الميسر
في حياة الخلفاء الراشدين
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
2009 م-1430 ه
ماليزيا
((بهانج- دار المعمور ))
(( حقوق الطبع لكل مسلم ))الميسر ¶ في حياة الخلفاء الراشدين ¶ جمع وإعداد ¶ الباحث في القرآن والسنة ¶ علي بن نايف الشحود ¶ الطبعة الأولى ¶ 2009 م-1430 ه ¶ ماليزيا ¶ ((بهانج- دار المعمور )) ¶ (( حقوق الطبع لكل مسلم ))
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين،وعلى آله وصحبه أجمعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فهذا كتاب مختصر عن حياة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، يناسب الناشئة ، وقد كتب عنهم الكثير الكثير ... وأفضل من كتب عنهم من المعاصرين الدكتور علي الصلابي حفظه الله .... والحميدي ... والعمري ومحمود شاكر رحمه الله
وقد رتبته على الشكل التالي :
المبحث الأول - أبو بكر الصديق رضي الله عنه
نسبه
أبو بكر العتيق الصديق
مواقفه فى بداية الدعوة
أول خطيب فى الإسلام
جهاده بنفسه وماله
ومن فضائله رضي الله عنه
خلافته
جيش أسامة ...
حروب الردة ...
جيوش العراق والشام
استخلاف عمر
وفاته
وصية أبي بكر رضي الله عنه
مخ ۱
المبحث الثاني -عمر بن الخطاب رضي الله عنه من هو
إسلامه
لسان الحق
قوة الحق
عمر في الأحاديث النبوية
خلافة عمر
انجازاته
الفتوحات الإسلامية
هيبته وتواضعه
استشهاده
المبحث الثالث -عثمان بن عفان رضي الله عنه
نسبه
إسلامه
زواجه من ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
صفاته
تبشيره بالجنة
بيعة الرضوان
اختصاصة بكتابة الوحى
جيش العسرة
بئر رومة
توسعة المسجد النبوى
الخلافة
الفتوحات
مخ ۲
الفتنة استشهاده
المجتمع الإسلامي أيام عثمان
عبدالله بن سبأ ودوره في ظهور الفتنة
جمع أمراء الأمصار في موسم الحج
مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه
المبحث الرابع -علي بن أبى طالب رضي الله عنه
إسلامه
ليلة الهجرة ...
هجرته الى المدينة
غزواته فى سبيل الله
قضاؤه
صدقته وزهده وتواضعه
خلافته
معركة الجمل ...
مواجهة معاوية
الخوارج
استشهاده
وصيته عند وفاته
المجتمع الإسلامي أيام علي
المبحث الخامس -حروب الردة
المبحث السادس - الفتوحات الإسلامية أيام الراشدين ...
الفتوحات الإسلامية في عهد الصديق
الفتوحات في عهد عمر
مخ ۳
الفتوحات في عهد عثمان المبحث السابع -فضل الخلفاء الراشدين
والكتاب مبسط للغاية ، لتسهل قراءته وحفظه ..
أسال الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين .
قال تعالى : {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} (90) سورة الأنعام.
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 7 رمضان 1430 ه الموافق ل 28/8/2009 م
- - - - - - - - - - - - -
مخ ۴
المبحث الأول
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
نسبه
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي. يلتقي مع رسول الله في مرة بن كعب.
أبو بكر الصديق بن أبي قحافة.
وأمه أم الخير سلمى بنت صخر وهي ابنة عم أبي قحافة.
أسلم أبو بكر ثم أسلمت أمه بعده، وصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أبو بكر العتيق الصديق
لقب عتيقا لعتقه من النار وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أبو بكر عتيق الله من النار" فمن يومئذ سمي "عتيقا".
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن الله تعالى هو الذي سمى أبا بكر على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صديقا" وسبب تسميته أنه بادر إلى تصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولازم الصدق فلم تقع منه هنات ولا كذبة في حال من الأحوال.
وعن عائشة أنها قالت: "لما أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان آمن وصدق به وفتنوا به. فقال أبو بكر: إني لأصدقه في ما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبا بكر الصديق".
