وزمرنا ورقصنا، وسرعان ما جمعنا فريقنا والتأم شمل الفريق المنافس. وجرينا ونحن نتوعد الخصم المغرور ونتحداه، وجروا هم أيضا وسبقونا إلى الملعب الذي بدا من بعيد كأنه منسي ووحيد، وفي انتظار أن نعمره بشقاوتنا وقفزاتنا ونداءاتنا المستمرة، وصيحاتنا المرتفعة، وكأنما نلعب الكرة بحناجرنا لا بأقدامنا.
كان «الماتش» في ذلك اليوم حاميا أكثر من المرت السابقة، وكان فريقنا - كما فهمت بعد ذلك - مصمما على الثأر لنفسه من هزيمة ساحقة مني بها قبل أن يضموني إليه ويعهدوا إلي - لفرط وداعتي ومسالمتي وهدوئي الفظيع - بأن أقف في «الجون» وأصد الكرات التي توجه إليه من الفريق المضاد. بدأ اللعب واشتعلت المعركة، وتعالت أصوات الصياح والغضب والتهديد بالانتقام. ووقفت في مكاني كالشبح الساكن الغريب أتفرج على الجميع، وأمثل دور «الجون» دون أن أشارك في شيء، أو تخرج من فمي كلمة أو صيحة واحدة. وفجأة دوت الكرة كالقذيفة وتخطت الحواجز والقوائم الخشبية التي أقف تحتها لتسقط بعيدا في الجبانة المجاورة. كلفوني - ولا أدري لماذا - بأن أسرع بالبحث عنها وإحضارها. سرت نحو الجبانة التي كان يفصلها من أرض الملعب مجرى مائي نحيل، وسور ترابي تكسوه الأعشاب البرية الموحشة، وتعلو بالقرب منه نخلات وشجيرات صغيرة كابية الخضرة. لم يطل بحثي عن الكرة؛ إذ وجدتها ملقاة بالقرب من السور. التقطتها بسرعة وقذفت بها إلى الأيدي المتشنجة التي كانت تنتظرها نافذة الصبر، لكنني قررت في الوقت نفسه ألا أرجع للملعب مهما تعالت صيحاتهم ونداءاتهم. كانت رهبة الجبانة وغموضها وسحرها الأسود قد جذبتني للتجوال فيها، وجعلتني أسد أذني عن النداءات المتلاحقة.
وكانت سخونة الشمس تنفث اللهب في الأشجار والحشائش المنبسطة، وتسقط حممها الحارة على أسطح المقابر والأضرحة فتزداد بياضا ولمعانا. رحت أتمشى بين صفوف القبور القديمة، وأتعرف على القبور الجديدة التي تغطيها زهور وأوراق وسعف نخيل لا يزال يحتفظ بخضرته ونضارته. وشملتني رهبة الموت، وبدأت أفكر في القبر الذي سيضمني مع بقية أهلي. لم أكن أعرف الطرق إلى مدفن أسرتي، ولم أحاول البحث عنه وسط غابة الموتى الساكنة. ولذلك اكتفيت بقراءة الفاتحة على الجميع، وقراءة الآيات والكلمات والتواريخ المكتوبة والمحفورة على الشواهد أو على أسطح القبور. كانت أول مرة أعيش فيها مع الموت، وأتصور أن الموتى قد توحدوا في شخص واحد يستقبلني ويرحب بي في عالمهم السفلي. وشعرت أنني لست غريبا عن هذا العالم، وأنني أحد الأشباح التي تتجول فيه ولا تخشى أن تسكنه وتبقى فيه إلى يوم الحساب.
كان أترابي في اللعب قد يئسوا من النداء علي، وكفوا عن انتظار عودتي إليهم، ولكنهم لم يكفوا عن الصياح والصراخ والسب والشتم لبعضهم، ولا عن الوعيد والتهديد بالانتقام. وظلت أصواتهم تنساب نحوي كالأصداء القادمة من عالم آخر انقطعت صلتي به منذ أن حللت في هذا العالم السلفي. لا أعرف الآن إلى أين أخذتني شطحاتي وتأملاتي في الموت والحياة، وذكرياتي عن الأجداد والأقارب الذين سمعت عنهم من أمي وأختي الكبيرة. ويبدو أن توهج الشمس وعطر السكون وأبخرته النافذة، والحرارة المسلطة على رأسي، ورءوس الكائنات الخفية التي تواصل دويها المكتوم بلا انقطاع، يبدو أنها جميعا قد التفت حولي ولفتني في ثوب كثيف من التعب والرغبة في النوم. وملت إلى مقبرة حديثة وعالية كانت تقع في الظل، فجلست عليها ورحت أتثاءب وأناجي الموتى الذين تخيلت أنهم اتحدوا في كيان الميت، الذي أجلس على قبره دون أن أعرف شيئا عنه أكثر من اسمه وتاريخ مولده ووفاته المحفورين بخط رديء على المصطبة التي مددت جسدي فوقها. لا أذكر حتى الآن هل رحت في النوم، أم أفقت منه على صوت غامض ومتحشرج ومخنوق يرتفع من تحتي، وهو يدمدم في غضب وحزن عميق: أنتم أيها الأحياء اللاهون، المنهمكون في الصخب والطموح والعبث والضجيج، هل فكرتم لحظة في راحة الموتى الذين تقلقونهم وتزعجون نومهم؟ وأنتم أيها الأولاد الأشقياء، ألم تجدوا مكانا تلعبون فيه وتتصايحون وتتقاتلون وتسبون وتلعنون غير هذه الأرض الملاصقة لأجدادكم وآبائكم الذين نسيتموهم ونسيتم حقهم في السكينة والسلام؟ هل نسيتم أن كل شيء يفنى ولا يبقى إلا الفناء؟ وأنت أيها الولد المسكين! ... هل بدأت تحس بحرمة الموت وتغلغله فيك وفي كل شيء حي؟ هل تشعر الآن بأنك لن تفلت من مصيرنا، وأنك منذ الآن ميت، وكلكم ميتون وإن لم تدفنوا بعد مثلنا في التراب؟ قم يا ولدي المسكين وكن أعقل وأحكم من رفاقك المزعجين ... قم يا ولدي ولا تنس ما قلته لك: كل شيء يفنى ولا يبقى إلا الفناء.
ربما صحوت من نومي فجأة، ورحت أجري بحثا عن بوابة الخروج، وربما تفكرت فيما قاله الصوت الغامض الرهيب، ومضيت خطوة خطوة نحو الطريق الزراعي الذي يحف بالجبانة وأنا أواصل التأمل فيما سمعت. ولعلي ما زلت منذ ذلك اليوم أتفكر في الموت وأعيشه في كل لحظة، وأتنفسه مع كل نفس، وأعمل وأذهب وأجيء وأكتب وأقرأ وأنا أحدق في وجهه وعينيه، وأحاول أن أرد عليه، أو أواجهه وأتحداه، أو أهادنه وأراوغه بالانخراط الدائم في التأمل والعمل. أعلم منذ ذلك اليوم أنني دخلت تابوتي بغير حاجة إلى تآمر «ست» أو غيره، وأعرف تماما أنني أسير وأتكلم وأخطب أحيانا وآكل وأشرب وأنام وأصحو من داخل التابوت الذي لا يراه أحد غيري. وعلى الرغم من اقتناعي بما قاله الصوت الغامض المخنوق، ومن شكي في بقاء أي شيء مما أعمل أو أكتب أو أقول، فإنني أواصل الرد والمواجهة، ولا أكف عن إرسال الرسائل إلى المجهول الذي يسكنني ويتربص بي، ولا بد أنه سيأخذني يوما إلى عالمه السفلي ... لكن الشيء المؤكد الذي لا يتطرق إليه الشك، هو أنني منذ ذلك اليوم لم تلمس قدمي الكرة أبدا، ويقينا لن تلمسها في أيامي الباقية.
1
قرطبتي وحيدة وبعيدة
سمعت وقرأت عنها في صباي. عرفت أن سماءها زرقاء، والقمر الذي يطلع فيها أخضر وكبير، وأن أبراجها العالية تطل على أهلها في صمت وحنان، وناسها طيبون وسعداء وحكماء، والطريق إليها خطر وطويل ... سمعت وقرأت أيضا أن فيها قبابا ومآذن وبقايا جوامع وأعمدة وحدائق ونوافير ... وكم كان اسمها المنغم يطربني، وتاريخها المفعم بالبطولات والأحزان والأشجان يشجيني.
عندما كبرت قليلا، حلمت أن أرتدي ملابس الفرسان، وأعتلي صهوة فرس أسود صغير، وأنطلق إليها وأسأل كل من ألقاه عن قرطبته الوحيدة البعيدة، لكنني كنت مجرد حالم بائس، لا يملك فرسا ولا يستطيع أن يحصل على ملابس الفرسان، ولا يعرف طريق البر ولا طريق البحر إليها. مع ذلك لم أيئس من الوصول إليها، وإن بقيت عزيمتي وإيماني مجرد أحلام تراودني في الصحو وفي المنام.
ثم كبرت أكثر، ورحت أقرأ عن المدن المثالية الفاضلة التي يقال - كذبا - إنها لا توجد إلا في الأحلام والأوهام. وبدأت أكتب وأكتب وقرطبة الوحيدة البعيدة تتجلى كوجه محبوبة جميلة ومستحيلة وراء أقنعة الحروف والكلمات والعبارات. أراها في قصائد الشعراء، وأحس ريحها المعطرة بالذكريات والأشواق تلفح وجهي أثناء انكبابي على قراءة الفلاسفة، ومن بين السطور والصفحات الطويلة التي أسودها عنهم ...
وأبلغ صحراء الكهولة، ثم أوغل في متاهة الشيخوخة والحلم بقرطبتي الوحيدة والبعيدة لا يزال يلح علي، كأنه الملاك الذي ينقذني في المحن الكثيرة وينتشلني من مستنقع البلادة والملل والخسة والغدر والظلم والتجاهل والمرارة الذي طالما أوشكت أن أغرق فيه. ومن بعيد تتخايل أمامي قرطبتي الحبيبة الغامضة البعيدة، أتجول بين ناسها الطيبين السعداء، أبتهج بالمشي في حدائقها الغناء والتطلع لأبراجها الشماء، أفرح بالجمال والنظافة والانسجام والوئام الذي تكاد تنطق به الأحجار الصماء. وكم يبهرني ويدهشني أن تطل شمسها الربيعية الدافئة في النهار، وقمرها الأخضر كالكرمة المتوهجة في الليل على شوارع وميادين وقصور وبيوت تغمرها السعادة والسكينة والسلام، ويعمرها العدل والتراحم والحنان.
أحيانا ينتابني الإحساس بأن الموت يحدق في من أبراج قرطبة، وأنه سيخطفني حتما قبل أن أبلغ قرطبة. لكنني أعزي نفسي بأن أناسا غيري ربما بلغوها وعاشوا فيها، وتنعموا بخيراتها وثمارها وأنوارها، وكنوز الحكمة والسعادة والحقيقة التي ستصبح في متناول أجيال أخرى تأتي من بعدي، أو أبناء أو أحفاد أو أحفاد أحفاد ربما يساعدهم الحظ والتاريخ وحكمة العقل والبصيرة أن يصلوا إليها ويحققوا حلمي وحلمهم بالعيش فيها.
وأظل أحلم بقرطبة الحرة العادلة الجميلة ...
وتظل قرطبتي وحيدة وغامضة وبعيدة.
1
البالونة
يمسكني أبي من يدي وهو يسحبني وراءه، وأنا أقفز وأحاول أن أحاذي خطواته السريعة الواسعة. يده تضغط أحيانا على يدي، فأتحير من هذه الضغطات القوية التي أحس بحنانها، وأرفع وجهي وعيني إليه فأراه متجهما معقود الجبين، زائغ البصر، محني الرقبة والظهر، ومثقلا بهم لا أدري عنه شيئا. وأفاجأ بأننا وصلنا إلى محطة السكة الحديدية، ودخلناها بالفعل. أوقفني عند كشك الجرائد والسجائر، ونبه علي ألا أتحرك من مكاني خطوة واحدة حتى يقطع التذاكر من الشباك الذي أشار إليه، ورأيت صفا طويلا من الواقفين أمامه. وجدتها فرصة للتأمل في أحوال أبي وأحوالي بعد أن أيقظني من نومي في الصباح، وأمرني أن أرتدي ملابسي بسرعة ولا أضيع وقتا. ولما عاتبته أمي على أنه سرع الولد حتى قبل أن يغسل وجهه أو يضع لقمة في فمه، سمعته يقول لها شيئا على انفراد لم أتبين منه سوى كلمة واحدة رنت في أذني كالجنازة، أو شيء شبيه له علاقة بالموت والأموات. وقفت في مكاني ساخطا على السفر والمحطة وبائع الجرائد، الذي نهرني أن أبتعد قليلا، والناس الذين يجرون ويزعقون ويشيرون بأيديهم وأذرعهم للأرصفة والقطارات الواقفة فيها، ويبدون في صياحهم واندفاعهم كأنهم مجانين أو مطاردون. والشيء الذي أغاظني في وقفتي التي طالت هي أن الوجوه التي تمرق أمام عيني لم تكن تقل جهامة وعبوسا عن وجه أبي. خيل إلي أن الجميع مثقلون بهموم فادحة، وكدت أيئس من رؤية وجه واحد يضحك، أو من سماع ضحكة واحدة تخترق زحام الحشود المتدافعة في هذه المحطة التي بدت لي ساحة مجانين ...
وفجأة لمحت عيني بائع بالونات يخترق الجموع، ويتجه مباشرة إلى كل أب أو أم تمسك في يدها طفلا. أعجبت بخفة حركته وخفة دمه، وبهرتني البالونات الحمراء والخضراء والزرقاء والصفراء التي تتمايل وتترنح على عصا يهزها في يده، وتتدلى منها البالونات كأعناب كبيرة وناضجة تتلوى في الهواء، وتكاد تسقط من فروع كرمة كبيرة وكثيفة. انشغلت بطبيعة الحال عن الزحام والقطارات والصفارات المدوية التي تطلقها كلما دخلت في أحد الأرصفة، والتصقت عيناي بالبالونات، وراحت تتابع رقصاتها المرحة، حتى كدت أتخيل أنها مهرجو سيرك ملونون يقدمون ألعابهم أمام وحوش مكشرة عن أنيابها ووجوهها المقطبة المخيفة.
وجاء أبي بعد أن شبعت جنونا بالبالونات، وملأت عيني وقلبي بألوانها ورقصاتها وحركاتها المضحكة. جريت نحوه وأنا أهتف به وأكاد أهدده بالبكاء: بالونة يا أبي! أرجوك يا أبي! أرجوك! تلفت أبي حوله والتكشيرة لا تزال تغرس وجهه وحاجبيه وعينيه. ووقع بصره على بائع البالونات وهو يستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم. أشار للرجل أن ينصرف ويتركنا في حالنا، ولكن الرجل ظل واقفا في مكانه، ولم يفقد الأمل بسهولة. واغتنمت الفرصة فضربت الأرض بقدمي ومثلت دور الباكي الذي يرفع شكواه للسماء، ويزمع أن يفرج الخلق على الظلم الذي حاق به دون ذنب جناه. ويئس أبي مني، وسمعته يكلم نفسه قائلا: إحنا في إيه ولا إيه! ثم يمد يده إلى الرجل ويأخذ منه بالونا، وهو يقول له : منك لله أنت أيضا ... وعندما يسمعني أعترض على اللون الأبيض وأطلب بالونا أزرق، يسرع الرجل فيعطيه ما طلبت.
أعطاني أبي البالون، وهددني بسبابته المتصلبة التي كادت تدخل في عيني: خذ بالك، لا أريد فضائح، خلها في يدك ولا تتحرك من مكانك حتى أحضر سندويتشين من البوفيه. ثم وهو يستدير ويكرر تحذيره: سامع يا ولد ... لا أريد فضائح ...
مددت ذراعي بطولها على قدر ما يسمح الزحام والأجساد المتدافعة التي ترتطم بجسمي الضئيل النحيل، وأخذت أتمايل مع البالونة الزرقاء التي وضعت في يدي الحبل الذي ربطت فيه، ورحت أتراقص ذات اليمين وذات الشمال، وأغني أيضا. لم أجد المساحة الكافية لكي أركض وأجري وأذهب وأجيء، والبالونة - هذه المعجزة الناصعة الساطعة كالفيروزة - تتبخر في كل اتجاه غير مكترثة بشيء. كانت الأجساد التي تصطدم بي والأيدي التي تدفعني أقوى من أن تسمح لي بالرقص الحقيقي كما أن الوجوه المقطبة الغاضبة التي كانت تحدجني عيونها بنظراتها النارية كانت تشل حركتي وتكاد أن تقلب رقصي وفرحي غما وبكاء ومع ذلك لم أكترث بشيء، لا بالأجساد التي تدفعني وتزحزحني كل حين، ولا بالوجوه الساخطة والأفواه الفاغرة التي تصب لعناتها على الأولاد الأشقياء كنت أرقص «محلك سر» والفرحة تهز جسدي كله، وتكاد ترفعني مع البالونة لنحلق في سماء المحطة المزدحمة الكريهة الرائحة لم أكن أنا وحدي الذي يشعر بالفرح والسعادة، لقد خيل إلي أن السماء الزرقاء الصافية التي تعلو رأسي سعيدة معي، وأن الطيور التي تحلق في السماء تنادي البالونة لتحلق معها في الهواء الأزرق في ذلك اليوم الشتوي الدافئ المشرق، وأن نوافذ البيوت المتوهجة بضوء الشمس الذهبية تعلن عن سعادتها بهذا الفرح الطائش الشجاع.
والتفت فرأيت أبي قادما، وشرارات الغضب تطق من عينيه، سبقه صوته المرعد المرعب وهو يصيح: أنت يا ولد ... ألم أحذرك يا مجنون ... ارتعشت يدي وانتفض جسدي كله، وقبل أن تصل قدماه إلى مكاني، كانت البالونة قد أفلتت من أصابعي وطارت إلى أعلى. قال أبي شامتا، وبغير أن تفلت منه ضحكة أو يفتر فمه عن بسمة: أحسن ... أحسن ... تشاغلت عنه وعن خوفي منه وصحت به: انظر يا أبي! إنها تصعد وتصعد وتصعد ... فيروزة تحلق في السماء، فراشة زرقاء ترفرف فوق أسطح البيوت ... انظر يا أبي انظر! لكنه أحكم يده وذراعه الحديدية على كتفي وهو يزمجر: القطار وصل ... تعال ... تعال قلت لك لا داعي للفضائح ...
كان قد شدني من يدي، وأخذ يدفعني أمامه بعنف، وعندما وصلنا إلى أحد أبواب القطار، دفعني من ظهري وقذف بي مع الحقيبة التي في يده وهو يدمدم ويستغفر الله - كعادته من كل ذنب عظيم - وبعد أن جلسنا على المقعد الخالي، وجدتني أهتز وأنتفض وأطرافي كلها ترتعش. ارتج قلبي وجسدي كله بإحساس فظيع بارتكاب جريمة لا أدري شيئا عنها ... وعندما انفجرت بالبكاء، قال لي أبي: ما الداعي للنكد الآن؟ ألم تشبع من الرقص والفرح ... وفر دموعك لجنازة عمك التي ستمشي فيها بعد قليل، سكت وعرفت سبب همه وغمه طوال الطريق، وتطلعت من النافذة، فرأيت البالونة وهي تصعد وتصعد في السماء الزرقاء.
1
رسائل حب
أكاد أشعر بأنك تسألينني: لماذا تأخرت عني؟ لماذا لم أتلق رسالة منك طوال هذا الأسبوع؟ أتريدين الجواب؟ لم يؤخرني عنك شيء عارض، أخرني عنك الموت نفسه. أرى على وجهك وفي عينيك أمارات الدهشة. نعم يا حبيبتي، هو الموت نفسه ولا شيء أقل منه. لكنني لم أنسك أبدا أثناء لقائي معه. أتدرين ماذا كنت أفعل طول الوقت؟ أتدرين كيف واجهته وحاورته وداورته وأنا أتفرس في وجهه الغامض وعينيه الكابيتين؟ واجهته بكتابة رسائل إليك. رسائل حب، ربما لم تصلك مني أكثر منها حبا وتعلقا بك وبالحياة معك. ماذا حدث؟ أقول لك يا حبيبتي باختصار، فما زالت سحب الموت السوداء تطاردني وتغشي روحي وبدني، حتى بعد أن وارينا الصديق العزيز تراب القبر وتركناه وحده ...
أجل يا حبيبتي، كنت مع الموت على مدار الأيام العشرة الماضية. دخل صديقي الذي طالما حدثتك عنه غرفة العناية المركزة بعد نضال مضن مع المرض. أبلغتني بذلك زوجته التي أعدها أختا واسمها الراعية الحنون، وكذلك ابنه وابنته اللذان لم أكن قد رأيتهما منذ سنين طويلة. أسرعت إلى المستشفى الذي يرقد فيه. كان المطر يتساقط، والبرد الشديد يزيد من اشتعال نزلة البرد التي ألهبت جسدي وأفقدتني توازني. ووصلت إلى المستشفى، وأذنوا لي في الدخول عليه. كان ممددا على الفراش، وجهه مستدير تجاه النافذة، وعيناه اللتان لم يظهر منهما إلا بياض أشبه بالضباب تحدقان في الفراغ الجاثم من حوله. أمسكت بيده، مزرقة ومسودة وباردة، وتحسست صدره المتحشرج الذي لا يستطيع أن يلتقط نفسا واحدا بغير جهاز التنفس الفضي الذي ثبت على فمه. دلكت يديه ورجليه فلم تصدر عنه أي استجابة. وحين شعرت بضغطة يده على يدي بعد أن ناديته باسمه، وملت على أذنه أذكره باسمي وبأيامنا وليالينا وذكرياتنا على مر السنين، خيل إلي أنني أري شعاع أمل في تماثله للشفاء، لكنه لم يلبث أن سقط في غيبوبته وعاد يحدق في الفراغ الساكن الموحش بعينين مفتوحتين. كان من المفروض ألا تدوم زيارتي أكثر من خمس دقائق، لكنني استأذنت المسئولين في قضاء الليل معه فأذنوا لي بعد تردد شديد.
ها أنا ذا أجالس صديقي المحتضر، أتابع الأنفاس المختنقة والآهات المكتومة لقطعة عزيزة من عمري. ماذا أقول لك، وكيف أصف إحساساتي وخواطري في تلك الساعات الكئيبة الحاسمة. هل رأيت طوال حياتك إنسانا يحتضر؟ هل جربت عذاب الموت ومعاناة الروح التي تصارع لمغادرة جسد ضعيف وعاجز عن المقاومة؟ حتى ولو كان المحتضر حيوانا، قطا أليفا أو كلبا وفيا، فلا بد أن تشعري بأنك أنت أيضا تتعذبين عذابه وأنك تموتين معه، بالمعنى الحرفي القاسي للموت.
كان صديقي يتعذب على مرأى مني ومسمع. عاجز أنا عن مساعدته، ملهوف على سؤال الأطباء الذين يترددون عليه أثناء الليل، يقيسون نبضه، يتحسسون صدره وكبده، يعدلون وضع جهاز التنفس أو خرطوم السائل الشفاف الذي يصب في وريد قدمه بعد أن جفت اليدان ورفضتا الاستجابة لأي حقن جديد. وأنا أواجه العزيز المتحشرج، الغائب عني وعن نفسه وعن كل شيء ... ربما لا تصدقين إذا بحت لك بأسرار أنهار الخواطر التي راحت تزدحم علي وتهاجمني من كل ناحية. هل تحكمين علي بأنني كنت شريرا حين توافدت علي أفكار من الهند البعيدة، وكدت في تلك اللحظات القاتمة الموجعة أن أميل على أذنه وأهمس فيهما: أبشر يا صديقي الحبيب، ما هي إلا خطوات وتعبر عتبات الفناء وتتحد بالكل. ستصبح قطرة تنحدر في نهر الوجود، شعاعا يذوب في شمس الخلود، صوتا ينضم إلى أصوات الحكماء والشعراء والأدباء الذين أحببتهم من كل العصور والأوطان والحضارات. ألا تسمعهم الآن وهم يرحبون بك ويحتفلون بانضمامك إليهم، بعد كفاحك المخلص الطويل في بلدك، ومن أجل أهلك وناسك؟ أبشر يا صديقي الحبيب ... إن الكل يدعوك إليه، وليس الكل بباطل كما كتبت يوما على عنوان كتاب مبكر ...
أتصدقين يا حبيبتي أنني لم أنسك أبدا طوال تلك اللحظات التي جلست فيها، كالقرد الحائر المعذب في مواجهة إنسان حبيب يتألم في النزع الأخير، ويصارع الطائر الأسود الكبير الذي تغلغل في دمه في أنفاسه في كل خلية من خلاياه. أهو تجديف وقسوة وجحود فظيع أن أقول إن وجهك كان يطل علي من النافذة، ويتمثل لي على الحائط وفوق الأجهزة والآلات المعقدة التي تراكمت حول المريض وفوق رأسه وبجانبه؟ أن أقول إنك كنت تنظرين إلي نظرتك النافذة العميقة الحنون، وأنني كنت أسمع همسات حبك الخافتة بينما تتزاحم علي وتلسعني جيوش نحل تخرج من خلايا الدماغ، وتطن وتئز وتدوم حولي وفي كل مكان من غرفة الموت الصامتة الموحشة؟ وكيف أمكن يا حبيبتي في ذلك الموقف الرهيب أن أشعر باقترابي منك إلى حد الالتحام والعناق والغياب، كيف أمكن أن أحس بنبضات قلبي وهي ترتعش وتنتفض بحبك؟ أبدا لم أحبك مثل هذا الحب. أبدا لم أشعر بأنني قريب منك كل هذا القرب، أبدا لم أكن أكثر مني تعلقا بك وبالحياة. وهل تصدقين في النهاية أنني كتبت لك رسائل مفعمة بالحب، رسائل أدفأ وأصدق وأكثر وجعا وفرحا وحنينا من كل ما سبق أن كتبت إليك؟ تقولين أين هي، وماذا قلت لي فيها؟ تريدين أن تقرئيها وتضميها إلى رسائلي السابقة؟ وكيف تتصورين أنني كنت أمتلك الوقت أو الرغبة في الإمساك بقلم والكتابة على ورق بينما كياني قوس مشدود الوتر، يهتز ويرتجف مع كل حركة يبديها صديقي المحتضر؟ يكفيك أن كل نقطة في دمي كتبت لك رسالة حب، واجهت بها الموت المحيط المتغلغل في صديقي وفي. يكفيك - كما قلت - أنني أحببتك في تلك الليلة الغارقة في بحر أسود كما لم أحبك أبدا أبدا من قبل. آه يا حبيبتي! إن الخجل والرعب يمنعاني من أن أضيف أو أزيد. ربما تقرئين سطورا من هذه الرسائل لو شاء القدر أن يجمعنا ذات يوم في عش واحد. ربما يا حبيبتي الغالية ... ربما.
1
إلى أمي الحبيبة
إليك أكتب هذه الرسالة التي تأخرت كثيرا ... أكتبها الآن بعد أن هبط المساء ومعه البرد الشديد والضباب أيضا. أحاول أن أدفئ نفسي في غرفتي العارية الخاوية فوق السطوح، لكنني لا أفكر إلا فيك وفي الروماتيزم اللعين الذي يهاجمك كل شتاء، وربما يكون قد هاجم القلب الحنون في السنوات الأخيرة. أه! ماذا تفعلين الآن يا ترى؟ هل تعجنين أم تخبزين أم تغسلين أم تصعدين إلى السطوح لتتفقدي برج الحمام، وتلقي الحبوب وفتات الخبز للبط والدجاج، ولا تنسين أن تجددي صحن الماء الكبير؟ هل ما زال صفير القطار الذي يمر من أمام بيتنا يزعجك، والشحاذون ومداحو النبي، هل ما زالوا يطرقون بابنا وتسرعين فتعطيهم العيش والجبن والحلاوة وما فيه القسمة والنصيب؟ أم تراك تمسحين ظهر قطي الشقي العزيز بستان، وتحذرينه من فتح النملية وباب الفرن وسرقة السمك، وتذكرينه بالعشرة والمعروف؟ وهل خرج أبي إلى الدكان مبكرا ومتجهما كعادته، وهو يلعن الزمن والحظ وخلف الأولاد الذين لا يأتي من ورائهم إلا النكد؟ سامحيه يا أمي، وواجهي غضبه وثورته بابتسامتك الساخرة التي تشرق كالشمس فتبدد غشاوة البخار والدخان والضباب. إنه - رغم كل ما فعله معي - كالسحابة التي تبرق وترعد، ثم لا تلبث أن تصفو وتسبح في السماء كالجزر البعيدة الزرقاء.
كما أنك تعرفين أكثر منا جميعا أن مصباح الإيمان ينور قلبه، ويكشف عنه أستار الضغينة والمرارة وظلمات الاكتئاب. سلمي على كل شيء في البيت يا أمي، على الباب والسلم والساعة القديمة في المندرة، والبورية العجوز في الحجرة المطلة على الشارع الرئيسي، ولا تنسي أن تلمسي كتبي وأوراقي وتمسحي الغبار عنها وعن مكتبي الصغير ...
أكتب إليك يا حبيبتي - كما قلت لك - من الغرفة التي دبرها لي صديقي الذي سبقني ليجرب حظه في قلب هذه المدينة التنين. وهو كذلك الذي دبر لي عملا في مطبعة كبيرة في الصباح، وهو عمل يكفيني للحصول على لقمة العيش، ويعطيني في المساء فرصة تأليف أشعاري. آه! لست في وفاق مع نفسي، وما زلت - كما تعرفيني - حزينا حتى الموت، لكنني خرجت من البيت ورحلت إلى المجهول، وفي صدري تصميم أكيد على الحياة للشعر وبالشعر. أعلم أنك لا تعرفين الفرق بين شعر ونثر، أنك كنت تأخذين مسودات أشعاري ومحاولاتي الأولى وتشعلين بها نار الفرن والكانون، وكيف أشرح لك أو لأبي أو حتى لأخواتي وإخوتي المتعلمين أنني وهبت حياتي للشعر ووهبته كذلك موتي؟ هي مغامرة ومخاطرة بكل شيء يا حبيبتي. والسقوط ضحية لها أفضل عندي من التعفن في الدكان الذي يريد أبي أن يحبسني فيه عقابا على فشلي في الدراسة، وهروبي من مللها الرهيب، ودرسا قاسيا في مدرسة تجارته الصغيرة مع أني لا أفهم في البيع ولا في الشراء. كم نهرني وثار في وجهي ورفع علي سيف عنترة وعصا موسى، وكم أقسم على أنني لو أفلحت في حياتي فسوف يأكل من صحن واحد مع الكلاب. وكم شتمني - كما كنت تسمعين وترين - كلما رآني أسرح بنظراتي إلى البعيد وأثبت عيني على السقف، وأسهر طول الليل مع أشعاري وحكاياتي التي ربما لن يقرأها أحد ولن يسمع عنها إنسان. لكن ماذا أفعل يا حبيبتي؟ كان لا بد من الخروج، لم يتبق أمامي إلا الفرار من جحيم البيت إلى جحيم العالم الذي أعيش الآن فيه.
أعلم أنك تنتظرين أن أطرق باب البيت نهارا أو ليلا فأعانقك وأضمك إلى صدري، وأقبل أبي وأسأله التوبة والصفح. لا تنتظري يا أمي أن أفعل هذا - فقد اخترت أن أكون أنا نفسي ولو خسرت العالم كله - لكنني سأحضر يوما، صدقيني سأفعل هذا في يوم قريب. سأتسلل من الباب خفية وأضمك إلى صدري وأقبلك في عينيك، ثم أذهب كما أتيت دون أن يراني أحد أو يحس بي أب ولا عم ولا خال ولا أخ ولا أخت ...
لكنك مع ذلك تنتظرين وتنتظرين، تجلسين أمام النافذة في المندرة وتتابعين العربات المنحدرة من المزلقان بالساعات والساعات. أعلم أنك تعيشين الآن كما تعيش كل أمهات الشعراء، فقيرة وباكية على الدوام، وعادلة في مقياس الحب للأبناء الجاحدين والبعيدين. ستقولين: أخيرا تصلني كلمات من الابن القاسي الذي خرج وعلى ظهره معطف رخيص وفي قدميه حذاء قديم. كنت أرى الدموع في عينيك، وأعجب كيف تحبسينها عن السقوط، وبدلا منها تبتسمين ابتسامتك الساحرة الساخرة. ليتك تعرفين كم ساعدتني هذه الابتسامة، وما زالت تساعدني على الصمود في وجه الفقر والظلم والجوع أيضا في بعض الأيام، وليست ابتسامتك وحدها هي التي تساعدني وتقويني، إن هديتك التي صممت على إعطائها لي عندما خلعت الغويشتين اللتين بقيتا لك من صيغتك القديمة، تحملان عن كاهلي الكثير من الهموم. لقد بعت إحداهما بمبلغ أعانني على شراء سرير ومكتب قديم وبطانيتين وحذاء آخر جديد، بل دفعت كذلك إيجار حجرتي التي على السطوح لمدة شهرين قادمين. عليك أن تطمئني يا حبيبتي، فأنا الآن أحصل على مرتب إن لم يكن كبيرا، فهو يكفي ضرورات الجسد المريض النحيل. والمهم أنني لا أترك لحظة تفوت من عمري بغير أن أواصل حلمي وأحاول أن أحقق بعضا من ذاتي، وأكون أنا نفسي لا أحدا آخر كما قلت لك قبل قليل.
