بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو القاسم: الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي:
هذا ما حثثت - أدام الله لك العز والتأييد، والتوفيق والتسديد - على تقديمه من الموازنة بين أبي تمام حبيب أوس الطائي وأبي عبادة الوليد بن عبيد البحتري في شعريهما، وقد رسمت من ذلك ما أرجو أن يكون الله ﷿ قد وهب فيه السلامة، وأحسن في اعتماد الحق وتجنب الهوى المعونة منه برحمته.
ووجدت - أطال الله عمرك - أكثر من شاهدته ورأيته من رواة الأشعار المتأخرين يزعمون أن شعر أب يتمام حبيب بن أوس الطائي لا يتعلق بجيده جيد أمثاله، ورديه مطروحٌ ومرذول؛ فلهذا كان مختلفًا لا يتشابه، وأن شعر الوليد ابن عبيد البحتري صحيح السبك، حسن الديباجة، وليس فيه سفسافٌ ولا ردي ولا مطروح، ولهذا صار مستويًا يشبه بعضه بعضًا.
1 / 3
ووجدتهم فاضلوا بينهما لغزارة شعريهما وكثرة جيدهما وبدائعهما، ولم يتفقوا على أيهما أشعر، كما لم يتفقوا على أحدٍ ممن وقع التفضيل بينهم من شعراء الجاهلية والإسلام والمتأخرين، وذلك كمن فضل البحتري، ونسبه إلى حلاوة اللفظ، وحسن التخلص، ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقرب المآتي، وانكشاف المعاني، وهم الكتاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة، ومثل من فضل أبا تمامٍ، ونسبه إلى غموض المعاني ودقتها، وكثرة ما يورد مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني والشعراء أصحاب الصنعة ومن يميل إلى التدقيق وفلسفي الكلام. وإن كان كثير من الناس قد جعلهما طبقة، وذهب إلى المساواة بينهما. وإنهما لأن البحتري أعرابي الشعر، مطبوعٌ، وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ ووحشي الكلام؛ فهو بأن يقاس بأشجع السلمي ومنصور وأبي يعقوب المكفوف وأمثالهم من المطبوعين أولى، ولأن أبا تمام شديد التكلف، صاحب صنعةٍ، ومستكره الألفاظ والمعانين وشعره لا يشبه أشعار الأوائل، ولا على طريقتهم؛ لما فيه من
1 / 4
الاستعارات البعيدة، والمعاني المولدة، فهو بأن يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه، وعلى أنى لا أجد سبكة وصحة معانيه، ويرتفع عن سائر من ذهب هذا المذهب وسلك هذا الأسلوب؛ لكثرة محاسنه وبدائعه واختراعاته.
ولست أحب أن أطلق القول بأيهما أشعر عندي؛ لتباين الناس في العلم، واختلاف مذاهبهم في الشعر، ولا أرى لأحد أن يفعل ذلك فيستهدف لذم أحد الفريقين؛ لأن الناس لم يتفقوا على أي الأربعة أشعر في امرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى، ولا في جرير والفرزدق والأخطل، ولا في بشار ومروان والسيد، ولا في أبي نواس وأبي العتاهية ومسلم؛ لاختلاف آراء الناس في الشعر، وتباين مذاهبهم فيه.
فإن كنت - أدام الله سلامتك - ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق فالبحتري أشعر عندك ضروةً. وإن كنت تميل إلى الصنعة، والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة، ولا تلوى على غير ذلك فأبو تمام عندك أشعر لا محالة.
1 / 5
فأما أنا فلست أفصح بتفضيل أحدهما على الآخر، ولكني أوازن بين قصيدتين من شعرهما إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية، وبين معنى ومعنى، فأقول: أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي ذلك المعنى، ثم أحكم أنت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما إذا أحطت علمًا بالجيد والردئ.