مواقفه فى بداية الدعوة
ولد أبو بكر سنة 573 م بعد الفيل بثلاث سنين تقريبا، وكان رضي الله عنه صديقا لرسول الله قبل البعث وهو أصغر منه سنا بثلاث سنوات وكان يكثر غشيانه في منزله ومحادثته فلما أسلم آزر النبي - صلى الله عليه وسلم - في نصر دين الله تعالى بنفسه وماله.
مخ ۵
كان أبو بكر رضي الله عنه من رؤساء قريش في الجاهلية محببا فيهم مؤلفا لهم، وكان إذا عمل شيئا صدقته قريش فلما جاء الإسلام سبق إليه، وأسلم من الصحابة على يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله
وكان أعلم العرب بأنساب قريش وما كان فيها من خير وشر. وكان تاجرا ذا ثروة طائلة، حسن المجالسة، عالما بتعبير الرؤيا، وقد حرم الخمر على نفسه في الجاهلية هو وعثمان بن عفان. ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر رضي الله عنه ما علم عنه حين ذكرته له" أي أنه بادر به.
ودفع أبو بكر عقبة بن أبي معيط عن رسول الله لما خنق رسول الله وهو يصلي عند الكعبة خنقا شديدا. وقال: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم}.
أول خطيب فى الإسلام
وقد أصاب أبا بكر من إيذاء قريش شيء كثير. فمن ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل دار الأرقم ليعبد الله ومن معه من أصحابه سرا ألح أبو بكر رضي الله عنه في الظهور،
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا أبا بكر إنا قليل. فلم يزل به حتى خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس ودعا إلى رسول الله، فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى
فثار المشركون على أبي بكر رضي الله عنه وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا. ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا. وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه،
فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى آخر النهار،
ثم تكلم وقال: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
مخ ۶
فعذلوه فصار يكرر ذلك فقالت أمه: والله ما لي علم بصاحبك.
فقال: اذهبي إلى أم جميل فاسأليها عنه وخرجت إليها وسألتها عن محمد بن عبد الله،
فقالت: لا أعرف محمدا ولا أبا بكر ثم قالت: تريدين أن أخرج معك؟
قالت: نعم. فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر فوجدته صريعا
فصاحت وقالت: إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم،
فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
فقالت: هذه أمك،
قال: فلا عين عليك منها أي أنها لا تفشي سرك.
قالت: سالم هو في دار الأرقم.
فقال: والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قالت أمه: فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجنا به يتكئ علي حتى دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق له رقة شديدة وأكب عليه يقبله وأكب عليه المسلمون كذلك
فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي، وهذه أمي برة بولدها فعسى الله أن يستنقذها من النار، فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاها إلى الإسلام فأسلمت.
ولما اشتد أذى كفار قريش لم يهاجر أبو بكر إلى الحبشة مع المسلمين بل بقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تاركا عياله وأولاده
هجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
أقام مع رسول الله في الغار ثلاثة أيام؛ قال الله تعالى: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.
ولما كانت الهجرة جاء رسول الله صلى الله عليه إلى أبي بكر وهو نائم فأيقظه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد أذن لي في الخروج
مخ ۷
قالت عائشة: فلقد رأيت أبا بكر يبكي من الفرح، ثم خرجا حتى دخلا الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام. وأن رسول الله لولا ثقته التامة بأبي بكر لما صاحبه في هجرته فاستخلصه لنفسه. وكل من سوى أبي بكر فارق رسول الله، وإن الله تعالى سماه "ثاني اثنين".
قال رسول - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: "هل قلت في أبي بكر شيئا؟" فقال: نعم.
فقال: "قل وأنا أسمع".
فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدو به إذ صعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا * من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، ثم قال: "صدقت يا حسان هو كما قلت".
جهاده بنفسه وماله
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرمه ويجله ويثني عليه في وجهه واستخلفه في الصلاة، وشهد مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان بالحديبية وخيبر وفتح مكة وحنينا والطائف وتبوك وحجة الوداع. ودفع رسول الله رايته العظمى يوم تبوك إلى أبي بكر وكانت سوداء، وكان فيمن ثبت معه يوم أحد وحين ولى الناس يوم حنين. وهو من كبار الصحابة الذين حفظوا القرآن كله.