هل بكيت الآن يا حبيبتي؟ أكاد ألمح الدمعة تفر من عينيك وتبلل وجهك وصدرك وثوبك. ربما تخافين علي من أن يتربصوا بي هنا ويقتلوني كما يقتل كل الشعراء في كل البلاد. حتى لو حدث هذا يا أمي فهو لا يستحق دمعة واحدة، منك - وإذا رجعت إليك يوما على قيد الحياة أو جثة هامدة، فلن يستحق موتي صرخة واحدة ولا دمعة واحدة - أتعلمين لماذا يا أمي؟ لأنني لم أطلب شهرة ولم أفكر في مجد، ولم أسع لإعلان أو إعلام. إنما أردت أن أكون شاعرا وكان لي ما أردت - وسواء علي أن يذكرني أو ينساني العالم الذي أعطيته ظهري وخسرته عن عمد - إذ يكفيني - كما قلت لك - أنني كنت أنا نفسي في كل ما فعلت وما كتبت. وما الضرر يا أمي في أن أموت في الغربة؟ ألم تقولي دائما: من مات غريبا مات شهيدا؟ وهل قليل علي أن يقول عني إنسان واحد حر إنني مت من أجل الشعر. هل سيمنع موتي الشمس عن الشروق والغروب؟ هل سيوقف القطارات التي يزعجك صفيرها بالليل والنهار؟ هل سيكف قطي الأسود «بستان» عن لعبه وموائه الحزين، وهو يبحث عني في حجرتي وعلى مكتبي وتحت سريري؟ وما الفرق بين أن يمدوا جسدي هنا في تراب المدينة، التنين، وبين أو يوارى في مدفن أسرتنا؟ ما الفرق إذا اعترف ناقد واحد بأنني عشت حقا وصدقا للشعر وبالشعر، وأن ديواني أو دواويني المقبلة وجدت عينا واحدة تطلع عليها وتسعد أو تشقى بها؟!
ها أنا ذا أقترب من نهاية رسالتي إليك، وأتذكر فجأة يا حبيبتي أنك لا تقرئين ولا تكتبين، لمن أرسلها إذن وكيف؟ لأبي الذي سيمزقها إربا، أم لبيت إحدى أخواتي اللاتي لا تنقصهن الهموم؟ لا لا ... لن أرسل شيئا يا أمي؛ لأنني على يقين من أن رسائل قلبي الممتلئ بحبك ستصلك، وتدخل من أبواب أحلامك، وتهمس لك في كل لحظة بأنني أحبك وأحبك وأحبك ...
مزقت الرسالة بالفعل يا حبيبتي، الوداع يا أمي الحبيبة ... الوداع.
1
الغسل
عندما دخلت الأخت الكبرى وفي يدها مصباح المطبخ، الذي أرسل أشعته القلقة في جو الصالة المظلم وهوائها العطن المشبع بالملح - كان الغريب المجهول الراقد فوق الطاولة الخشبية الكبيرة قد أصبح غريبا ومجهولا تماما - جاءت الأخت الصغرى أيضا ووقفت وهي تسعل سعالا خفيفا أمام الجثمان الممدد والغائب عنهما وعن العالم كله. راحت تذهب وتجيء في عصبية، وهي تحاول أن تكتم أسئلة تخنقها وتحاول أن تخرج من فمها. أما الأخت الكبرى، فجلست على كرسي الطاولة ووضعت رأسها بين يديها وهي تتنهد بين الحين والحين وتسعل أيضا.
كانت الأخت الكبرى - التي تعودت على الاستيقاظ مبكرا، وتنظيف البيت قبل أن تصحو أختها من نوم الضحى - كانت قد وجدته ممددا على جنبه أمام عتبة الباب التي أرادت كنسها كما تفعل كل يوم. روعت للمفاجأة، وفتحت عينيها جيدا قبل أن تجسر على الاقتراب منه. هزته لم يتحرك، رفعت ذراعه اليسرى إلى أعلى فسقطت منها كالحجر. ولما لمحت بقعة من الدم الملوث بالتراب على فمه وتحته مباشرة، صرخت صرخة كتمتها على الفور، وصعدت تعلن أختها بما رأته. وقفتا أمام الغريب حائرين، ثم استقر رأيهما على حمله إلى الداخل إلى أن يرتفع ضوء الصباح ويبلغا المسئولين.
كان المجهول قصير القامة، طويل الشعر كأنه خاصم الحلاق منذ شهور، يرتدي سروالا غامقا وقميصا ملوثا بالعرق والتراب، وفوقه سترة قديمة حائلة اللون. وضعت الأخت الصغرى يديها تحت رأسه، ورفعته الكبرى من جذعه وساقيه. وبعد أن وضعاه على الطاولة في الصالة، بدأت الأسئلة القلقة تنهمر منهما: من هذا الغريب يا ترى؟ ما اسمه وعنوانه وماذا يعمل؟ وما الذي جاء به من بلده ليموت أمام باب أرملتين فقيرتين؟ من مات غريب مات شهيدا. البوليس والنيابة سيقومان باللازم بمجرد أن نخطرهما. لكن الدنيا ليل والفجر لم يطلع، ولا بد من الانتظار حتى تدب الرجل في الشارع. الواجب إكرام الضيف؟ لو كان حيا لأطعمناه وسقيناه. وهل بقي أمامنا الآن إلا أن ننظفه ونغسله والثواب عند الله؟ ...
تهيأت الأختان للقيام بعملهما ... أخذا يجردانه من ملابسه قطعة قطعة، وهما يستعيذان بالله وتتلوان الدعوات، ولا تستطيعان أن تخفيا شعورهما بالخوف والخجل والحرج. والأخت الصغرى لم تستطع كذلك أن تخفي حب الاستطلاع، ففتشت جيوب السترة والسروال بدقة. كانت أختها مشغولة بتحضير ماء الغسل والصابون والليفة والإسفنجة والفوط والمناشف والملاءة الكبيرة. قالت الصغرى إنها لم تجد بطاقة ولا أي شيء يدل على شخصية الضيف الغريب. ولكنها هتفت بعد قليل عندما عثرت على بعض الأوراق وفحصتها بإمعان: صدقي يا أختي أو لا تصدقي، الميت شاعر. سألت الأخت: وكيف عرفت؟ قالت التي تعرف القراءة والكتابة: الورق مملوء بسطور بينها مسافات، تماما كالأشعار التي كانوا يعطونها لنا في المحفوظات، لكن يا إلهي، كم أن خطه رديء كنبش الفراخ أو نقش السحرة والمجانين! نهرتها الكبرى وطلبت منها أن تترك الأوراق للسلطة والمسئولين، وتنتبه للعمل الذي ينتظرهما.
لم يكن الأمر بسيطا كما تصورا في البداية. أخذت إحداهما الليفة والأخرى الإسفنجة التي بللتها بالخل، وراحتا تدعكان الوجه والرقبة والصدر المنفوش الشعر والساقين والقدمين. كان العمل مرهقا للكبرى التي سبق لها أن مرت بالتجربة من قبل، وكان بشعا ومفزعا للصغرى التي غلبها البكاء أكثر من مرة. قرأت الكبرى سورة يس، وتلت الصغرى بعض قصار السور، وأخذا يدعوان بالرحمة والمغفرة للغريب الغارق في غربته وغيابه. توقفا مرات ليستريحا ثم استأنفا العمل وهما تسعلان قليلا، وتواصلان التمتمة ببعض السور والأدعية. وعندما انتهيا من العمل كان الفجر قد بدأ يكشف عن وجهه الوردي، والأشعة الخافتة الباهتة تتسلل من النافذة المنزوعة الستائر، والليل يتراجع بجيوشه المظلمة عن الغريب والأختين اللتين ظلتا تتحركان طوال الوقت كشبحين مجللين بالرعب والسواد. أما الغريب - الذي أسبلا عينيه - فقد بدا وجهه متصلبا، وجسده الأبيض المكسو بغلالة داكنة أشبه بتمثال جيري أخرج لفوره من باطن الأرض، وغطي بطبقة شمعية تشبه الإسمنت.
بعد أن لفاه في الملاءة الكبيرة وضعا ثيابه عند رأسه، وبجانبها الأوراق التي تصورت الأخت الصغرى أنها مملوءة بالأشعار. وعندما أتما استعدادهما للخروج لإبلاغ الشرطة، وقبل أن يفتحا الباب، استدارا إلى الجسد الغريب الحاضر في غيابه عن كل شيء. كان الوجه صامتا ومنكمشا كأن تقاطيعه ازدادت تصلبا وقسوة، وكانت اليدان المتشنجتان تقولان لهما وللعالم كله إنه لم يعد يشعر بالعطش، لم يعد يكترث بشيء ...
أغلقت المرأتان الباب وراءهما، وبقي الضيف الغريب في الصالة الواسعة التي بدأ ضوء الشمس يكشف غشاوتها ويطارد أشباحها. بقي الشاعر وحيدا في الصمت يشرع قوانينه بنفسه، ويبني أسواره الخاصة حول نفسه .
1
أيتها الأميرة الصغيرة
أميرتي الصغيرة الشهيرة ... ها نحن نصل بعد السفر الطويل إلى مكانك الذي حدثنا عنه الدليل. في هذا المكان الذي تملأه الحجارة الآن، كان قصرك وملعبك ومهجعك وربما قبرك الصغير ... نحن القادمون من بلاد بعيدة نقف وسط الحجارة المتناثرة، والأعمدة المبتورة والمهشمة، والحفر العميقة التي خلفها وراءهم علماء الحفريات الذين ينقبون منذ قرنين عن بقايا كنوز حضارتك، التي كانت الأصل الأول والمذهل لحضارة الإغريق. هل عشت يا ترى قبل ثلاثة آلاف سنة أو أربعة أو أكثر أو أقل؟ وهل كنت، حين تأتين إلى هذه البقعة الساحرة، ترين ما نراه الآن من قريب ومن بعيد: الحمير المطرقة برءوسها وآذانها وهي تصعد الدروب الجبلية في صبر، حقول الزيتون المسالمة التي تفرش السهول والمدرجات، النوافذ المضاءة منذ الغروب من بيوت وأكواخ فقيرة، ربما بقيت هي نفسها التي رأيتها في زمنك القديم، زمنك الذي أستحضره الآن ليتجلى في مرآة الخيال والوجدان، وتشهد عليه مئات الأعمدة والشواهد والأحجار. هل كنت يا أميرتي المينوية الصغيرة ترين أشباح الأعمدة التي نراها من بعيد ومن ناحية الشمال، وكأنها أذرع وأيد شاحبة ممدودة للسماء، أو براعم زهور ذابلة تتلهف على نسمة هواء؟ أكانت تلك هي أطلال القصر القديم، قصر مينوس الملك الأسطوري الذي تتسمين باسمه كما تسمى به ملوك بعد ملوك؟ وهل أنت حقا إحدى حفيدات حفيداته كما فهمنا من الدليل اللطيف الثرثار؟
أتجول وحدي في المكان بعيدا عن ضوضاء الفوج الذي جئت معه، وأسأل نفسي أمام ركام الأحجار: أكان في هذا الموضع ملعبك؟ هل كان موحشا كما يبدو الآن أم كان مفروشا بالخضرة ومحاطا بالأشجار وغنيا بالأرائك والكراسي، وهياكل الألعاب الخشبية التي تتأرجحين عليها أو تتسلقينها وتهبطين منها، وأنت تصيحين وتضحكين وتغنين؟ هل كانت لك دمية؟ وعلى أي شكل كانت يا حبيبتي: على هيئة عروس أو حصان صغير أو مهرج عجوز أو قطة بيضاء لا تكف عن المواء؟ وهل كنت تجلبين معك جروك الأبله الصغير، الذي يتبعك ويدور حولك وهو يعوي وينبح ويحاول أن يعض ثوبك أو قدمك، ويكاد يسقط منهارا من شدة الإعياء؟ مربيتك العجوز تسرع الخطى إليك في الموعد المحدد، فتأخذك لتناول وجبة الغداء أو العشاء، بينما تحاولين أنت أن تختفي منها وراء شجرة أو خميلة، أو تغيظينها وتصعدين سلما عاليا وترفضين النزول. لكن ماذا كانت المربية العجوز تقول لك بعد أن تسلميها يدك؟ هل كانت تحكي لك في الطريق بعد العشاء حكايات وأساطير من زمنك الحجري القديم، أو من زمن أقدم منه؟ لا بد أنها روت لك الكثير عن الآلهة والعمالقة والمردة والأبطال الذين تصارعوا معهم وأجبروهم على الاعتراف بدهاء الإنسان، وبحقه هو أيضا في الحب والمجد والجمال والقوة والمعرفة والحياة. هل حكت لك أن الإنسان في سالف العصر والأوان قد زرع السفوح والوديان، واكتشف أن الأغنام وديعة وتعشق الخضرة ورنين الناي، وتحب الرعاة وتحلم بالعيش في سلام؟ أم حكت لك يا ترى عن ذلك الوحش الذي حبسه جدك الأعلى في المتاهة الشهيرة؟ كان جدك قد نقم على هذا الوحش ذي الهيكل البشري الذي يحمل رأس ثور أنه عاشر زوجته باسيفيا، التي هامت بثور هائل، أنجبت منه ذلك الوحش الخرافي، لكن ربما لم تنس مربيتك الحبيبة أن تحكي لك أيضا عن البطل الأثيني الذي صرع هذا الوحش الذي طالما قتل الأولاد والبنات، اللاتي فرض جدك الأعلى على الأثينيين المهزومين أن يقدموهم له على سبيل الأضحية والقربان. ولولا جدتك أرديانة شقيقة ذلك الوحش، لولا أنها أعطت الخيط للبطل الجسور كي يستطيع الاهتداء إلى طريق الخروج من المتاهة، لولاها لبقي الوحش يفترس الأبرياء ويروع أحلام الأبناء والبنات والأمهات والآباء. وماذا أقول لك يا أميرتي عن زمننا الذي زادت فيه أعداد الوحوش وأنواعها، واتسعت فيه المتاهة باتساع العالم كله؟ هل أحكي لك عن زمن الذرة والكوبلت، وعن غابات مفزعة من مدن الإسمنت والأسفلت؟ عن طغاة المال والأعمال وأباطرة جيوش القوة والعدوان على أراضي الشعوب وحرياتها وأقواتها وأقدارها باسم الحرية والعدل والأمن والسلام وبقية حقوق الإنسان؟ أأقول لك إن مربيتك الجديدة التي جاءت تسأل عنك تدوس على نفس الموضع الذي داسته قدماك، وتبلل عينيها دموع تشبه الدموع التي كانت تبلل عينيك عندما كانوا ينتزعونك من وسط لعبك الحبيبة، ويجرونك إلى النوم، أو يجبرونك على الذهاب إلى جناح الملكة الأم لتعطيك قبلة المساء ومعها التعليمات المشددة بالتزام النظافة والهدوء والنظام؟ أم أقول لك يا صغيرتي إن الأشباح التي كانت تقلق منامك، أشباح الأعداء المجهولين والغزاة الغامضين والطغاة والجلادين والمعذبين ما زالت تقلق نومنا أيضا وإن اختلفت أشكال الأقنعة التي يضعونها على وجوههم عن الأقنعة التي رأيتهم بها في الحقيقة أو في منامك القلق المذعور - نعم يا حبيبتي الصغيرة - وما زالت تؤرق نهارنا وليلنا، الأسئلة نفسها التي أرقتكم عن المعنى والحقيقة وعن الغاية والمصير المجهول. أتراك قد عشت يا صغيرتي حتى أرقتك الأسئلة وأفزعتك هذه الأحلام، أم مت - في ظروف ولأسباب لا نعلم عنها شيئا - وأنت ما تزالين صغيرة، تلعبين وتقفزين وتتصايحين وتضحكين كفراشة ملونة، أو زهرة بثت فيها الروح ونبتت لها ذراعان وساقان وعينان وقلب ولسان؟! الأحجار من حولي وأمامي وورائي خرساء لا تنطق - وإذا نطقت لم تقل لي سوى شيء واحد: لن يبقى منا إلا التراب والأحجار - عبثا أستنطقها عن مكان ملعبك ومهجعك وشاهد قبرك - إذ لن يبقى من عالمك الذي يغطيه التراب والأحجار إلا ذكرى حضورك الأبدي الذي يتألق الآن مثلما تألقت الزهرة الساطعة في نفس السماء - أنت يا أيتها البراءة الخالدة، يا أيتها الأميرة المينوية الصغيرة.
1
غناء الشحرور
ها هو ذا يوقظني مرة أخرى قبل طلوع النهار. أناب. ب المسكين، الذي يرقد في نفس الغرفة البيضاء في مستشفى «الشاريتيه» التي رقدت فيها مرتين من قبل عندما داهمتني النوبة القلبية. توقظ قلبي المتصدع أيها الشحرور الصغير برنين غنائك الذي ينفذ فيه مثل ناقوس الفرح الذي يطارد أشباح الحزن والإحباط والاكتئاب وخيبة الأمل، التي طالما هاجمتني في سنواتي الأخيرة. نعم، أنا حزين أيها الشحرور الرقيق اللطيف. كنت، كما قلت في إحدى قصائدي التي كتبتها قبل سنوات قليلة، وأطللت من خلال خميلتها المعتمة بوجه الحكيم الزاهد المرور بعد ذلك اليوم العصيب الرهيب: كنت حزينا حين كنت شابا، وأنا الآن حزين بعد أن شخت - آه! متى سيمكنني إذن أن أفرح؟ الأفضل في أسرع وقت - نعم أيها الشحرور العزيز لا بد من الفرح وفي أسرع وقت. هل هناك خيط خفي ربط روحك بروحي، فجئت الآن لتفرحني ولو لحظة واحدة قبل توقف القلب وخمود الأنفاس؟ ربما. ربما. فما أكثر الاحتمالات والإمكانيات في بطن الأيام الحبلى بكل جديد. أليس هذا أيضأ هو الذي قلته أمس لمساعدي الشاب الوديع الخجول، الذي لم يمنعه خجله من أن يسألني بصراحة أو بوقاحة عن وصيتي؟ هل أدرك بإحساسه أو لشدة تعاطفه مع معلمه العجوز المريض أن النهاية قد اقتربت، وأن القلب الذي تعب من العمل والكتابة والإخراج والعشق والتدخين وانتظار التغيير الذي عشت أدعو له وأنتظره. هل أدرك أن هذا القلب المرهق الكسير قد أوشك على التوقف عن النبض والمقاومة؟ وماذا قلت له يا ترى وأنا أضع يدي على هذا القلب المتحشرج كالقط المخنوق؟ أظن أني قلت له وأنا ألهث: أكتب على لساني أني كنت دائما إنسانا غير مريح، وأنني أنوي أن أبقى كذلك بعد موتي. ومع ذلك، فالمستقبل حافل بالإمكانات ...
هل فهم الشاب الخجول ما أقصده؟ وهل أردت أنا نفسي أن أؤكد تلك الفكرة التي عشت من أجلها وكافحت طويلا في سبيل توصيلها إلى الإنسان العادي أو الرجل الصغير، الذي كتبت ما كتبت وشقيت في الوطن وفي المنفى ما شقيت، لكي أغير وعيه وأحضه على تغيير واقعه؟ أجل هي فكرة التغيير، البؤرة التي التفت حولها حياتي كلها وشعري ومسرحي وكفاحي كله. غير العالم فهو يحتاج للتغيير! الإنسان يربي نفسه عندما يغير نفسه! كل شيء يتحول ويمكنك دائما أن تبدأ من جديد، حتى مع آخر نفس في صدرك! آه! وما أكثر القصائد التي كتبتها داعيا إلى التغيير، أراها الآن وأكاد أسمعها وهي تتزاحم علي في لحظاتي الأخيرة: عن الجدل. الشكاك. يا لذة البدء من جديد. الموقف النقدي. كل جديد أفضل من كل قديم. تغيير العجلة. أغنية عن سيولة الأشياء - من لا يزال حيا فعليه ألا يقول مستحيل - في المستقبل عندما يتوفر الوقت الكافي ... كانت حياتي كلها دعوة للتغيير، وهل فعلت شيئا آخر بمسرحي الملحمي وبأثر الأغراب الذي طالما تندر عليهما الساخرون وهاجمهما النقاد، وأفتى باستحالتهما المتزمتون الرجعيون؟ ألم تكن كل هذه المسرحيات والاقتباسات والإعدادات إلا نداءات للرجل العادي والبرجوازي الغبي لكي يصحو من غفلته وينتبه لمتناقضات واقعه ومفارقات حياته، ويتشكك فيما يصور له الحكام الأعلون أنه ثابت وراسخ ومقدس وفوق الشك؟ ألم أؤكد في كل ما قلت ألا شيء يقيني إلا الشك نفسه؟ ألم أصرخ بمختلف الصور والصيغ، وفي الشعر والقصة والرواية والمسرح، بأن العالم يحتاج للتغيير، وأن التغيير ممكن حتى والإنسان يلفظ آخر أنفاسه؟!
أجل فعلت هذا. غرقت وأغرقت كل من معي، وكل من يقرأني أو يتفرج على مسرحي في نهر التحول الذي لا تنزل فيه مرتين كما قال الفيلسوف الإغريقي القديم. لكن ماذا تغير وهل تغير شيء؟ هل تحقق العقل والعدل والسلام والأخوة بين البشر كما ناديت من منفاي الذي استمر عذابه خمس عشرة سنة؟ هل تخلص الرجل العادي والبرجوازي الغبي من الأوهام وألوان التزييف والخداع التي لجأ إليها الفاشيون والرأسماليون، وما زالوا يحاولون لكي يجروهما إلى المجازر والحروب التي يتاجرون بيها ويصنعون أموالهم وترفهم ونعيمهم من دمائهما ودماء أولادهما؟ واليوم العصيب الرهيب - يوم هدد الحريق برلين، وأوشك أن يسحق جنة العمال والفلاحين - ألم يكن حربه خيبة أمل صوبت إلى صدري؟ ألم أفعل ما في وسعي لإنقاذ الحلم الاشتراكي على العكس مما اتهمني به المرجفون؟ نعم فعلت ما أمرني به ضميري الإنساني والفني - وواصلت - حتى في اليوم نفسه وعلى خلفية من دخان الحرائق، ودوي المدافع والدبابات والصرخات اليائسة. واصلت عملي في مسرحي وبقيت وفيا لمبدئي في التغيير وعقيدتي في التحول والتجديد على الأقل في الميدان الذي وهبته حياتي، وكرست له تعبي وأيامي ونبضات قلبي التي أسمع الآن صوتها الخافت وهو يودعني ويقول لي: الوداع أيها المسكين! يكفي ما قلت وما فعلت وما قدمت!
حقا أيها الشحرور. خاب أملي في أشياء كثيرة وفي أشخاص وأعمال وأفكار لا حصر لها، لكنني لم أتخل أبدا عن إيماني بالغد الأفضل، ولا توقفت حتى لحظتي الأخيرة هذه عن العمل من أجل المجتمع الإنساني العادل والعاقل والحر. قلت مستوحيا شاعري الأثير هوراس: حتى الطوفان - لم يدم إلى الأبد. ذات يوم تسريت المياه السوداء - حقا! ما أقل المياه التي استمرت وقتا أطول، وها أنا ذا أنظر إلى الوراء وتغلبني الحسرة والأمل معا. لكني أعزي نفسي وأشجعها وأقول لها: لو كنا مخلدين، لتغير كل شيء، لكن لأننا زائلون، فسيبقى الكثير مما وجدناه أمامنا على حاله. ثم لا يخطر ببالي أن أيأس أو أستسلم، بل أذكر نفسي بما قلته ذات يوم: الشيء الوحيد الذي يجب أن تتأكد منه، هو أنك ستسقط حتما عندما تتوقف عن المقاومة. وها أنا ذا يا قلبي المتصدع، ويا شحروري العزيز أقاوم حتى اللحظة الأخيرة. لا ... لست خائفا من الموت ولن أخافه. علمتني يا قلبي الموجوع المفجوع في حلمك الكبير ألا أخشى الموت أبدا. ولماذا أخشاه؟ هل سأفتقد شيئا ما دمت أنا نفسي لن أكون موجودا؟ ألم أطمئن منذ سنوات على مدفني في المقبرة القديمة المواجهة لمسرحي وبجوار قبري العظيمين فيشته وهيجل؟ ألم أكن أطل عليهما كل يوم من نافذة حجرتي في مسكني بالدور الأعلى للمسرح؟ آه! ما هذه الضوضاء في منطقة القلب؟ أين أنت يا هيلينة، لتمسكي بيدي وتسبلي عيني بعد أن يتم كل شيء؟ تأكدي يا عزيزتي الغالية الوفية لتري أنني غير حزين ولا خائف. اسمعي! هذا هو الشحرور يرجع مرة أخرى ويترنم بأغنيته. ها هو صوته الحبيب يصلصل في قفصي الصدري ويطارد كل الظلمات والأشباح والأوهام. أليس من حقي أن أكون فرحا وسعيدا؛ لأنه سيغني بصوته الفضي العذب لأجيال أخرى من بعدي؟ أليس هذا الرنين الحلو مبعث أمل متجدد في أن يفرح به أناس أخرون بعد أن أكون قد ذهبت إلى غير عودة؟ أشد أيها الشحرور! أطلق صوتك المصقول اللامع لينفذ في القلب المتصدع! غن غن أيها الشحرور! استمر في الغناء اليوم وغدا وبعد غد! وليفرح كل من يسمعك ويؤمن معي بضرورة التغيير والفرح بكل جديد ... وأنت يا هيلينة ... أسرعي يا حبيبتي وزوجتي لتسمعي غناء الشحرور، وتسبلي عيني ...
1
الغراب
كنت أتمشى - كما هي عادتي - قبل الغروب بقليل، في الحديقة المجاورة للبيت الذي أسكنه عندما رأيتهم وسمعت أصواتهم تدوم من فوقي وتدمدم في غموض، كخشخشة رياح عاصفة تتخلل أوراق الشجر في يوم خريفي. رفعت رأسي فظننت في البداية أنها هي السحابة السوداء، وإن كان ينبعث من جوفها هدير أشبه بهدير أجنحة طائرات مروحية ثقيلة تحاول أن تهبط بالقرب مني. بعد قليل تبين لي أنها أسراب غربان كثيفة، لم تلبث أن حطت على الأرض وانتظمت بصورة عجيبة في مستطيل، اكتشفت أنني أشغل ضلعه الرابع بينما تشغل الغربان السوداء أضلاعه الباقية. تقدم مني غراب كبير خرج من بين الصفوف، وأخذ يحجل حتى وقف أمامي، ولشدة دهشتي سمعته يقول: - طبعا لم تكن تتوقع مجيئنا ... وربما لا تعرفنا أيضا ...
قلت، وأنا أتماسك حتى لا أبدو ضعيفا أمامه: - لا أحد يجهل غربان الشؤم، ألم يسبقكم النعيق والنعيب المخيف؟ أما أنني توقعت مجيئكم فهذا صحيح.
قال، وهو يهز رأسه ويستدير ليشهد الباقين على فصاحته، وربما على جدارته بأن يكون زعيم القبيلة ورئيس الجوقة: - ما دمت قد توقعت مجيئنا، فهذا يسهل علينا مهمتنا ... لكن كيف توقعت ونحن نجيء على غير انتظار، ونذهب أيضا على غير انتظار؟
قلت، وأنا أحاول أن أبتسم لأبدو رابط الجأش أمام الضيوف السود: - سبق لي أن رأيتكم في نومي أكثر من مرة، وبخاصة في الأيام الأخيرة ...
سأل في لهفة: - ولماذا الأيام الأخيرة؟
قلت، كأني أصارح صديقا بما لم أبح به لأحد قبله: - لأنني فكرت في الأيام الأخيرة أن أكتب وصيتي. شعرت بآلام قاسية في منطقة الصدر وفي البطن، رحت لأكثر من طبيب وخضعت لأكثر من كشف وتحليل. أجريت لي عمليتان بالمنظار، وقمت بأكثر من رسم للقلب وأشعة على البطن ...
قاطعني قائلا: - إذن، فأنت على استعداد. لا داعي للقصص والحكايات وهيا معنا ...
قلت ممتعضا، ولكن بحزم شديد: - ألا تقول لي أولا من أنتم؟ من أنت ومن هؤلاء ...
قال بهدوء، وكأنه يضحك أو يبتسم لا أدري: - أما أنا فأقوم بمهمتي الأزلية، وأما هؤلاء فقد أرسلوهم معي ليمشوا في الجنازة الرسمية ... هل رأيت الآن كم نهتم بك؟ ...
قلت، كأنني غير مكترث بشيء، ولكنني مع ذلك لا أخفي استيائي وقلقي: - ولماذا التعجل؟ هل يمكن أن تقول لي لماذا؟
ضحك، وهو يرفرف بجناحيه ويحجل بقدميه وينعب بصوت عال، كأنه يشهد بقية الغربان على شيء غير مسبوق: - وتقول التعجل؟ ألم تتخط السبعين؟ ألم تنظر صباح اليوم في مرآتك؟
قلت، وأنا أضع يدي على صدري بعد أن أحسست بشكة مفاجئة: - نعم نظرت ورأيت كما أفعل كل يوم. إذا كنت تقصد الشعر الأبيض كالثلج، والأسنان التي تساقطت، والتجاعيد والأخاديد التي حفرتها المرارة على وجهي، فمعك الحق إذا تصورت أن الأوان قد آن، لكنني لا أحب أن يباغتني أحد ...
قال بصوت متزن، كأنه يخرج من فم أحد الحكماء: - نحن لا نباغت أحدا، هذه أوامر ننفذها فحسب.
قلت، وأنا أتكلف الابتسام والصبر: - إذن، فقل لهم إنني أطلب مهلة ...
ضحك الغراب كمهرج سيرك، وأخذ يقفز ويعلو ويهبط في المسافة الفاصلة بيني وبين جوقة الغربان، الذين أخذوا كذلك يضحكون ويتقافزون كالمجانين: - تصوروا ... يطلب مهلة ... لكن قبل أن نتوجه للمسئولين، هل تقول لنا لماذا؟
قلت باختصار من ضاق بالحوار العقيم: - لدي أمور لم أنجزها.
قال الغراب، وكأنه ينتظر ذلك الجواب: - سينجزها غيرك. لست وحيدا فوق الأرض ...
قلت في لهجة غاضبة: - ولدي نصوص لم أكتبها بعد.
قال الغراب، وهو يترنح ويتأرجح كالسكران: - قصص ومسرحيات ومقالات ... أليس كذلك؟ ... ألم تكتب ما فيه الكفاية؟ ألم تتعلم من تجاهل القراء والنقاد وأهل المسرح؟ ... ألم يكن في الوقت متسع لما كتبت طول عمرك ولأكثر منه ... ألم ...
قلت، كأني أحذره من الإنكار والمغالطة: - تعلم خيرا من غيرك كيف سرق العمر ... تدريس للمئات ... غدر من الزملاء والتلاميذ، خيبة أمل في الحياة والحظ والحب والناس. الأيام كانت تمر بي كالأسود التي تلتهمني فأنتزع منها قصة أو قصيدة أو مسرحية قبل أن تعود لالتهامي ... والآن أكتب سيرة حياتي ...
قال الغراب، كأنه يقرر حقيقة مؤكدة: يمكن أن يكتبها غيرك بعد رحيلك معنا للشط الآخر ...
صحت، وقد نفد صبري: أنا لا يكتبني غيري. لحني لا يعزفه أحد سواي. أحزاني وأفراحي القليلة لم يطلع عليها إلاي. لماذا لا تريدون أن تعطوني مهلة؟ لماذا تمهلون الشجر والحجر والنجم والقمر والطغاة وأمراء الشر، ولا تمهلون قلما يريد أن يعبر عن نفسه ويقدم لقطات من خيبته فوق الأرض، من حكمته أو حمقه، من تجاربه مع الحب والزمن والحياة. الحياة التي قست عليه، ويتمنى أن يسرد لوحات منها حتى لا تقسو على غيره ... لماذا لا تريدون أن تمهلوني قليلا حتى أقول كلمتي ...
قال الغراب، وهو يثبت عينيه الثاقبتين في عيني: - ألم تقل وتكتب ما لم يكن له أي صدى ولا قدم ولا أخر أبدا ...
قلت، وأنا أكاد أبكي غيظا وكمدا: - سيرتي شيء آخر ... حتى ولو لم تترك أي صدى ولم تقدم ولم تؤخر، فهي حلم حياتي الذي عشت لتحقيقه ... ما الذي يضايقكم في أن أحلم قليلا قبل أن أصحو على الموت؟ لماذا تضنون علي بتحقيق هذا الأمل الضئيل؟
انطلق الغراب إلى زملائه، وأخذ يمر عليهم من اليمين إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق. كانوا يهزون رءوسهم ويتمايلون قليلا، ويصدرون في بعض الأحيان نعيقا قصيرا كأنه صوت النفس الأخير من صدر محتضر. وجاء الغراب أخيرا وهو يحجل وينط ويقفز، كأنه يحمل لي القرار الأخير: - بعد استشارة المسئولين والاتصال بهم بطرق لا تعرفها، نبلغك بأننا وافقنا على المهلة، لكن عليك أن تعمل وأن تعلم ...
قلت، وأنا أهز يدي ورأسي علامة على الشكر والامتنان: - أما العمل فأنا لا أتوقف عنه، لقد ولدت وتعبت وسأظل أتعب حتى أموت ...
قال الغراب وهو يضحك بنعيب بشع: - قل حتى نجيء إليك في المرة القادمة كما جئنا اليوم.
قلت في لهجة راضية مستسلمة: - تقصد على غير انتظار.
قال، وهو يتجه إلى زملائه الذين أخذوا يضربون الهواء بأجنحتهم ويستعدون للانطلاق: - بل أقصد في موعد غير معلوم، لكنه محدد ومؤكد.
وقبل أن أفتح عيني، كانت سحابة الأسراب السوداء قد مرت فوق رأسي في موكب جنائزي مهيب. حاولت أن أنام، لكنها كانت قد أطارت النوم تماما من عيني، وتركتني أنظر من النافذة إلى الحديقة المجاورة التي كانت السحب المتلبدة تنقشع بالتدريج عن سمائها، التي حلق فيها غراب وحيد.
1
انتظر فسوف تستريح
فوق كل القمم،
هدوء،
في أعالي الشجر،
لا تكاد تحس،
نفسا واحدا،
الطيور الصغيرة،
أخلدت للسكينة،
وكسا الغابة صمت،
انتظر أنت أيضا،
فقريبا تستريح.
القصيدة لأمير الشعر الألماني «جوته». كتبها في ليلة السادس عشر من شهر سبتمبر سنة 1770، على جدار كوخ خشبي، متواضع بالقرب من مدينة «الميناو»، كان قد تعود أن يلجأ إليه، كلما أحس بالتعب أثناء جولاته بين الجبال وخلال الغابات. والقصيدة في رأي مؤرخي الأدب ونقاده معجزة من معجزات الشعر الحقيقي في كل اللغات والآداب. لازمني حبها وترديد أبياتها منذ أن قرأتها ودرستها في لغتها وإيقاعها الأصلي، منذ أواخر الخمسينيات إلى أوائل الستينيات وحتى اللحظة الحاضرة. وظلت القصيدة في عيني ووجداني أشبه بكوكب دري متألق وبعيد، يرسل إلي شعاع عزائه في الأزمات والملمات. ومع أنني كتبت عنها من قبل مرتين، فلا بأس في هذا السياق المختلف من الاكتفاء بسطور قليلة تلقي بصيصا من الضوء على جمالها وجلالها وتفردها في الشعر العالمي، وفي شعر صاحبها نفسه.