وأنا أبتدئ بما سمعته من احتجاج كل فرقة من أصحاب هذين الشاعرين على الفرقة الأخرى، عند تخاصمهم في تفضيل أحدهما على الآخر، وما ينعاه بعضٌ على بعضٍ؛ لتتأمل ذلك، وتزداد بصيرة وقوة في حكمك إن شئت أن تحكم، أو اعتقادك فيما لعلك تعتقده مع احتجاج الخصمين به:
١ - قال صاحب أبي تمام: كيف يجوز لقائل أن يقول إن البحتري أشعر من أبي تمام وعن أبي تمام أخذ، وعلى حذوه احتذى، ومن معانيه استقى؟ وباراه حتى قيل: الطائي الأكبر، والطائي الأصغر، واعترف البحتري بأن جيد أب يتمام خيرٌ من جيده، على كثرة جيد أبي تمام؛ فهو بهذه الخصال أن يكون أشعر من البحتري أولى من أن يكون البحتري أشعر منه.
1 / 6
٢ - قال صاحب البحتري: أما الصحبة فما صحبه ولا تلمذ له، ولا روى ذلك أحدٌ عنه، ولا نقله، ولا رأى قط أنه محتاج إليه، ودليل هذا الخبر المستفيض من اجتماعهما وتعارفهما عند أبي سعيدٍ محمد بن يوسف الثغري وقد دخل إليه البحتري بقصيدته التي أولها:
أأفاق صبٌ من هوى فأفيقا؟
وأبو تمام حاضر، فلما أنشدها علق أبو تمام أبياتًا كثيرة منها، فلما فرغ من الإنشاد أقبل أبو تمام على محمد بن يوسف فقال: أيها الأمير، ما ظننت أحدًا يقدم على أن يسرق شعري وينشده بحضرتي حتى اليوم، ثم اندفع ينشد ما حفظه. حتى أتى على أبيات كثيرة من القصيدة، فبهت البحتري، ورأى أبو تمام الإنكار في وجه أبي سعيد محمد بن يوسف، فحينئذ قال له أبو تمام: أيها الأمير، والله ما الشعر إلا له، وإنه أحسن فيه الإحسان كله، وأقبل يقرظه ويصف معانيه، ويذكر محاسنه، ثم جعل يفخر باليمن، وأنهم ينبوع الشعر، ولم يقنع من محمد بن يوسف حتى أضعف للبحتري الجائزة.
فهذا الخبر الشائع يبطل ما ادعيتم؛ إذ كان من يقول هذه القصيدة التي هي من عين شعره وفاخر كلامه، وهو لا يعرف أبا تمام إلا أن يكون بالخبر،
1 / 7
يستغنى عن أن يصحبه أو يتلمذ له أو لغيره في الشعر.
وقد أخبرني أنا رجلٌ من أهل الجزيرة - ويكنى أبا الوضاح، وكان عالما بشعر أبي تمام والبحتري وأخبارهما - أن القصيدة التي سمعها أبو تمام من البحتري عند محمد ابن يوسف وكان أول اجتماعهما وتعارفهما القصيدة التي أولها:
فيم ابتدار كما الملام ولوءا؟
وأنه لما بلغ إلى قوله فيها:
في منزلٍ ضنكٍ به القنا ... بين الضلوع إذا انحنين ضلوعا
نهض إليه أبو تمام فقبل بين عينيه: سرورًا به، وتحفيًا بالطائية، ثم قال: أبى الله إلا أن يكون الشعر يمنيًا.
٣ - قال صاحب أبي تمام: إلا أنه - مع هذا - لا ينكر أن يكون قد استعار بعض معاني أب يتمام؛ لقرب البلدين، وكثرة ما كان يطرق سمع البحتري من شعر أبي تمام فيعلق شيئًا من معانيه، معتمدًا للأخذ أو غير معتمد.