وأعتق أبو بكر سبعة ممن كانوا يعذبون في الله تعالى وهم: بلال، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، والنهدية، وابنتها، وجارية بني مؤمل، وأم عبيس.
وكان أبو بكر إذا مدح قال: "اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم. اللهم اجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون".
قال عمر رضي الله عنه: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق ووافق ذلك مالا عندي. فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئت بنصف مالي.
فقال: ما أبقيت لأهلك؟
قلت: مثله.
وجاء أبو بكر بكل ما عنده.
مخ ۸
فقال: يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟
قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسبقه إلى شيء أبدا.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر"
فبكى أبو بكر وقال: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله.
ونزل فيه وفي عمر: {وشاورهم في الأمر} فكان أبو بكر بمنزلة الوزير من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يشاوره في أموره كلها.
مكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا". رواه البخاري ومسلم.
عن عمرو بن العاص: أن النبي عليه السلام بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة.
فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها.
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال : كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أما صاحبكم فقد غامر
فسلم وقال :( إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء ، فأسرعت إليه ثم ندمت ، فسألته أن يغفر لي ، فأبى علي فأقبلت إليك
فقال :( يغفر الله لك يا أبا بكر ) ثلاثا ،
ثم إن عمر ندم ، فأتى منزل أبي بكر ، فسأل :( أثم أبو بكر ) فقالوا :( لا )
فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم ، فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر ، حتى أشفق أبو بكر ، فجثا على ركبتيه فقال :( يا رسول الله ، والله أنا كنت أظلم مرتين )
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت ، وقال أبو بكر صدق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي ) مرتين فما أوذي بعدها
فضائله رضى الله عنه
وعن أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا.
مخ ۹
قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر: أنا.
قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة"
وعن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير. فتحركت الصخرة فقال النبي عليه السلام: "اهدأ فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد" رواه مسلم.
وعن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" رواه الترمذي.
وعن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: "أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار" رواه الترمذي.
ومن فضائله رضي الله عنه:
أن عمر بن الخطاب كان يتعاهد عجوزا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل فيستقي لها ويقوم بأمرها. فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت. فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها فرصده عمر فإذا الذي يأتيها هو أبو بكر الصديق، وهو خليفة. فقال عمر: أنت هو لعمري.
خلافته
رجع رسول الله من مكة بعد فراغه من حجة الوداع تلك الحجة التي ودع فيها - صلى الله عليه وسلم - أمته في خطبته الشهيرة , وأجمل فيها الإسلام وتعاليمه لمن حضر معه ولم يمكث بعد رجوعه إلا قليلا , حتى علاه الإعياء , وغلب عليه المرض , فصار لا يستطيع أن يخرج من بيته إلا بمشقة بالغة ورغم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتمتع بدرجة عالية من النشاط والقوة إلا أن الجهد المتواصل خلال سنوات الدعوة , والتي دامت قرابة ثلاثة وعشرين عاما قد ترك أثره عليه فشرع في تهيأة أبي بكر الصديق لتولى أمر المسلمين بعده , والقيام بأعباء الخلافة , حتى لا يحس المسلمون بفراغ كبير بعد رحيله.
مخ ۱۰
وجدير بالذكر أن رسول الله لم يرشح أبا بكر لخلافته إلا لأن فيه من المقومات التي يستطيع بها تحمل أعباء الخلافة ما لم يتوفر في غيره من سائر الصحابة , فقد لازمه طوال فترة البعثة , وراقب حركاته وسكناته , وتعرف منه كيف يواجه العظائم , ويتصدى للصعاب , ويدير أمور الدولة بحكمة ورشاد , وتعلم منه كيف يتعامل مع العدو والحبيب , وقرن الله ذكره بذكر رسول الله في قوله تعالى : " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.." التوبة 40 ورأى معه من آيات التأييد ما رسخ بها الإيمان في قلبه , ترسيخا يفوق رسوخ الجبال
فكان أول ما فعله - صلى الله عليه وسلم - أن كلف أبا بكر رضي الله عنه بإمامة المسلمين في الصلاة فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " وقد حدث أن غاب أبو بكر يوما , فقام عمر فصلى بالناس ,فلما كبر عمر سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوته فقال - صلى الله عليه وسلم - :"فأين أبو بكر ؟ !يأبى الله ذلك والمسلمون , يأبى الله ذلك والمسلمون " .