تعبر القصيدة عن حنين الشاعر إلى الراحة والهدوء في عالم تلفه السكينة والسلام. إنه لم يصل بعد إلى هذا الهدوء، ولكنه ينتظره في ثقة واطمئنان. وبناء القصيدة نفسه يعبر عن هذا الهدوء، ويعكس التجانس التام بين التكوين اللغوي والإيقاع الحيوي في الطبيعة. ليس هناك انفصال أو تنافر بين إحساس الشاعر الذاتي وبين حالة الطبيعة الموضوعية. فالأنا لا تطل برأسها لحظة واحدة، ولا تفسد الانسجام الشامل والوحدة السعيدة. إنها تشعر بنفسها كما لو كانت قطرة صغيرة في عباب البحر الكبير، وتندمج وتذوب في العالم المحيط بها، فلا تعود تقول له أنا وأنت. ما من صراع أو تضاد، بل استسلام وديع وانتظار هادئ واطمئنان إلى أن النفس التي لم تتخلص عذابها ستستريح يوما من الأيام، أو حتى لحظة من لحظات الزمن الكوني على صدر الأم الرءوم. والقصيدة تهبط شيئا فشيئا في خط ناعم ممتد من القمم العالية إلى أعالي الشجر في الغابة، حتى تصل إلى الأرض التي يقف عليها الشاعر. وهي تتدرج في سلم الحياة العضوية من الأشجار إلى الطيور إلى الإنسان، حتى تصبح هي نفسها عالما عضويا صغيرا يعكس العالم العضوي الكبير. ما من تشبيه أو وصف أو رمز أو استعارة، بل ثلاث حقائق تقريرية بسيطة ومباشرة تنتهي بأمل في المستقبل. واللغة ذاتها تكشف عن إحساس الشاعر برهبة السكون في المساء، فيكفي أن نقرأ كلمة «هدوء» ونمد الواو فيها لنشعر بالهدوء الشامل الذي يرفرف بجناحيه على الطبيعة بعد الغروب، والهمسة الرقيقة في كلمة «نفس» تكاد تصور لنا الطبيعة كأنها كائن يزفر زفرة المستريح أو كأنها بين أوراق الشجر أنات الريح. وتصبح السكينة هي الكلمة الرئيسة في القصيدة، وتطوف الذات المستغرقة في الكل بالقمم والأشجار والطيور الناعسة لتعود إلى الهدوء الشامل في الطبيعة وفي القلب. كأن اللغة لم تعد في حقيقة الأمر تصور السكون في المساء، بل أصبحت هي نفسها سكون المساء. والراحل المتجول في الليل والغابة لم يعد يواجه الطبيعة ليملأ عينيه منها، أو ليلاحظ الهدوء الذي يتمنى أن يلمس صدره المتعب ذات يوم، ولم تعد الطبيعة هي الآخر الذي يحيط به أو يعكس أشواقه ومشاعره، فقد ذاب بكليته فيها، واتحدت نبضات قلبه الصغير مع قلبها الكبير، وصار هو وقصيدته ولغته طبيعة في حضن الطبيعة الأزلية الأبدية، أو جنينا في رحم الأم العظيمة الطيبة ...
لازمتني هذه القصيدة منذ الستينيات - كما سبق القول - في كل الأزمات والمحن التي تعرضت لها. في كل مرة كنت أقول لنفسي، والحسرة والذهول والعدمية تضيق الخناق على عقلي وقلبي: انتظر فسوف تستريح. لم يكن ذلك عن تفاؤل أو تشجيع للذات المكسورة أو حتى عن رضا أو تسليم بالمقدور، بل كان استجابة لصوت آت من بئر باطني عميق، وكأنه حبل النجاة الممدود للسادر في نفق الهلاك: تذكر أنك تقف في نفس الطابور المؤدي حتما إلى الهاوية! حاول أن تواصل السير وأن تحافظ على شمعتك فتشعلها وترعاها كلما أطفأتها الريح!
لكن أي الأزمات والمحن أذكر وأيها أدع؟ هل أذكر محنة فراق الأهل والأحباب والأصدقاء (منذ رحيل أبوي وشقيقتي وثلاثة أشقاء إلى رحيل صديق العمر صلاح عبد الصبور، إلى صدمة غياب شكري محمد عياد، والعزيزين عبد الرحمن فهمي وفاروق خورشيد والحبيب الطيب الخجول كالعذراء، وهو طبيب القلب والموسيقي، والروائي محمد راضي الذي لم أكد أتعرف عليه وأشرع في اكتشاف عالمه الغريب المحير، حتى فوجئت قبل أسابيع قليلة بنعيه المفاجئ في الصحف، وكأنه طائر مجهول حط على أرضنا سنوات ثم هاجر قبل أن يسمع أحد تغريده أو يطلع على إبداعه). وهل أذكر محنتين مررت بهما في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات عندما أطعت نداء القلب الساذج، وخطبت من تصورت أن وجهها البريء المستدير شبيه بوجه النجمة الوديعة الحنون التي كنت أحبها (وهي أودري هيبورن) قبل أن أكتشف أنني كنت الجسر الغبي الذي داست عليه، واستحثت من فوقه حبيبها الحقيقي؛ ليتقدم إليها؟ ثم خطبت مرة أخرى تلك السكندرية الأنيقة، التي أركبتني عربتها لتستثير غيرة طليقها السابق، الذي تعلق به قلبها ولم تستطع هي ولا سابقتها أن تقتنعا بالخجول التائه في متاهات القراءة والكتابة؟ أم أتحدث عن محنتي القاسية أثناء عملي في الجامعة عندما وقعت في كمين، وطعنتني سكاكين الغدر وخناجر التزوير بأيدي بعض زملائي وتلاميذي، فقدمت استقالتي - بعد صدور الحكم بالبراءة - وذهبت إلى بلد خليجي للعمل في جامعته، وغادرت بلدي كما غادر أوديب ثيبة (طيبة)، يد تمسك بيد ابنتي ذات الأعوام الأربعة، واليد الأخرى تسند على الصدر، الابن الذي لم يكن قد أكمل سنتين من عمره. ...
وها هي عشر سنوات - منذ أن قدمت استقالتي من ذلك العمل الأخير؛ أملا في التفرغ للكتابة الحرة - قد انقضت تحت سقف الحلم الذي توهمت أن الخروج من المحنة والسعادة الحقيقية لن يتما إلا على يديه. وهنا أصل إلى المحنة التي عانيتها معظم حياتي، محنة التمزق بين حياة أكاديمية تستهلك الوقت والجهد في جامعات لا بد من الاعتراف بتخلفها، واختلال العلاقات الإنسانية والعلمية فيها، وبين التفرغ لإبداع حر وبعيد عن أي تكليف خارجي. هل تحقق شيء من هذا الحلم القديم على مدى السنوات العشر الماضية؟ هل أتيح للاعب البائس على الحبلين أن يحافظ على التوازن الصعب المنشود؟ لا بد من القول بأنني انتظرت ولم أجد الراحة. صحيح أنني استمتعت بشكل محدود بالرجوع إلى الكتابة القصصية، وربما استمتعت أيضا ببعض الدراسات والترجمات المنظومة لأشعار غربية. لكن التكليفات التي انهالت علي وشغلتني بترجمات ومراجعات وفحوص مبددة للطاقة والجهد، والمشاركة في ندوات واجتماعات واحتفالات لا آخر لبحور الثرثرة التي تغرقها، ثم زحف الأمراض مع زحف الشيخوخة، لاسيما آلام الظهر وضعف البصر، ومفاجآت بركان القولون العصبي مع مشكلات الأسرة والأولاد في مجتمع وزمن مبتلى بالانحطاط والفساد وكل أنواع التلوث. كل هذا يجعلني الآن بعيدا عن أن أقول لنفسي، كما اعتدت أن أقول مع كل المحن السابقة، انتظر فسوف تستريح ... وهو يدفعني دفعا لأن أصرخ بنداء يخرج من أعماق الضمير: لا! لا! لا تنتظر ولا تضع البقية الباقية من أيامك في الانتظار! أمسك القلم وحاول ألا تضيع لحظة متاحة من اللحظات القادمة التي تقربك مع كل خطوة من القبر. ربما صح ما يقال من أن الراحة الحقيقية الكاملة لن تكون إلا في القبر، ولكن من الصحيح أيضا بالنسبة لك ولأمثالك أن الراحة قرينة الإبداع الممتع الأليم. ليس الشكل الذي يتخذه هذا الإبداع العذب المر هو المهم، الأهم أن يكون العمل حيا وصادقا وحاضرا وناضجا كالثمرة التي تنتظر من يقطفها. وكما قلت لنفسك كما قال الشاعر الكبير: انتظر فسوف تستريح، فلم تذق طعم الراحة، جرب أن تقول الآن: لا تنتظر! ... فربما تستريح!
الملاك الجريح
كنت جالسا على الأريكة تحت المظلة، انتظر الترام الذي يقلني إلى بيتي. كنا بعد منتصف الليل، في ليلة خريفية نسماتها باردة ومنعشة . وكنت قد تأخرت عند الأصدقاء بعد أن طال بنا الحديث والجدل الذي لا ينتهي حول أزمة الثقافة والأدب والشعر والفن في مجتمع مأزوم من كل ناحية. وعندما تنبهت إلى الساعة، استأذنت وجريت إلى محطة الترام لعلي أدركه قبل أن يتوقف. يبدو أن جلستي طالت أكثر مما كنت أتوقع، وأنني أغفيت قليلا فحدث ما حدث. فقد وقعت عيني في منتصف الشارع تماما على شيء ارتطم بالأسفلت بلا صوت، وتمدد على الأرض كطائر كبير أبيض. لم أدر هل هبط من السماء في غفلة من العالم، أو خرج من باطن الأرض. وما جعلني أتحرك وأنتفض من مكاني كأن زلزالا رجني فجأة هو سماع صوت أنين خافت ينتهي إلي من وسط الشارع، واستمرار حركة المركبات والناس حول الجسد كأن أحدا لا يراه. أيقنت أنني أنا وحدي الذي رأيته، وعبرت شريط الترام وانحنيت عليه. كان وجهه الناعم الوسيم كوجه رضيع يبتسم ويبكي في وقت واحد، وكان شعره الأشقر الطويل يتهدل على كتفيه اللتين كان من الواضح أنهما جريحتان، ويتدلى منهما جناحان كبيران ملوثان بالدم والتراب، وممدان على الأرض كجناحي نسر عملاق يحتضر من شدة الألم.
قلت له: من أنت؟ يبدو أنك غريب عن هذه المدينة. ألا تخشى أن تدوسك عربة أو تنتبه إليك الشرطة أو يتزاحم حولك الناس؟
تأوه، وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه، وقال: لا تنزعج واسمعني، فأنا ملاك جريح لا يراني أحد. لا النور يراني ولا الريح، ولا زجاج النوافذ. نعم، ولا زجاج النوافذ. أسير كالميت في الشوارع بلا صوت ولا ظل. قلت أطل على مدينتكم التي تصاعدت منها الضوضاء والروائح الكريهة، وصرخات الجياع والمحرومين والضائعين. اخترقت الأبواب والجدران دون أن يحس بي أحد، حتى المرايا نفذت فيها ولم يرتسم وجهي على إحداها، ولم يرني صاح ولا نائم، لا رجل ولا امرأة، ولا طفل ولا شيخ. تجولت في مدينتكم العتيقة العريقة. دخلت أحياء كان من المفروض أن تندثر من زمن طويل، كما اندثرت مدن قديمة وانقرضت حيوانات لم تصلح للحياة. طفت بالمدارس والمستشفيات والأحياء العشوائية، ومسحت يدي على حياة المتعبين والنائمين على الأرصفة والمشردين العاطلين في الشوارع وعلى شاطئ النهر. رحت أقول لنفسي: يا إلهي! كل هذا العدد من المظلومين ... وكل هذا العدد من الظالمين! يا إلهي! كل هذا القبح ... هذه الضوضاء ... هذا الفقر! أنا ملاك الفقراء لا أملك أن أطعم جائعا أو أكسو عاريا أو أخفف بؤس أسرة مستورة وراء الجدران. ومع أني ملاك كما ترى، فقد أغمى علي بعد كل ما رأيت وسمعت ولمست بنفسي، ووقعت على الأرض مغشيا علي، فانكسر جناحي. لا مفر من أن أرجع مرة أخرى على رأس جيش من ملائكة الفقراء، ربما نستطيع أن نشفي جرحا أو نجفف دمعة أو نعيد البسمة إلى فم يتيم أو شيخ مطحون.
أما أنت يا صديقي الذي رآني وسمعني دون بقية الناس والكائنات فلا تحزن علي. بعد قليل سيحضر من يأخذني بين ذراعيه أو على جناحيه إلى الملأ الأعلى. بعد قليل تبلغ شكوى المظلومين والمنسيين الضائعين في مدينتكم العجوز البائسة إلى آذان الملائكة والقديسين والخالدين، وربما تحوم أصداؤها حول العرش العظيم.
انتبهت على يد تهزني من كتفي. فتحت عيني فوجدت رجلا في مثل سني يضحك بصوت عال: كلانا فاته الترام، ألا تنتظر مثلي الخط رقم ثلاثة عشر؟ فات آخر ترام يا صاحبي. يبدو عليك أنك تسكن في نفس الحي الذي أسكنه، هيا بنا نتسلى بالمشي معا إلى الحي الذي تطوي أرضه الكنوز وتحتفظ بأعجب آثار أبي الهول والأهرام ومراكب الشمس ... هيا بنا يا صاحبي ... هيا بنا.
1
الجزء
من نبع العمر
التوائم الثلاثة
لما جاءها الطلق بغتة، أطلقت صرخة دوت في أرجاء البيت كصليل جرس. كانت أختي الكبيرة تتوقع كل شيء قبلها بفترة كافية، جرت من فورها إلى جارتنا نجية الداية، وسرعان ما رجعت بها، وغابا معا في حجرة الوالدة. كانت أختي قد أعدت كل شيء وجهزت حتى اللفائف التي سيوضع فيها المولود. ولم يمض إلا القليل حتى جلجلت صيحة الوافد الجديد، وانطلقت أختي قافزة على السلم وهي تهتف: آبه! آبه ! كان يجلس كعادته في المندرة، متكئا على الكنبة والمصحف في حجره، وشفتاه تتحركان بلا صوت. دخلت أختي الكبيرة مسرعة وهي تردد هتافها: - آبه! آبه! جالك ولد. - فرجه قريب يا بنتي، يجعله قدم السعد عليك وعلى اخواتك. - تعرف يا آبه؟ المولود ما شاء الله سمين ومورد، تعرف ... - قولي الحمد لله وارجعي لأمك يا بنتي. - تقول بدر منور يا آبه ... سبحان الخالق الناطق ... كأنه صورة منك ... - قلت لك اطلعي لأمك، واقعدي تحت رجليها ...
لم تكد تتعثر في طريقها إلى الباب حتى استدارت قائلة: - لكن بطنها كبيرة يا آبه ... كبيرة ولا بطن جمل ... - ربنا يفك ضيقتها ويسترها على عبيده. قلت لك اطلعي لها وكله على الله ...
كان ذلك في ضحى يوم شتوي، امتلأت سماؤه بسحب سوداء ثقيلة تنذر بالمطر. بعد العصر بقليل، وقبل أن يؤذن لصلاة المغرب، دوت من غرفة السطوح صرخة أخرى، حاولت الأم - التي يعرف الجميع أنها كتوم وصابرة - أن تحبسها بقدر ما تستطيع، فأفلتت منها ورنت في أرجاء البيت. لم تحتج أختي الكبيرة أن تجري إليها؛ لأنها كانت مقيمة معها وتهدهد المولود الأول على ركبتها. أسرعت من نفسها إلى جارتنا التي لم تتوان لحظة عن الحضور ومعها كل ما يلزم الولادة والمولود. وبعد أقل من ساعة، ارتفعت صيحة المولود الثاني قوية وعفية، كأنه يهلل مرحبا بأهله بعد غياب طويل. وما أن وضعته أختي الكبيرة بجانب أخيه، حتى أسرعت تقفز السلالم إلى المندرة. - آبه! آبه! جاءك ولد ثاني ... - سبحانه يفعل ما يشاء يا بنتي، هو العاطي وهو العالم بالحال. - وجهه ولا البدر المنور في السماء، سبحان الخالق الناطق. - يا بنتي اعقلي وارجعي لأمك، قلت لك اقعدي معها ولا تتركيها. - حاضر يا آبه ... يتربوا في عزك يا قادر يا كريم ... - كله بأمره يا بنتي ... قلت لم اطلعي وشوفي طلباتها ... وإن كان على الداية لا تشغلي بالك ... حالا ربنا يساويها ويرضيها ... - انتظر يابه ... لا تستعجل ... ربما نحتاج إليها ... أمي تشكو من بطنها ... تقول فيه شيء يتحرك فيها! - قلت لك اعقلي واطلعي لها ... كل شيء بأمره وما فيه الخير يقدمه بإذن الله.
رجعت الأخت الكبيرة وانشغلت بالطفلين طول الوقت: تهدهد أحدهما، أو تقرب الآخر من ثدي الأم، أو تهتم بتنظيفهما وغسلهما بالماء والصابون. كانت في ذلك الوقت لا تزال عروسا تجري الاستعدادات لفرحها ودخلتها، ولا بد أن الاهتمام بشقيقيها قد أعجبها وأيقظ فيها حنان الأمومة الكامنة. لم تغادر حجرة الوالدة إلا بعد أن أذن الفجر، وجرت على السلم واندفعت لفتح الباب المواجه لباب جارتنا الداية. لم تتبرم الست نجية ولم تقل كلمة واحدة، جاءت معها وصعدا السلم، وهيأتا كل شيء للمولود الجديد الذي أعلن عن قدومه بدفعات الطلق الشديدة وصيحات الأم المكتومة. وقبل أن يشرق نور النهار، كان الصغير الثالث قد استقبل العالم بصراخ هائل لا يناسب حجمه الضئيل الهزيل. نزلت الأقدام مسرعة على السلالم لتبشر الأب بالخبر. كان مستغرقا في الدعاء بعد الانتهاء من صلاة الفجر. وانتظرت الأخت الكبيرة حتى ختم الدعاء، وصاحت: - الثالث وصل يا آبه. وصل ... - الثالث! ربنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه. هل قلت ولد؟! - نعم يا آبه، ولكنه ضعيف ونحيل كالفار الصغير. ستي نجية قالت ... - اللهم لا اعتراض ... ماذا قالت؟ - قالت، أول ما خرج صرخ بأعلى صوته: لا ... لا ... لا. - يا عبيطة ... وهل المسكين يعرف النعم من اللا ... - هي أكدت وحلفت بالله العظيم أنه صاح لا ... لا ... لا ... ومصيرها تنشر الخبر في الشارع والبلد كلها تعرف ... - وماله يا بنتي، صحيح ثلاثة في بطن واحدة شيء نادر في البلد، معجزة من عند الله! لكن هو القادر على كل شيء، ربنا يقوينا يا بنتي ويكتب لهم طول العمر ...
لم يبق الثلاثة على حالهم، إذ لم يكد يمضي الشهران حتى مات الشقيقان الأولان الواحد بعد الآخر. لحكمة لا يعلمها إلا الله، رجعا إلى حضن الأرض بفرق أسبوع واحد بينهما. وفي كل مرة كان أبي يذهب مع جارنا الشيخ أحمد المقرئ والتربي حاملين النعش الصغير، وراجعين في صمت وهدوء بعد تسوية التراب فوق كل منهما. وفي صباح يوم دخل الشيخ من باب البيت بعد أن استأذن وصفق بيديه، ونادى يا أهل الله. ردت عليه أمي من فوق السلم، وسألته عما يريد. أبلغها أن الولد الثالث حظه من السما، وله مكان بجوار أخويه. استعاذت أمي من الشيطان الرجيم، وصاحت الشر بره وبعيد. ضحك الشيخ العاجز وهو يتحسس طريقه إلى الباب، وقال: أنا قلت أطمئنك يا أم محمد ... المهم أن الولد «لا» يشد حيله ولا يقول لا ...
كان الجميع قد عرفوا أن الولد «لا» هو الوحيد الذي بقي حيا من التوائم الثلاثة، وأن بقاءه - برغم هزاله وضعفه وشدة نحوله كفأر صغير - لا يقل معجزة عن صرخته ساعة ميلاده باللا، كأنه - فيما قال الجيران - لم تعجبه الدنيا ولا العيشة، أو كأنه صمم على الثورة منذ ولادته إلى يوم مماته.
وقد مرت الأيام والأعوام وذهب الشقيقان، ولم تنفعهما قوتهما، وتورد وجهيهما بالصحة والعافية. ورحل الأب والأم والأخت الكبيرة والتربي، وبقي الصارخ باللا حيا يعاني ويكابد، ويعلم ويقرأ ويكتب ولا يكف عن ترديد صرخته ليل نهار. ربما تسللت اللا إلى كلماته وعباراته واختبأت في قصصه ومسرحياته وسائر كتاباته، لكنها كانت على الدوام صرخة هامسة وحيية وعاجزة. لهذا بقيت بغير صدى، ولم تترك أي أثر.
عندما بحثت عنهما
الجبانة الكبيرة تغمرها الوحشة والسكينة، وتغرقها في بحر من السلام الصافي الحزين. لا أدري كيف واتتني الجرأة على دخولها بالرغم من تحذيرات أبي وأمي المستمرة بعدم المشي فيها ولا الاقتراب منها بالليل ولا بالنهار. كنت كلما مررت بسورها الطيني الكئيب بعد جولتي في منتزه شجرة الدر المجاور لها، أو على السكة الزراعية المؤدية إلى مدخل البلد، كنت أحس برعشة تنفض أطرافي وتزيد في نبضي وترفع الطنين إلى أذني. لكنني في هذه السن الصغيرة - بعد حصولي على الشهادة الابتدائية بقليل - عانيت من وسواس يلح علي بزيارة شقيقي اللذين رحلا عن الدنيا بعد مولدي معهما بشهرين أو ثلاثة. وكانت أختي الكبيرة قد أخبرتني بأن الصغيرين يرقدان في قبرين صغيرين أمام مدفن العائلة. وقد سبق أن زرت هذا المدفن وأنا أمسك بيد شقيقي الأكبر عندما كان يفتح في مناسبة عيد، أو عند دفن ميت جديد يمت لنا بصلة القرابة، أو أحد الغرباء على سبيل الصدقة. لم أكن قد سمعت من أختي الكبيرة عن مكانهما، ومنعتني الرهبة من سؤال أخي عنهما، على الرغم من أن لهيب الشوق لزيارتهما والوقوف على قبريهما لم تنطفئ جذوته أبدا، منذ أن عرفت قصة رحيلهما، واختنقت بالإحساس بالذنب وبالندم الممض على فقدهما في كل لحظة من لحظات حياتي، التي صور لي الذنب والندم أنها جاءت واستمرت على حساب حياتهما، أو بفضل تضحيتهما ...
نفخت صدري بالهواء، وتشجعت على ولوج المدينة الصامتة بعد عصر يوم من أيام شتاء قارص البرد. وتجاهلت تحذيرات الأب والأم وكل الكبار من المغامرة الخطرة، ومن الذئاب أو الثعالب أو القطط والجرذان الوحشية، التي ربما تجوس فيها. شغلني شيء واحد لا شيء سواه، هو أن أجد قبري الشقيقين الذاهبين، وأرتل بعض الآيات الكريمة، وأسألهما الصفح والغفران عن بقائي حيا دونهما. كنت أعرف الدرب الجانبي الضيق المؤدي إلى المدفن العائلي، الذي سأقوم بالبحث عنهما في المساحة الواقعة أمامه. ورحت أتأمل الأضرحة الفخمة للأغنياء والأعيان والأشراف، وألمس بيدي قبورا بائسة توشك أن تكون متهدمة ومخربة لمئات الفقراء المجهولين، بينما يفكر عقلي الصغير في التفاوت بين النمطين، وفي الظلم الذي يلاحق الضعفاء والمساكين في حياتهم وموتهم. وكم عز علي أثناء التجوال أن أجد معظم القبور المتداعية بلا اسم مكتوب عليها، ولا لوح حجري أو رخامي يسجل الأسماء وتواريخ الميلاد والوفاة، بل هي مقفرة حتى من سعفة نخيل فوقها أو فرع صبار بجوارها ...
وصلت أخيرا إلى مدفننا العتيق ذي الباب الحديدي الضخم، الذي لم يكن يعرف طريق مفتاحه سوى أبي وشقيقي الأكبر. وأخذت أتلفت حولي وأفتش في المساحة الخالية أمامه وبجواره عن أي أثر للقبرين الصغيرين دون فائدة. فوجئت بشبح أبيض طويل يخرج من وراء الصف المواجه وفي يده فأس صغيرة. ولما اقترب مني عرفت فيه عم إبراهيم حارس الجبانة والمنادي في البلد فوق حماره على كل الراحلين. قال وهو يضع الفأس جانبا ويجفف عرقه: الله يرحم الجميع، من أنت يا ابن الكرام؟ هل جئت لزيارة الميت الذي دفناه صباح اليوم؟ هل أنت قريبه؟
عرفته بنفسي، فهتف صائحا: صحيح ابن الطيبين الكرام. هذا هو مدفن العائلة، هل معك المفتاح وأنا أساعدك؟
نفيت وجود المفتاح معي، وتلجلج لساني وأنا أسأله: هل تعرف القبرين الصغيرين اللذين أقيما أمام المدفن منذ عشر سنوات أو يزيد؟
قال، وهو يغالب الضحك: من عشر سنوات ... لطفلين صغيرين؟
قلت متشجعا، كأنني ألمح بارقة أمل: نعم، كانا شقيقين لي، ولدا معي ...
صاح ضاحكا: آه! التوائم الثلاثة. ما زلت أذكر يوم دفناهما، وبقيت مساحة صغيرة طلب مني أبوهما والشيخ أحمد - رحمة الله عليه - أن أحجزها للولد الثالث ...
قلت، وأنا أشير إلى صدري: أنا هو الولد الثالث الذي بقي حيا. جئت أزورهما وأقرأ الفاتحة على قبرهما ...
ربت على ظهري، وهو يقول: - أنت يا ابني طيب وعلى نياتك. إخوتك راحوا وراحت أيامهم.
سألت متلهفا: ولكن قبرهما؟ ...
قال متحسرا: وهل تسميها قبورا؟ الأطفال يا ولداه تسوى لهم حفرة على قدها، يهال عليها التراب، وتغفق بالطين. مع الزمن يا ابني تدوسهم الأقدام ويسوى بالأرض، التل الترابي الصغير الذي وضعا تحته.
هتفت مستنكرا: يعني اندثر القبران، ولم يعد لهما أثر؟
قال، وهو يمسح على رأسه بيده: وتركا لك طول العمر، لكن ...
سألت: لكن ماذا؟
قال، وكأنه يتلو بعض الآيات في خشوع: لكنهم يا بني ما زالوا أحياء. لا تصدق أن الموتى يموتون، إنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
سألت: تقول أحياء؟
قال مؤكدا، وهو يشير للراقدين حوله ووراءه: كلهم أحياء يرزقون، في عالم لا يعرفه إلا الله، وبطرق لا يعلمها سواه. إنهم يعيشون معنا و...
قلت متعجبا: يعني أخواي يحسان بي؟
قال مكملا: ويزورانك في النوم واليقظة ويتابعانك كظلك. كل هؤلاء يحومون حول أهلهم ويرفرفون بأجنحتهم فوقهم، ويطمئنون عليهم بالنهار والليل، وربما يهمسون لهم في الصحو أو المنام برغبة أو حنين أو ...
قاطعته متحمسا: يعني إخوتي يزورونني دون أن أشعر؟ ينظرون إلي ويرصدون حياتي وحركاتي؟
قال في ثقة واطمئنان: وكل أعمالك، ويدعون لك أيضا ... اعتبر يا ابني أنك زرتهم وتكلمت معهم، وارجع الآن إلى البيت قبل أن تغرب الشمس وتليل الدنيا عليك ...
ودعت عم إبراهيم وشكرته وانصرفت. وأثناء سيري وسط صفوف القبور الساكنة المستسلمة، عجبت من مشية قدمي اللتين تكادان ترقصان، ومن شعور بالفرح يتصاعد كالنهر البارد في داخلي، ويطفئ نيران الشوق والخوف التي كانت تشتعل وترتعش في كياني عند دخولي إلى الجبانة، ووقوفي مع عم إبراهيم. أسرعت راجعا إلى البيت والخيوط الذهبية الأخيرة تنعكس على سقوف البيوت وتنسحب قليلا قليلا أمام ظلال المساء الزاحفة. فتحت الباب ودخلت، فبادرني صوت أمي مناديا: - أنت رجعت يا ابني؟ تأخرت وأبوك سأل عنك ...
قلت، والفرح يقفز من كل كلمة: كنت في زيارة يا أمي. الحمد لله سيردون لي الزيارة ...
قالت في حيرة وقلق: زيارة؟ ألم تكن تتمشى في الجنينة؟
أمسكت بالخيط، وقلت ضاحكا: نعم، في الجنينة الكبيرة والأخيرة. دعيني أنام حتى أستقبلهم وأسمع همسهم ورفيف أجنحتهم ...
قالت أمي يائسة: والنبي أنت بتخرف وكلامك عجيب. تأكل لك لقمة يا ابني؟
قلت، وأنا أتجه إلى حجرتي: سآكل وأشرب معهم. اتركيني الآن لأستريح من المشوار ...
قالت بنفس النبرة اليائسة الحائرة: - ربنا يريح قلبك يا ابني، ويشفي لك عقلك.
قلت، وأنا أفتح باب حجرتي: - ما داموا معي فلا تخافي علي ...
ثم لنفسي، وأنا أستعد للنوم وللزيارة الموعودة: ليتك تعرفين أن الموتى لا يموتون. إنهم يغيبون عنا، ولا يصح أن نغيب عنهم. وأنتما يا شقيقي العزيزين، كونا معي من اليوم وسأكون معكما على الدوام ...
تحت الخيمة
كأني رأيته من بعيد، أبعد من كل ما قدرت وتصورت ...
قال لي الصوت الذي يوجهني من الداخل والخارج: ستجده هناك، تحت الخيمة الزرقاء التي يعلوها الديك والهلال، هنيئا له مع المباركين والصالحين ... دخلت ساحة واسعة لا تحدها أبواب ولا جدران ولا أسوار. حديقة مترامية لم تشهد عيني حديقة تدانيها في الجمال والنضارة والتنسيق البديع. ومشيت على بساط أخضر لم تحس قدمي، ولم يقع بصري على أرق وأنعم منه، كأنما الأرض المفروشة بالعشب الندي الطازج قد تحولت إلى سماء خضراء لا تطؤها إلا أقدام الملائكة والعصافير. بدت الخيمة أشبه بتلك الخيام التي كانت تعد للملوك والأمراء وكبار القادة أثناء الحروب أو رحلة الحجيج. وحين اقتربت منها عجبت من السكينة والصفاء اللذين ينبعثان منها، والوهج المشع من الخيوط الفضية والذهبية التي نسجت منها الستائر المنسدلة عليها، والغناء العذب الذي لا ترسله آلاف الطيور الزرقاء والخضراء والصفراء التي تتقافز على سقفها وأركانها، والأشجار المختلفة التي تظللها وترف فروعها في سلام حولها ... تقدمت في ورع وبطء شديد حتى اقتربت من الأريكة التي يجلس عليها. وكم كان عجبي من الأريكة التي يجلس عليها، وكم كان عجبي من أنه يجلس تحت الخيمة في نفس المندرة التي في بيتنا القديم، وعلى نفس الكنبة التي كان يتربع عليها ملتفا في عباءته وفي حجره مصحف يقرأ آياته في خشوع.
تجرأت وجرحت الصمت الشامل بعد أن طالعت الوجه الأبيض المستدير الذي يشرق بنوره الداخلي، وتبرز على جبهته علامة الصلاة، كأنها حفر في الجلد أو كي قديم، بينهما شفتاه تتحركان بالترتيل الصامت وعيناه مطرقتان ومثبتتان على الصفحة التي بدت صفراء، وعليها سطور بحبر عميق السواد: - أبي ... اشتقت إليك فجئت.
ظلت الشفتان تتحركان وتتمتمان، وبقيت العينان على السطور السوداء. - أنا ابنك الذي عدى البحر قبل سنوات، رجعت من رحلة الدرس والتحصيل لأغرس بذور علمي في أرض أجدادي، وأصب في نهرها شحنة طاقتي وجهدي، وأقيم جسرا بيننا وبين الآخرين ...
