26

متوالي صالح

المتوالي الصالح

ژانرونه

فلما وصل إلى العمروسة قابله الشيخ صالح، وعلم منه ما كان، فتأثر جدا وقال: «هذا هو الداء العياء الذي ليس منه شفاء، هؤلاء الذين يغارون على الدولة والدين هم أعداء الدولة والدين. ألا من منقذ من هؤلاء! العلم! العلم! نور العرفان! وهدى للذين يؤمنون. قاتل الله الجهل، فهو علة هذا الشقاء! ألا من مصلح عاقل حازم يقضي على الجهل والتعصب الأعمى، فيريح العباد ويصلح البلاد ويرقي الأخلاق؟»

وبينما هو يحدثه بمثل هذا الكلام إذا بهم يرون بعض أبناء القرية قادمين نحوهم، فهنئوا الشيخ يوسف الهلالي بعودته سالما، وسألوه عن محمد، فقال: لم أعرف عنه شيئا، ولا استطعت أن أستفهم من أحد، فأخذ أحدهم جريدة قال إن طيارة رمت بها من حالق، ففتحها الشيخ صالح وقرأها، فإذا بها جريدة مصرية قذفت بها الطيارة من حالق؛ لتعلم الناس بأمر الحرب، وفيها أن جيش القوقاس قد حلت به نكبة كبيرة ففني معظمه وتشتت الباقون، فوقع هذا على الجميع وقوع الصاعقة، ولعنوا الساعة التي اشتبكت فيها الدولة بهذه الحرب الهوجاء، ثم علموا ما كان من أمر الشيخ يوسف، وما جرى له في دمشق فتأثروا جدا، وهنئوه بالسلامة وانصرفوا مكتئبين.

مضت سنة على هذه الحادثة وأهل العمروسة كلما ذكروها تأثروا مما جرى للشيخ يوسف، وفي أحد الأيام جاء بلدتهم رجل من حوران، وأخبرهم بأن العرب انضموا للإنكليز الذين فتحوا بئر السبع وكسروا الأتراك وأن لهم أعوانا في البلاد يؤيدونهم سرا، فنظر الشيخ صالح إلى يوسف الهلالي، وقال : «هل تظن أن العرب قاموا على الأتراك عبثا؟» ثم أنشد متأثرا:

أعطيت ملكا فلم تحسن سياسته

وكل من لا يسوس الملك ينزعه

هذا ما قاله الشاعر، وهذا ما أصابنا.

لقد كانت دولتنا أكبر الدول شأنا وأعظمها قوة، فأصبحت لا حول لها ولا طول، ولولا أموال الألمان وقواد الألمان لاندحر الجيش التركي من قبل، ولكن تأكد يا يوسف أن الجندي التركي الباسل يقاتل بكل ما أوتي من عزيمة وصدق نية وإيمان، ولكن ما رأيت في الشام ترى مثله في بيروت وأكثر منه في الأستانة، فالناس هنا وهنالك سواء، بل كل يسعى إلى غرضه غير ناظر إلى مصلحة سواه، وكل يقول «من بعدي الطوفان.» فكيف تصلح حال بلاد والناس فيها غير معتقدين بإصلاح الأحوال، بل إن فريقا يحب أن يتخلص من هذا النير الثقيل، نير عدم الاستقرار، ويود لو أن البلاد تخرج من هذه الحالة التي لا قرار لها إلى حالة يعلم الإنسان منها ما يكون، ولو لم يكن ذلك على حسب ما يشتهي ويريد «الله أكبر» وا خيبتاه! وا ذلاه! ضاعت أمانينا وآمالنا بالإصلاح الداخلي، فهل يرسل لنا الله خيرا ممن نحن فيه؟ أم نخرج من الظلم والاستبداد، ثم توضع في أعناقنا أغلال الاستعباد، نخلص من الاستئثار، فنقع في الاستعمار، نخلص من استعباد أخينا الجاهل، فنقع في أسر عدو عاقل.

هل لنا أمل في تكسير الأصفاد والخروج من هذا الاستعباد؟

إن العرب لم ينضموا للإنكليز عبثا، ولا بد أن يكونوا قد نالوا من الوعود ما حملهم على القيام ضد دولتهم، ولكن وعود المستعمرين خلابة وأعمالهم على عكس ما يعدون.

ثم وجم قليلا، وقال: «يا يوسف، استبشر خيرا، فالإنكليز أفضل المستعمرين، وإنهم إذا دخلوا البلاد أصلحوها، وأغنوا أهلها، ولم يتعرضوا لدينهم أو لتقاليدهم، فهم من هذا القبيل أفضل الأسياد، ولقد علمت أن الشريف انضم إليهم، وهم وعدوه بتأييد في إنشاء دولة عربية، فعسى أن يتم ذلك فنكون قد جنينا من الحرب ثمرة الجهاد، وحققنا أملا طالما جال في الفؤاد، فهاك مصر إني زرتها قبل الاحتلال الإنكليزي وزرتها من عهد قريب، فأين العهدان؟! فالناس اليوم أحرار في مصر أكثر مما هم أحرار في سوريا أو أي بلاد إسلامية مستقلة، وهم لا يكادون يشعرون بالاحتلال إلا إذا خرجوا عن القانون، أو أرادوا استعمال سلطة لا خير منها للبلاد، ولولا ما تهيم به النفوس من حب الحرية والاستقلال لقلت: إن مصر المحتلة أكثر حرية من تركيا المستقلة وإيران المستقلة، وأي بلاد إسلامية أخرى، بل إن شيوخ الدين في مصر أفضل حالا وأوفر نعمة وأسعد حظا من سواهم في بقية الأقطار؛ فهم يضمنون مرتباتهم ويأمنون على أرواحهم وأرزاقهم، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ناپیژندل شوی مخ