ثم صار يوكل إليه قضاء حوائج المسلمين , وينبههم إلى الرجوع إليه في الأمور التي كانوا يرجعون إليه فيها عند فقده , فقد جاءت إليه امرأة تسأله عن حاجة فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك - كأنها تقول الموت - قال - صلى الله عليه وسلم - : "إن لم تجديني فأتي أبا بكر". رواه البخاري في صحيحه.
ولما وجد في نفسه شيئا من العافية قبيل موته , خرج إلى المسجد يهادي بين رجلين من أصحابه ,فأراد أبو بكر أن يتأخر ويقدمه في الصلاة , فأومأ اليه - صلى الله عليه وسلم - أن مكانك ثم أتىحتى جلس الى جنبه , فصلى بصلاته .
وأعاد على مسامع المسلمين بعض فضائله , فقال :" فإني لا أعلم امرأ أفضل يدا عندي في الصحبة من أبي بكر .." وقال : "لو كنت متخذا من أمتي خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي " أخرجه البخاري في صحيحه.
مخ ۱۱
وطلب من المجاورين للمسجد , الذين كانت تفتح دورهم عليه مباشرة , أن يسدوا منافذهم تلك ؛ للحفاظ على نظافة المسجدفقال : ": سدوا هذه الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر " ؛ لأنه سيحتاج إلى الخروج إليه كل حين , وعلى غير ميعادللتباحث في أمر المسلمين , فيشق عليه تغيير مخرج بيته .
ثم بدأ يلمح للمسلمين بقرب أجله , حيث تمت رسالة الإسلام , وبلغ ما أنزل إليه من ربه أحسن بلاغ, فخرج - صلى الله عليه وسلم - على الناس فخطبهم , وتحلل منهم أي طلب من له عنده شيء أن يأتي ليأخذه منه , وفعل ذلك ورعا منه - صلى الله عليه وسلم - ثم قال لهم : " إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا , وبين ما عنده , فاختار ما عنده " فقال أبو بكر : بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال : على رسلك ( هون عليك ) يا أبا بكر , ثم جمع صلى الله عليه وسلم من كان غائبا من أصحابه فودعهم وعيناه تدمعان , ودعا لهم فقال : " أوصيكم بتقوى الله.. إني لكم نذير وبشير , ألا تعلوا على الله في بلاده وعباده , فإنه قال لي ولكم : " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " القصص 83.
وظل - صلى الله عليه وسلم - يتابع أمر قيام أبي بكر بالأمر دونه حتى الدقائق الأخيرة من حياته , فقد كشف - صلى الله عليه وسلم - ستار حجرته صباح اليوم الذي قبض فيه , فلما رأى الناس صفوفا خلف أبي بكر ,تبسم صلى الله عليه وسلم, فشعر به الصحابة في صلاتهم , وهم بعضهم أن يفسح له الصف , ليدخل لكنه عجز عن الخروج إليهم , وأشار إليهم أن مكانكم , وأسدل ستار غرفته , بعد رؤيته هذا المشهد الذي أثلج صدره , لتصعد روحه إلى باريها .
ورغم ذلك لم ينص - صلى الله عليه وسلم - على خلافة الصديق مباشرة ؛ لأنه لم يشأ أن يسلب المسلمين حقهم , وإرادتهم في اختيار من يقوم بشئونهم ويتولى أمرهم.