لا حركة ولا صدى، كأني أتكلم بلغة أخرى أو كأني أكلم نفسي في منام غامض طويل ... - أنا لم أنسك يا أبي أبدا، كنت هناك أفكر فيك ليل نهار. وكنت أتذكر كلمتك لي ذات يوم: لو نجحت في الفلفسة - كما كنت تسميها متعمدا أو ساخرا - فسوف آكل مع الكلاب في وعاء واحد. ابنك أصبح دكتورا في الفلسفة يا أبي، ولست مضطرا للأكل مع الكلاب. أعرفك أيضا أنه تم تعييني بالجامعة، وسوف أبدأ التدريس فيها عن قريب ... هل سامحتني يا أبي؟ هل رضي قلبك علي؟ - وقبل أن يصلني نبأ رحيلك بأسابيع قليلة، أرسلت إليك بالبريد المسجل أشياء تصورت أنها ستدفئك في ليالي البرد الشديد. كنا في فبراير أو مارس، وأنا أرتجف في جو حرارته تحت الصفر بكثير، فكرت أن أدفئك معي، فأرسلت غطاء للرأس من الفراء وقفاز من الجلد السميك وغطاء للأذنين وشرابا من الصوف ... وكم حزنت يا أبي حين عرفت أنك ودعت الحياة قبل أن تصلك رسالتي، التي تعثرت في البريد الحكومي الكئيب. وسمعت أيضا من أخي الأكبر أنك كنت تسأل عني أحيانا، عندما تتذكر ابنك الذي عبر البحر من سنين ... - هل أقول لك أيضأ ما قاله ابن شقيقي الذي كان يلازمك في أيامك الأخيرة؟ قال لي إنك تذكرتني فجأة في آخر لحظاتك. كنت يا أبي تحتضر. مال ابن الأخ الصغير على صدرك، ووضع أذنه على شفتيك التي لم تكف عن الحركة حتى النهاية. كنت تتلو آيات من الكتاب، ثم تدعو لابنك الذي عدى البحر - وإن لم تتذكر اسمه أبدا - بأن يرجع بسلامة الله ... فأي عزاء تركته لي طول العمر، أي عزاء! - وما زلت يا أبي صامتا وبعيدا، كأنك صممت ألا تسمعني أو تنظر إلي نظرة واحدة ... متى يا أبي ترد علي؟ متى تجيب عن أسئلتي أو تنطق بكلمة تدل على أنك عرفتني؟ عيناك مطرقتان ومثبتتان على المصحف بين يديك، شفتاك تتحركان وتتمتمان بالآيات الكريمة دون توقف. وأنا واقف أمامك كأني أصرخ من داخل غيمة أو سحابة كثيفة تطويني ... وما زلت يا أبي، أصرخ كما فعلت طول العمر، وأهتف كشبح عاجز مخبول: كلمني يا أبي ... رد علي! متى بالله عليك تراني وتجيب سؤالي؟ متى؟ ... متى يا أبي؟
يوسف والجب
رأيتني فجأة في غيابات الجب. هتف هاتف من فوقي: أنت الآن في الجب الذي ألقي فيه يوسف! ثم أردف بصوت متحشرج ومخيف: اعلم أنك أنت نفسك يوسف! أفزعني الصوت، كما زادني الظلام رعبا. كان أول ما فعلته أن أطمئن على خلو الجب من الحيات والثعابين والعقارب والحشرات. ولما استراح قلبي، عدت بالذاكرة إلى ما قبل وقوعي في هذا الجب، أو هذا البئر الملعون. بدا لي كل شيء غريبا لا يصدق، فأنا لم أكن أرتع وألعب مع إخوتي، ولم يكن بيني وبينهم شيء حتى يكيدوا لي. ثم إن ذهني خال تماما عن يعقوب، وأستبعد أن يكون هذا اسم أبي الذي أعلم تمام العلم أنه مات منذ أكثر من أربعين سنة، عندما كنت أعيش وأدرس في الغربة. وأما عن الذئب الذي قال الإخوة لأبيهم إنه قد أكلني، فأنا واثق أنه بريء من دمي، وأن التهمة نفسها تثبت أن البشر أنفسهم ذئاب أفظع وأبشع من كل الذئاب. لكن ما العمل إذا كان الصوت الهاتف يؤكد أنني وقعت في الجب. وها هو ينطق من جديد لينذرني، ويحذرني من أن أشك لحظة واحدة في أنني يوسف نفسه؟!
لم يكن أمامي إلا أن أنتظر. مددت قدمي في الفراغ المعتم، وأسندت رأسي إلى الجدار الصخري، وقلت لنفسي عسى أن يأتي بعض السيارة فيلتقطوني. ما هي إلا لحظات حتى صدق ظني، وسمعت همهمات بشر وثغاء جمال وأصداء هتاف وصياح، تتناهى إلي في سجني السفلي العميق. اقتربت الأصوات المتداخلة من حافة الجب، ورأيت فيما يرى النائم أكثر من وجه بدوي صلب الملامح، يطل علي من أعلى. بادرت بالصراخ بأعلى نبرة تقدر عليها حنجرتي وصدري ورئتاي، اللتان خيل إلي أنهما امتلأتا بالتراب والرمال: أخرجوني من هنا! أرجوكم أخرجوني! ...
ملأ الوجه العريض الذي أحرقته الشمس فتحة الجب، وأخذ صاحبه يسألني: من أنت، ومن الذي رماك هنا؟ - أنا يوسف. أنا الذي ألقوه في غيابات الجب وتركوه. أنزلوا الحبال حتى أصعد إلى الأرض، وأرى الشمس، وأتنفس الهواء ... - ليس قبل أن تحكي لنا قصتك. قبل أن تروي لنا رؤياك ... - وماذا أحكي لكم وكل شيء مأثور ومعروف. أنا الذي رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين.
رنت ضحكة مجلجلة سرعان ما أعقبها سؤال ساخر: وماذا أيضا؟ هل ستقول إننا نحن السيارة الذين سنمر عليك وندلي دلونا، ويصيح فينا صائح: يا بشرى هذا غلام، ثم يشتريك شار من مصر يربيك ويسلمك لملكها فتعيش في قصره؟
صحت، وأنا أشد منه خيط القصة وأهتف: نعم نعم، وتراودني امرأة العزيز عن نفسي وينجيني الله منها، وتقطع النسوة أيديهن حين يذهلن بجمال وجهي، وأتهم وأدخل السجن، وألقى هناك فتيين أعبر لهما الرؤيا ...
تعالت ضحكة الوجه المطل علي من أعلى، ثم انتشرت كالدوامة بين الرعاة المتحلقين حوله: وربما تدعي أيضا أن فرعون جعلك وزيرا، وائتمنك على خزائنه، ومكن لك ولإخوتك في الأرض بعد أن نجحت خطتك في إنقاذ مصر من المجاعة، ولم تسمح للبقرات العجاف أن يأكلن البقرات السمان.
قلت في صوت تبلله الدموع: المهم الآن أن تخرجوني من هنا. أنزلوا الحبل حتى أصعد إلى الهواء والنور. كل ما قلته وتقولونه مأثور ومعروف حتى لأصغر الأطفال ...
صرخ الوجه المخيف، ورجت أصداء صرخته أعماق الجب: كل ما تقوله أضغاث أحلام، لا أنت يوسف ولا هذا البئر هو بئرك. - لتكن كلها أضغاث أحلام وأوهام. عجلوا بالتقاطي ولا تتركوني في هذا الظلام ... - بل نتركك - عقابا لك - للمزيد من الأحلام والأوهام. نتركك للهم والوحدة والاكتئاب. ستسير القافلة ولن توقفها أحلامك وأوهامك ... ابق في جبك، واشك أمرك لله ...
قلت، وأنا أبكي وأرتعب من تصور وجودي في الظلام، وانتظاري للموت الوشيك، أو لمعجزات الصدفة: ولمن أشكو بثي وحزني إلا إليه؟ اذهبوا إذا شئتم، لن أيئس أبدا من روح الله!
انخرطت في نشيج الوحيد الممزق على الحافة بين الأمل في سيارة أخرى، واليأس من كل عون أو رجاء. وعندما أفقت على الدموع التي تبلل وجهي، والصيحات التي تزلزل صدري، فتحت عيني ووجدتني جالسا في سريري - وسط غبشة الظلام التي تسبق الفجر - لا في غيابات الجب.
كبرية
كانت إحدى أقارب أبي، لا أدري من ناحية أمه أو من ناحية أبيه. تزورنا في بيتنا بين الحين والحين، وتحط علينا بقامتها النحيلة الفارعة، كنسر هائل يخيم بظلاله الكبيرة السوداء، وتراه فجأة وسط البيت أو بالقرب من الفرن حيث تجلس أمي أمام الخبيز. كيف دخلت ومن أي باب؟ هل رأت الباب الخشبي المفتوح على الحارة الصغيرة مواربا فتسللت منه كالقضاء والقدر، أم جاءت من الشارع ورفعت «السقاطة» بنفسها وضغطت على الباب الرئيسي الثقيل فانفتح لها؟ المهم أنها كانت تتوسط الدار فجأة، وملسها الأسود يزحف وراءها، ونسمع صوتها الخشن وهي تنادي: يا أهل الله ... يا أولاد ... وترد أمي التي تكون قد لمحتها وهي تقترب من قاعة الفرن، بينما تتمتم شفتاها - أي شفتا أمي - مستعيذة بالله من كل شيطان رجيم: تعالي يا عمة كبرية ... خطي وقولي باسم الله الرحمن الرحيم ... وتخطو كبرية العجوز متحسسة طريقها بعينيها الكليلتين، وفي الضوء الخافت الذي ينزل على القاعة من بئر السلم: يجعلو عمار يا ابن عمي ... يسترك ويستر أولادك يا قادر يا كريم ... عوافي يا أولاد ...
كانت تظهر كل موسم، كأنما تذكر أبي «بالعادة» التي لم يقطعها أبدا. فلا يكاد يقبل موسم الحصاد حتى يرسل لها ولغيرها المعلوم، يكلف أولاد الحلال بأن يحملوا زكائب القمح والأرز، في الستر من سكات وبعد مغيب الشمس، إلى عدد من المحتاجين الذين يعرفهم هو ولا تأتي سيرتهم أبدأ على لسانه، وإلى بعض الأقارب الذين يشعر بهم وبأحوالهم أكثر من غيره، ويرفض أن يفصح عن أسمائهم لأحد منا، ولا لأمي نفسها؛ إيمانا منه بأن المؤمن الحقيقي هو الذي ينفق لوجه الله دون أن تدري شماله بما أعطت يمينه ...
تجلس عمتي كبرية مع أمي في قاعة الفرن. أحس بقدومها وأسمع صوتها فأتحاشى لقاء العنزة العجوز - كما كنت أسميها، فتضحك أمي حتى تكاد تقع من طولها - وأختفي في إحدى الغرف، أو أواصل لعبي بالعربات الصفيحية الصغيرة وكرات البلي والخرز والحصى والزلط في الممر الواصل بين بابي البيت المطلين على الشارع والحارة. لكن كبرية لا تتركني في حالي، تتذكرني فجأة وهي تهتف: آخر العنقود فين؟ نادولي على الولد «الثلث» لأعطيه الحاجة الحلوة ... وتنادي أمي علي، فأتلكأ وأرفع صوتي بالصياح أو الغناء أو الشجار مع لعبي المختلفة، لأجد ذريعة للبعد عن العنزة السوداء العجوز. لكنها تصمم على معاودة النداء بصوتها الجهوري العالي علو قامتها الفارعة: تعالى يا ثلث! أنت أوحشت عمتك يا حبيبي. تعال أبوسك من خدودك وشعرك وعينيك، ... تعال يا ضي عيني ... ربنا يحميك لأبيك الطيب الأمير.
لكني أواصل التلكؤ مع الارتجاف من الرعب ... وأفاجأ بخالتي بسيمة - وهي جارتنا الوحيدة التي تأتي لزيارتنا ومساعدة أمي كل يوم خبيز - أفاجأ بها تقف أمامي، وتحاصرني من كل ناحية، وهي تقول: عمتك تسأل عنك ... - تعال يا حبيبي وأنا معك، تعال تعال ...
وتهجم علي خالتي بسيمة، وتقطع علي أي طريق للهرب. أترجاها أن تتركني في حالي، وأهمس في أذنها بأنني خائف، فلا تسأل في. وتمد ذراعيها على اتساعهما فتمسك بي وتشدني وراءها إلى حيث تجلس كبرية، وتمدد ساقيها اللتين لم أر في حياتي أطول منهما.
تضحك أمي، وهي تهتف: ولد أهبل صحيح ... عمتك تسأل عنك ... تعال تقرأ الفاتحة وتسمي عليك ... تعال يا حبيبي، اسمع الكلام ... اسمع الكلام واقترب من كبرية، التي تلم ملاءتها كنسر هائل ضخم يضم جناحيه السوداوين، وتفرد ذراعها وهي تتلفت حولها ولا تستطيع أن تحدد مكاني، بينهما أنا واقف في مكاني، ترتعش ساقاي ويدق قلبي بعنف، وأستنجد بأمي وخالتي بسيمة دون فائدة. وفجأة - لا أدري كيف - تحتويني ذراعان طويلتان نحيلتان، كأنهما ذراعا أخطبوط مخيف، وأسمع دمدمة لا أتبين كلماتها ولا أفهمها: تعال يا ابن الحبيب ... يا غالي يا ابن الغالي ... تعال ربنا يطول في عمرك ويرحم إخوتك ... راحوا يا حبة عيني وتركوك لوحدك. تعال يا حبيبي لحضن عمتك وعمة أبيك ...
أحاول أن أتخلص من الذراعين الحديديتين، فلا أستطيع ... أراها تمسح على رأسي بكفها وهي تتمتم بالفاتحة، فأمسك يدها وأبعدها بعنف ... تمد فمها الأهتم وتحاول تقبيلي، فأستغيث بأمي، وأنا أصرخ: لا ... لا ... الحقيني يا أمه ... الحقيني.
وتقوم أمي من أمام فوهة الفرن المتوهجة، فتمسكني من ثيابي وهي تربت على كتف العمة العجوز، وتخلصني من ذراعيها الضاغطتين على صدري وبطني وظهري، كخشبتين خشنتين. وفي هذه الأثناء يرتفع بكائي عاليا، كأن ثعبانا أو عقربا لدغني ... وأجري مفزوعا مرعوبا إلى الممر الذي تركت فيه عرباتي وكراتي التي كنت ألعب بها ... لكنني أسمع بعد قليل أصوات نشيج متقطع ينفذ كشظايا الزجاج في صدري، وأترك لعبي وأتلصص على المشهد من بعيد وبحذر شديد، كانت العمة كبرية تمسح دموعها بمنديل محلاوي كبير ورأسها وجسمها كله يرتجف. وبينما تحاول أمي أن تهدئها، قائلة: صلي على حضرة النبي، لا تعملي عقلك بعقل عيل صغير وعبيط ... قومي يا شيخة اغسلي وجهك وصلي ركعتين ... منك لله يا عبده ... الست كلها بركة وقصدها ترقيك وتقرا الصمدية على رأسك ... اسكتي يا عمتي وبلاش النهنهة والبكا ... قطعت قلبي ... استغفري لله، وأنا سأقول لأبيه يضربه علقة ...
يستمر نشيج العنزة السوداء، التي انزوت في الركن البعيد، وراحت تبكي بكاء مريرا، وأحس بأنها تنتفض وتهمس وتدمدم في الوقت نفسه بكلمات لم أتبينها بوضوح ...
1
ستي ستيتة
كل شيء فيها كان يضحك أو على الأقل يبتسم. يبدو أنها - دون خلق الله جميعا - قد استقبلت الدنيا أول ما استقبلتها وتنفست هواءها، بضحكة مجلجلة لا بصرخة مولولة. إن كنت قد نسيت شكلها وملامحها الدقيقة - فقد توفيت وأنا بعد في المدرسة الابتدائية - فلا يمكن أن أنسى أنها لم تكف أبدا عن الضحك. كانت تعيش على مساعدة الجيران الميسورين والمستورين، في العجين والخبيز والغسيل والطبخ والتنظيف. تجلجل ضحكتها طول الوقت منذ أن تقف على الباب في انتظار من يفتح لها، إلى أن تخرج في آخر النهار، وتحت شالها الأسود الطويل بعض ما جاد به الكرام من الزاد والخزين والفاكهة. وترجع إلى غرفتها الصغيرة فوق سطح البيت المجاور لنا، لتنام بعد أن تزوج ابنها الوحيد وترك الغرفة إلى غرفة أخرى على سطح آخر، وبعد أن مات كذلك زوجها الذي لم تكن تذكره وهي إلا بقولها: المتعوس الخائب الذي تركني لا ورائي ولا قدامي.
كانت أمي تحبها وتأنس إليها، وكلما ضاقت بوحدتها، وأوشك الحزن والبكاء على أهلها الأموات أن يغلبها، نادت عليها من الشباك المطل عليها من حجرة الفرن: ستيتة، تعالي وحياة أبوك شوية ... تستفسر الضاحكة الأزلية: خبيز ولا غسيل ولا ... تقاطعها أمي: لا خبيز ولا غسيل ... تعالي يا شيخة ... فكي عني ضيقتي ... ولا تلبث دائمة الضحك أن تحضر، وتشرب القهوة، وتحكي من النوادر والغرائب والحكايات، ما يرج الجسد كله من السرور والنشوة والعجب.
ما الذي يذكرني بها اليوم مع بداية العام الدراسي، مع أني قد خرجت للمعاش وتركت التدريس، وشاب شعري وأصبح الذين لا يعرفونني ينادونني يا جدو ويا حاج. وبينما أسير في الشارع وحولي صغار التلاميذ ذاهبين إلى مدارسهم أو راجعين منها، تتراءى لي ستي ستيتة على الفور. ذلك أنني لا أستطيع أن أنسى أنها هي التي أوصلتني إلى المدرسة في أول يوم دخلتها فيه. أقول أوصلتني، والحقيقة أنها حملتني حملا فوق كتفيها. كنا في عز الشتاء، السماء تمطر بلا رحمة، والسيول تملأ الشوارع، وأكوام الوحل كالتلال الصغيرة على جانبي الطريق وفي وسطه، والبرك تتكون باستمرار وتتسع في الشوارع والحواري التي لم يدخلها الصرف الصحي، ولم يفكر أحد في رصفها بالأسفلت.
كنت أقف أمام الباب في انتظار الحنطور الذي اتفق أبي مع صاحبه على أن يفوت علينا طول أيام الشتاء، ليحملني مع بعض أبناء الجيران إلى المدرسة الواقعة في الطرف البعيد من البلدة عند مدخلها الغربي. مرت ستي ستيتة بالصدفة، ورأتني على الباب وفي يدي شمسية صغيرة وحقيبة أوراق وفي اليد الأخرى العامود المعدني ذو الأدوار، الذي ملأت أوعيته الصغيرة المستديرة بطعام الغداء. يبدو أن القلق والخوف الذي يصل إلى حد الرعب من اليوم الدراسي الأول، قد ارتسما على وجهي وأسدلا عليه ستارا من الصمت المشحون بالفزع والرهبة. كانت أمي واقفة وراء الباب الموارب في انتظار الحنطور الموعود، عندما ظهرت ستيتة، وقالت وهي تضحك، بعد أن أدركت الموقف كله: شاء الله يا حنطور، الجرس زمانه ضرب وأنت هنا واقف على الباب؟ يا الله يا ابني! يا الله يا حبيبي!
حاولت أمي أن تثنيها عن عزمها: الدنيا شتا يا ستيتة، والوحلة للركب. اصبري ... زمان الحنطور في السكة ... قالت ستيتة، وهي ترفعني على كتفيها وتغطي رأسي بشالها الأسود الطويل: وزمان الجرس ضرب. يا الله يا ابني! يا الله يا حبيبي، كل سنة وأنت طيب ...
راحت تخوض في الوحل، والمطر يتساقط على رأسينا بلا انقطاع. ربما أحست بحزني وخوفي، فظلت طول الطريق تشجعني وتدفع الابتسام إلى وجهي، برغم الجو الممطر والسماء المكفهرة والبرد الذي يرجف البدن: إيه يعني شوية برد وشوية مطر! بكرة تصفو السما وتطلع الشمس وترجع العصافير للشجر. اضحك يا رجل ... اضحك للدنيا ولا يهمك من المطر والبرد والوحل، حتى المصائب قابلها بالضحك تخف عنك. اضحك وأنت تلعب، واضحك وأنت تذاكر دروسك، اضحك في المدرسة والبيت والشارع والجامع. كلنا ماشيين يا حبيبي، وفي الآخر يرمونا في قلب العتمة وينثروا فوقنا حفنة تراب. ربك هو العالم بيوم ما، نصحى من النومة وكل واحد منا ياخد كتابه باليمين أو بالشمال. أنا نفسي هامد يدي واخده وانتظر حكم الله، وابتسامة الأمل والرضا على وجهي وفي قلبي. اضحك يا حبيبي دائما، من ساعة ما تصحى من النوم لغاية ما ترجع تنام بالليل. خذ الضحكة معك، وأحلامك بإذن الله تكون كلها فرح وهنا ...
هكذا مضت تردد أنشودة الضحك والفرح طول الطريق. لم أفهم بطبيعة الحال كل ما قالت، لكنني على الأقل نسيت المطر والبرد والوحل، وانشغلت عن رعبي وخوفي من أول يوم دراسي في حياتي. وعندما رجعت من المدرسة بعد الظهر بالحنطور مع بعض زملائي وجيراني، وحكيت لأمي ما كان من ستي ستيتة، ضحكت هي الأخرى، وقالت وهي تجفف دموعها من شدة الضحك: هي دي ستيتة وهذا طبعها، تضحك طوب الأرض وتميت من يسمعها من الضحك ...
الغريب أن ضحكها كان سبب موتها. كانت في زيارة جيرانها الأقباط مع الطيبة الحنون أم الأستاذ جورج الموظف بالبلدية، وكانت منهمكة في رواية قصتها مع المتعوس خائب الرجا الذي عمل فيها عملته، وتركها مع ابنها ليأكلا الريح ويطعما البرد والجوع. ضحكت في ذلك اليوم على سيرة رجلها، كما لم تضحك أبدا في حياتها. وفجأة طالت الضحكة، فشهقت شهقة طويلة خرج معها السر الإلهي ...
علمت أمي على الفور بموتها، فقالت لأبي الذي أظهر النية الطيبة لتجهيزها وعمل مأتم لها: خلي الوحدانية المسكينة معنا في مدفن العائلة، هي منا وعلينا يا حاج. قال أبي: بالفعل، هي واحدة من العائلة يا أم محمد.
القلم
أنكمش على نفسي كعنكبوت بائس داخل نسيجه الوحيد. أمن البرد القارص في أول الشتاء الذي جاء مبكرا بأمطاره وسحبه (لم يكن علي بالطو مثل بعض زملائي، ولم يلف أحد حول رقبتي كوفية ولا تلفيعة)، أم كان انكماشي وتداخلي في بعضي بسبب الرهبة الفظيعة؛ رهبة أول يوم أدخل فيه المدرسة الابتدائية الواقعة في الطرف الشمالي من البلد.
بعد طابور الصباح الذي صفونا فيه داخل الحوش الرحب، الذي تحيط به مباني المدرسة وفصولها، وبعد التفتيش على نظافة الأيدي والأظافر وياقات القمصان والملابس والحقائب الصغيرة التي ستمتلئ بعد قليل بالكتب الدراسية، التي يتم توزيعها في أول يوم ومع أول حصة، قاد المعلم طابور التلاميذ الجدد إلى فصولهم ووزعهم على التخت والمقاعد، فكان مكاني - لصغر حجمي وضآلتي - في أول صف من الفصل. أخذ يعيد علينا التعليمات التي ألقاها علينا الناظر أثناء وقوفنا في الطابور، ثم يزيد عليها تعليمات أخرى عن النظام والاحترام والقيادة للأساتذة، وعدم الجلوس قبل أن يسمحوا لنا بذلك.
تلفت حولي وقلبت بصري في وجوه بقية التلاميذ الذين راحوا يتبادلون الهمس والتغامز، ويضعون أيديهم على الأفواه ليكتموا ضحكاتهم. كانوا مشغولين بإخراج كراريسهم وأقلامهم، ووضعها مع الريش والمحابر الصغيرة أمامهم. لم أر على وجوههم علامات الخوف والرهبة التي كانت تنفضني أكثر مما يفعل البرد. لكنني تذكرت تحذيرات أمي من الشياطين الصغار، وبكاءها قبل خروجي من باب البيت؛ لأني قليل الحيلة وضعيف ومسكين: ابتعد عن العيال الأشرار. خلك في حالك. هذا ما قالته وما فعلته منذ ذلك اليوم الأول طوال حياتي.
مع دخول معلم اللغة العربية من باب الفصل، قمنا وقوفا. ومع التحقق من منظره الضخم كالجمل الهائل، ومشيته البطيئة وهو يخب في عباءته الصفراء، وتلمع فوق وجهه المتورم عمامة بيضاء، وتتأرجح يده بعصا طويلة. جللنا الصمت والخوف والترقب، ولم نجلس على مقاعدنا حتى أمرنا بالجلوس. كان جاري على التختة قد همس في أذني لدى دخوله بأنه هو الشيخ عبد القادر، وأنه علم كل الأجيال في بلدنا، ويعرف آباء جميع التلاميذ بأسمائهم وأعمالهم.
حيانا الرجل تحية العام الجديد، فتوقفت أعضاؤنا قليلا عن الارتعاش والارتجاف. وبعد أن عرفنا بنفسه ومواعيد دروسه وألوان عقابه لمن لا يحرصون على النظام والأدب، أو يفرطون في أداء الواجب الذي سيفرضه علينا في الدين واللغة العربية، اتجه نحو السبورة، وأعطانا ظهره العريض، وبدأ يكتب بالطباشير وسط الجزء الأعلى منها: إنشاء. راح يتنقل بنا بين الموضوعات المختلفة التي يمكننا أن نكتب فيها موضوعات الإنشاء: اسرحوا بخيالكم في الأرض والسماء، انظروا جيدا إلى كل ما يحيط بكم من نبات وحيوان وإنسان. استفيدوا من تجاربكم اليومية في الحياة العادية، وحاولوا أن تعرفوا أحوال الناس: الفلاح في حقله، والتاجر في دكانه، والأم في بيتها، والعامل في مصنعه، والطالب في مدرسته. المهم أن تفتحوا عيونكم وتركزوا عقولكم وتطلقوا خيالكم يسبح بكم ويسرح.
كنت قد استجبت للشيخ الهائل الجرم، ورحت أسبح وأسرح معه وأحدق بعيني وأعقد حاجبي لأتابعه كلمة كلمة. لكن يبدو أن منظري لم يش بتركيز ولا انتباه، وأن عيني كانت رغما عني، تحلق في السقف أو تتطلع من النافذة العريضة المجاورة لمكتبه، إلى السماء التي تغطيها الغيوم والأفق المترامي وراء حدود المدرسة. وفوجئت به يقف أمامي مباشرة، وهو يصيح بصوت كالرعد: - أنت يا ولد ... ما اسمك واسم أبيك؟
قمت واقفا، وأخبرته وأنا أرتعش باسمي واسم أبي.
عاد صوته يدوي: - سرحان وتائه من أول يوم؟ ومن أول يوم وعينيك كلها نوم؟!
وشعرت بيد تلطمني على صدغي لطمة لسعتني كالسوط، وزلزلت دماغي وكبست الطربوش على عيني فغطى جبهتي. رفعت يدي إلى وجهي غير مصدق. وبينما يرتعش كياني، ويوشك أن ينفجر في البكاء، أحسست بيد غير رحيمة تشدني من وراء التختة، وبالصوت الراعد يدمدم والذراع الممدودة تشير إلى الباب: قم يا ولد كفاية نوم. رح عند الحنفية في الحوش واغسل وجهك وعينيك. يا الله يا ولد ... يا الله! ...
خرجت من الباب، وظهري ينتفض على مرأى من الجميع من شدة البكاء. كان صوت الشيخ يلاحقني، وهو يشخط في بقية الأولاد: التركيز والانتباه يا أولاد، ضروري نصحى من النوم ونفتح عيوننا، في درس العربي وفي كل الدروس. اصحوا وانتبهوا، يا ويل التائه والسرحان في الدنيا وفي الآخرة.
ما زلت أتذكر ذلك القلم الجبار وتلك الصفعة المباغتة. وكلما خطرا على بالي، تحسست وجهي وهززت رأسي لكي أفيق وأمعن التركيز الذي علمتني الأيام أنه أبو الفضائل جميعا. لكن هل استطعت منذ ذلك اليوم الأول حتى بلوغي سن المعاش ودخولي في الشيخوخة، أن أفيق تماما من السرحان والتوهان والسقوط في الغيبوبة مع كل عمل أقدم عليه، أو كل كتابة أشرع فيها؟
لا أظن ذلك، ربما عزيت نفسي أحيانا بأن معظم أعمالي هي أبناء وبنات الصمت والسرحان والتوهان، وأن غيبوبة الكاتب في ملكوته لا يخرجه منها أن يغسل وجهه وعينيه بمياه كل البحار.
مع أبي
اعتدت بعد انتهاء اليوم الدراسي أن أمر على الدكان وأرجع مع أبي إلى البيت. أراه جالسا أمامه، والمصحف بين يديه، وشفتاه تتمتمان في همس خفيض. لقد أدى صلاة العصر في الجامع، واتخذ مكانه على الرصيف أمام باب الدكان، وراح يرد السلام على كل من يفوت عليه، أو يدخل الدكان ليشتري حاجته من الغلال. كان معظم العابرين والداخلين ينحنون على يده ويقبلونها ويسألونه الدعاء. وكنت ألاحظ فرحة شقيقي اللذين يصرفان شئون المحل بوجوده معهما؛ لأنه يشيع البركة من حوله، وربما يشجع أيضا على حركة البيع والشراء. أقف قليلا إلى جانبه، أو أتنقل داخل المحل، حتى ينادي علي قائلا: يا الله يا ابني نتوكل على الله.
في الطريق الترابي القصير إلى البيت، أسير بجوار كغراب صغير يعرج بجانب نسر عظيم. حقيبة كتبي وكراساتي على ظهري، وفي رأسي الصغير عشرات الأفكار والحكايات التي أريد أن أقصها عليه. وأرفع عيني إلى وجهه، فأراه كما عهدته: مضيء يشرق بنوره الداخلي، ومتجهم الملامح، وصامت على الدوام إلا من شفتين تتحركان حركة غير منظورة، وتتمتمان بالآيات أو الدعوات. وأحاول أن أنفذ إلى الحصن الحصين الذي أغلق عليه أبوابه ونوافذه، ومثل أمامي صامدا وراسخا ومكتفيا بنفسه. - بالك يا آبه؟ الأستاذ عزيز يسلم عليك.
يهمهم متسائلا: عزيز بقطر؟ رجل طيب ويزورني في الدكان كلما رآني.
أواصل كلامي ... وقد دبت الحياة في أوصالي وعروقي: أعطاني عشرة على عشرة في الإنجليزي. قال لي مستقبلك عظيم في اللغات، المهم أن تواصل وتجتهد. - نعم. نعم. ولكل مجتهد نصيب ... - وهل تعرف الشيخ عبد القادر أستاذ العربي؟ - ومن لا يعرفه يا ابني؟ علم أولاد البلد كلها ... - أعطاني عشرة على عشرة في الإنشاء. قال لي ممكن تكون شاعر أو أديب كبير ...
يجمجم أبي بكلام غير مفهوم. ينحني على الأرض ليلتقط حجرا وجده في منتصف الطريق، ويضعه بجانب السور الحجري للمضيفة الواسعة التي نمر عليها كل يوم ثم يقول وهو يكلم نفسه: إماطة الأذى عن الطريق. بهذا أوصانا الحديث الشريف.
أتدخل في الكلام مسرعا: والورق أيضا يا أبي ... خصوصا عندما تكون عليه كتابة ... - نعم ... لا بد من حملها ووضعها بجانب حائط، فربما يكون فيها ... - اسم الجلالة ... هكذا قال لنا الشيخ عبد القادر؛ حتى لا تدوسه الأقدام أو يصل إليه المطر أو الوحل ...
وينحني أبي أكثر من مرة ليلتقط أوراقا يقبلها ويضعها على جبهته، ثم يركنها بحرص وحنان بجوار سور أو جدار.
وتتقلب الأفكار والحكايات داخل رأسي، وتهم بأن تندلق من على لساني، ولكني أرفع رأسي وعيني إلى وجه أبي، فأجده قد دخل قوقعته وغاب عني تماما، بل نسي وجودي. أريد أن أحدثه عن النشاط الرياضي في ساحة الألعاب، وعن قراءاتنا الجماعية في المكتبة لقصة من محمود تيمور وقصيدة لشوقي، وعن حصة الأشغال وحصة الموسيقى، وكيف بدأت تعلم العزف على الفلوت بإرشاد الأستاذ كوكب مدرس الحساب وتوجيهه. وأريد أن أحكي عن المشاجرات بين زملائي في وقت الفسحة، وعن التلاميذ الذين طردهم المعلمون من الفصل، أو عوقبوا أمام الجميع برفع أيديهم ووضعهم في مواجهة الحائط عقابا لهم على الإهمال أو الكلام بصوت عال، أو التلفظ بلفظ غير لائق. لكنني أنظر إلى أبي فأجده قد التف على نفسه وتحصن في حصنه، وأصبح بعيدا عني بعد الكواكب والنجوم. ونبلغ البيت فيفتح الباب وأقفز العتبات وأدخل وراءه، وأنا أنادي على أمي لتعرف أننا وصلنا، وأن عليها أن تجهز طعام أبي.
ويتناول أبي وجبته المسلوقة التي تعود عليها منذ سنين، ثم يميل إلى الكنبة الكبيرة، فيستلقي عليها ويغفو قليلا قبل أن يصحو على أذان المغرب. وأكون من جانبي قد فرغت من أداء واجباتي المدرسية، واتخذت الاحتياط الكافي للوضوء والصلاة وراء أبي جماعة. وما هي إلا لحظات بعد الأذان حتى أسمع صوته يناديني، وسرعان ما أكون واقفا وراءه لكي نلتقط معا جوهرة المغرب، كما ردد على سمعي أكثر من مرة. وبعد أن ننتهي من الصلاة، أمد يدي فأتناول يده وأقبلها، بينما أتلهف على المستحيل الذي تمنيته، واكتفيت بأن أحلم به: بقبلة من شفتيه أو ضمة إلى صدره، أو نظرة حنان إلى الغراب الصغير آخر العنقود الذي جاء على غير انتظار، واستمر في الحياة بعد موت شقيقيه التوأمين دون مبرر، وظل طول عمره يحاول أن يعبر مسافة البعد الهائلة بينه وبين أبيه الشيخ الطاعن في السن وفي الصمت.
أمام الفرح
وحيد على الدوام وحزين، كأن الوحدة والحزن هما قدري وكوكب نحسي الذي لا يتخلى عني. لا أدري ما الذي وضعني في قبضتهما منذ الطفولة وحتى الشيخوخة. لا أستطيع أن أفهم أو أفسر كيف اختلط سمهما بكل قطرة من دمي، ولا متى أو كيف غرست شجرتهما المرة في صميم كياني ...
