28

متوالي صالح

المتوالي الصالح

ژانرونه

لا أدري ماذا أكتب الآن، ولم يعد لي في هذه البلاد من أحد ألوذ به وأعتمد عليه، فقد قضت الحرب على شقيقي العزيز، فقضى شهيد الواجب، رحمه الله. وكان مصابنا الفادح علة اعتلال صحة أبي الذي قضى إلى رحمة الله حزنا وأسى على محمد، ولم تمهل المنية والدتي إلا مدة قصيرة بعد ذلك، فترى كيف نزلت بنا النوازل، وكانت والدتك لي كأم حنون، فشاء الله أن يحرمني إياها وعم المصاب، ولولا بقية أمل بلقياك لكنت الآن في عداد من ذكرت، رحمة الله عليهم أجمعين.

ولقد شاهدت سعدى ابنة عمك منذ أيام، فعلمت منها أنك تسأل عني، فعلمت أن لي في العالم الجديد سندا يعوض علي ما خسرته في الوطن العزيز.

وإن ما نزل بي من الكوارث أثر على صحتي فاعتلت قليلا، ولكن تغيير الهواء أياما وما علمته عنك قد جدد همتي وحسن صحتي، وأرجو أن أراك قريبا في نيويورك؛ لأنني ذاهبة لحضور مؤتمر للتعليم، وربما أبقى هنالك إذا ساعدني الحظ، وتوفقت إلى دخول مدرسة في تلك الديار، فأستودعك الله إلى اللقاء في نيويورك في آخر الشهر القادم.

تلا سليم هذا الكتاب مرارا، ورأى أن هيفاء حافظت في كتابها كل المحافظة على ألا تذكر شيئا عن حبها له، فعلم أنها لم تختر في تلك الفرصة التي أنبأته فيها بوفاة والديها وشقيقها ووفاة والدته وتعزيته أن تطيل الكلام عن الشوق والغرام، ولكنه علم من كتابها أنها باقية على العهد لم تفتكر بسواه، وهذا ما كان يرجو أن يعلمه من أمرها، فأصبح يعد الأيام والساعات للقاء.

اللقاء

علم سليم بميعاد وصول الباخرة التي تقل هيفاء، فكان أول من ذهب إلى الميناء غير مصدق أن هيفاء ستصل إلى نيويورك قريبا، وكاد قلبه يطير شعاعا حين سمع صفير الباخرة، ورأى المسافرين ينزلون إلى البر، وكان قد بذل جهده مع موظفي قلم المهاجرين لتسهيل نزول أعضاء المؤتمر من السوريين. وبينما هو يتأمل وجوه المسافرين رأى سيدة جميلة، ظنها أول الأمر أوروبية تدنو منه، وتنظر إليه فحول ذلك بصره نحوها، فعرف هيفاء واقترب منها، وبغتت هي؛ إذ رأت سليما، ولم تكن تنتظره في ذلك المكان، فتصافح الصديقان وضغط على يدها، ثم خرج من دائرة الجمرك إلى حيث تنتظرهما سيارة سليم فركباها، وسار سليم بهيفاء إلى حيث أعد لأعضاء المؤتمر مكان خاص به، وما كان أعظم سرورهما بالاجتماع.

أوصل سليم هيفاء إلى حيث كانت تقصد، وقال: سأتركك الآن ريثما تستريحين من تعب السفر وتغيرين ملابسك، وسأعود إليك مساء حينما تكونين قد انتهيت من العمل، فآخذك في سيارتي لمشاهدة هذه البلدة العظيمة.

فشكرته ومضى وهي تفكر في كيف مهد الدهر لها سبيل الاجتماع بسليم بعد هذا الفراق الطويل، وكيف أن حوادث السنوات الماضية مع ما فيها من نكبات حلت بها انتهت إلى هذا اللقاء السعيد، فشكرت الله الذي بدد أحزانها، وأحيى في قلبها الرجاء بعد اليأس، ومهد لها سبيل اللقاء بمن يحبه قلبها، ويحبها بكل ما في قلبه من حرارة ووداد. واستراحت قبل اجتماع المؤتمر أياما شاهدت في خلالها سليما مرارا، فجددا ما بينهما من مودة، ووجد كل منهما في الآخر ما كان يرجو أن يجده فيه من حب وإخلاص وأنفة وأدب وعلو نفس وحسن تربية، وغير ذلك مما يقرب بين القلوب.

ولما حان ميعاد عقد المؤتمر الذي جاءت سعدى لأجله استعدت لإلقاء محاضرة عما كلفت بدرسه، وعرضت ما كتبته على سليم، فسر جدا بآرائها، وشجعها على إلقاء محاضرتها الإنكليزية بصوت جهوري دون أن تأخذها روعة أو تخشى كثرة المجتمعين.

علم سليم من هيفاء كل ما جرى لها ولأهلها، وكيف نكبت بأخيها ووالديها، وكيف كان الشيخ صالح في كل تلك الأدوار عنوان الصداقة والإخاء وأكبر معز لوالديها حتى حم القضاء، وأنها لم تعد تقدر أن تذهب إلى قريتها بعد كل ما أصابها، وقد زارها الشيخ صالح قبل سفرها، وكلفها إهداء سليم سلامه القلبي، فقال سليم: لا أنسى الشيخ صالح ما دمت في قيد الحياة، فهو الذي كان سبب إنقاذك من ذلك الفاجر الشرير، وأكبر مساعد على إرسالك للمدرسة، فنعم الرجل هو.

ناپیژندل شوی مخ