مخ ۱۲
قبض - صلى الله عليه وسلم - , وكانت وفاته صدمة لكل المسلمين , لم يستطع الكثير منهم تحمل أثرها , رغم إلماحات الرسول - صلى الله عليه وسلم - السابقة بدنوها، فمنهم من دهش فخولط , ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية؛لأن فقد عزيز عليه كرسول الله ليس بالأمر الهين , إلا أنأبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أهلا بالفعل للقيام بأعباء المهمة التي أعده النبي لها , فما إن أعلم بوفاته حتى جاء سريعا من منزل له بالسنح خارج المدينة , ودخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكشف عن وجهه وهو متمالك لنفسه وقبله قائلا:بأبي أنت وأمي طبت حيا ميتا , والذي نفسي بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبدا .
ثم خرج فوجد عمر رضي الله عنه يصيح بالحاضرين : "إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توفي , وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ما مات "فقال لعمر: "أيها الرجل ! أربع ( هون )على نفسك , فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات , ألم تسمع الله يقول :"إنك ميت وإنهم ميتون " وقال : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون" ؟ .
ثم أتى المنبر فصعده , وحمد الله , وأثنى عليه , ثم قال : ألا من كان يعبد محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإن محمدا قد مات , ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت , قال الله تعالى :" وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " فتلقاها منه الناس , وصاروا يرددونها , وظل بمن حوله من أهل المدينة , حتى خفف عنهم هول الفاجعة , وفاءوا إلى رشدهم بفيئه , وأمسوايدربون أنفسهم على الحياة دون رسول الله , وعلى الصبر على فراقه , وعلى البحث في شئونهم العامة والخاصة .
وكان أول أمر نظروا فيه هو ( من يخلف رسول الله عليهم ,ومن ينهض بالأمر بعده - صلى الله عليه وسلم - ) لأنهم كرهواكما قال سعيد بن زيد أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة , ولم يسندوا أمر الخلافة إلى أبي بكر الصديق مباشرة ؛ لأن رسول الله لم ينص على خلافته صراحة كما ذكر من قبل , والبعض من المسلمين وخاصة الأنصار لم يفهموا من الإشارات الضمنية التي وردت عن رسول الله في فضل أبي بكر أهليته للخلافة دون غيره.
مخ ۱۳
فاجتمع الأنصار في مكان لهم يسمى " سقيفة بني ساعدة" وتناقشوا في إمكانية استخلاف سعد بن عبادة, وكانت حجتهم في ذلك كما قال سعد بن عبادة : "لكم سابقة في الدين , وفضيلة في الإسلام ليست لأحد من العرب : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لبث في قومه بضع عشرة سنة , يدعوهم إلى عبادة الرحمن , وخلع الأنداد والأوثان , فما آمن به إلا القليل، ما كانوا يقدرون على منعه , ولا على إعزاز دينه , ولا على دفع ضيم، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة , ورزقكم الإيمان به وبرسوله , والمنع له ولأصحابه , والإعزاز له ولدينه , والجهاد لأعدائه , فكنتم أشد الناس على عدوه , حتى استقامت العرب لأمر الله ...وتوفاه الله وهو عنكم راض , وبكم قرير العين ".
ثم خرج من بينهم أسيد بن حضير فأتى أبا بكر ؛ ليعرض عليه وجهة نظر الأنصار هذه , فوجده وقد اجتمع إليه المهاجرون - أو من اجتمع إليه منهم - فلما أخبره بخبر الأنصار قال لمن حوله : " انطلقوا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيبا, فذهبوا حتى أتوهم " .
وبعد اطلاعه على ما عزموا عليه , ومعرفة وجهة نظرهم قال : " أنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين , ولا سابقتهم في الإسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله , وجعل إليكم هجرته ... ,وإنكم لا تذكرون منكم فضلا إلا وأنتم له أهل .
ثم بين لهم أن هذه الأمور ليست كفيلة بجعل الخلافة فيهم ؛ لأن العرب بما جلبت عليه من عصبية لن ترضى أن تدين لأحد من غير قريش , قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وفي أثناء النقاش قال رجل من الأنصار: " منا أمير ومنكم أمير " فاحتج عمر بأنه لا يصح أن يكون للمسلمين أميران , لأن رسول الله حذر من ذلك , وقال (أي عمر) ":هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم.