إن أنس لا أنسى يوما رجعت فيه من الدكان في طريقي إلى بيتنا. كان الوقت قبل الغروب بقليل، وكنت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة، أقضي إجازة الصيف في البلد بعد حصولي على الابتدائية والتحاقي بالمدرسة الثانوية في عاصمة المديرية. كانت أصوات الطبول والدفوف تدوي داخل المضيفة الكبيرة وعلى بابها، وكان كثير من الخلق يتدافعون للدخول من البوابة أو يتزاحمون أمامها، بينما الأضواء المبهرة والملونة تتألق من اللمبات المربوطة سلوكها بالسور الحجري، أو على الأبواب والنوافذ وفوق سطح المضيفة. ومن حين إلى حين ، تجلجل زغرودة طويلة مدوية أو ترن أصوات ضحكات منطلقة من كل مكان، وتصفيق بالأيدي لا ينقطع، ودعوات مرتفعة إلى السماء بأن يتمم الله بخير، ويسعد العروسين، وعقبال الأنجال في حياتكم إن شاء الله.
انزويت في ركن هادئ وظليل في الطرف الأقصى من السور. لا أدري حتى اليوم لماذا كان كل شيء يدفعني إلى الانفجار في البكاء. كل دقة طلبة، كل زغرودة تحلق في السماء كصيحة طائر ينادي على إخوته في السرب الهائم تحت السحاب، كل ضحكة تصلصل في الفضاء كصهيل خيول منطلقة في السباق، كل ضوء يلمع ويبرق بألوانه الحمراء والصفراء والزرقاء ويخلب الأبصار، وكل سيارة أو حنطور يقف أمام البوابة وينزل منه رجال أو نساء في كامل زينتهن، ويسحبن في أيديهن أولادا وبنات يخطرن في أثوابهن البيضاء كأنهن عرائس صغيرة. كنت أنفحم في البكاء مع كل صوت أو ضوء أو حركة أو نداء، وأنتفض وأختلج وأرتج تحت وطأة الإحساس بالخجل والذنب والعجز والنشوز عن بقية الخلق الذين ملئوا الساحة والشارع بالفرح والهيصة والزيطة. وبينما أنا أنشج وأنهنه وأبلل نفسي الحزينة بدموعي التي لا تتوقف، إذا بيد تربت على ظهري بحنان، وشبح طويل ينحني علي، ويقرب وجهه من وجهي: - ما لك يا حبيبي ... كفى الله الشر ...
قلت، بعد أن رفعت وجهي إليه، وعرفت أنه هو جارنا أبو يوسف الموظف في مكتب البريد: - أبدا أبدا ... لا شيء ... - ولكنك تبكي كأنك في جنازة. الناس جميعا فرحون وأنت الوحيد ... - نعم، أنا الوحيد وسط الزحام. - لست وحيدا وسط أهلك وأبناء بلدك. تعال معي يا رجل، وستعرف أن الجميع مدعوون للفرح ... - الجميع؟ - نعم نعم، الأعيان والفلاحون والتجار، حتى الضيوف والأغراب مدعوون من الليلة لزفاف ابنة الباشا على ابن البيك. شرق البلد وغربها أصبحا سمنا على عسل، وانتهى الصراع والخلاف الأزلي بينهما. تعال معي لترى بنفسك ... - لا أرجوك. - ستجد أقاربك هنا ... وربما تجد أباك وشقيقك ... - أعفني ... ليس لي في الزحام ولا في الأفراح ... - تعال اسمع الكلام ... ستضحك وتفرفش وترقص وتغني مع العوالم ... وستأكل من البوفيه الهائل الذي يتسع للجميع ... - للجميع ... ولكن ليس لي ...
وغلبني البكاء فانفحمت فيه فجأة، ولم أستطع التحكم في دموعي ورعشات أطرافي ونهنهة صدري ... وانصرف جارنا، وهو يقول ضاحكا: ذنبك على جنبك ... ستندم على الفرصة التي ضاعت منك ... اسمع الكلام وتعال معي يا رجل ... البلد كلها تحبك ويسعدهم أن يروك ... - وأنا أحب الجميع وأرجو الخير للكل ... لكنني أحب أن أكون وحدي ... - طيب على راحتك، لكن تعدني أن ترجع للبيت وتسلي نفسك بأي شيء ... سمعت أنك شاعر ... هيا اكتب لنا قصيدة ... قصيدة عن العصفور الذي لزم عشه ورفض أن يرفرف فرحا مع السرب ...
قلت، وأنا أجفف دموعي وأحاول أن أتماسك وأصلب طولي: ادخل أنت بسلامة الله وافرح مع الجميع ... أما أنا ...
انحنى بقامته الطويلة وقبلني على خدي، وربت بحنو على ظهري.
كدت أنفجر مرة أخرى في البكاء، ولكني لملمت أطراف نفسي وشكرته. ومضيت بعيدا عن الأضواء والزغاريد والضحكات وصخب الرقص والغناء. لم أذهب إلى البيت كما وعدته، بل عبرت مزلقان السكة الحديدية، واتجهت إلى منتزه شجرة الدر الكبيرة، بحثا عن شجرة أجلس تحتها وتظلل وحدتي ودموعي.
مع أمي
لا أدري كيف اشتعل الخلاف بين أبي وأمي، ولا لأي سبب. كل ما أذكره أنني كنت بعد العصر في حجرتي مستغرقا في قراءة «العبرات» وتجفيف دموعي بين لحظة وأخرى، عندما سمعت أمي تنهنه باكية بعد ان انفتح باب حجرة نومها عنوة. طرقت باب حجرتي وجسدها كله ينتفض، بينما كان أبي يبرطم من وراء الباب الموارب بعبارات لم أتبين منها سوى جمل مبتورة: روحي اطلبي حقك يا خائبة. تحرم عليك الدار إن رجعت من غير ما يعترف بحقك الشرعي. ناس تأكل مال النبي صحيح ولا حيا ولا اختشا ... يا الله روحي ... روحي ...
لم أفهم حرفا مما تردد في سمعي عن الحقوق الشرعية أو غير الشرعية. كنت لا أزال مع عبرات المنفلوطي، ولا أريد أن أضيف إليها عبرات جديدة على مآس جديدة. وأنقذتني أمي من حيرتي حين طلبت مني أن أصحبها إلى بيت خالي. وأمام بكائها الصامت لم أملك إلا أن ألبس حذائي بسرعة، وأضع جاكتة على جلبابي الأبيض، وأنزل معها السلالم وقلبي يرتجف خوفا وشفقة وحيرة ...
غادرنا البيت والشمس تلملم خيوطها الذهبية من على الأسطح والجدران. كان بيت خالي في الطرف الآخر من البلد، وكان علينا أن نخترق حواري وأزقة وشوارع عديدة قبل أن نصل إلى بيت العائلة الكبير. وكنت أمسك بيد أمي أو بطرف ملاءتها، وأحجل بجوارها كغراب أعرج. وبين الحين والحين أرفع عيني إلى وجهها المقطب، ودمعتها التي تسيل على خدها دون توقف. كان كل شيء يطالبني بأن أقول شيئا، لعل أمي تخرج عن صمتها وحزنها. رحت أجمجم بكلام أحاول أن أملأ به فراغ الصمت المخيم علينا: اتركيها لله يا أمي. مجرد سوء تفاهم ومصيره يزول ... - لا تغضبي من أبي ... هو قلبه طيب، وأنت أول من يعرف أن سماءه ستروق وتصفو من السحب والغيوم ... - بعد قليل سيصلي المغرب والعشاء، ويرجع كل شيء لطبيعته ...
كانت أمي تخطو في ثوبها الأسود وملاءتها السوداء، ويلفها صمت لا يقل سوادا. وكانت دموعها تسح باستمرار ويزداد انهمارها كلما قلت شيئا، لذلك لزمت أنا أيضا الصمت حتى وصلنا إلى بيت خالي. دخلنا من الباب المفتوح على طرقة شبه معتمة، ومالت أمي إلى اليمين وانحنت تقبل رأس عجوز جالسة وراء الباب على حصيرة قديمة. كانت العجوز الضريرة هي زوجة خالي القديمة، التي أنجب منها أكبر أبنائه، وكانت هذه هي جلستها بالليل والنهار إلى أن يحين موعد نومها فينقلوها إلى فراشها. وقد تعجبت لأنها عرفت أمي من صوتها، ونادت عليها باسمها، وسألتها عن أولادها وبناتها.
قالت أمي: بخير يا حاجة، كلهم بخير ويبوسوا يديك ويسألونك الدعاء ...
سحبتني أمي من يدي، فانعطفنا يمينا إلى ساحة واسعة تجاورت فيها أبواب حجرات الأبناء في شبه دائرة كبيرة. كانت حجرة خالي إلى اليمين مباشرة، فاتجهنا إليها وطرقنا الباب. رحبت بنا زوجته الطويلة العجفاء، وأيقظت زوجها الذي كان قد اقترب موعد صحوه بعد نومة القيلولة. قال لأمي: سلامات يا أم محمد، خير إن شاء الله ... ردت أمي: خير بإذن الله. ثم وهي تشير إلي بالخروج: رح العب مع الأولاد، أو رح معهم إلى الزريبة وتفرج على الحمار والبهائم ... يا الله يا بني ... رح أنت لغاية ما أنادي عليك ...
خرجت وأنا أسحب الباب ورائي، ثم وقفت متلكئا أمامه. بعد السلام والطيب ترددت كلمات وعبارات، التقطت أذني بعضها وبقي بعضها الآخر ألغازا لا يفهمها عقلي: حق شرعي إيه يا زينب أنت وزوجك؟ بعد العمر والسنين يطالب بحق شرعي صرف على جهازك وزواجك؟ إذا كان زوجك عقله انجن خليك أنت عاقلة. أنا قلت لك وله نفس الكلام من زمان، وياما قلته وكررته، لا لك حق عندي ولا عفريت أزرق. قومي روحي بيتك، بيتك هو المكان الذي فيه أولادك. لا لا ... ارجعي بيتك في الحال، أنا مالي أخت تبيت خارج بيتها. قلت لك ارجعي لزوجك وعيالك. لك أهل طبعا وأنا أهلك وأخوك الكبير. إذا حصل منه شيء، فالرجال لهم كلام مع بعض. قومي يا بنت الناس، قومي ارجعي لبيتك قبل الدنيا ما تليل. يا لله توكلي على الله يا بنت الحلال، وابن الحلال زوجك خليه يضع عقله في رأسه. واطمئني يا أختي، حطي في دماغك إننا أهلك وسندك في كل الأحوال ...
بعد قليل خرجت أمي من الباب وهي تجفف عينيها بمنديلها. وضعت زوجة خالي يدها على ظهرها، وراحت توشوش لها بكلام لم أسمعه. ومالت أمي في الطرقة المعتمة على القعيدة الضريرة، وقبلت يدها وسألتها الدعوات الصالحة. ورجعنا نهبط الشارع المنحدر من بيت خالي إلى شوارع وحواري وأزقة، عبرناها قبل قليل ... سرنا صامتين بعد أن شعرت بأن أمي لا تطيق أن تسمع كلمة واحدة. كانت بين الحين والحين تردد: الله يسامحك. الله يسامحكم كلكم. ولأني لم أفهم الذنب الذي ارتكبوه، فلم أسأل عن أي شيء، وظللنا سائرين كشبحين في غبشة المساء حتى وصلنا إلى البيت. طرقت الباب، ففتح أبي وهو يتمتم بآيات ودعوات لم أتبينها. كان واضحا أنه يختم صلاة العشاء. تراجع قليلا إلى الوراء، وقرأ كل شيء على وجه أمي الذي لفه الصمت والأسى، ثم قال: جاءك كلامي؟ عرفته على حقيقته؟ ادخلي يا بنت الناس ادخلي. من هنا ورايح اعرفي أن الله حق ... انفجرت أمي في البكاء، وسحبتني من يدي، فطلعنا السلالم صامتين، واتجه كل منا إلى حجرته.
النبوءة
في ضحى ذلك اليوم البعيد الكئيب - كان يوم جمعة، وفي يوم الجمعة ساعة نحس - صحوت من نومي على صوات أشبه بحريق مشتعل بالصياح والصراخ في بيت من بيوت الجيران. صوات يثقب الأذن كمسمار محمي بالنار، ويروع القلب ويهاجمه كالفزع الأكبر. جريت إلى أمي لأعرف الخبر، كانت تطل من شباك حجرة الفرن وتكلم جارتنا الست سكينة. أغلقت الشباك، والتفتت إلى وجهي المختلج بالخوف والرعب، قالت في صوت حزين: يا ابني أنت فيك شيء لله. وقفت حائرا وقلبي يخفق متوقعا الشر، فأردفت قائلة: أنت يا ابني مكشوف عنك الحجاب ... - كيف يا أمي؟ لماذا تقولين هذا؟ - الرؤيا التي حكيتها لي يوم الجمعة الذي فات تحققت اليوم، والنار التي شفتها في المنام أحرقت بيت الحاج فرحات وربنا يصبره على ما بلاه. - ماذا حدث؟ هل مات الحاج؟ - أبدا يا ابني، عزرائيل ترك الرجل العجوز وخطف ابنته. - بنته؟ لولا؟ لا يمكن. مستحيل، أنا كنت معها هي وأخيها أحمد من أسبوع واحد. لولا راحت؟ قلت لك مستحيل ... - رح اسأل يا ابني وقف مع صاحبك. أمر الله وقضاه، والأعمار بيد الله ...
نزلت السلالم كالمجنون متوجها إلى سراي الحاج فرحات على الناحية الأخرى من بيتنا. كان كل شيء مطابقا للرؤيا التي لمعت في ذهني، كأنني شاهدتها ليلة الأمس؛ الحريق الذي رأيته يأتي على البيت ويتركه كركام متفحم كان يشتعل في الحناجر التي تصرخ، والأنين الذي يتصاعد من الكبار والصغار، والرءوس المستندة إلى الجدران غير مصدقة، بينما ترتج الظهور ببكاء لا ينقطع. وجري وهرولة ونداءات وصيحات مذعورة، ورجال ونساء يهبطون من السيارات والحناطير ويسرعون بالدخول من الباب الكبير، وهم يولولون ويبسملون ويحوقلون. وأقترب من أحد الواقفين لأسأله عن صديقي وزميلي أحمد، فيقول: راح الجبانة مع الرجال ليفتحوا المدفن ويجهزوا تربة الصغيرة المسكينة. وأبتعد عن الهرج والمرج، وأقف على جانب الطريق. هل يمكن أن يحدث ما حدث؟ هل تغتال الزهرة المتفتحة وتذبح العصفورة الحلوة فجأة ودون ذنب؟ قالوا هي السكتة القلبية التي لا تصيب غير الشيوخ الكبار، فكيف تفاجئ بنت العشر سنوات؟ وأنا؟ ماذا أفعل أمام هذا الجنون والذهول؟ كيف سأحتمل الصدمة في أول حب تسلل إلى قلبي، أول حب أذوق حلاوته ومرارته؟ من المسئول يا ربي عن مقتل البراءة وموت الجمال؟ وكيف أمكنني أن أتنبأ بالهول الفظيع؟ أأكون بالنبوءة والرؤيا قد شاركت دون أن أدري في الجريمة؟ ويلي من شؤمي ونحسي ... وليتني ما دخلت بيتهم، ولا وقع بصري عليها، ولا تعلق قلبي بها، ولا حلمت بحبها حلم الكافر بالجنة.
ما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى خرج النعش الصغير محمولا على الأعناق، مشيعا بالصوات الجارح والنهنهات المفجعة والدعوات المرتعشة الخائفة. كان جمع كبير قد احتشد على الكراسي التي وضعت أمام البيت، ولمحت أبي وأخي الأكبر وسط زحام الماشين وراء الصندوق المجلل بالزهور والمغطى بالحرير. وتبعت الموكب من بعيد كأني حيوان منبوذ وطريد، تطفر الدموع من عينيه وهو مذهول، وتنغرز سكين الموت المحتوم لأول مرة في قلبه، فيطلق اللعنات على القدر القاسي الذي قضى على حبه وأمله الوحيد، عندما قضى على المحبوبة الممددة في نعشها الصغير. وبقيت واقفا على بعد من الجامع، مستندا إلى جدار ووجهي بين يدي، أخفيه عن الأعين كما يخفي المذنب خطيئته ويحاول أن يداري جريمته.
خرج النعش من الجامع بعد الصلاة على اللؤلؤة القتيلة، وسرت وراء الموكب الحاشد المتجه إلى الجبانة الكبيرة، محافظا على مسافة البعد الكافية عمن يعرفني ومن لا يعرفني، ومحصنا نفسي من كل عين تحاول أن تتسلل إلى كياني المرتجف الباكي لتعرف سري؛ الذي لم يعرفه ولن يعرفه أحد غيري.
بعد الدفنة وانصراف المشيعين والمعزين، رجعت من الطريق الغربي المؤدي إلى الترعة والمنتزه ومزلقان السكة الحديدية. رحت أطوف بالسكك البعيدة على غير هدى، أمر على الناس والبيوت والأشجار والحيوانات الراجعة من الحقول كأني في حلم كاذب . أفكر طول الوقت في معاقبة نفسي على ذنب لا حيلة لي فيه، ورؤيا مشئومة كأنها تهمة موجهة إلي. وداهمني الليل وأنا أتقلب في جحيم السؤال والندم والذهول والاحتجاج والبكاء الأخرس. وعندما رجعت إلى البيت تركت جسدي يسقط متهالكا على العتبة. كانت المصابيح تتلألأ في الصوان الكبير، وتلاوة القرآن تملأ الأرجاء بالرهبة والحزن والخشوع والصبر الصامت الكظيم. رفعت رأسي إلى السماء، فوجدت نجما يرتعش بضوء أحمر، يترجرج كبقعة من الدم. تطلعت إليه وقلبي يهتف به: أنت يا كوكب النحس المتربص بي، يكفيك ما فعلت بها وبي. أستحلفك بالله وملائكته أن لا تطاردني على طريقي. أستحلفك أن تبتعد عن رأسي ورءوس أحبابي وأهلي وبلادي.
أحمس ...
ذات يوم في إجازة منتصف العام، أحاول أن أدفئ نفسي من البرد، فأقطع غرفتي الضيقة ذهابا وجيئة، وأرفع عقيرتي بالكلام الحماسي الذي كلفت بحفظه عن ظهر قلب. رحت أتقمص الدور الذي سأقوم به بعد انتهاء الإجازة، بينما تشاركني في التعبير تقلصات وجهي وإشارات يدي وذراعي في الجهات الأربع. يا له من دور عظيم لإنسان عظيم. وهل من شيء أسمى من تمثيل دور أحمس الخالد في التاريخ، هل من بطل أخطر من بطل الاستقلال والتحرر من ربقة الاستعباد والاحتلال وطرد الهكسوس الغزاة المغتصبين، الذين استقروا في شمال البلاد؟
انطلق صوتي يردد الخطاب الطويل، الذي ألقاه أحمس في البهو الكبير على مسمع من الأعيان والأمراء والقواد والضباط: «سننتصر عليهم ما في ذلك شك. لقد انتصروا علينا وأخضعونا وأذلونا قبل قرنين من الزمان؛ لأنهم وجدوا أمامهم ملوكا منقسمين متنازعين. أما اليوم فأمامهم شعب متحد الكلمة، متماسك البنيان. انتصروا أول مرة؛ لأنهم جلبوا معهم خيولهم وعرباتهم وسيوفهم التي لم يكن لنا عهد بها من قبل، أما الآن فسنحاربهم بأسلحتهم، وسنبرهن لهم أننا أصبحنا أكفأ منهم في استعمالها. لا، لن يهدأ لي بال حتى أطرد آخر هكسوسي من أرض الوطن ...»
ضقت ببرد الحجرة، فخرجت ألتمس شيئا من دفء الشمس على السطح. كانت أمي تنشر الغسيل وتتحرك كالنحلة بين الحبال والطشوت وحجرة الفرن ، وكنت منغمسا في الدور وصوتي يردد الكلام، ويرن كجرس إنذار أو بوق صغير يحث جيشا من المحاربين على التقدم والزحف: «لقد أعلن الأمير سكنن رع الحرب عليهم، وسقط صريعا في ميدان الجهاد والشرف، وقام والدي كاموس بتهيئة الشعب في الجنوب للجهاد، ولكن المنية عاجلته قبل أن يطرد أولئك المغتصبين القذرين، لكنني سأحقق أمنيته لو أطال آمون في أجلي ...»
قالت أمي، وهي تتوقف وسط السطوح وتنظر إلي متوجسة: مالك يا ابني؟ كفى الله الشر ... - لا بد أن أحفظ الدور يا أمي قبل أن تبدأ المدرسة ... - دور؟ يعني تمثل وتقف على المرسح؟ - اسمه المسرح يا أمي. الأستاذ علام أسند إلي دور أحمس بطل الاستقلال، ومحرر شمال الوادي من الهكسوس.
قالت يائسة، وهي تنفض الغسيل: والله ما أنا فاهمة يا ابني.
قلت ضاحكا، وأنا أتابع القراءة والإشارة بيدي وذراعي وكل جوارحي: المهم تدعي لي ...
قالت، وهي تتجه إلى الفرن بدلا من تضييع الوقت فيما لا يفيد: داعية لك يا ابني من قلبي، ربنا ينجح مقاصدك أنت وزملاءك.
كان الأستاذ علام مدرس اللغة العربية قد استدعاني إلى حجرته، وقال لي: أنا يا ابني واثق منك؛ فأنت تحب الشعر وتنطق الخطب نطقا سليما، كما أني أتوسم فيك حب الفن. سألته أي فن يا أستاذي؟ أجاب بحماس شديد: فن المسرح الذي يجمع كل الفنون. لقد أعددت مسرحية قصيرة من منظرين عن رواية صدرت عن أحمس بطل الاستقلال لأحد أدبائنا الكبار، اختزلت المشاهد واختصرت الحوار بقدر الإمكان ليستطيع التلاميذ أن يحفظوه ويرددوه. أنت الذي سيقوم بدور أحمس، وسنبدأ البروفات بعد الإجازة مباشرة ... خذ ... هذه الورقة فيها القطعتان اللتان سترفع بهما صوتك في المنظرين ... احفظ النص جيدا حتى لا تتلجلج أمام الجمهور. سألته عما يقصد بالجمهور، فقال ضاحكا: زملاؤك ومعلموك وأولياء الأمور. المهم تشد حيلك أنت وبقية الممثلين لترفعوا رقبتنا أمام الناس.
انتهت الإجازة ورجعنا إلى المدرسة. كنت أختال على غير عادتي وأنتفخ كالطاووس، وربما صدقت بيني وبين نفسي أنني أحمس بطل الاستقلال ومحرر البلاد. وعندما سألت عن موعد البروفات، أبلغوني أن الأستاذ علام قد نقل إلى الصعيد، وأن الأستاذ حسن مدرس التاريخ والمشرف على النشاط المدرسي هو الذي سيتولى الموضوع. وجمعنا الأستاذ بعد الظهر في قاعة المكتبة، وبدأ كل منا يسمع دوره: الأمراء والأعيان والضباط والحراس والحجاب، وقبلهم جميعا أحمس البطل والمنقذ. وبذل كل منا ما في طاقته لتقديم دوره على أحسن وجه، وشاع الأنس والحماس والرضا، وتفاءلنا بإقامة عرض ناجح يحوز القبول والاستحسان، ويختتم به العام الدراسي. وتطلعت أنا لبداية البروفات حتى أتلبس بالدور بحق، وأرتدي ملابس الأمير وأضع تاج الوجهين على رأسي، وأحمل الدرع والحربة في يدي، وأقود الجميع أمام حصن العدو في أواريس.
قال لي الأستاذ حسن بعد انصراف الزملاء وانفراده بي في قاعة المكتبة: أردت أن أكلمك بعيدا عن زملائك. أنت فتى طيب ومخلص ومتفوق في دراستك، لكن لا تغضب مني إذا صارحتك بأنك لا تصلح لدور أحمس على الإطلاق ...
سألت، وأنا أشعر بجفاف حلقي وارتفاع نبضي: لماذا؟ هل قصرت في شيء؟
قال مؤكدا كلامه: ليست مسألة تقصير، بل تكوين واستعداد. أنت قصير القامة وخجول ونحيل وشاحب الوجه، وأحمس البطل لا بد أن يكون طويلا عريضا قوي البنيان، جريئا كالأسد ومرتفع الصوت كالرعد. اسمع نصيحتي يا بني، ولا تغضب مني ...
قلت، وقد زاد اضطراب قلبي وغامت الدنيا أمام عيني: أنا أسمعك يا أستاذي ...
قال، وقد ارتسمت على وجهه أمارات الارتياح: ليس معنى إسناد الدور لغيرك أنني سأستغني عنك، بالعكس، سأعطيك دور واحد من الكومبارس ...
كنت أسمع الكلمة لأول مرة في حياتي، فهتفت: ماذا؟
قال بسرعة ووضوح: الكومبارس هم مجموعات من الممثلين الذين يقومون بأدوار مساعدة؛ يجرون في مجاميع، أو يهتفون في مظاهرات، أو يرفعون الأعلام ويصيحون مهللين فرحين. إن دورهم أساسي في أي مسرحية، ولكنهم راضون متواضعون، وقد يشارك الواحد منهم في المسرح عشرات السنين دون أن يتفوه مرة بكلمة واحدة ... اسمع نصيحتي يا بني ... هذا هو الدور الوحيد الذي يناسبك. سنبدأ السبت القادم، وستكون على رأس المجاميع التي تزحف أو تهتف أو تحيي القائد المنتصر ورجاله ... أرجوك يا بني ... لا تتطلع أبدا إلى ما يخالف طبيعتك ... تأكد أنك خلقت للدور الذي وصفته لك وحاول أن تتقنه ...
قلت مصدوما بالحقيقة، وواثقا في نفس الوقت من صدق الأستاذ، الذي طالما لمست قبل ذلك حبه وحنانه ورعايته: سأفعل ما يرضيك يا أستاذ ...
قال ضاحكا وهو يربت على كتفي: وما يرضيك سيرضيني، وسوف تعلمك الأيام أن نظرتي لا تخيب ...
وعلمتني الأيام صدق كلمات المعلم بالرغم من قسوتها، وعشت منذ ذلك اللقاء وتلك التجربة الصغيرة عيشة الكومبارس بين المهمشين ومجاميع البسطاء والفقراء والمجهولين، واستطعت مع الأيام أن أقتل في نفسي أي نزوع إلى البطولة أو الزعامة أو القيادة أو السلطة والتسلط على اختلاف أشكالها ودرجاتها. والذي أذهلني وفاجأني في ذلك اليوم البعيد الذي عرضت فيه المسرحية، أن الجمهور صفق طويلا لمجاميع الكومبارس، وربما sصفق لي أنا أيضا، وعبر عن حبه وإعجابه الشديد بالعاملين الصامتين.
1
أول فيلم
بالبنطلون القصير، والجاكتة الناحلة، والحذاء المتهرئ، وحقيبة الكتب المدرسية تتدلى من يدي، أقف مبهورا أمام المبنى الضخم القبيح لسينما البلدية في طنطا ... تلميذ أنا في السنة الأولى الثانوية أو الثانية لا أذكر على وجه التحديد، أحاول كتابة الشعر وأقرأ بانتظام - متأثرا بشقيقي الأزهري وزملائه من شداة الأدب ورواة الشعر - مجلة الرسالة، وأجد الوقت الكافي للبكاء مع ماجدولين وسيرانو دي بيرجيراك والعبرات، وأكتشف بالتدريج طه حسين والحكيم وجبران وجوته ولا مارتين، مع إدمان قراءة الزيات والرافعي، متأثرا بمن حولي. وإدمان مرضي المزمن وهو شراء الكتب ومنها الأعداد الأولى لسلسلة اقرأ، التي بدأت تصدر في ذلك الحين، وأثناء الحرب العالمية الثانية في الأربعينيات. لكنني لم أكن قد دخلت السينما أبدا، وقد آن الأوان في ذلك اليوم من أيام الخميس أن ألج أبواب هذا العالم العجيب. كانت السينما تقدم فيلمين عظيمين في عرض واحد: الدكتاتور العظيم وفي سنة مليون. قرأت الإعلانات وتأملت الصور، وتحسست القروش القليلة في جيبي، فوجدتها تسمح بقطع تذكرة بقرشين وشراء سيجارة فرط أدخنها كالكبار بعد انتهاء العرض.
كان الفيلم الأول لساحر الكوميديا وقديسها العظيم شارلي شابلن، وكانت أحداث الفيلم ومناظره تسخر سخرية مرة من الطاغية والمهرج والمجنون الذي يدوخ البشرية. كان هو هتلر الذي كنا نحن المصريين ننظر إليه ونتحدث عنه بالإعجاب والرهبة، وربما بالحب والأمل في حضوره أيضا نكاية في المحتل الإنجليزي.
ضحكت كثيرا من مكاني في «الترسو» على الطاغية المهرج الذي تتساقط أقنعته واحدا بعد الآخر، وتعجبت من تقليد شابلن للفوهرر المهووس وهو يخطب ويخرج أصواتا صاخبة، ويتلوى ويتشنج وتتقلص عضلات وجهه كأنه ذئب مسعور أو بوق خرب. الحق أنني لم أعد أذكر من هذا الفيلم إلا سخريته بالقائد المزعوم والمستبد المختل العقل. ولست أدري إن كانت صورة الطاغية المرعب والمضحك قد تسربت مع مر السنين إلى لاوعيي، وعملت مؤثرات أخرى عديدة على أن تصبح قضية الحرية هي قضيتي الوحيدة في الحياة، وأن تدور معظم أعمالي المسرحية والقصصية القليلة والمتواضعة حول موضوع الطغيان والطغاة الكبار والصغار، سواء في ذلك المزيفون والمتطهرون والدمويون (مثل حسن في مسرحية البطل، وجلجاميش في مسرحية محاكمة جلجاميش، وتيمور لنك الذي يحاور جحا في مسرحية المرآة ... وغيرها من الصور الواضحة أو الكامنة في أعمال أخرى مختلفة).
لماذا أتذكر ذلك الفيلم القديم وأنا في بداية شيخوختي، وقد انقطعت عن الكتابة المسرحية منذ سنوات طويلة؟ ربما لأنه قبل كل شيء قد حببني في أفلام شابلن الصامتة والناطقة في السينما الرفيعة التي صرت بعد ذلك من عشاقها المدمنين، ولأنه قبل ذلك أيضا وبعده قد نبهني في تلك السن الصغيرة، وجو الطغيان بكل صوره وأمراضه يحاصرني من كل ناحية، إلى الموضوع الذي لم يفتأ هو شغلي الشاغل حتى في بعض دراساتي الفلسفية ومقالاتي الأدبية، وبصورة مباشرة أو غير مباشرة. أيكون الحنين للكتابة المسرحية هو الذي ذكرني اليوم بهذا الفيلم القديم؟ أم تكون الحسرة على التوقف عن هذه الكتابة، والشك في بزوغ فرصة قريبة للرجوع إليها، هي التي أعادتني لتلك المصادفة العجيبة التي جعلت من ذلك الفيلم أول فيلم أشاهده في حياتي؟
أما الفيلم الثاني فقد كان - فيما أذكر أيضا من صوره الباهتة الخافتة - فيلما ضاريا وقاسيا على الصبي الصغير. لقد كان يصور الوحوش الآدمية التي تقتتل على الدوام وتطارد الفرائس وتصارع الوحوش بما لا يقل عنها وحشية، وذلك في الوقت الذي يفترض فيه أن الإنسان ظهر على الأرض لأول مرة. إن أنس لا أنسى مشهدا ما زلت أحتفظ به في مخيلتي وأطبعه على صفحة وجداني. عشيرتان من تلك العشائر الآدمية المتوحشة، تواجه كل منها الأخرى وتهم بالهجوم عليها وتمزيقها. وفجأة يتجمع أبناؤهم وبناتهم الصغار، يمدون الأيدي بعضهم لبعض، ويقبل الأولاد البنات، وينهمكون في اللعب والجري والقفز، بينما تجلجل ضحكاتهم كصوصوة العصافير. وينتبه الآباء الذين كانوا يتحرشون ببعضهم للدخول في حربهم الشرسة، وإذا بالغضب والتوتر والتحفز يذوب ويتلاشى بالتدريج، وتمتد الأيدي للمصافحة والصفح الجميل.
لماذا أتذكر هذا الفيلم الذي طالما كررت السينما العالمية نسخا أخرى منه؟ ربما يرجع هذا لأنه أوقفني لأول مرة أمام لغز الإنسان، وحرك في الشوق لمعرفته وإدراك كنهه وتتبع تجليات حقيقته أو زيفه وضلاله، في تاريخ شعوبه وحضاراته، وحكمته وأدبه وعلمه وفنه، بقدر ما تسمح به الطاقة المحدودة والوقت المبدد على الدوام في التفاهات والترهات والمنغصات. ولعلي أيضا قد تذكرت ذلك الفيلم عندما كنت أقلب بمحض الصدفة في أوراق قديمة ومنسية، وجدت بينها فصلا طويلا عن العبقري «ماكس شيلر» (1874-1928م) الذي يعد في عصرنا مؤسس ما يسمى «بالأنثروبولوجيا الفلسفية» التي تتقصى ماهية الإنسان ووضعه المتميز في الكون عن سائر الكائنات العضوية وغير العضوية، وتفرده بالعقل وقدرته على العلو والتجاوز والإبداع ... إلخ.
أيكون ذلك بداية اهتمام بهذا الفيلسوف أو بالأحرى بداية التفكير في الرجوع إلى مشروع قديم عنه؟ وهل ستسمح متاعب الشيخوخة وأحلام الكتابة المسرحية والقصصية بالتوفر على هذه الشخصية، كما توفرت من قبل - وا أسفاه! - على عشرات غيرها من الفلاسفة والشعراء والأدباء؟!
العتبة
للعتبات سحر لا يقاوم، وربما تنطوي على أسرار لا يستطيع أن يفضها أو يحس بها إلا شاعر أو عراف حكيم ... أليست هي المدخل إلى البيت والمسكن والملاذ والوطن الصغير؟ ألا تمر عليه أقدامنا طول العمر في الدخول والخروج حتى تطأها أقدام أخرى تحمل نعشنا وتعبر بنا للمرة الأخيرة فوقها إلى المقر الأبدي والمصير المجهول؟ بينما أكتب هذه الكلمات وأنا الآن في شيخوختي، لا أتذكر عتبة بيتنا القديم إلا ويطفر الدمع من عيني وتجيش أمواج الحسرة والأسى والحنين في صدري.