1 / 8
وليس ذلك بمانع من أن يكون البحتري أشعر منه؛ فهذا كثير قد أخذ من جميل، وتلمذ له، واستقى من معانيه، فما رأينا أحدًا أطلق على كثير أن جميلًا أشعر منه، بل هو - عند أهل العلم بالشعر والرواية - أشعر من جميل. وهذا ابن سلام الجمحي ذكره في كتاب الطبقات في الطبقة الثانية من شعراء الإسلام، وجعله مع البعيث والقطامى، وذكر أنه عند أهل الحجاز خاصة أشعر من جرير والفرزدق والأخطل، وجعل جميلا في الطبقة السادسة مع عبد الله بن قيس الرقيات والأحوص ونصيب، إلا أنه قال: إن جميلًا يتقدمه في النسيب. وهذا غير مقبول منه؛ لأنه إنما يحكيه عن نفسه، وأهل الحجاز إنما قدموا كثيرا من أجل نسيبه، وحسن تصرفه فيه. وقد حكى عن جرير أنه قال في بعض الروايات: كثير أنسبنا.
1 / 9
ويدل على تقدمه في النسيب قول أبي تمام في قصيدة يمدح بها أبا سعي الكاتبي أولها:
من سجايا الطلول أن لا تجيبا
لو يفاجى ركن المديح كثيرًا ... بمعانيه خالهن نسيبا
طاب فيه المديح والتذ، حتى ... فاق وصف الديار والتشبيبا
أراد أن كثيرًا لو فاجأه هذا المديح - على حسن نسيبه - لخاله نسيبا، وخص كثيرًا لشهرته بالنسيب وبراعته، واحتمل ضرورة الشعر، ورد كثيرا إلى التكبير فقال كثيرًا ولم يقل جميلا ولا جريرًا ولا غيرهما، مما لا ضرورة في اسمه. وعلى أن كثيرًا قد ذكر اسمه في شعره مكبرًا: إما ضرورة، وإما اعتمادًا لتفخيم اسمه وأن لا يأتي به محقرًا، فقال:
وقال لي الواشون: ويحك؟ إنهابغيرك حقا يا كثير تهيم
وقد ذكر أبو تمام كثيرًا في مواضع أخر فجاء به مكبرًا في قصيدة يمدح بها الحسن بن وهب ويصفه بالبلاغة، وهو قوله:
1 / 10
فكأن قسا في عكاظٍ يخطب ... وكثير عزة يوم بين ينسب
وذلك لعلم أبي تمام بتقدم كثير في النسيب على غيره، وشهرته بالتجويد فيه، على أن جميلا لا شعر له مما يعتد به إلا في النسيب والغزل.
فقد علمتم الآن أن هذه خلةٌ لا توجب لكم تفضيل أب يتمام على البحتري من أجل أنه أخذ شيئًا من معانيه.
وأما قول البحتري " جيده خير من جيدي، ورديئي خير من رديئه " فهذا الخبر - إن كان صحيحًا - فهو للبحتري، لا عليه؛ لأن قوله هذا يدل على أن شعر أبي تمام شديد الاختلاف، وشعره شديد الاستواء، والمستوى الشعر أولى بالتقدمة من المختلف الشعر، وقد اجتمعا - نحن وأنتم على أن أبا تمام يعلو علوا حسنًا وينحط انحطاطًا قبيحًا، وأن البحتري يعلو بتوسط، ولا يسقط، ومن لا يسقط ولا يسفسف أفضل ممن يسقط ويسفسف.
والذي نرويه عن أبي علي محمد بن العلاء السجستاني - وكان
1 / 11
صديق البحتري - أنه قال: سئل البحتري عن نفسه وعن أبي تمام، فقال: هو أغوص على المعاني مني وأنا أقوم بعمود الشعر منه وهذا هو الذي يعرفه الشاميون، دونن غيره.
وسمعت أبا علي محمد بن العلاء أيضًا يقول: كان البحتري عند نفسه أشعر من أبي تمام ومن سائر الشعراء المحدثين.
وقد ذكر أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح في كتابه الذي ذكر فيه أخبار الشعراء نحوًا من ذلك.
قال أبو علي محمد بن العلاء: كان البحتري إذا شرب وأنس أنشد شعره، وقال: ألا تسمعون؟ ألا تعجبون؟ قال: وكان - مع هذا - أحسن الناس أدب نفسٍِ، لا يذكر شاعر محسنٌ أوغير محسنٍ إلا قرظه، ومدحه، وذكر أحسن ما فيه.