فأعاد أبوبكر الحديث , وذكر الأنصار بفضلهم , وبما غاب عن ذهنهم في شأن الخلافة فقال " : لقد علمتم أن رسول الله قال : لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا سلكت وادي الأنصار ، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم , فقال سعد : صدقت ، فنحن الوزراء وأنتم الأمراء , فقال أبو بكر : نعم"... لا تفاوتون بمشورة , ولا تقضي دونكم الأمور.."
مخ ۱۴
وزاد أبو عبيدة :يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر , فلا تكونوا أول من بدل وغير! فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار ! إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين , وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضى ربنا , وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك , ولا نبتغي به الدنيا، ألا إن محمدا، - صلى الله عليه وسلم - ، من قريش وقومه أولى به، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
ثم أعلنوا بيعتهم جميعا لأبي بكر بالخلافة بعد عبارة عمر المؤثرة : " أنشدكم بالله، هل أمر أبو بكر أن يصلي بالناس؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالوا: كلنا لا تطيب أنفسنا، نستغفر الله!.ويشعر عندها أبو بكر بثقل التبعة فيقول " أنت يا عمر أقوى لها منى , فيرد عليه : إن لك قوتى مع قوتك .
حدث كل ذلك يوم وفاة رسول الله , ثم جلس أبو بكر في اليوم التالي ؛ ليأخذ البيعة من سائر الناس, وأتته وفود العرب مجمعة على بيعته إلا المرتدين ,فقد سئل سعيد بن زيد : أشهدت وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم ، فال : فمتى بويع أبو بكر ؟ قال : يوم مات رسول الله صلى الله عليه فقيل له : هل خالف عليه أحد ؟ قال : لا إلا مرتد أو من قد كاد أن يرتد.
وقد زعم بعض الناس أن علي بن أبي طالب امتنع عن بيعته ثم بايعه مكرها ؛ لأنه كان يطمع في الخلافة لنفسه , وهذا افتراء على الرجل , إذ كان من المسارعين إلى بيعته , بعد فراغه من دفن رسول الله , ولم يصبر حتى يعود إلى بيته , ويغير من ملابسه , إذ جاء في تاريخ الطبري : لما سمع علي ببيعة أبي بكر خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء ؛ عجلا حتى بايعه، ثم استدعى إزاره ورداءه فتجلله.( تاريخ الرسل والملوك : ج 2 / ص 119)
ولما سئل بعد ذلك عن خلافة الصديق قال: " قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر فصلى بالناس، وإني لشاهد غير غائب، وإني لصحيح غير مريض، ولو شاء أن يقدمني لقدمني، فرضينا لدنيانا من رضيه الله ورسوله لديننا " (أسد الغابة :ج 2 / ص 149).
بتلكم الصورة تمت بيعة أول خليفة للمسلمين , لتعلن للناس أجمعين أن الحاكم في الإسلام لابد أن يكون خير الناس وأرجحهم عقلا , وأقدرهم على تولي التبعات , وفي نفس الوقت هم أصحاب الحق في اختياره , لا يفرضه عليهم أحد مهما علت مكانته.
مخ ۱۵
ومن العجب أن البعض ممن يرون في كل مزية من مزايا الإسلام عيبا يعيبون على المهاجرين والأنصار تعدد آرائهم في أمر الخلافة قبل أن يتفقوا على أبي بكر, مع أن هذا هو قمة ما ينادي به أنصار الديمقراطية والحرية حديثا.
جيش أسامة
وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد في سبعمائة الى الشام ، فلما نزل بذي خشب -واد على مسيرة ليلة من المدينة- قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتدت العرب حول المدينة ، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله فقالوا : يا أبا بكر رد هؤلاء ، توجه هؤلاء الى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة ؟!
فقال : والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رددت جيشا وجهه رسول الله ولا حللت عقده رسول الله فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا :( لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم )
فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام
حروب الردة
بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ارتدت العرب ومنعت الزكاة ، واختلف رأي الصحابة في قتالهم مع تكلمهم بالتوحيد ، قال عمر بن الخطاب : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ؟!