أرى نفسي جالسا على العتبة قبل مغرب يوم شتوي دافئ. كنت آنذاك في الخامسة أو السادسة من عمري، أنتظر عودة أبي وأخي الكبير بعد أن خرجا وراء صندوق كبير مغطى بملاءة حريرية صفراء، ومعهما حشد كبير من الأهل والجيران الذين عبروا مزلقان السكة الحديدية إلى مكان مجهول. كنت أحس أنهم أخذوا معهم جدتي لأمي التي مرضت في الأيام الأخيرة ولزمت فراشها في الحجرة الصغيرة المجاورة للمندرة، وكنت بالطبع أمر عليها وأتحسس وجهها وأقبل يدها، وأهمس لها وهي تقرب وجهي منها وتلثم خدي وجبيني: «سلامتك يا ستي». وكنت أتحسر على أنها قد أصبحت عاجزة عن أن تحكي لي حكاية قبل النوم، لتزيل من قلبي الخوف والرعب من الجمل المتوحش الذي طالما هاجمني أثناء نومي، وطالما فزعت من نومها وراحت تطبطب على ظهري وتهدهد صدري لأستأنف النوم بجوارها. أجل، لم يغب عني أنها في أشد حالات المرض، وأن أبي يخرج من عندها وهو يجفف دموعه ويتلو الدعوات والآيات، وأن أمي التي تطعمها وتسقيها بيدها لا تكف عن التأوه والبكاء في صمت. ولكني لم أكن قد سمعت كلمة الموت، ولو سمعتها لما فهمت لها أي معنى. ذهبت ستي بالتأكيد مع هؤلاء الرجال الذين حملوا الصندوق على أكتافهم، لكنني لبثت على العتبة أنتظر رجوعهم وكلي ثقة أنها سترجع معهم بعد قليل. وحضر أبي وأخي وحدهما ووجداني على العتبة، وأنا أمسح دموعي، سألت أخي عنها ولماذا لم ترجع معهما. ومن فم أخي سمعت لأول مرة كلمة الموت: ستك ماتت يا حبيبي وتعيش أنت. قلت، وأنا أتشنج دون أن أفهم شيئا: ماتت؟ يعني لن ترجع أبدا؟ ربما سألت نفسي في ذلك اليوم وما زلت أسألها: ولكن ما معنى الموت ؟ لماذا وإلى أين أخذها هذا الموت، وكيف تعيش هناك، ومتى أراها مرة أخرى؟ ... •••
وعلى العتبة كان يطيب لي الجلوس في العصاري بعد أن كبرت، وبدأت أتردد على المدرسة الابتدائية ... من موقعي أتطلع إلى جيراننا الأعزاء وأتابع حركتهم وأسعد برؤية وجوههم المحبوبة؛ عم حنا المقعد وصاحب مناحل العسل قابع على الدوام على كرسي متحرك فوق بسطة العتبة الأخيرة أمام بيته، تعودت كلما رجعت من المدرسة أن أمر عليه وأقبل يده الممدودة بالمسبحة الطويلة، وأن يقبلني ويدعو لي ويباركني بحق المسيح ويحملني السلام إلى أبي. كان علامة ثابتة من علامات الطريق، وكم كان وجوده الطيب الساكن يشع بالألفة والأنس والحنان على كل الجيران.
في البيت الملاصق لبيته تسكن أم عزيز أفندي الموظف بالمجلس البلدي، التي كانت لا تغادر جلستها وراء الباب الموارب إلا للضرورة. وكم كانت تناديني كلما رأتني فتقبلني في وجهي وتمنحني الطوفي والكراملة وحبات السكر النبات، وتقول لي السلام أمانة لأم محمد العزيزة. وكم كانت سعادة أمي بزيارة أم عزيز في المناسبات والأعياد، وفرحتي برؤيتهما تتعانقان في بيتنا في مودة ومحبة وصفاء، أو برؤية أمي وهي تحييها أحيانا من البلكونة الخشبية المطلة عليهم، أو عندما ترسلني في العيدين إليها ومعي الخادمة الصغيرة التي تحمل على رأسها صينية الكعك والغريبة.
أما زميلاي في المدرسة الابتدائية وصديقاي اللذان يسكنان البيت الواقع في نفس الصف المقابل على الناصية، فكانا يضربان موعد اللقاء بيننا في يوم الخميس أو الجمعة، إما على عتبة بيتنا أو أمام باب بيتهم الحجري الحديث المطل على شريط السكة الحديدية، كانا يلمحانني جالسا على العتبة، فيشيران إلي فأجري نحوهما وفي جعبتي لنزهة اليوم حكايات وأشعار مما أقرأ وأحفظ بعيدا عن دروس العربي المملة، التي كنا نحضرها معا في نفس الفصل الذي يضمنا. كم يرتجف قلبي الآن بالحنين والإعزاز والبهجة كلما تذكرت هذين الصديقين الحبيبين أو تمثلت وجهيهما. كان أحدهما، وهو فرنسيس، ممتلئا بعض الشيء دائم الضحك من قلبه، الذي لم أعرف في حياتي أصفى منه ولا أصدق ولا أطيب. وكان تسامحه في أمور الدين التي نتطرق للحديث عنها أحيانا، من أكثر ما هزني وانطبع في نفسي وجعلني أكبره وأحترم تقواه العميقة وأباركها. أما أخوه منير فكان أقصر من شقيقه وأنحف، وكان كبير الرأس حاد الطبع متوقد النظرات بالغضب والسخط والتصميم على الانتقام، لكن ممن لا أدري ... لا أدري؛ فقد كان يخيل إلي أحيانا أنه يشعر بأن العالم كله يضطهده ويطارده بلا رحمة. كانت نزهتنا الدائمة على الطريق المؤدي إلى المحطة الصغيرة الوادعة، وكنا نواصل السير حتى نقترب من المشروع الكبير المقام في طرف لبلد لتكرير المياه، والجاثم وراء الشجر الكثيف بمبانيه الضخمة وأسراره الغامضة وبواباته الهائلة التي لم ننفذ منها مرة واحدة. ونتمشى على ضفة الترعة بمحاذاة المشروع ونحن نتكلم في كل شيء ونحكي عن كل شيء: قصص من ألف ليلة التي نقرأها سرا، أو من روايات الجيب التي نتبادلها من وراء ظهور الأهل، سيرة محمد وحياة المسيح من أحد الأناجيل، أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب الجديدة التي نترنم بها معا، ولا سيما أغنية كليوباترا التي سمعتها من راديو الصديقين وفي بيتهما عندما غناها المطرب العظيم لأول مرة، حكايات الجنيات التي تخطف الرجال وتأخذهم لممالك البحر المجهولة، وإشاعات العفاريت والأشباح التي يؤكد منير أنه يراها ليلا على هيئة قطط وأرانب وعجائز في ثياب سوداء تتربص به عند عودته متأخرا إلى البيت. ثم الكلام الذي لا ينقطع عن المعلمين والمواد المملة والنشاط الفني المظلوم على الدوام، بجانب أحلامنا عن المستقبل والمهن التي يتمناها كل منا. كانا كلاهما يعرف تماما ما يريد، فرنسيس سيدرس الهندسة، ومنير سيتجه إلى الطب، أما أنا فأشير إلى المطبعة القديمة التي كانت تقع في الدور الأرضي للبيت الذي يسكنانه، وأقول: سأطبع كتبي هنا، وأنشر أشعاري وقصصي. ويستغرق الاثنان في الضحك على مؤلف المستقبل، ويحذرانه من بؤس جميع المؤلفين وحياتهم وموتهم جوعى محرومين ... وآه يا صديقي العزيزين، اللذين فقدت أثرهما في زحام سياق الحياة ولقمة العيش. فبعد أن انتقلا مع أبيهما المهندس المساح إلى مدينة أخرى، انقطعت أخبارهما عني. سمعت أنهما تخرجا في الطب والهندسة من الإسكندرية ... لكن من أين لي بالعنوان وقد خلت الحياة منهما، وأصبحت بغيرهما خرابا وخواء ...
وتذكرني جلستي على العتبة بعم كامل مدير المطبعة التي أشرت إليها قبل قليل. كان يمر علي وهو في طريقه إليها، فيتوقف أمامي، ويقول لي: هيا أيها الشاعر الصغير! لم يكن شيء في الوجود أحب إلي من الذهاب معه إلى المطبعة ورؤية الآلات الضخمة وهي تسحب الورق المبلل بالحبر الطازج، والعمال وهم يصفون الحروف بأيديهم بمهارة عجيبة، والجرنال المحلي وهو يتراكم شيئا فشيئا بعد خروجه من تحت المطارح والألواح المعدنية الكبيرة. كم كانت شهية ومسكرة رائحة الحبر الأسود التي تفوح من الصفحات التي لا تزال دافئة كأرغفة الخبز الخارجة من الفرن. كم سهرت مع عم كامل، وشاركت في تصحيح البروفات، وكم رأيت من صحفيين بؤساء يحضرون إلى المطبعة ويقدمون الأخبار التي جمعوها من أنحاء البلد ومن أرجاء المديرية: البكوات والباشوات الذين راحوا أو جاءوا، الأعيان الذين باعوا أو اشتروا أو زوجوا أولادهم أو بناتهم بالرفاء والبنين، الأفندية الذين حصلوا على أعلى الشهادات أو ترقوا لأعلى المناصب ... كل ذلك يعد وينشر في الجرنال المحلي، الذي يتسع كذلك لبعض القصائد والخواطر والمقالات والآراء من أدباء البلد أو المعلمين في مدرستها. هل أنسى أنني عرضت بعض مسوداتي على عم كامل، فقرأها بحب وعناية، وقال وهو يربت على كتفي: سننشر لك بمجرد أن يصبح شعرك موزونا ... لكن استمر ولا تهمل رعاية البذور ... وكم شجعني وسأل عني بعد ذلك إلى أن انصرفت عن قول الشعر، وأغلقت الجريدة والمطبعة أبوابها ...
ما الذي ذكرني في الأيام الأخيرة بعتبة بيتنا العتيق بعد أن هدم البيت وبني مكانه بيت حجري ذو سلالم رخامية لا تحمل شيئا من ملامح وجه العتبة الطيب القديم؟ لست أدري كيف أجيب على هذا السؤال، لكنني أتمنى الأمنية المستحيلة، التي لا أعرف كيف تملكت فؤادي في أيامي الأخيرة، ولا كيف ألحت علي بأن أكتب ما كتبت: أمنية أن أجلس ولو لحظة واحدة على تلك العتبة الخشبية القديمة، فأملأ قلبي بالصور والمشاهد والوجوه الحبيبة، ويجيش صدري بأمواج الذكرى والحسرة والأسى والحنين.
الخروج من الكهف
رأيتني ذات صباح باكر أتجول في حديقة مترامية الأطراف، يغمرها الضباب الكثيف وتظلل سماءها السحب الثقيلة السوداء. كنا في أحد أيام الخريف التي يلتمس فيها الشيوخ من أمثالي نسمة معطرة تشرح صدورهم المهمومة وتنفس الكرب عن قلوبهم المحزونة المطعونة، وتتيح لهم شيئا من المسرة وراحة البال خلال التنزه وسط الأشجار والزهور وجداول المياه الرقيقة الهامسة. كانت الحديقة شبه خالية من البشر، والضباب المنتشر يخلع على الأشجار الواجمة الصامتة مسوح الكهنة العجائز والحكماء المستغرقين في الصمت والتأمل. وبينما أنا أفكر في حالي وأتصبر عن تدهور عافيتي وتيبس عظامي وغروب شمس أحلامي وآمالي، طافت بذهني صورة الكهف الذي طالما صورته وكتبت عنه، وعشت مع سجنائه المقيدين منذ طفولتهم بالسلاسل والأغلال من أعناقهم وسيقانهم، القابعين أمام حائط يعكس أشباح ظلال وأصداء أصوات آتية من عالم لم يروه ولم يعرفوه، في مسكن سفلي أو كهف كئيب لم يألفوا غيره، وهيأ لهم الظن والوهم والتعود أن عالمهم الشاحب البعيد عن نور الوجود والحقيقة هو العالم الذي لا يوجد عالم سواه. ومع التفكير في صورة هذا الكهف الساحر العجيب، فكرت في صاحبها الذي جعلني أومن معه بأن السجناء المساكين هم أبناء البشر، وأن كهفهم البائس هو رمز حياتهم اليومية التي يكدرها العذاب والشقاء. وفجأة، انشق ستار الضباب عن شبح هائل يتقدم نحوي، وكلما اقتربت تبينت في وجهه وقامته الشامخة وجبهته العالية ونظراته الصارمة وذراعه المرفوع إلى أعلى، وهي تشير بسبابة يدها إلى عالم علوي هو في رأيها العالم الحق. تبينت صورة الفيلسوف الضخم كما رسمها فنان إيطالي مشهور. اقترب مني وهو يسدد سبابته نحوي، ويهتف باسمي بصوت المعلم الغاضب لتلميذه الخائب: أنت؟
قلت: نعم يا سيدي، وقد جئت أتمشى في نزهتي اليومية قبل أن أتوجه لزيارة أهلي وبعض أصحابي ...
قال بصوت المتهدج: أنا أهلك وصاحبك القديم ... امتلأت حياتك وفاض عقلك وقلبك بحبي أكثر مما امتلأ بحب أي إنسان آخر . أنا ...
قاطعته بالخشوع الواجب: أفلاطون؟ شيخي وشيخ كل المفكرين؟ قال، وهو يسير بجواري ويربت على كتفي لتهدئتي: نعم نعم، وقد تابعتك وقرأت بعين الروح كتابك الصغير عني، واغتبطت باهتمامك بقراءتي.
قلت في خجل وبصوت مرتجف بالرهبة: ليتني استطعت أن أقدم أكثر مما قدمت. لا بد أنك تعلم أيضا مدى اضطراب حياتنا، وانصراف جهودنا إليك وإلى عشرات غيرك من الفلاسفة والشعراء ... إني أعتذر عن تقصيري ...
قال ضاحكا: لكنك بدأت مبكرا. كأني أراك الآن وأنت تفتح أول محاوراتي ...
قلت مسرعا: أجل أجل. لا أدري إن كنت تفهم مصطلحاتنا وغرائب لغتنا، ولكنني بدأت أقرؤك وأنا في الثانوية العامة. مدرس الفلسفة الحبيب - ولا أذكر للأسف اسمه، ولا أعرف إن كان حيا أو ميتا - أعارني ترجمة بعض محاورات شبابك، كريتون وأويطفرون وفيدون. أحببتها وعشت بحس المتيم بالمسرح في أجوائها، وقضيت وقتا لا ينسى مع ساعات سقراط الأخيرة، التي قضاها في إثبات خلود الروح بدلا من البكاء على نفسه أو الجزع من مصيره الأليم ...
قال، وهو يثبت نظراته الثاقبة على وجهي: واتصل اهتمامك بي بعد أن تعلمت لغات غير لغتك، بل أتقنت إحدى هذه اللغات أثناء قراءاتك لمحاوراتي ...
قلت بصوت محزون، وكأني أحد سجناء الكهف الذي صوره في الكتاب السابع من الجمهورية: لكن صورة الكهف ثبتت في مخيلتي وملكت علي عقلي وقلبي، وعندما كبرت في السن وعملت سنوات طويلة بالتدريس، كان أحب شيء إلي أن أشرح هذه الصورة وأبين للشباب كيف يفهمون رموزها ومعانيها ...
قاطعني قائلا: تقصد مغزى الصورة والرمز ودلالتهما على التربية ونقص التربية؟
قلت متحمسا: أقصد أكثر من ذلك. تحول النفس بكليتها نحو المعرفة، وخروجها من ظلام الجهل والظن والوهم إلى نور الوجود والحقيقة واليقين. كان الخروج من الكهف؛ أي من حياة الذل والشقاء والسأم اليومي والعمل الممل العقيم، هو كل همي. وأنت نفسك أوضحت أن أحد المسجونين الذي تحرر من قيوده وأغلاله ورأى نور الشمس وعاين الحقائق والمثل التي تستضيء وتتدفأ بنورها. هذا المتحرر الذي سميته بالمنقذ، لم يرض بأن يستأثر بالنور والمعرفة والحقيقة لنفسه، فقد هبط إلى إخوته ورفاقه السابقين وحاول أن يقنعهم بأنهم يحيون في الظلام والجهل والتخلف والبؤس، ولا بد أن يحرروا أنفسهم بأنفسهم ويصمموا، كل على طريقته وبقدر جهده على الخروج من الكهف؛ أي حثهم بالقول والعمل على أن ينقذوا أنفسهم بأنفسهم، وأن تكون حياتهم سعيا دائبا على طريق التحرر ...
قال الشيخ، الذي بدأت ملامحه تتضح مع انقشاع أستار الضباب والدخان: وهل بينت لهم خطر المحاولة وجسامة المجازفة؟ إن معلمي وأعز الناس وأطهرهم عندي قد راح كما تعلم ضحية المحاولة. حاول أن ينقذ سكان الكهف فانقضوا عليه، واتهموه وحاكموه وأعدموه.
قلت مؤكدا كلامه: لم يغب هذا عني، وسيبقى سقراط هو الرمز المجسد للمنقذ الشجاع المستنير، المنقذ الباسل والمقبل على الموت وهو يبتسم. لكن الأمر اليوم لم يعد سهلا كما كان على أيامكم ...
سأل أفلاطون وهو ينظر في وجهي: ولماذا يكون اليوم أصعب مما مضى؟ أليس الإنقاذ ضروريا في كل يوم وكل لحظة وكل زمان ومكان؟ أليس القلم الذي تحمله أنت وأمثالك المتمردون والحالمون بواقع أفضل وأجمل وأعدل من أهم أدوات الإنقاذ؟ أمنت على كلامه، وقلت بنغمة حزينة لم تغب عنه: لكن الخروج من الكهف والدعوة له أصبحت أصعب، والكاتب من أمثالي ينادي ويصرخ ولا يملك غير كلماته العاجزة. وفي الوقت الذي يصور فيه عذاب السجناء في الكهف، تدور عجلة الأحداث التي لا يستطيع أن يوقفها ...
قال الشيخ، قبل أن يتلاشى شبحه ويذوب تحت أشعة الشمس: ومع ذلك لا تتوقفوا عن محاولة الإنقاذ. لهذا عشت ولهذا أدعوك أنت وكل من يحمل قلما في يده أو ريشة أو إزميلا ... تذكروا أن الفكر إنقاذ والشعر إنقاذ والفن إنقاذ. ولا تنس يا صديقي أنه لن ينقذك سواك، ولن يغير العالم إلاك أنت وأمثالك.
سألت، قبل أن يختفي تمام الاختفاء: برغم الشيخوخة وفساد الأحوال وتعاسة الأوضاع والبشر؟
قال بصوته المتحشرج والمتهدج: وبسببها وفي غمارها، تشتد ضرورته وتتحتم المغامرة في سبيله.
محرقة الشعر
أما الشين في هذا العنوان فهي بالكسر لا بالفتح، ومن ثم فهو الشعر الذي خطر لي الآن أن أكتب عن حياتي معه أو بالأحرى عن مأساة حياتي. وأما المحرقة فهي مبالغة بلاغية، أرجو ألا تثير في الذهن أو الخيال شيئا من الفواجع التاريخية والإنسانية المرتبطة بهذه الكلمة البشعة. ذلك أن المحرقة التي أتحدث عنها لم تزد على أن تكون نارا بسيطة أوقدتها أمي، وأطعمتها بمسودات أشعاري التي تحولت في «الكانون» إلى دخان ورماد. كان ذلك في الإجازة السنوية التي أعقبت امتحان الشهادة التوجيهية (الثانوية العامة بلغة اليوم). رجعت إلى البلد من القاهرة، فوجدت في انتظاري صدمتين مروعتين. كانت الأولى اختفاء الدفاتر الصغيرة التي تضم أشعاري التي كتبتها عبر عدة سنوات، وخبأتها في الخزانة الخشبية القديمة التي خصصت أمي رفها العلوي الضيق لصف كتبي وكراساتي وأدواتي المدرسية، واحتفظت بالخانة السفلية الواسعة لتخزين التموين من الزيت والأرز والسكر. اكتشفت غياب الدفاتر الصغيرة العزيزة، وحين سألت أمي، قالت إن أبي وأخي الأكبر أبلغاها بأنها مملوءة بكلام فارغ، وأن أفضل ما يمكن عمله معها هو أن تصبح وقودا لتسوية شيء أجدى وأنفع ... لم أنطق بكلمة واحدة، ولم أجادل أمي التي لم تكن تقرأ أو تكتب، ولا تفرق بين الشعر والنثر. ذهبت إلى حجرتي، وقطي الأسود بستان يتمسح في قدمي ويموء ويئن كأنه يعزيني في مصابي، وأخذت أفكر فيما جرى. هل قضت أمي وأسرتي على حلمي الطموح بأن أكون شاعرا كبيرا قدوته ومثله الأعلى شعراء كبار قرأت لهم ما أمكنني قراءته، بل وعارضت بعضهم مثل شوقي والمعري وجوته ودانتي؟ وهل كان في الأشعار التي احترقت بيت واحد موزون أو بناء شعري بالمعنى الحقيقي؟ وإذا كان قد تردد فيها نفس شعري واحد، فلماذا رفضت الجريدة المحلية في البلد أن تنشر شيئا منها، ولماذا لم أسمع لها أي صدى في مجلة الرسالة التي تجرأت في العام نفسه بإرسال بعضها إلى إدارة تحريرها بالبريد المسجل؟ هكذا بدأ الشك والتفكير في التراجع عن طريق ربما لم أخلق له منذ اشتعلت تلك المحرقة الصغيرة ...
أما الصدمة الثانية، فنزلت على رأسي في الإجازة نفسها نزول الصاعقة. لقد بحثت وبحث الأهل والأصدقاء عن اسمي في قوائم الناجحين في التوجيهية فلم يجدوه، وذهلت إلى حد الجنون حين عرفت بعد ذلك أن المادة الوحيدة التي رسبت فيها هي اللغة العربية. كيف، وأنا شاعر كما تصورت وصور لي الأستاذ علام مدرس اللغة العربية في الإبراهيمية الثانوية؟ ألم يشجعني الرجل على قراءة بعض قصائدي أمام الفصل وفي المناسبات الدينية والسياسية المختلفة مثل: المولد النبوي وعيد جلوس الملك على العرش والاحتفال بذكرى عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول؟ أكان ذلك كله وهما وخداعا للنفس وتقليدا بائسا لشعراء حقيقيين بيني وبينهم بعد ما بين الأرض والسماء؟ فكرت أن رسوبي ربما يرجع لموضوع الإنشاء، الذي أغرقته في بحر من الصور والرموز المتأججة باقتباسات من بستان جبران المتوهج بالحرائق المجازية، وبدأت أعيد النظر في شاعريتي المستعارة التي لم ترق لسدنة اللغة الرسميين، كما لم أكن أنا نفسي حينما كتبت ما كتبت في ورقة الامتحان، فلم يخرج عن كونه أصداء باهتة وأضواء خافتة انعكست من مراياهم الصافية على مرآتي المظلمة المشوشة. كانت تلك فرصة ثانية لمراجعة أخرى صادقة، وإن لم تكن جذرية بالقدر الكافي. ورجعت إلى نصوص «المنتخب» الرائعة، فقرأتها بتأن وحفظت الكثير منها، وإلى النحو والصرف اللذين كانا على الدوام شوكة تدمي صدري وتمزق وجداني، فعكفت على تجويدها والتمكن منهما. وتواضعت خجلا أمام معبود الشعر القاسي، فلم أره وجهي طوال الإجازة الصيفية، واقتصرت على كتابة بعض القصص والحوارات المسرحية التي لم يغب عنها التأثر بالكبار، ولم تكن - كشعري الرديء الركيك - أكثر من محاولات رومانسية فجة وبلا أي قيمة. ونجحت بالطبع في الملحق، ودخلت كلية الآداب لأدرس الفلسفة وأتخصص فيها.
من الغريب حقا أن المحاضرات والقراءات الواسعة في التراث الفلسفي، حركت في نفسي روح الشعر التي تصورت أنها خمدت وأخلدت لنوم أهل الكهف. كانت القصائد القليلة التي كتبتها خلال السنوات الأربع بمثابة صياغات شعرية لآراء وأفكار وتأملات فلسفية تراكمت في نفسي نتيجة قراءات مستفيضة في بعض الفلاسفة الأدباء وبعض الأدباء الفلاسفة: محاورات أفلاطون الذي ملك علي كل حياتي، وصممت على قراءة ما استطعت من محاوراته في ترجماتها الإنجليزية والفرنسية (لجويت ودييس وغيرهما) لأكون ظلا وفيا له من ناحية، وأجيد هاتين اللغتين من ناحية أخرى، زرادشت نيتشه وبعض ما كتب عن بجانب ما أمكنني التوصل إليه من كتابات كافكا وكامي وغيرهما ممن لا أذكر الآن، باستثناء بعض أعلام المسرح اليوناني القديم والمسرح الحديث وبالأخص شو وأوسكار وايلد.
وذات يوم كنت أصعد السلم الرخامي المرتفع لمكتبة الجامعة، سمعت صوتا جهوريا ضاحكا يردد كلمة نيتشه المخيفة عن موت الله، ويمجد الفيلسوف الشجاع البائس الحظ بسيل من الكلمات المتدفقة الرنانة. وقفت أمان الشاب الأسمر ذي العينين الواسعتين والضحكة المجلجلة والشعر المهوش الطويل، وتطوعت لتصحيح ما سمعت. أوضحت بصوت هامس وخجول أن الكلمة المخيفة لم تقصد بمعناها الحرفي؛ لأن الله بحسب مفهوم الألوهية نفسه حي لا يموت، ولأن المراد منها - على الأقل في تفسير هيدجر الذي كنت قد سمعت أطرافا قليلة عنه - هو موت الميتافيزيقا الغربية ذاتها من أفلاطون إلى نيتشه نفسه، ونهاية تاريخ الفلسفة التقليدية وبداية فكر جديد وحصر جديد بشر بهما نيتشه نفسه، وأعلن متحديا عالمه كله بأنه سيكون هو عصر الإنسان الأعلى، الذي يجسد إرادة القوة ويذيع على الناس نبوءته أو سره عن العود الأبدي. أنصت إلي الشاب الأسمر الضحوك، وأقبل يسلم علي ويعلن للحاضرين من حولنا أن صداقة عمرنا المديدة قد بدأت في تلك اللحظة.
تعرفت بعد ذلك على رائد الشعر الجديد في مصر، صاحب «الناس في بلادي، ومأساة الحلاج، والأميرة تنتظر، وأقول لكم، وشجر الليل» وغيرها وغيرها من روائعه. وتعمقت صداقتنا مع تأسيس الجمعية الأدبية المصرية وقراءتنا المشتركة في شعر «إليوت ورلكه»، اللذين كنت أعشقهما وأجتهد أن أعديه بحبهما، وفي شعره هو الذي كان يشق قلبي ويحفر فيه مجراه بعمقه وحزنه وتجديده وأصالته. ها أنا ذا أمام شاعر موهوب وأصيل، فهل أحس في نفسي وفي شعري «الذهني» الرديء بأي حظ من الموهبة أو الأصالة؟ ألم ترفض زميلتي في الجامعة وحبيبة قلبي تلك القصائد التي كنت أعطيها إياها تقربا إليها، وتمحكا في كلمة منها، فتردها إلي وهي تبتسم، قائلة: القصيدة غامضة ولم أفهم منها شيئا؟! وأستاذي الذي كنت آخذ رأيه في شعري، ألم يكن يعيده إلي وهو يربت على ظهري عطفا أو سخرية، ويقول: الأوزان صحيحة وليس فيها أي خلل؟ في لحظة صدق مع النفس، وعبر أزمة روحية بلغت حد المحنة، قررت التخلي النهائي عن قول الشعر، أو بالأحرى قرر الشعر نفسه التخلي عني إلى الأبد! لكن هل تخلى عني حقا وإلى الأبد؟ ألم يسكن اللحم والعظم ويعشش في أركان القلب، بحيث يتسرب في كل سطر من مقال أو قصة أو مسرحية أو حتى بحث كتبته بعد التخرج واستكمال الدراسة بالخارج؟ بالفعل، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون معظم الفلاسفة الذين شغلت بهم بعد ذلك من الفلاسفة الشعراء - من أفلاطون إلى نيتشه حتى هيدجر - وأن يكون أغلب الأدباء الذين ترجمت شعرهم ودرسته وحللته من الشعراء المتفلسفين أو المفكرين، من سافو وألكايوس الإغريقيين وشعراء الحكمة البابليين عبر جوتة وديوانه الشرقي بوجه خاص إلى بودلير وفاليري ورلكه وحتى أنجاريتي الإيطالي. وتراكمت مئات القصائد - حرفيا لا مجازيا - في بعض كتبي التي يكاد معظم المثقفين لا يذكرونني - إن ذكرني أو تذكرني أحد! - إلا بها (ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر، قصيدة وصورة، لحن الحرية والصمت، للحب والحرية، أزهار من بستان الشعر الغربي قديما وحديثا ... إلخ) وعندما أضع هذا الركام الهائل أمامي، عندما ألقيه في كفة ميزان العمر والجهد، أقول لنفسي وسكاكين الحسرة تشق قلبي: قصيدة واحدة أو حتى بيت واحد من الشعر الحقيقي في الكفة الأخرى كان من الممكن أن ترجح في الميزان، لكن ماذا أفعل وقد اكتشفت في لحظة المكاشفة التي سبق أن ذكرتها أنني لا أملك الموهبة ولا الأصالة التي لا بد منهما لكل شعر حقيقي؟ وهل سيعزيني أو يحمل إلى نفسي شيئا من الرضا أنني كنت أشعر أثناء إعادة إبداع ما سبق إبداعه - وهذه هي ترجمة الشعر الحقيقية - بقدر غير قليل من النشوة والغبطة؟ هل سيعزيني أيضا أن كنز الشعر المحترق المفقود إلى الأبد كان يشع أحيانا في كثير مما كتبت من قصص أو مسرحيات ومقالات؟ آه! حتى لو صح هذا، فيا له من عزاء هش ومخادع كالسراب الخلب الغدار!
القارئة الحجرية والمومياء الجرمانية
1
قرأت عنها وشاهدت صورتها في الجريدة اليومية، التي تصدر في المدينة الجامعية الصغيرة التي أدرس بها. كانت صورة التمثال الحجري الذي يمثلها وهي مستلقية على شاهد قبرها داخل إعلان كبير من شركة سياحية لجذب الزائرين لعاصمة الغابة السوداء. وكانت مع الصورة التي تحتل مكان القلب من الإعلان، صور لمناظر أخرى لبعض معالم المدينة العريقة؛ الكاتدرائية المهيبة ذات الأبراج الشامخة، تمثالا هوميروس وأرسطو على باب الجامعة القديمة، ساعات «الكوكوك» وغيرها من الصناعات الخشبية التي اشتهرت بها المدينة الراقدة في أحضان الغابة الساحرة الغامضة، بجانب بوابات عتيقة وواجهات مسارح ومتاحف قديمة وأزقة وحارات ذات سلالم صاعدة وجداول صغيرة جارية. توقفت عند صورة الفتاة المسجاة على الشاهد الذي أبدع الفنان نحته، وصور فيه القارئة الحجرية فاستطاع أن يعطف العين والقلب إليها. كانت تميل برأسها الجميل ووجهها الوديع المستطيل إلى اليمين قليلا، بينما تشابكت ذراعاها على صدرها وأمسكت يداها بكتاب كانت تقرأ فيه، عندما فاجأها الموت وأغمض عينيها إلى الأبد. لا أدري ما الذي جعلني أنبهر بالعروس العذراء التي خيل إلي أنها مفعمة بالحياة، وأنها تحرر نفسها في كل لحظة من أسر الحجر وتحلق فوقه على الرغم من التصاقها به واندماجها فيه. وأخذت الأسئلة تنهال علي: من هذه القارئة المسكينة وما قصتها؟ في أي زمن عاشت وكيف داهمها القدر وماذا كانت تقرأ قبل أن يسكت القلب ويسترخي الجفن على العين؟ وأخيرا من هو الفنان المبدع الذي صنع تمثالها وأفرغ فيه كل طاقته على العشق والحزن؟ أليس من الممكن أن يكون حبيبها أو عريسها أو المتيم الغارق في عبادتها سواء أثناء حياتها أو بعد موتها؟
حملت حيرتي ودهشتي إلى «إيفا»، زميلة دراستي العزيزة وراعيتي الوفية خلال سنوات إقامتي في المدينة. وعندما أطلعتها على الصورة التي انتزعتها من الجريدة ووضعتها على مكتبي، صاحت هاتفة: إنها القارئة الحجرية! أشهر من أنجبتهم فرايبورج في الجيل الماضي، وربما أقربهم إلى قلب كل امرأة ورجل وشيخ وطفل يعيشون الآن في المدينة. قلت مستفسرا: زدتني شوقا إلى رؤيتها والقرب منها، هل يمكن! قالت بحماسها الطفلي المعتاد: طبعا يمكن أن نزورها، إنها تحفة المتحف القديم ... سألت مرة أخرى: تحفة ومتحف ... ماذا تقصدين؟ قالت: أقصد أنها الآن أعز وأغلى أثر في المقبرة القديمة التي أغلقت منذ ما يقرب من مائة سنة، وصارت مزارا لأهل المدينة والسواح الذين يفدون عليها، ويقفون أمام القارئة في خشوع وإشفاق وتبتل لا نظير له ... قلت: وأنا أيضا أريد أن أقف مثلهم أمامها. متى نزورها؟ قالت، وهي تنظر في ساعتها مستأذنة: الأحد القادم؟ سترى بنفسك مدى التشابه بينكما. قلت ضاحكا، وهي تسلم علي منصرفة: التشابه؟ أتريدين أن كلينا ميت أم أن كلينا حجر؟ قالت مسرعة: الأفضل أن تحكم بنفسك ... إلى اللقاء ...