قال أبو علي: ولم لا يفعل ذلك؟ وقد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر، وذهب بخيرهم، وانفرد بأخذ جوائز الخلفاء والملوك دونهم؟. فلو لم يفعل ذلك إلا استكفافًا وحذرًا من بيت واحد يندر فيبقى على الزمان لكان من الحظ له أن يفعله.
1 / 12
قال: وكذلك كان أبو علي دعبل بن علي الخزاعي يهجو الملوك والخلفاء ولا يكاد يعرض لشاعر إلا ضرورة، وقد حذر في أول كتابه الذي ألفه في الشعر من التعرض للشاعر، ولو كان من أدون الناس صنعة في الشعر، وقال: رب بيت جرى على لسان مفحم قيل فيه " رب رميةٍ من غير رامٍ " فسارت به الركبا، ولذلك يقول في بعض شعره:
لا تعرضن بمزحٍ لامرئٍ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جاريةٌ ... مشئومةٌ لم يرد إنماؤها نمت
ثم نرجع إلى قول الخصمين: ٥ - قال صاخب أب يتمام: فأبو تمام انفرد بمذهبٍ اخترعه، وصار فيه أولًا وإمامًا متبوعًا، وشهر به حتى قيل: هذا مذهب أب يتمام، وطريقة أب يتمام، وسلك الناس نهجه، واقتفوا أثره، وهذه فضيلة عرى عن مثلها البحتري.
٤ - قال صاحب البحتري: ليس الأمر لاختراعه لهذا المذهب على ما
1 / 13
وصفتم، ولا هو بأول فيه، ولا سابق إليه، بل سلك في ذلك سبيل مسلم، واحتذى حذوه وأفرط وأسرف، وزال عن النهج المعروف، والسنن المألوف، وعلى أن مسلمًا أيضًا غير مبتدع لهذا المذهب، ولا هو أولٌ فيه، ولكنه رأى هذه الأنواع التي وقع عليها اسم البديع - وهي: الاستعارة، والطباق، والتجنيس - منشورة متفرقة في أشعار المتقدمين، فقصدها، وأكثر في شعره منها، وهي في كتاب الله ﷿ أيضًا موجودة، قال الله تعالى: " واشتعل الرأس شيبًا " وقال ﵎: " وآيةٌ لهم الليل نسلخ منه النهار " وقال: " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة "؛ فهذه من الاستعارة التي هي مجاز في القرآن. وقال امرؤ القيس:
فقلت له لما تمطى بجوزه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل
فجعل الليل يتمطى، وجعل له إردافا وكلكلًا. وقال زهير:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله
1 / 14
فجعل للصبا أفراسًا ورواحل. وقال طفيلٌ الغنوى:
وجعلت كورى فوق ناجيةٍ ... يقتات شحم سنامها الرحل
فجعل الرحل يقتات السنام وقال لبيدٌ الجعفي:
وغداة ريحٍ قد كشفت وقرةٍ ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فجعل للشمال يدًا، وللغداة زمامًا؛ فهذه كلها استعارات.
وقال الله جل وعز في التجنيس: " وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين "، " فأقم وجهك للدين القيم " وقال النبي ﷺ: " عصية عصت الله ورسوله، وغفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله ". وقال القطامى:
ولما ردها في الشول شالت ... بذيالٍ يكون لها لفاعا
1 / 15
وقال أيضًا:
كنية الحي من ذى القيظ فاحتملوا ... مستحقبين فؤادًا ما له فاد
وقال جرير:
وما زال معقولًا عقالٌ عن الندى ... وما زال محبوسًا عن المجد حابس
وقال ذو الرمة:
كأن البرى والعاج عيجت متونه ... على عشرٍ يؤمى به السيل أبطح
وقال ارمؤ القيس:
لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسنى من دائه ما تلبسا
وقال الفرزدق:
خفاف أخف الله عنه سحابه ... وأوسعه من كل سافٍ وحاصب
ذكر ذلك كله أبو العباس عبد الله بن المعتز في كتاب البديع. قال: ومن الطباق قول الله تعالى: " ولكم في القصاص حياةٌ "
1 / 16
وقال النبي ﷺ: " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع ". وقال زهير:
ليثٌ بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
فطابق بين الصدق والكذب. وقال طفيلٌ الغنوى:
بساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مبذول
فطابق بين قوله " يصان " وبين قوله " مبذول ".