فقال أبو بكر : الزكاة حق المال
وقال : والله لأقاتلن من فرق الصلاة والزكاة ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها
ونصب أبو بكر الصديق وجهه وقام وحده حاسرا مشمرا حتى رجع الكل الى رأيه ، ولم يمت حتى استقام الدين ، وانتهى أمر المرتدين
مخ ۱۶
جيوش العراق والشام ولما فرغ أبو بكر -رضي الله عنه- من قتال المرتدين بعث أبا عبيدة الى الشام وخالد بن الوليد الى العراق ، وكان لا يعتمد في حروب الفتوحات على أحد ممن ارتد من العرب ، فلم يدخل في الفتوح إلا من كان ثابتا على الإسلام
استخلاف عمر
عقد أبو بكر في مرضه الذي توفي فيه لعمر بن الخطاب عقد الخلافة من بعده، ولما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف. فقال: أخبرني عن عمر.
فقال: يا خليفة رسول الله هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة.
فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه. ويا أبا محمد قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء، أراني الرضا عنه، وإذا لنت أراني الشدة عليه، لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئا. قال: نعم.
ودخل على أبي بكر طلحة بن عبيد الله. فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم، وأنت لاق ربك فسائلك عن رعيتك؟
فقال أبو بكر وكان مضطجعا: أجلسوني. فأجلسوه. فقال لطلحة: "أبالله تفرقني أو بالله تخوفني، إذا لقيت الله ربي فساءلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك"؟.
وأشرف أبو بكر على الناس من حظيرته وأسماء بنت عميس ممسكته موشومة اليدين وهو يقول:
"أترضون بمن أستخلف عليكم فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا
فقالوا: "سمعنا وأطعنا".
دعا أبو بكر عثمان خاليا. فقال له: اكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر ابن أبي قحافة إلى المسلمين. أما بعد" ثم أغمي عليه فذهب عنه. فكتب عثمان: "أما بعد فإني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا"
ثم أفاق أبو بكر فقال: "اقرأ علي فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال:
"أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي".
مخ ۱۷
قال: نعم. قال: "جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله" وأقرها أبو بكر رضي الله عنه من هذا الموضع. فأبو بكر كان يرى ويعتقد أن عمر بن الخطاب خير من يتولى الخلافة بعده مع شدته. والحقيقة أنه كان كذلك.
وفاته
وكانت وفاة أبي بكر رضي الله عنه يوم الإثنين 22 جمادى الآخرة في السنة الثالثة عشرة من هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبذا تكون خلافته، سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام.
وإذا كانت الفتوحات الإسلامية في عهد الصديق تبدو ضيقة الرقعة إلا أننا يجب أن نضع في خلدنا الملاحظات التالية :
1 قصر مدة خلافة الصديق.
2 القضاء على حروب الردة التي شملت الجزيزة كلها.
3 كانت المعارك التي جرت في عهد الصديق بين المسلمين من جهة والفرس والروم من جهة ثانية، قد أرهبت أعداء الإسلام، وأظهرت قوة المسلمين وإمكاناتهم القتالية.
مخ ۱۸
شعر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بشيء من الراحة النفسية بعد أن قضى على المرتدين، وانطلقت الفتوحات في كل الجهات، وتحطم كبرياء الدولتين الكبريين اللتين كانتا تقفان في وجه الدعوة، وتدعمان المرتدين، وتستنفران قواتهما ومن والاها من العرب المتنصرة، كل ذلك في سبيل القضاء على الدولة الجديدة، وفي الوقت نفسه، فقد شعر أن مهمته في الحياة قد انتهت، فقد توطد الأمر، وثبت كيان الإسلام، وسيتابع الأمر الخلفاء من بعده، كما زاد شعوره في هذا الأمر أن سنه قد اقترب من سن حبيبه ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - عندما فارق الحياة الدنيا وانتقل إلى الرفيق الأعلى. كما شعر أن استخلاف رجل من بعده وهو على قيد الحياة، يجنب المسلمين الكثير من الصعاب، وقد أشفق عليهم أن يختلفوا ويزهد في هذا المنصب أهله، ويبتعد عنه من يستحقه، وقد تداعى إلى ذهنه ما حدث عند وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما لم يخطر على بال المسلمين وفاة نبيهم، وحين ثقل عليهم مصابهم، والأمر لا بد له من خليفة يطبق منهج الله في الأرض. إذن لا بد من استخلاف رجل يخلفه، ولا بد من الاستشارة، ولاح في ذهنه أولئك الصحابة الذين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستشيرهم، وكبرت في نفسه شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومواقفه في الإسلام، وقوته في الحق، وهيبته في النفوس، ونظرة المسلمين إليه، ولكن كان لا بد من أخذ رأيهم واستشارتهم، ولو كان الأمر منهم لكان أفضل.