2
وجاء صباح الأحد، فذهبنا إلى المقبرة القديمة أو ساحة السلام كما يسمونها، وكانت تقع على الحدود الفاصلة بين المدينة والغابة السوداء. سرنا على طريق ضيق وصاعد تظلله أشجار السرو والصنوبر التي تزقزق فوقها العصافير، وتخشخش أرضيته المملوءة بالحصى والأوراق الذابلة تحت أقدام عابريه. بلغنا السور القديم الواطئ بقضبانه اللولبية السوداء، ودخلنا من البوابة الصغيرة المفتوحة لزوار يوم الأحد. أرسلت بصري إلى المقبرة الهادئة التي يلفها السكينة والنظام والتنسيق والجمال. قبور على اليمين واليسار، برزت فوقها شواهد مكتوب عليها الاسم والتاريخ بخطوط سوداء، محفورة في الحجارة والجرانيت. وعلى بعض الشواهد تماثيل صغيرة أو كبيرة لملائكة أو أطفال مجنحين، أو نقوش نباتية مختلفة. كان بعض الزوار قد سبقونا وأخذوا يتجولون في المماشي الضيقة بين الأضرحة الباذخة المترفة والقبور البسيطة الفقيرة. قالت إيفا: نلقي نظرة على هذه التحفة الرقيقة العتيقة. وأشارت إلى كنيسة صغيرة على اليمين يكسو بوابتها الضيقة والفتحة المثلثة في أعلاها فروع نباتية متدلية، ويزخر باباها بزخارف ونقوش خشبية بارزة. رسمت زميلتي علامة الصليب على صدرها قبل أن نقف على مدخل ساحة خافتة الضوء وممتدة في العمق، الذي يشغله المذبح وفوقه الشموع الكبيرة التي تتراقص أضواؤها على البعد، وأمامه صفوف المقاعد والأرائك التي يجلس عليها المصلون أو كانوا يجلسون عليها كلما أقيم قداس، ودقت الأجراس لاستقبال ميت جديد أو تكريمه. أخذت إيفا تشرح لي تاريخ الكنيسة الأثرية، وتشير بحماس واعتزاز إلى كنوزها المعمارية وزجاج نوافذها الملون بأشكال القديسين، وصور ومشاهد من حياة المسيح وعذابه ووجوه حوارييه. أشرت إلى رسم ملاك متجل للعذراء، وهالة الضوء تشع من وجهه الذي يحتل قبة الكنيسة المزدهية بألوانها الذهبية والفضية، وقلت وأنا أهمس بضحكة خافتة: كم يشبهك هذا الملاك، والعذراء المقدسة أيضا. هل رسم الفنان وجهك أو وقفت أمامه وهو يرسم؟ قالت غاضبة، وهي تلكز ظهري بقبضة يدها: أولا: أنا لم أكن قد ولدت عندما صور الفنان هذه الصور. وثانيا: لا تكن سخيفا ولا تصفني بهذه الأوصاف التي لا أستحقها. قلت مؤكدا: ولكنك في نظري ملاك وقديسة - هذا هو رأيي فيك - قالت باستياء شديد: احتفظ برأيك لنفسك. أنا إنسانة من لحم ودم على العكس منك ... وضعت يدي على فمي حتى لا تجلجل ضحكتي في الفناء المجلل بالسكون والخشوع والرهبة: تقولين على العكس مني ... وهل أنا حجر؟ قالت، وهي تضغط على يدي بقوة: العجيب أنك لم تكتشف هذا حتى الآن ... هيا بنا نترك القديسين والملائكة، ونذهب إلى حبيبتك الحجرية ...
3
كان قبرها على بعد خطوات قليلة من الكنيسة الصغيرة، خامس قبر إلى اليمين من الممشى الواسع المخضل بالعشب الندي. هتفت عندما طالعني الوجه الناعم الحالم، الذي تنسدل عن يمينه ويساره جدائل الشعر الأشقر الطويل: ها هي ذي العروسة الحجرية. قالت إيفا، وهي تدفعني من ذراعي: وأنت العريس الذي ظلت تنتظره عقودا لا أعرف عددها. اقتربنا من القبر الذي تجمع حوله عدة أزواج من العشاق، وقفوا أمامه خاشعين مذهولين قبل أن ينصرفوا وهم ينظرون إلينا ويتهامسون.
وقفت أتأمل بديع صنع الفنان الذي سوى من الحجر هذه التحفة الحية، وشعرت بأن أناملي ترتكب ذنبا لا يغتفر بمرورها فوق الوجه الشاحب المستطيل، ولمسها للعينين المغمضتين وخصلات الشعر وثنيات الثوب الطويل الشفاف، الذي انسكبت حنياته كأمواج جدول رقيق صاف. والكتاب الذي يرقد على صدرها، واليد الصغيرة النحيلة التي تمسك به، بينما استندت الرأس البديعة إلى اليد الأخرى. وبعيدا عن تنظيرات الفن وفلسفات الجمال، رحت أسأل نفسي وزميلتي: كيف استطاع الفنان أن يحيي الحجر ويضع فيه الوثبة التي تخيل للناظر إليه، أنه لا يكف عن محاولة التحرر من الجمود والانطلاق من الأسر، والعلو فوق الحجر والموت والمقبرة كلها إلى قلب الحياة الدافئة الجياشة بالحب والأمل والشوق الذي لا ينطفئ لهيبه؟ وتخرجني إيفا من صمتي الذاهل الحائر، وتقول وهي تمد يدها إلى يدي وتضعها على يد القارئة: هيا بنا نعد الحجر إلى الحجر ونعقد الزواج ... أسال مندهشا: زواج؟ هل أنت جادة؟ ترد بسرعة: كل الجد. هو الزواج الوحيد الذي يصلح لك وتصلح له ... تفلت مني الضحكة، بينما تصوب سبابتها محذرة من تهوري ونزقي: ألا تطلب المستحيل على الدوام؟ هذه هي العروس التي تليق بك، وهي تغمض عينيها علامة الرضا والموافقة. هيا هيا ولا داعي للتردد. وتضع يدها على يدي، التي مدتها على يد العذراء النائمة، وتتمتم بكلمات وعبارات لاتينية تلتقط أذني بعضها ويغيب عني بعضها الآخر. وبعد أن تنتهي من صلاتها، وترسم علامة الصليب على صدرها، تقول وهي تمسك بذراعي وتتهيأ للانصراف: الآن قد تم كل شيء. وجدت زوجة لا تكف مثلك عن القراءة، ويمكنك أن تزورها متى تشاء. قلت: نعم، تم كل شيء، ولا ينقصنا إلا شيء واحد: أن أكون حجرا يرقد بجوارها ليرعاها ويؤنس وحشتها ... قالت إيفا ضاحكة، ونحن ندلف من البوابة إلى الطريق: لا ينقصك شيء على الإطلاق ... هذا هو الزواج الكامل الخالد ... ما الذي تطمع فيه أكثر من ذلك؟ قلت: أطمع فيما تمناه شاعر عربي قديم، قال: يا ليت أن الفتى حجر ... قالت ضاحكة قبل أن يلفنا الصمت: لكنك في غنى عن الطمع والتمني، ألست مستغنيا عن كل شيء وكل إنسان؟
4
لم أرد عليها بكلمة واحدة طوال الطريق إلى البيت الذي أسكنه. استغرقني حلم القارئة الحالمة، ودخلت أنا أيضا في شرنقتي أو قوقعتي الحجرية التي ألوذ بها عادة من ضجيج العالم والناس، ولازمني الشعور بالذنب وأنا أفكر في حالي مع الحبيبة المستحيلة التي تمشي إلى جواري، وأرى على وجهها علامات الألم والأسى الممتزجة بالمرارة وخيبة الأمل.
وعندما وصلنا إلى البيت الذي أسكنه، وقبل أن أمد يدي لتوديعها، فوجئت بصدرها على صدري وشفتيها على شفتي وذراعيها تضماني إليها بشدة. أحسست بجسدها الضئيل النحيل وهو يرتعش وينتفض كجسد طائر يحتضر. ربت على ظهرها وأنا في غاية الارتباك، وقلت وأنا أتكلف الابتسام: أنت بنفسك عقدت زواجي على القارئة الحجرية، لا تنسي بعد الآن أنني حجر. نظرت إلي صامتة، ثم هزت رأسها وهمست: أراك غدا في الجامعة ...
5
كانت أول من التقطني من وسط الزحام الذي وقفت فيه حائرا، بعد خروجي من المدرج الكبير الذي استمعت فيه إلى محاضرة الأدب الألماني التي كنت فيها الأجنبي الوحيد الأسود الشعر بين المئات من الطالبات والطلاب ذوي الشعور الشقراء والعيون الخضراء.
أقبلت علي مترفقة باسمة، وسألتني: أنت من مصر، أليس كذلك؟ رددت عليها بابتسامة: صدق حدسك، من بلد الأهرام وأبي الهول. ضحكت قائلة: واضح ... هل تقبل دعوتي غدا مساء على عشاء بسيط مع بعض الطلبة الأجانب مثلك؟ قلت لها: بكل سرور، ووضعت العنوان في جيبي وأنا أشعر بالامتنان نحو الشقراء القصيرة، التي اخترقت طوق الصمت والوحدة المضروب حولي منذ أن بدأت الدراسة قبل أسابيع قليلة.
استجبت للدعوة في مساء اليوم التالي، وسرعان ما وجدت نفسي - بفضل المضيفة الطيبة المرحة - وسط زملاء من كينيا ونيجيريا واليابان وبعض الدول الأوروبية، إلى جانب عدد من الزميلات الألمانيات. وعرفت بعد ذلك أنها جمعية صغيرة من أصدقاء الطلبة الأجانب، مهمتها تخفيف وطأة الغربة عنهم، وتنظيم اللقاءات والرحلات التي تعرفهم بمعالم المدينة والبيئة الطبيعية، وتساعدهم على التغلب على صعوبات اللغة والدراسة والحياة في مجتمع شديد الجدية والتنظيم والجهامة. ومع مرور الوقت وتعدد اللقاءات والاحتفالات والنزهات في الغابة السوداء وجبالها العالية وطرقاتها وأجوائها الساحرة، تعمقت الصلات مع الجميع بفضل راعيتنا الصغيرة النشيطة التي لا تكف عن الحركة والمرح والانطلاق النقي البريء، وإغراق المجموعة كلها بمجاملاتها وهداياها وتعاطفها الحنون، وتطوعها لحل المشاكل التي يواجهونها بنبل وكرم وسخاء يفوق طاقتها المحدودة ودخلها المتواضع من منحة الطلبة الفقراء. كنت على وعي تام بأنها تختصني بقدر كبير من التعاطف الذي ينم عن الحب الحقيقي، وربما ساعدت أمارات الاكتئاب والانكسار المرسومة على وجهي - التي طالما حاولت دون فائدة تغطيتها بالمرح والضحك والثرثرة الثقافية - ربما ساعدت على زيادة اهتمامها بي ورعايتها الدائمة لي. كنت أحس على الدوام بأنها أمي الصغيرة، كما كنت من الفظاظة وقلة الذوق بحيث أصارحها باستمرار بأنها أخت وملاك وقديسة. كانت تثور على هذه الأوصاف وتغضب وتنفجر في بعض الأحيان باكية، ولكن يبدو أنها اقتنعت أخيرا بعجزي عن أن أحبها كما يحب الرجل المرأة. وماذا كان بوسعي أن أفعل وقد منعتني طبيعتي الشرقية الموروثة من أن أشعر نحوها بما يشعر به الرجل نحو الأنثى، وكيف كان من الممكن أن يتطرق إلي هذا الشعور بعد أن ترسخ في قلبي الإيمان الصادق العميق بقداستها وملائكيتها التي تسمو بها فوق المرأة أو الأنثى، كما نطقت كل تصرفاتي نحوها بأنها أخت عزيزة، ولا يمكن أن تكون إلا أختا؟ ومع أنها سلمت مع الزمن بعجزي وتحجري، فلم تنقطع يوما عن إغراقي بحنانها وهداياها: كتب ونتائج فلكية عليها صور القطط التي أحبها الشعراء، الذين أجد نفسي معهم، أشكال من الحلوى والطعام الذي تتصور أنني أتذوقه، تذكر مستمر لعيد ميلادي الذي أنساه على الدوام ولا أهتم بالاحتفال به، متابعة لدراستي وقراءاتي، وحوارات متواصلة عن جوته وهلدرين ورلكه وغيرهم من شعراء العصر، ثم آخر أفضالها بمراجعة رسالتي في الدكتوراه كلمة كلمة وسطرا سطرا، ومساندتي بكل ما تملك أثناء الاستعداد للامتحان النهائي.
6
ورجعت للوطن في أوائل الستينيات، ولقيت ما لقيت من ألوان الإحباط وخيبة الأمل: في البحث عن مسكن ملائم، والسعي الفاشل للارتباط، والتعثر الدائم بين الكتابة والترجمة والتدريس، ومواجهة الغدر والتجاهل والإهانات الصريحة والخفية. وفاجأتني بعد سنوات باشتراكها مع فوج سياحي قادم إلى مصر، استقبلتها بكل ما أملك من حفاوة وترحاب، وطفت معها على كثير من الأماكن والمتاحف التي لم تكن مدرجة على البرنامج الجماعي. وأردت أن أشعرها بجو الأصدقاء الذين أحيا لهم وبهم، قأقمت لها سهرة في مكتب الصديق الذي اعتدنا أن نلتقي عنده كل ثلاثاء، وعندما دخلت معي وطالعت الأصدقاء بوجهها الصبياني الضئيل، وشعرها الأشقر المهوش، وضحكتها الرنانة النقية كولد شقي، هتف بي صديقي الشاعر الكبير وهو يتأملها من أعلى إلى أسفل: والله أمرك عجيب ... هل تنقصنا المومياءات حتى تأتينا بمومياء جرمانية؟ كظمت الضحكة والحسرة في قلبي، ولم أترجم لها ما قال. ومضت السهرة كما تمنيت، ولمس الأصدقاء مدى رقتها وحنوها وعمق ثقافتها. وهمس في أذني صاحب الدار: اسمع نصيحتي، لن يصلح لك سواها ولن تصلح أنت لغيرها. وانتهت الليلة كما انتهت الرحلة، ورحت أودعها في المطار. شكرتني من كل قلبها، ثم ارتمت على صدري وبكت ورأسها على كتفي. ربت على ظهرها وقبلتها في جبينها، وأردت أن أذكرها بوداعنا بعد زيارتنا للقارئة الحجرية، وأقول لها سامحيني على عجزي وتحجري، فسبقتني قائلة، وهي تمسح دموعها وتحاول أن تضحك بصوت عال: أتمنى لك كل خير ... ليتني أنا أيضا أصبح حجرا كما قال شاعركم القديم.
عدم ... عدم
تشدد علي الممرضة السمينة الصغيرة الرأس، وهي ترفع سبابتها منبهة: دقيقتين فقط من فضلك، غيرك لا نسمح له بأكثر من دقيقة واحدة - لكن يبدو عليك أنك رجل طيب - تفضل يا حاج، دقيقتين فقط كما قلت ...
أكاد أضرب كفا على كف وأكاد أصرخ: أهكذا تختزل مئات الليالي والأيام التي قضيناها معا في لحظة خاطفة؟ وماذا أفعل في هاتين الدقيقتين يا صديقي الحبيب، وماذا أقول؟
دخلت من الباب المفتوح. هو على السرير الحديدي الأبيض ممدد ومغطى بملاءة بيضاء. تفاجئني الأجهزة الكثيرة اللامعة حوله ووراءه وفوقه كوحوش آلية ساكنة؛ جهاز كمبيوتر تتحرك شاشته بموجات متتالية من الخطوط المتعرجة والمستقيمة، دورق كبير يتدلى منه خرطوم أحمر طويل مغروس في فمه، جهاز التنفس كالكمامة الفضية موضوع على شفتيه. قبل أن أدخل إليه، أفهموني أنه لولا هذا الجهاز الصناعي لاختنق في الحال. النفس مطرود، شهيق يرتفع معه الصدر الضئيل وزفير ينخفض به، والصوت الخارج حشرجة تشبه شهقات طاحونة قديمة أو استغاثة قاطرة محمومة. أتأمل الوجه الأبيض الجميل الذي طالما أسرتني بشرته الناصعة وجبهته العريضة العالية، والشعر المتموج المائل إلى الشقرة تنسدل خصلة منه على الجبين المتحدي والمتأهب دائما للصراع والصدام. العينان الواسعتان مفتوحتان على آخرهما ومصوبتان إلى الأعلى، إنهما لا ترياني ولا تريان أي شيء، لكنهما مفتوحتان على اتساعهما وغارقتان في بحر الغيبوبة. ألمس يده وأمر على راحته وأصابعه البيضاء الرقيقة، لكن ما هذا؟ كيف صار الذراع الأيسر - من المعصم حتى المرفق - بهذا السواد؟ كيف صار فحمة سوداء مستطيلة تنتهي بيد بيضاء جميلة ونحيلة، كأنها جناح طائر محترق، أكل هذا من كثرة الإبر ووخزها الأليم؟
آه يا صديقي الحبيب! أيمكن أن يتحول البركان الثائر والفائر إلى شبح عظمي شاحب؟ أأنت مستغرق الآن في دوامتك السفلية، دائر كالريشة أو كورقة شجرة في خضم موجاتك الباطنة؟ ألا تنتبه لحظة واحدة لتكلمني أو توصيني أو تلقي علي نظرة واحدة أفهم منك أنك لمحتني وعرفتني؟
كنت أداعبك دائما وأؤكد لك أنني سأسبقك حتما على الطريق الذاهب بلا عودة، وكنت أقول لك إنني سأنتظرك لكي أقرئك وصيتي على أولادي وكتبي وحصادي الهشيم ... فحذار حذار أن تخذلني أو تسبقني! ... وها أنت تسبقني يا صديقي وتخذلني وأي خذلان ... أمر على يدك وأضغط عليها بلا استجابة، أثبت عيني فيك كأنني أراك الآن لأخر مرة، وبرغم الأمل الذي لا يموت، أربت على صدرك الصاعد الهابط المتحشرج كصفارة باخرة تقاوم الغرق وتتشبث ببقايا الحياة. آه يا صديق العمر! كلمة واحدة! نظرة واحدة! لماذا تستسلم لبحر الغياب وأنا على الشاطئ أمد إليك يدي وكياني كله بلا جدوى؟ وفجأة تدخل الممرضة السمينة ومعها صبية نحيلة كأنها ابنتها في ثياب الممرضات: يا الله يا أستاذ! يا الله يا حاج! قلنا دقيقتين فقط ...
أخرج من عندك لا أعرف لي اسما ولا هدفا ولا حاضرا أو مستقبلا، حتى الدموع تستعصي علي برغم الشلال الجياش في داخلي. ما الذي فعلته بنفسك وبي؟ ولماذا أنت ولست أنا؟ مع أن الحياة والفن والمجتمع والناس أحوج إليك مني ألف ألف مرة؟
تدخل بعدي الابنة والابن وعلى وجهيهما صفرة وفي عيونهما دموع متحجرة. إن هي لحظات ويرجع الابن مناديا علي: تعال يا عمي، بابا أفاق على صوتنا وعرف أنك كنت عنده. نادى عليك أيضا وتكلم كلاما لم نفهم منه إلا كلمات الدراما والمسرح والقصة ... تعال بسرعة قبل أن يدخل في الغيبوبة ...
وأسارع بالدخول غير مصدق، أقبلك على خدك وجبينك وأقبل يدك وأصابع يدك وأربت على صدرك. يخرج من أعماق الطاحونة الخربة صوت واحد بكلمة واحدة ووحيدة: عدم ... عدم ... عدم. أحاول تدليك يدك وأصابعك وتقبيل خديك وعينيك ويديك ... يأخذني الذهول والحيرة والخجل من وجودي حيا أمامك وأتجمد وأتصلب كحجر. ويطرد النفس المتحشرج ومعه الدمدمات والآهات المضغومة والآهات المتوالية والمكتومة كبخار هائج ينفلت من وعاء يغلي بالماء، الذي يدمدم ويدوم بلا انقطاع. أناديك ولا ترد - أكلمك بالصوت المختنق الذي يرتفع قليلا قليلا ولكن بلا فائدة - تنفتح العينان أكثر مما كانتا قبل لحظات، تغيب عنا وعن نفسك وتسقط في الدوامة العاصفة في الأعماق. أفيق على صوت الابن الذي يربت على ظهري وكتفي: خلاص يا عمي ... رجع للغيبوبة من جديد. وتستعجلنا الممرضة ومساعدتها الصغيرة: يا الله! يا الله! الدكتور الكبير يمر الآن، وموعد الزيارة انتهى.
أطل عليك الإطالة الأخيرة؛ العينان مفتوحتان والصدر - الطاحونة - يشهق يتحشرج، يعلو يهبط بالصوت الرتيب المخنوق. وأنا خارج من عندك ترن في سمعي دمدمتك المضغمة الغامضة: عدم ... عدم ... عدم ... كما يتردد صوت مهيب ورهيب يخيل إلي أنه يخرج مدويا من أعماقي:
عليك أن تغير نفسك! عليك أن تغير نفسك! عدم ... عدم ... عدم.
1
كوجيتو مصري
وأنا في الطريق إليه، كنت أضع يدي على قلبي، وأحمل في اليد الأخرى مظروفا كبيرا يضم بعض أعماله التي أملاها في الفترة الأخيرة على كاتبة الكمبيوتر (الحاسب )، وتطوعت بتصحيحها بسبب ما أصاب عينيه من تليف أدى إلى شبه إظلام تام. كم أحببت السير في هذا الشارع الطويل المحاذي لكورنيش النيل في حي الروضة العريق الذي نجا إلى حد كبير من زحف الأبراج البشعة وغابات الإسمنت الخانقة. وكم كان أحب شيء إلى نفسي أن أسارع إلى المسكن الهادئ المتواضع للصديق الحبيب، كل مرة أرجع فيها من غربتي الطويلة في البلاد العربية التي أعرت إليها أو عملت فيها. كنت أحس - في جلسات الأنس والود الممتدة إلى ما بعد منتصف الليل - أنني أتعلم من الحكمة التي تفيض من عقله الثاقب المتزن، وحسه الواقعي المجرد من كل الأوهام، ما لم أتعلمه من عشرات الحكماء الذين درستهم وقمت بتدريس أفكارهم ومذاهبهم، وأخذوا عمري ما أخذوا بلا رحمة. ولأن الصديق الحبيب يهوى العزف على العود والكمان، فقد كانت الموسيقى التي أحبها من ألحان عبد الوهاب والسنباطي أشبه بسياج من الأضواء والألوان المبهجة، التي تترقرق وسط أحاديثنا المرهفة عن أزمات الأدب والفكر والنقد وأزمتنا معها. وكنت أخرج من كل زيارة وكأنني لعازر الذي مسته المعجزة، فوهب حياة جديدة بعد أن غيب في قبره، ونهض على قدميه وهو أكثر شجاعة وتصميما على مواصلة الحياة. وها أنا ذا في الطريق إلى الصديق العزيز يؤرقني القلق عليه من ناحية، ويملكني الإعجاب به من ناحية أخرى. لقد أحسست في الزيارات الأخيرة، وأنا أتأمل وجهه وأسمع ضحكاته الخافتة وهمساته الساخرة بشيء يصعب علي وعلى أي لغة أن تصفه أو تحدده، لم يكن هو الخوف على صحته التي تردت ترديا واضحا في الشهور الأخيرة، لا سيما بعد فشل العملية الجراحية التي أجريت في عينه اليسرى ولم تسفر عن إهدائه بصيصا واحدا من النور. ربما كان هو الإحساس بأن الصديق - بالرغم من ضحكاته وفكاهاته اللاذعة، ومحاولاته المستمرة لكي يبدو طبيعيا إلى أقصى حد - يقف مني ومن كل شيء موقف المودع الموشك على سفر طويل. لكنني كنت أبذل كل جهدي في التغلب على هذا الإحساس، والإقبال على الضحك والثرثرة وكأن كل شيء سيبقى على حاله، ولن تتوقف عجلة حياتنا ولقاءاتنا لحظة واحدة.
في هذه الزيارة الأخيرة، وقفت أمام باب الشقة الهادئة - التي طالما شعرت بأنها تفوح بعطر المحبة والصدق والرضا والتواضع - كما فعلت عشرات المرات على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من عمري. وعندما فتح بنفسه الباب وجدتني أمام وجه شاحب ضامر، صور لي الوهم أن سمرته ازدادت عمقا وجهامة وقتامة، وأن الجسد الذي واجهني على الباب قد ازداد نحوله وهزاله بما لا يخفى على النظرة العابرة. وزاد من خوفي وقلقي أن الصديق لم يفتح ذراعيه ليضمني إلى صدره، كما اعتاد أن يفعل، ولم يربت على كتفي مرتين أو ثلاثا، ويأخذ يدي في يده ويشدني إلى حجرة الصالون التي ننفرد فيها سويا. وعندما استقر في جلسته إلى جواري، لم أسمع منه تهليلا ولا ضحكا ولا لهفة على أخبار صحتي وعملي كما ألفت منه. خرجت من فمه كلمة أهلا بصعوبة، وبصوت لا يكاد يسمع قبل أن يلتف في رداء الصمت، ويشد ظهره وعضلات وجهه وما بقي من نور يحتضر في عينيه في اتجاه الحائط المواجه له. نادى على ابنه بصوت عال لكي يحضر القهوة، وحاولت من جانبي أن أخرق أستار التوتر والتخشب بالكلام عن إعجابي بالأعمال التي قمت بمراجعتها، واستمتعت متعة لا حد لها بقراءتها. كان هناك كلام حماسي كثير يريد أن يقفز من فمي عن مسرحيته المرحة الشائقة «مغامرات عيسى المفتري مع أبي الفتح السكندري»، التي استوحاها من بعض مقامات الهمذاني، وعن روايته القصيرة العذبة والفكهة والمحزنة معا «الأعداء الصماء» التي تخيل فيها لقاء رجل وامرأة فوق الثمانين في إحدى الحدائق، واكتشافهما خلال الحوار الذكي المتوثب أنهما هما الحبيبان القديمان من أيام الثانوي، وأن غلطة الحبيب الغارق في حبه والواضع نفسه تحت تصرف المحبوبة أنه لم يتشجع مرة واحدة لكي يصارحها بحبه ويعلن بوضوح عن مكنون قلبه؛ ربما بحكم طبيعته المحافظة أو خجله الفطري. وها هما يلتقيان بعد ضياع الحب والعمر، كما يلتقي حفيده وحفيدتها اللذان يتعشم الراوي ألا يقعا في غلطتهما أو يكررا خطأهما ...
كنت أنوي أن أتحدث عن هذين العملين وعن عمل ثالث أزمع أن يعيد نشره بعد إضافة قصص جديدة إليه، لكن الصديق أشار بيده مبديا رغبته في إغلاق هذا الباب وإيقاف سيل الإعجاب الذي بدأ ينهمر، فأوقفه سد منيع من السأم أو الرغبة الشديدة في التزام الصمت. خيم فوقنا السكون فترة غير قصيرة. لم تمتد يد الصديق إلى العود أو الكمان أو حتى إلى الكاسيت كما كان يفعل، لم تند عنه ضحكة واحدة، وهو الساخر الأبدي في كلامه وكتابته. إنما طالت جلسته المشدودة ونظراته المصوبة إلى الجدار المقابل. احترمت رغبته في الصمت والتوحد، ونهضت مستأذنا في الانصراف، فشدني بعنف إلى الكرسي الذي أجلس عليه، وهو يقول: هل يضايقك أن أفكر؟ ألا تقولون عندكم أنا أفكر فأنا إذن موجود؟ ضحكت قائلا: هذا هو الكوجيتو المعروف عن ديكارت أب الفلسفة الحديثة. سأل، وهو يلتفت نحوي متجهما: وهل توافق أنت عليه؟ قلت مسترسلا، وكأنني أشرح درسا: لا شك في أن ديكارت وجد نفسه في حالة تفكير، وأنه اكتشف أنه يوجد بحق كلما فكر، ولكن النتائج التي استخرجها من هذا الكوجيتو ربما كانت مغلوطة أو متسرعة أو ملفقة؛ أقصد إثبات وجود الله ووجود العالم بعد أن تأكد له وجود الذات المفكرة، وقد اعترض الكثيرون ... قاطعني قائلا: هل اعترض أحد على هذه العبارة الشهيرة؟
قلت: كثيرون اعترضوا عليها، أو وضعوها في صيغ مختلفة، أو فندوها من أساسها. سأل، وهو يثبت وجهه ونظره إلى الحائط المقابل: مثل من؟ قلت: هم كثيرون! أحدهم قال: أنا أوجد إذن أنا أفكر، وهؤلاء هم الوجوديون الذين جعلوا الوجود الجسدي في العالم سابقا على التفكير. وفيلسوف آخر قال: أنا أتعذب فأنا إذن موجود، فبدأ من المعاناة لمأساة الحياة والموت، وأكد أنهما علة الإحساس بالوجود الممزق والمهدد في كل لحظة. وثالث جعل الأولوية للإرادة على التفكير، فقال ما معناه أنا أريد، أو أنا أبذل جهدا في مقاومة عقبة خارجية، فأنا إذن موجود؛ أي إنه لا يوجد بحق حتى يفعل ويغير لا حين يفكر وحسب. الآراء والصيغ كثيرة يا صديقي، والمهم أن العبارة الشهيرة، بل أشهر عبارة في تاريخ الفكر الفلسفي، قد تندر عليها البعض وقالوا إنها خرافة ووهم وقع فيه الفيلسوف الفرنسي في ليلة المدفأة، التي عزل نفسه فيها عن كل شيء؛ عن العالم المحيط به والظروف التاريخية والاجتماعية التي يحيا فيها، بل عزل نفسه حتى عن جسده الذي راح - بعد رحلة الشك المطلق فيه وفي وجود أي شيء آخر سوى فكره المحض - يحاول بصور ملفقة أن يثبت وجوده ووجود العالم.
التفت صديقي وعلى وجهه ظل ابتسامة: أفادك الله ولا فض فوك، وأنا معجب بصاحبك الذي ربط وجوده بالموت، وأكد أن الإنسان لا يوجد إلا حين يتعذب ويحس بمأساة الحياة والموت. شيء عجيب أن نوجد حين نحس أننا نموت ... قاطعته محاولا أن أوجه الحديث وجهة أخرى: ذلك مجرد رأي، لماذا لا نقول إننا نوجد عندما نعمل أو نبني أو نبدع أو نسعد الآخرين أو نأمل في مستقبل أفضل أو ... قال الصديق، وهو يخبط على ركبتي: أنا أيضا عندي كوجيتو جديد، كوجيتو مصري بحق ولا يمكن أن يكون إلا مصريا. سألته وأنا أضحك، قال: اسمع يا سيدي، أنا أظهر في أجهزة الإعلام فأنا موجود، أنا أدعي وأرفع صوتي وأثير الفرقعات والزوابع وأتسول النقد والكتابة عني فأنا إذن ...
قاطعته بحزم، وأنا أحس أن صوته يتهدج ويبتل بالدموع، التي لا تريد أن تطفر من العين: لا ... لا، ما تقوله غير صحيح. المترفع عن الإعلام والمتعفف عن التسول الذي نتكلم عنه موجود أيضا، ووجوده في ضمير وتاريخ الفكر والأبد أكثر رسوخا. ثم إن ... قاطعني، وهو يضغط على يدي: طول عمرك عبيط وعلى نياتك. قلت، ضاحكا: وما له؟ رومانسي خائب كما تقول، المهم هو الصدق والإخلاص، أليس كذلك؟ زم شفتيه وشد عضلات ظهره ووجهه، وثبت نظراته على الحائط المواجه، وعاد يتغطى برداء الصمت الأسود الثقيل. استأذنت في الانصراف، فقام واقفا وشكرني على مراجعة البروفات، وعند الباب عانقني فجأة وقبلني. وخرجت إلى الشارع، والقلق والخوف من شيء مجهول يستبد بي ...
بعد أسبوع واحد من تلك الزيارة، حمل إلي الهاتف نعيه بصوت ابنته العزيزة. زلزلني النبأ الفاجع، ولكنه لم يفاجئني. فقد أعدت التفكير فيما قال، وأدركت كيف يحكم التجاهل على الإنسان بالموت. إن الصديق الذي كان منذ منتصف الستينيات إلى منتصف الثمانيات هو أشهر كاتب إذاعي قد لزم الصمت والاعتزال عن أجهزة الإعلام أكثر من عشر سنوات ليتفرع لكتاباته الإبداعية الحرة، فنسيته هذه الأجهزة كما نسيه النقاد تماما، وحكم عليه الجميع بالموت وهو حي. أسدلت ستائر الصمت والظلام على مسلسلاته الإذاعية، التي كانت توقف أنفاس الجماهير المتابعة لها؛ (كالمماليك، وملك الأورنس، وريا وسكينة، وأديب وغيرها)، وأشاح أهل المسرح بوجوههم، فلم يخطر على بال واحد منهم أن يلتفت إلى روائعه المسرحية؛ (كمحاكمة مطرب نشاز، والحرب والشاطئ الآخر، وغيرها)، وخرست ألسنة النقاد وجفت أقلامهم بعد رحيل الناقدين الكبيرين اللذين كتبا عنه قبل رحيلهما أيضا (وهما عبد الحميد يونس وشكري عياد)، فلم يقل أحد ولم يكتب أحد عنه كلمة واحدة. وظلت ابنته بعد وفاته تدوخ السبع دوخات لكي تنشر أعماله الكاملة - التي قالت لي إنه جمعها ليلة وفاته عندما جمع أولاده حوله وأوصاهم عليها - أو حتى أعماله المتأخرة التي لم يسبق نشرها ... وأفكر الآن - بعد حوالي السنتين من رحيله - في الكوجيتو المصري الذي صاغه في زيارتي الأخيرة، وهو يبتسم ابتسامته المرة، فأسأل وأنا أبتسم كذلك ابتسامة مرة: أصحيح أن الإنسان عندنا لا يوجد إلا حين يتظاهر ويدعي ويعلن عن نفسه في كل بوق وبكل وسيلة؟!
1
الجسور
أحببت الجسور طوال حياتي. فرحت بالمشي والقفز عيلها، وهز أسوارها الواهية وأنا بعد طفل صغير. كانت جسورا خشبية متهالكة ومتآكلة من كثرة الأقدام التي مرت عليها، اهترأت ألواحها وامتلأت أرضيتها المتسخة بالفجوات الخطرة، ولكنها لم تفقد سحرها العجيب في عيني طفل ريفي من بلدة صغيرة في دلتا النيل. لن أستطيع الآن أن أصف مشاعري نحو تلك الجسور العجوز الهشة التي كنت أجدها بسهولة فوق الترع والقنوات، وأسرع إليها لأراقب الحمير والبقر والجاموس والفلاحين الطيبين الذين يعبرونها صامتين . بل إنني أتذكر بشيء من الخوف كيف كنت أدلي رأسي من بين فتحاتها المتسعة مع أنني لم أكن أعرف العوم وما زلت أجهله حتى اليوم.