فتتبع مسلم بن الوليد هذه الأنواع، واعتدها، ووشح شعره بها، ووضعها في موضعها، ثم لم يسلم مع ذلك من الطعن، حتى قيل: إنه أول من أفسد الشعر، روى ذلك أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح، قال: وحدثني محمد بن قاسم بن مهرويه، قال: سمعت أبي يقول: أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد، ثم اتبعه أبوتمام، واستحسن مذهبه، وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خالٍ من بعض هذه الأصناف، فسلك
1 / 17
طريقًا وعرًا واستكره الألفاظ والمعاني، ففسد شعره، وذهبت طلاوته، ونشف ماؤه؛ وقد حكى عبد الله بن المعتز في هذا الكتاب الذي لقبه بكتاب البديع أن بشارًا وأبا نواس ومسلم بن الوليد ومن تقيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم. ثم إن الطائي تفرع فيه، وأكثر منه، وأحسن في بعض ذلك، وأساء في بعض، وتلك عقبى الإفراط، وثمرة الإسراف.
قال: وإنما كان الشاعر يقول من هذا الفن البيت والبتين في القصيدة، وربما فرئ في شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيتٌ واحدٌ بديعٌ، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى قدرًا، ويزداد حظوة بين الكلام المرسل. وقد كان بعضهم يشبه الطائي في البديع بصالح بن عبد القدوس في الأمثال، ويقول: لو كان صالحٌ نثر أمثاله في تضاعيف شعره وجعل منها فصولا في أبياته لسبق أهل زمانه، وغلب على ميدانه. قال ابن المعتز: وهذا أعدل كلامٍ سمعته.
قال صاحب البحتري: فقد سقط الآن احتجاجكم باختراع أبي تمام لهذا المذهب وسبقه إليه، وصار استكثاره منه وإفراطه فيه من أعظم ذنوبه، وأكبر عيوبه، وحصل للبحتري أنه ما فارق عمود الشعر وطريقته المعهودة، مع ما بحده كثيرًا في شعره من الاستعارة والتجنيس والمطابقة، وانفرد بحسن العبارة،
1 / 18
وحلاوة الألفاظ، وصحة المعاني، حتى وقع الإجماع على استحسان شعره واستجادته، وروى شعره واستحسنه سائر الرواة على طبقاتهم واحتلاف مذاهبم؛ فمن نفق على الناس جميعا أولى بالفضيلة، وأحق بالتقدمة.
٥ - قال صاحب أبي تمام: إنما أعرض عن شعر أبي تمام من لم يفهمه؛ لدقة معانيه، وقصور فهمه عنه، وفهمه العلماء والنقاد في علم الشعر، وإذا عرفت هذه الطبقة فضيلته لم يضره طعن من طعن بعدها عليه.
٦ - قال صاحب البحتري: إن ابن الأعرابي وأحمد بن يحيى الشيباني - وقبلهما دعبل بن علي الخزاعي - قد كانوا علماء بالشعر وكلام العرب، وقد علمتم مذاهبهم في أبي تمام، وازدراءهم بشعره، وطعن دعبل عليه، وقوله: إن ثلث شعره محالن وثلثه مسروق، وثلثه صالح. وروى أبو عبد الله محمد بن داةد بن الجراح في كتاب الشعراء عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن الهيثم بن داود عن دعبل أنه قال: ما جعله الله من الشعراء، بل شعره بالخطب والكلام المنثور أشبه منه بالشعر، ولم يدخله في كتابه المؤلف في الشعراء.