وشعر أبو بكر بالمرض، واشتد عليه وثقل فجمع عددا من الصحابة المعروفين الذين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشاورهم في الأمر، وقال لهم : إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميتا لما بي، وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي.
فقاموا في ذلك فلم يستقم لهم أمر، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا : رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال : فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده.
دعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب : فقال له: ما تسألني عنه أمرا إلا وأنت أعلم به مني. فقال له: وإن، فقال عبد الرحمن : هو أفضل من رأيك فيه.
ثم دعا عثمان بن عفان، فقال له مثل ذلك، فقال : علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر : يرحمك الله، والله لو تركته ما عدوتك.
ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد : اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.
وكذلك استشار سعيد بن زيد وعددا من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريبا كانوا برأي واحد في عمر إلا رجل خاف من شدته، وقد عاتبه بعضهم باستخلافه فقال أبو بكر : لا والله ولا نعمة عين، هو والله خير لكم، والله لو وليتك لجعلت أنفك في السماء ولرفعت نفسك فوق قدرك حتى يكون الله هو الذي يضعك، تريد أن تردني عن رأيي وتفتني في ديني ؟ فوالله لئن بلغني أنك عصيته أو ذكرته بسوء لأفعلن ولأفعلن... ثم دخل على أبي بكر عثمان وعلي فقال لهما مباشرة لعلكما تقولان في عمر ما قال فلان آنفا ؟
مخ ۱۹
قالا : وماذا قال يا خليفة رسول الله ؟
قال : زعم أن عمر أحدثكم إسلاما و....
فقال عثمان رضي الله عنه : بئس لعمر الله ما قال فلان، عمر بحيث يحب من قوته مع سابقته.
وقال علي رضي الله عنه : بئس ما قال، عمر عند ظنك به، ورأيك فيه، إن وليته مع أنه كان واليا معك نحظى برأيه ونأخذ منه، فامض لما تريد، ودع مخاطبة الرجل فإن يكن على ما ظننت إن شاء الله فله عمدت، وإن يكن مالا تظن لم ترد إلا الخير.
ودخل عبد الرحمن بن عوف على أبي بكر الصديق يعوده في مرضه الذي مات فيه فوجده مقنعا، فقال له عبد الرحمن : أصبحت بحمد الله بارئا، فقال : أبرء ذاك ؟ قال : نعم، قال : أما إني على ذلك لشديد الوجع ولما لقيت منكم أيها المهاجرون أشد علي من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم رغم أنفه أن يكون له الأمر دونه ورأيتم الدنيا قد أقبلت، ولما تقبل، وهي مقبلة، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي(1) كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان(2)، والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد، خير له من أن يخوض غمرات الدنيا، ثم أنتم غدا أول ضال بالناس يمينا وشمالا، لا تضيعوهم عن الطريق، يا هادي الطريق جرت، إنما هو الفجر أو البجر(3). فقال له عبد الرحمن :حفظ الله عليك يرحمك الله فإن هذا يهيضك إلى ما بك، إنما الناس في أمرك رجلان : إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل رأى ما لم تر فهو يشير عليك بما يعلم، وصاحبك كما تحب أو كما يحب، ولا نعلمك أردت إلا الخير، ولم تزل صالحا مصلحا مع أنك لا تأسى على شيء من الدنيا.
مخ ۲۰