وكبرت في العمر وأتيح لي أن أعبر جسورا على نهر الراين، وجسورا على نهر السين يلوذ بها صعاليك باريس من الفنانين، الشحاذين المعروفين باسم «الكلوشار»، يستريحون تحتها في الليل ومعهم زجاجة النبيذ و«الباجيت» الأبيض الطويل. وسنحت فرصة إجازة قصيرة قضيتها في لندن بعبور جسرها الشهير، فتذكرت حسرة الشاعر «إليوت» - في إحدى قصائده التي لا أذكر الآن إن كانت هي الأرض الخراب أو أغنية حب بروفروك - على مئات الرجال والنساء والأطفال، الذين يمشون عليه كل يوم وسيموتون حتما في يوم من الأيام. وها أنا ذا في كهولتي ثم في شيخوختي أعيش في القاهرة، كأني أعيش في جوف تنين محتضر - وإن كان لا يتورع عن ملء حياتنا إزعاجا وضوضاء وتلوثا من كل نوع. وأجدد عشقي القديم بتأمل جسورها في الليل بعد أن يهدأ ضجيج النهار، وأحس وأنا أسير على أحد جسورها بمتعة لا تعدلها متعة، بينما أستمع إلى همسات أنوارها الوديعة، وهي تخاطب جسد المدينة المنهك: ها أنا ذا أضيء لك دروبا تعبرينها من شاطئ إلى آخر، من المرض إلى الصحة، ومن العجز والشيخوخة إلى شباب الأمل والبعث الجديد، فهل تسمعينني أيتها الأم الطيبة التي ظلمها أبناؤها وشوهوا وجهها وسمموا هواءها وأهانوا آثارها وأهملوا صروح الأصالة والعراقة والصمود والصبر فيها؟
وأنظر الآن في بعض رسوم فان جوخ وغيره من الفنانين عشاق الجسور، وأسأل نفسي: ما المعنى الذي تنطوي عليه؟ ما السر في ذلك السحر القديم الجديد؟ وأحاول الإجابة، فأقول: إنه التواصل، الانتقال من أرض إلى أخرى، من شاطئ إلى شاطئ جديد ومن حال إلى حال. هذه الظهور الخشبية أو الحديدية تتطوع مختارة بتحمل أثقال الأقدام والعجلات على اختلاف أنواعها وأشكالها، لتوصل العابرين إلى بر الأمان. أغلبها يمتد فوق أنهار أو ترع أو قنوات؛ أي فوق حياة متدفقة تتدافع فيها موجة في إثر موجة، وتتحرك حركة لا تعرف التوقف. إنها ثابتة فوق الماء، ولكنها توحي بمعاني الحركة والصيرورة المتصلة، قد تصمد مئات السنين، وقد تبادر بتخريبها الحروب وقوى القهر والتعصب والإرهاب، ولكنها في النهاية تنطق بأنها مؤقتة وعابرة ككل من يعبرها، وكل شيء في حياة الإنسان. المؤمن بالله يعلم أن الدنيا جسر إلى الآخرة، محنة أو امتحان أو ابتلاء، إن اجتازه الإنسان بالعمل الصالح والقلب السليم فقد فاز بعبوره إلى ما هو خير وأبقى. والمؤمن بهذا العالم وحده يعرف أن المجتمع الذي يعيش فيه، والمدينة التي يسكنها ويعمل بها، ليست إلا جسرا يحاول أن يعبره إلى مجتمع أفضل وأعدل، ومدينة مثالية أجمل وأكمل، مدينة يحلم بها ويعمل بإخلاص مع غيره لتحقيقها في الواقع بالعلم والخبرة وبالثورة والأمل ... كانت كل الحضارات التاريخية جسورا يؤدي بعضها إلى بعض، يلتقي العابرون من الناحيتين فيتفاعلون ويتبادلون المعرفة والتجارة وسبل العيش وأسبابه، أو يتحاربون ويتقاتلون ويدمرون ثم يذهبون، ولكنهم في كل الأحوال يهدمون جسورا وقد يبنون جسورا أخرى إلى أشكال مختلفة من التحضر لا تنسخ بالضرورة خير ما في الأشكال السابقة عليها. والأجيال؟ إن الآباء جسور تمد حبها ورعايتها وتضحياتها ليعبر فوقها الأبناء، والمعلمون جسور يجتازها التلاميذ إلى آفاق جديدة ومعارف وخبرات أكثر صحة أو أكثر حداثة. كلاهما - الآباء والأبناء - يقدم تجربته للآتي بعده، وهو يقول: هذه هي تجربتي، خذها بخيرها أو شرها، وحاول أن تجددها وتضيف إليها. والويل لجيل أو أب أو معلم يتصور أن تجربته مطلقة، أو يتوهم أن خبرته نهائية وثابتة. إنه لينكر عندئذ أنه مجرد جسر، كما يتنكر لطبيعة الجسور ومعناها وحكمتها.
وقد أعجبت في شبابي، وما زلت معجبا، بفلاسفة التطور والتقدم والحركة، منذ هيراقليطس الإغريقي في القرن الخامس قبل الميلاد، إلى داروين الإنجليزي ونيتشه الألماني في القرن التاسع عشر، إلى المفكرين والأدباء «اليوتوبيين» الذين يرسمون ملامح مدن المستقبل التي لا توجد بعد في أي مكان (وهذا هو مفهوم كلمة يوتوبيا في أصلها اليوناني) ويدعوننا للكفاح في سبيل تحقيقها، أو يحذروننا من أخطارها وأهوالها إن كانوا من المتشائمين الذين يصورون مدنا أو يوتوبيات أخرى مضادة، ولا بد أن الرمز الذي تنطوي عليه كلمة الجسر هو الذي جذبني إلى أولئك وهؤلاء، ولعل أشدهم تأثيرا على نفسي حتى اليوم هو نيتشه، الذي حفر عباراته المشهورة عن الجسور في قلبي وعقلي، وأكاد أقول على لحمي وعظمي. ولا شك أننا نتذكر تلك العبارات المثقلة بالنبوءة والمتوهجة بالغضب والتمرد التي ترد في مقدمة أروع كتبه، وهو «هكذا تكلم زرادشت»: «إنني أعلمكم الإنسان الأعلى، ما الإنسان إلا شيء ينبغي تجاوزه، فماذا فعلتم لكي تتجاوزوه؟ الإنسان حبل مشدود بين الحيوان وبين الإنسان الأعلى، حبل ممتد فوق هاوية، معبر خطر، مفترق طريق مخيف. وأعظم ما في الإنسان أنه جسر، وليس هدفا أو غاية.»
ومع أن فكرة الإنسان الأعلى فكرة غامضة ومحيرة؛ فهي توحي للإنسان بأنه جسر، وأنه على الدوام أمل لم يتحقق وواقع لم يكتمل بعد ...
وأعود فأسأل نفسي وجيلي بعد أن تخطينا الستين أو حتى السبعين: هل كنا جسورا صالحة لمن عبروا فوقنا؟ هل استطعنا أن نقدم لهم تجربة تعينهم على بلوغ شاطئ الأمان، أو نغرس فيهم ثقافة حية وفاعلة تشجعهم على الاقتحام والتجاوز والإبداع والابتكار؟ وإذا كنا قد قمنا بهذا الواجب، فلماذا تتراكم حبال التعاسة والفقر والجهل والتخلف والفساد من حولنا، بل تكاد ترزح فوق صدورنا؟ وعندما نتهاوى وننهار - كما تساقط الكثيرون من أعزائنا ورفاق طريقنا - فهل سيذكر أحد ممن تحملنا وطء أقدامهم على أجسادنا وأعمارنا؟!
لا يمكنني الإجابة على هذه الأسئلة. فالإنصاف يأتي به الزمن أو لا يأتي، وربما ننسى وتنسى جهودنا تمام النسيان، ولا يذكر منا - إن ذكرنا أحد أو تذكرنا - سوى فشلنا وخيبات آمالنا. لكننا نتمنى إن عبر بقبورنا عابر، أن يتذكر ما قاله الشاعر الإغريقي سيمونيدس عن زملائه الذين سقطوا صرعى في الميدان: أيها العابر الغريب! قل لمواطنينا في إسبرطة ... إننا نرقد هنا ولا نزال في الموت لعهدها أوفياء ...
لعل العابر يومئذ يتذكر الجسور التي انهارت، وإذا وجد نفسه يمشي على جسور أقوى منها لا ينسى الذين مدوها . وإذا اتهم خبرتهم القاصرة، فلا يجحد إخلاصهم وصدقهم حتى لا تجحده بدوره أجيال آتية، ستمد جسورا غير جسوره.
لست أقول هذا ولا يقوله جيلي، إنما تقوله الجسور التي حاول أن يمدها: أنتم يا من تعبرون فوقنا! إن هدمتمونا يوما وشيدتم غيرنا؛ فاذكرونا وسامحونا.
هذا البلد مكاني ... هذا الزمن زماني
عندما تسير على الطريق، فتدمي قدميك الأشواك، وتهب عليك الرياح المسمومة من كل ناحية، وتتكالب عليك الجراء - التي طالما أعطيتها من عمرك وعلمك - لتجرب فيك أظافرها ومخالبها وأنيابها الصغيرة، وتتقافز القرود فوق الأكتاف وتتصارع على العروش الوهمية التي كانت بالأمس تزينها كبرياء الأسود - حينئذ لا تملك إلا أن تهتف: يا ربي! لم ولدت في هذا المكان؟ لم وجدت في هذا الزمان؟
تعلم أن السؤال عقيم لا جواب عنه، لكنك تتحسر وتتمنى. تتحسر على عمر يضيع، وطاقة تبدد، وكرامة تنهش، ومرارة تتراكم في قلب القلب كجبل الملح، وموهبة تطفأ شمعتها الواهنة يوما بعد يوم كلما حاولت أن تسرجها، وتتمنى وتطير على أجنحة التمني إلى ماض انقضى أو مستقبل لم تنم بذرته بعد. إلى تاريخ ذهب وبلاد لم تطأها قدمك، وعصور لم تعشها ولم تدر عنها شيئا إلا في الكتب أو في الخيال. ترافق «سقننرع» و«أحمس»، وتطارد معهما الهكسوس. تلازم سقراط وجماعته عبر شوارع أثينا وحاراتها، وتشارك في الحوار الذكي الساخر الحر. تعرج على سراقسطة فتنضم إلى مكتشف قوانين الطفو الروافع ومربع الدائرة (المدهش الرائع أرشميدس حوالي 212 ق.م.) وهو يدافع عن أسوار مدينته دفاع المستميت. وربما تميل إلى سوق عكاظ، فتملأ سمعك ووجدانك بإحدى المعلقات. ثم تصعد تل الأيام والليالي والسنين، فتطرق باب محبس أبي العلاء، وتجلس إليه وتسمع منه، وربما تتمنى لو يطلب منك - وهو سيد الزهد والاستغناء - أن تسوي فرشته أو تعد لقمته. وتحضر مجلس الرشيد أو المأمون، وتمتع نفسك وتؤنسها بمساجلات الأدباء والفقهاء ومناظرات العلماء والفلاسفة والمترجمين (وقد يسعدك الحظ، فيجعلونك مساعد حنين بن إسحق أو أبيه إسحق بن حنين!) وتواصل الصعود إلى عصر النهضة وتؤثر صحبة جاليليو على غيره ، وتطل على السماء من مرصاده، وتشارك في تلميع زجاج عدساته، كما تساهم ولو بنصيب ضئيل في مغامرة العقل وإرساء المنهج العلمي، وتحرير الإنسان من زنازين التخلف والجهل التي وضع فيها باسم الدين، والدين منها براء. وقد تعود أدراجك أخيرا، فتهبط إلى حضارات غابرة، وتقنع بوقفة حاجب متواضع ومتأمل في بلاط ملك هندي أو سومري أو بابلي أو آشوري رائع، أو في قصر إمبراطور صيني حكيم.
وترجع فتقول لنفسك: ألم يطعن سقننرع في ظهره؟ ألم يحكم على سقراط بشرب السم؟ ألم يقتل أرشميدس بحربة جندي روماني فظ؟ هل خلت أيام العرب من الغدر أو ارتوت باديتهم من الدماء؟ وهل نجا رهين المحبسين من الإهانة والمرارة في زمن التدهور والتمزق والغلظة والانحطاط؟ أم برئ عصر الرشيد والمأمون من الفتن والمؤامرات، وعصر النهضة من المحارق ومحاكم التفتيش، وعصور ملوك الشرق الأدنى والأقصى من استبداد السيد الأوحد وتعذيب وعذاب الملايين؟
لكن أمواج الحسرة لا تتراجع، وأجنحة التمني لا تطوى. وتطير إلى ذهنك خاطرة من خواطر باسكال (1623-1662م) طالما أحببتها ورددتها: «أرى هذه الفضاءات الكونية المخيفة التي تحوطني، وأجد نفسي مقيدا إلى ركن من هذا الامتداد الهائل، بغير أن أعرف لماذا وضعت في هذا الموضع دون غيره، ولا لماذا حددت هذه الفترة الزمنية القصيرة التي قدر لي أن أعيشها في هذه النقطة بعينها لا في نقطة أخرى من الأزلية التي سبقتني أو الأبدية التي ستأتي بعدي. لست أدري من كل ناحية إلا هذه اللانهايات التي تحبسني كأني ذرة وظل لا يدوم إلا لحظة واحدة وبلا عودة.» (الخاطرة رقم 194 من ترقيم برونشفيج لخواطر باسكال).
هكذا لا أفتأ أجاهد نفسي حتى لا تسترسل في تأملاتها عن النهاية واللانهاية، وزمانية الوجود الإنساني ومكانيته، ومعناه أو انعدام معناه وهو يذوب كالقطرة ويتلاشى في بحر السرمدية، أو يتأرجح كالقشة فوق محيط الفضاء الشاسع. وأزجر نفسي كي لا تستسلم لشطحات ربما تكون عميقة ودقيقة، لكنها - في اللحظة الراهنة التي أحياها، وفوق شبر الأرض الذي يشغله جسدي - لا بد أن تكون شطحات مترفة وغير مسئولة، أو طرقات يائسة على قيثارة قدرية يداعب أوتارها الخلي والخائف والهارب والمحزون المكتئب بلا أمل في الشفاء.
هذا الزمن زماني
صحيح أنني لم أختره بنفسي، ولم أسأل عن رأيي قبل أن أوجد فيه. لكن هل هذه هي المشكلة؟ إذا كنا نحن الشرقيين لا نمل الحديث عنها، ونأبى إلا أن ندور بمناسبة وغير مناسبة حول مسائل الجبر والقدر، كأنما نبرر آفة الهروب من الحرية والاختيار، ومن شجاعة تحمل المسئولية وأداء الواجب! فإنها في الحقيقة قد لا تكون مشكلة، أو هي على أقل تقدير ليست هي مشكلتي الحقيقية «هنا والآن». فأنا أحيا في هذا الزمن وهو يحيا في، أنا جزء منه وهو جزء مني. ولدت في أواخر الثلث الأول من القرن الماضي، ولا يعلم إلا الله متى تطوى صفحات كتابي. أعرف يقينا أنني أتنفس هواء عصر القلق والتعذيب والمذابح والمقابر الجماعية والرعب النووي وعصابات المافيا والإرهاب والتلوث وإبادة الخضرة وأخطار الأورام المداهمة والسكتات القلبية والدماغية المباغتة، والعيون الإلكترونية الراصدة في كل ركن وكل منعطف، وفجور رأس المال الذي طغى واستشرى حتى زاد الفقراء فقرا والجوعى جوعا والأغنياء المترفين قهرا وجبروتا، وروج تجارة الجنس والمغيبات والمخدرات، وما فتئ يعد لسحق شعوب ومناطق بأكملها. وأعرف كذلك يقينا أنني عشت زماني الواعي في هذا الركن، الذي قيدت إليه وجربت فيه من الأحزان أكثر بكثير مما تذوقت من الأفراح، وعانيت من الهزائم وخيبات الأمل في العمل والحب ما لا تقاس به النجاحات النادرة والضحكات القليلة المغتصبة. لكنه في النهاية هو عصري، وليس لي اختيار في أن أكون فيه أو لا أكون.
وهذا البلد مكاني
أعلم أنه هو بلد العتمة - على الرغم من شمسه الأبدية الساطعة - وأن الظلمات تزحف عليه من الخارج ومن الداخل منذ آلاف السنين، ولا تزال جحافلها ومسوخها وأشباحها تجوس فيه (جحافل ظلمات التسلط وخدمه وحشمه من مسوخ الفقر والذل والنفاق والغدر والقبح والملل ...).
لكنني أرجع وأقول: نعم يا نفسي، هذا هو بلدي. أعلم هذا منذ وعيت وفكرت وعلمت وكتبت وحاولت - وكم حاولت - أن أغير شيئا من نفسي أو مما حولي ومن حولي. كان الحظ رحيما بك عندما ولدت لأب تقي صارم جاد، وأم عطوف حنون، وعندما أحاطت بك وحنت عليك آلاف العيون والقلوب المحبة، ورعى دربك عشرات المعلمين والمربين و«الآباء» العظام. وكان طيبا ورحيما بك أيضا عندما قاسيت الفقر والوحدة، وذقت مرارة التجاهل والجحود، ووجدت نفسك وحيدا في مواقف الغدر والظلم والمهانة، وحوصرت بصغار الصغار وحقد الحاقدين وتضخم المتضخمين. وأقول لنفسي أيضا: إذا بقيت في هذا البلد فافعل - أقول افعل ولا أقول تكلم - وإذا تكلمت أو فكرت فليكن كلامك وفكرك دليل عمل وخطة فعل وتغيير وتحد لصور التخلف ومسوخ القبح. وإذا غادرته إلى بلد آخر - ربما لا تشعر فيه بالغربة التي حاصرتك في بلدك - فأنت تحمل - شئت ذلك أو لم تشأ - أثقال تاريخه وألواح قيمه - المظلومة المهدرة - في دمك، وتضع بلورته الصافية نصب عينيك دائما فتزداد حبا له وقربا من روحه وحقيقته. ومن يدري؟ ربما قدر قدرك الطيب الرحيم - مهما تصورت في كثير من الأحيان قسوته عليك! - أن تكون حلقة ضرورية في سلسلة أجيال وحضارات وصراعات ضرورية. وربما هتف صوت الزمن الآتي في لحظتك الراهنة، وقال لك على لسان أبنائه: نحن نغبطك على الأزمات التي عشتها، والمحن التي ألمت بك وعبرت عنها، ولو لم تعشها وتعبر عنها - أنت وأبناء جيلك ومن فاقكما موهبة وخيالا ونجاحا - فربما كانت خسارتنا فادحة، وربما لم يتح لنا أن نعرف شيئا عن تجربتكم التي تعكس من بعيد تجربة عصركم ومجتمعكم وحاضركم، الذي غدا اليوم ماضيا. ونحن نحسدك؛ لأن قلبك الصغير قد نبض في نفس الوقت مع قلوب عظيمة نعتز بعطائها، وعقول ملهمة نقدر اليوم روعة ما بذلت وقدمت. ومن يدري أيضا؟ ربما كنت - أنت ومن هم ألمع منك وأقدر - مرآة وضعت أمام عصرك ليتأمل فيها نفسه ويحاسبها ويحاول تغييرها، كما وضعت أمام بلدك، لعله يرى وجهه الحقيقي الذي تمنيت وتمنوا معك أن تكشفوا عنه الحجب والغيوم واللطخات التي شوهته، وأن تكونوا في النهاية ملمحا طيبا من ملامحه الأصيلة الطيبة. وأخيرا، تهتف بنفسك أو تهتف بك:
هذا البلد مكاني ... وهو مكان طيب لا أعدل به - مهما ابتعدت عنه بالروح أو بالجسد وباليأس أو التعفف - أي مكان آخر سواه.
وهذا الزمن زماني ... لا أملك إلا أن أحياه وأعانيه وأتحداه ...
ويوم يرتعش الطائر الأخضر الصغير في صدرك، حين يرى الصياد الأسود الملثم يقترب منك، ويسدد سهمه لقلبك، ويطويك في جرابه الذي لا يمتلئ أبدا ... يومها ادع الله أن يمهلك لحظة لتسأل نفسك: هل استطعت أن أغير شبرا واحدا من مكاني؟ هل تركت ورائي شعاعا واحدا يصارع ظلمات عصري وزماني؟ ادعه أن يمد في عمر وعيك لحظة واحدة تهمس فيها شفتاك:
هذا البلد مكاني.
هذا الزمن زماني.
الرجل الصغير، والبدء والمصير
كنت في أواخر الستينيات قد أهديت مجموعتي القصصية الأولى «ابن السلطان» لصديق كريم يشتغل بالنقد الأدبي والمسرحي، ومرت الأيام ولقيته صدفة، فهتف بي: منك لله! قلت ضاحكا: خير ... حصل مني شيء لا سمح الله؟ قال، وعلى وجهه أمارات الغضب أو الاستياء: بسببك مرضت أمي واختلت مواعيد نومها وصحوها فترة غير قليلة. أسرعت بإبداء الأسف والاعتذار: شفاها الله وعافاها ... ولكن كيف؟ قال كأنه يقرأ من عريضة اتهام: لما رأت مجموعتك القصصية في يدي طلبتها مني لتتسلى بها. كنا بعد العصر عندما بدأت تتصفحها في غرفتها، فلم تتركها من يدها قبل أن تنتهي من قراءتها مع أذان الفجر. قلت، وأنا أربت بفرح ومودة على ذراعه: عسى أن تكون الوالدة الكريمة قد رجعت لطبيعتها ... سلم عليها وقل لها إن سهرها مع قصصي المتواضعة هو أعظم شهادة تقدير نلتها حتى الآن. سألني وهو لا يزال متوترا: شهادة؟ ماذا تريد أن تقول؟ قلت، وأنا أمسك يده مودعا: لأنني أعتز بهذه الشهادة أكثر بكثير من عشر مقالات، تكتبها أنت أو غيرك من النقاد في مدح المجموعة أو ذمها. أرجوك أن تبلغها شكري وامتناني، وأطيب تمنياتي.
مضيت لحالي، وعلامات الدهشة والحيرة لا تزال ترتسم على وجهه. لكنني بقيت منذ ذلك الحين مشغول الفكر بقضية الإنسان العادي، الذي تمنى كل الكتاب في كل العصور والبلاد أن يصلوا إليه أو يصل إليهم. صحيح أنني لم أبتعد أبدا عن وجدان هذا الإنسان العادي، سواء في حياتي وعملي بالتدريس أو في بعض كتاباتي القصصية والمسرحية، بل وفي بعض بحوثي ودراساتي التي أعلم تمام العلم أنها ظلت بعيدة عنه كل البعد كما ظل بعيدا عنها، إلا أن القضية لم تزل تشغلني وتثير في نفسي بعض الأسئلة الخالدة والمستعصية من نوع السؤال: لماذا نكتب ولمن نكتب؟ وما قيمة ما نكتب أو جدواه إن لم يغير من الواقع ويؤثر على وعي الإنسان العادي وسلوكه؟
ربما طافت اليوم على ذهني وضميري هذه الأفكار والتساؤلات، بحكم التقدم في السن وعدم الإحساس بأي صدى حقيقي لآلاف الصفحات التي دوناها، أنا والكثيرون من أمثالي. وقد لجأت إلى مخزون زادي الثقافي المتواضع لتقديم هذه الخواطر عن الإنسان العادي أو الرجل الصغير كما يسمى في بعض اللغات الأجنبية، وكما يتمثل في بعض الأعمال الأدبية التي ترد الآن على خاطري من التراث الغربي، تاركا الكلام عن العامة والمهمشين في تراثنا وتاريخنا العربي والإسلامي إلى فرصة أخرى ...
في أيام شبابي كنت أقبل على قراءة بعض أعداد السلسلة المشهورة، التي كانت تنشر عيون التراث الأدبي والفكري الإنساني، وهي سلسلة «إيفري مان»: «كل إنسان». ظل الشعار المكتوب على الصفحة الأولى منها يهزني ويملك علي كياني، ويدفعني على الدوام إلى تصويب عيني إلى شفتي الإنسان العادي لأتذوق لغته، ووضع أذني على قلبه لأتسمع نبض قلبه وفرحه وهمه: «يا كل إنسان! سأسير إلى جوارك وأكون دليلك كلما اشتدت حاجتك لأن أكون بجانبك.» (وقد وردت العبارة على لسان الرجل العادي أو كل إنسان في إحدى مسرحيات العصور الوسطى الأخلاقية المعروفة بهذا الاسم.)
وفي رجولتي عشقت الشاعر الاشتراكي والكاتب والمخرج المسرحي «بريشت»، وقدمت للقارئ العربي عددا من مسرحياته وقصائده التي كان من أهمها قصيدة ما فتئت أمواجها تفور في أغوار الروح منذ أكثر من أربعين سنة مضت، وهي عن عامل بسيط يسأل أثناء القراءة، وربما تستطيع بعض سطورها أن تقربنا من موضوعنا: «من بنى طيبة ذات الأبواب السبعة؟ في الكتب نقرأ أسماء الملوك، فهل حملوا الأحجار فوق ظهورهم؟ وبابل التي تهدمت مرات عديدة، من الذي أعاد بناءها في كل مرة؟ وليلة تم بناء سور الصين، أين ذهب البناءون؟ روما العظيمة زاخرة بأقواس النصر، من أقامها؟ وبيزنطة التي طالما أشاد بمجدها المنشدون، هل كان سكانها جميعا يعيشون في القصور؟ الإسكندر الشاب فتح الهند، هل كان وحده؟ قيصر هزم الغاليين، ألم يكن معه طاه؟»
وتمضي القصيدة في أسئلتها التي تدور حول الرجل العادي الذي يصنع التاريخ، ومع ذلك أغفله التاريخ الذي كتبه مؤرخو الملوك والأمراء والوزراء والقواد، إلى أن بدأ مؤرخو الحضارة يتذكرونه منذ فولتير على أقل تقدير. وأخذت المدارس الجديدة للتاريخ الاجتماعي والشعبي في عصرنا الحاضر تهتم بدور العامة في صنع التاريخ، وسقوطهم كذلك ضحايا نكباته وكوارثه ونزوات المحركين له.
وتقلبت بي صروف الأيام والأعمال، فاطلعت على أعمال أخرى تضع «الرجل الصغير» في بؤرة الاهتمام، بل تجعله معيار الحكم السليم النابع من الحس والذوق الفطري السليم كلما جنحت بعض المدارس والاتجاهات الفكرية (مثل فلاسفة المثالية الذاتية) إلى الشطط، وأنكرت وجود الواقع المباشر أو جعلته معلقا بإدراكنا له، أو كلما أسرفت أجنحة الأدباء والفنانين في التحليق فوق سحب الغرائب والعجائب أو في الهبوط إلى أغوار المفارقات والمتناقضات تحت الواقع والشعور أو فوقهما. ولا يتسع المجال المحدود إلا للإشارة إلى رواية «أيها الرجل الصغير، ما العمل الآن؟» ل «هانز فالادا» (1893-1947م)، التي صورت هزيمة زوجين شابين بريئين وموتهما ضحية المحن الاجتماعية والأخلاقية خلال الأزمة الاقتصادية الطاحنة في أوائل الثلاثينيات، وكذلك الإشارة المخلة إلى «فلسفة الرجل العادي» التي أسسها رائد الفلسفة التحليلية الإنجليزية جورج مور (1873-1958م) على الثقة بالحس السليم أو «الكومون سنس»، الذي اعتمد عليه الناس دائما في حياتهم اليومية، واستندوا في أحكامهم على مقاييس صدقه وصوابه، واستمدوا منه مجموع آرائهم وقيمهم واقتناعاتهم.
إن التوجه للرجل العادي في حياته اليومية، والتعلم من شفتيه ومن همومه وآماله ورؤاه وإحباطاته الفردية والجماعية، ومحاولة النطق - كما يقول نيرودا - بصوت أولئك الذين صمتوا والتغني بأغاني الذين لم يعرفوا الغناء، ثم الاحتكام في كل ما يقال ويكتب أو يخطط للرجل العادي (الذي لا أحدده بالطبقة الاجتماعية بل بالانتماء للأرض والتاريخ) يمكن أن يمدنا بالإجابة الصحيحة على الكثير من أسئلتنا الحائرة. وربما يأخذ بأيدي الكثيرين منا ومن شباب الأدباء والفنانين والمثقفين، خارج متاهات الغموض والضياع والادعاء والتجارب العشوائية. قد يبدو «مرجع» الاحتكام هذا شيئا تحيط به هالة المجهول، التي تحيط عادة بما نسميه الشعب أو الجمهور. لكنني أقصد ببساطة أن نسأل أنفسنا على كل المستويات: لمن يتوجه هذا القول أو العمل، وعلى من يعود؟ هل يمكن أن يصب في نهر الجموع ويغير من حياتها المادية والمعنوية؟ إن الرجعة الحاسمة لما أسميه بالرجل العادي أو الرجل الصغير يمكن أن تكون هي المنطلق الأكيد، كما تكون هي التوجه والغاية من كل ما نحاول اليوم ونحقق فيه بعض التقدم أو نتعثر فيه: إصلاح التعليم والاقتصاد، استزراع الصحراء، إنقاذ القيم الثابتة من السقوط اليومي في مستنقعات اللاقيم الأنانية المسعورة، تحقيق خطوات حقيقية - لا إعلامية - على طريق النهضة والاستنارة والتقدم ... إلخ. وحين نرجع إلى الرجل العادي، لا أتصور أن يكون رجوع الأوصياء عليه، فبهذا المنطق قهرناه وحرمناه طويلا من حريته وحقوقه الأولية، ولا حتى بزعم التعلم من كنوز حكمته، فبهذا المنطق أيضا خدعناه وخدعنا أنفسنا، وأقمنا إمبراطورية الوهم والزيف والثرثرة، التي تتسلل داخل بيته وعقله وعقول أبنائه؛ لتكريس المزيد من الخداع والغيبوبة والضياع. إنما ينبغي التوجه إلى ضمير الرجل الصغير، الذي حمل أحجار تاريخنا على ظهره - الأهرامات والمعابد قديما، والإنشاءات والعمارات الشاهقة حديثا - وقنع بالنوم في المقبرة الطينية وفي الكوخ والبيت الشعبي الآيل للسقوط أو على الرصيف. الرجل الذي خرج ليلة النكسة ليشد بلحمه العاري أزر نظام مستبد فاشل، ومزق ثوبه أو جلبابه الوحيد في الجنازة المأسوية الشهيرة حزنا على البطل المأسوي، الذي آمن بصدقه، وأحس - على الأقل في بداية حكمه وبالرغم من طغيانه وأخطائه الجسيمة - بأنه يعيش له ويريد أن يغير ظروف حياته البائسة ...
وتسألني الآن، والشك والسخرية يطلان من عينيك: ما هذا الحلم المستحيل؟ وأين هو الرجل العادي أو الرجل الصغير الذي تزعم أنه صنع تاريخنا ولا يزال يصنعه، ويحافظ على قيمه وثوابته في وجدانه النقي البسيط؟ ألم يتم تخريبه هو أيضا وإفساده بكل أشكال القهر الظاهرة والخفية طوال العقود الأخيرة؟ ألم يرد إلى المستوى الطبيعي والحيواني حتى كان أن يتحول - كما قال توفيق الحكيم رحمه الله في مذاكرات وقته الضائع - إلى بطن يحشى بالطعام وجيب يحشى بالمال؟ ألم ترزح فوق صدره جبال الإحباط واليأس من صلاح الأحوال، حتى افترسه ما تسمونه - أيها المثقفون - بالاغتراب والاستلاب والاقتلاع من الجذور، والمرارة والقلق وغير ذلك مما تثرثرون فيه؟
الحق، إن هذه الأسئلة وأمثالها لا تدل إلا على فقدان الثقة والإيمان العظيم بذلك المجهول الحاضر أبدا، وهو الشعب. وتلك في تقديري هي أشنع الخطايا التي يمكن أن يسقط فيها حامل القلم، حتى ولو لم تشعر جموع هذا الشعب - لأسباب كثيرة - بما يكتبه ويعانيه للاقتراب منه والتعبير عنه (اللهم إلا في أعمال قليلة استطاعت أن تنفذ إليه من خلال السينما والإذاعة والتليفزيون). وإذا كنا لم نتعلم بعد كيف نفهمه ونعبر عنه، ولم نذهب بعد (وفي أيدينا السبورة والطباشير كما نصحنا سارتر بعد نزهة قصيرة في شارع السد بالسيدة زينب) إلى أهلنا في الريف والأحياء الشعبية، ولم نشارك مشاركة حقيقية في رفع المعاناة التي نتحدث عنها دون أن تخف عن كاهله مثقال ذرة، فإن الدعوة لاتخاذ الرجل الصغير مقياسا ومعيارا وميزانا - يذكرنا بميزان الحقيقة والعدل في يد ماعت! - لتمييز الحق من الباطل مما يدور في حياتنا. ربما تستطيع أن تحسم معظم المعارك أو أشباه المعارك التي نتصارع حولها ونهول من شأنها، ونعصب بها أعيننا عن رؤية الواقع اليومي ووجه الإنسان العادي. ومن يدري؟ ربما يكون الرجوع لهذا الرجل الصغير هو باب التوبة والتطهر من تجاهلنا له، وآثامنا في حقه وحق ما نسميه بالفكر والعلم والتعليم والفن والأدب والثقافة. وربما يكون كذلك بداية الطريق للعودة إلى ذواتنا الحقيقية، التي لن تجد نفسها إلا عندما تتوحد بهذا الآخر العزيز، وتلتحم به في «نحن» واحدة صلبة ومتماسكة.
وأخيرا، فإن الكلام عن «الرجل الصغير» وحقوقه علينا وواجباتنا نحوه، يمكن أن تتعدد شجونه وتتشعب مسالكه، ويمكن أن يثير من المشكلات والأسئلة أكثر بكثير مما يقدم من أجوبه. لكنني أشعر أن الرجوع إلى الإنسان العادي، أو الرجل الصغير بمثابة الرجوع إلى الحق بعد الضلال في متاهات الوهم والتضخم والتجاهل والجحود وخداع الذات ...
ناپیژندل شوی مخ