1 / 19
وقال ابن الأعرابي في شعر أب يتمام: إن كان هذا شعرًا فكلام العرب باطلٌ، روى ذلك أبو عبد الله محمد ابن داود عن البحتري عن ابن الأعرابي. وحكى محمد بن داود أيضًا عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن حذيفة بن محمد - وكان عالمًا بالشعر - أنه قال: أبو تمام يريد البديع فيخرج إلى المحال. وروى عنه أنه قال: دخل إسحاق بن إبراهيم الموصلي على الحسن بن وهب وأبو تمام ينشده، فقال له إسحاق: يا هذا لقد شددت على نفسك. وذكره أيضًا أبو العباس عبد الله بن المعتز في كتاب البديع. وغير هؤلاء العلماء ممن أسقط شعره كثيرٌ: منهم أبو سعيد الضرير، وأبو العميثل الأعرابي صاحبا عبد الله بن طاهر " القيمان بأمر خزانة الحكمة " بخراسان، وكانا من أعلم الناس بالشعر، وكان عبد الله بن طاهر لا يسمع من شاعر إلا إذا امتحناه وأنشدهما شعره ورضياه، فقصدهما أبو تمام بقصيدته التي يممدح فيها عبد الله بن طاهر وأولها:
هن عوادي يوسف وصواحبه ... فعزمًا فقدمًا أدرك الثأر طالبه
1 / 20
فلما سمعا هذا الابتداء أعرضا عنه، وأسقطا القصيدة، حتى عاتبهما أبو تمام، وسألهما النظر فيها، فلولا أنهما ظفرا ببيتين مسروقين فيها استحسناهما فعرضا القصيدة على عبد الله بن طاهر وأخذا له الجائزة لكان قد افتضح، وخابت سفرته، وخسرت صفقته، والبيتان:
وركب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه
لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه
أخذ معنى البيت الأول من قول البعيث:
أطافت بعثٍ كالأسنة هجدٍ ... بخاشعةٍ الأصواء غبرٍ صحونها
وأخذ معنى البيت الثاني من قول الآخر:
غلام وغى تتحمها فأبلى ... فخان بلاءه الدهر الخؤون
وكان على الفتى الإقدام فيها ... وليس عليه ما جنت المنون
ولما أوصلا إليه الجائزة قالا له: لم تقول مالا يفهم؟ فقال لهما: لم لا تفهمان ما يقال؟ فكان هذا مما استحسن من جوابه.
وهذا أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، ما
1 / 21
علمناه دون له كبير شيء، وهذه كتبه وأماليه وإنشاداته تدل على ذلك، وكان يفضل البحتري، ويستجيد شعره، ويكثر إنشاده، ولا يميله؛ لأن البحتري كان باقيًا في زمانه، أخبرنا أبو الحسن الأخفش قال: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد المبرد يقول: ما رأيت أشعر من هذا الرجل، يعني البحتري، لولا أنه ينشدني لما أنشدكم لملأت كتبي وأمالي من شعره.
قال صاحب البحتري: فقد بطل احتجاجكم بالعلماء، وتفضيلكم شعره.
٧ - قال صاحب أب يتمام: أما احتجاجكم بدعبل فغير مقبولٍ ولا معولٍ عليه؛ لأن دعبلًا كان يشنأ أبا تمام ويحسده، وذلك مشهور معلوم منه؛ فلا يقبل قول شاعر في شاعر، وأما ابن الأعرابي فكان شديد التعصب عليه؛ لغرابة مذهبه، ولأنه كان يرد عليه من معانيه ما لايفهمه ولا يعلمه، فكان إذا سئل عن شيء منها يأنف أن يقول لا أدري فيعدل إلى الطعن عليه، والدليل على ذلك أنه أنشد يومًا أبياتًا من شعره، وهو لا يعلم قائلها، فاستحسنها وأمر بكتبها، فلما عرف أنه قائلها قال: خرقوا
1 / 22