18

متوالي صالح

المتوالي الصالح

ژانرونه

كانت على أحر من الجمر لغياب ابنها عنها، وهي تسأل زوجها كل يوم عنه، وهو يحاول أن يجد الأعذار لتغيب سليم مخافة أن تعلم والدته بأمره فلا ترضى أن تتركه وحده حيث هو، ولم يكن يرغب في أن تذهب إلى «العمروسة»؛ خوفا من ألا توافقها الإقامة أو لا تطيب لها عشرة نسائها، ولم يكن يعلم شيئا من أمر هيفاء وأمها؛ وإلا لما تأخر عن إنباء امرأته بما كان، والسماح لها بالذهاب إلى حيث تستطيع أن تمد يدها لمساعدة وحيدها الذي تفديه بالروح.

وحدث أن سليما أرسل كتابا لوالده مع أحد أهل العمروسة الذي ذهب إلى زحلة لقضاء بعض الحاجات، فلم يجد الرجل سمعان إلياس في محله، فقصده إلى منزله، فعلم منه أهل الدار بما كان، ولكن طمأنهم أن الطبيب سيسمح لسليم بالعودة قريبا، فقلقت والدة سليم وأرسلت، فاستدعت زوجها، وأعربت عن كدرها الشديد لعدم إخبارها بما كان، وقالت: كيف يصاب ابني الحبيب بمكروه ولا أكون إلى جانبه أضمد جراحه وأسليه في وحدته؟ آه! ما أقسى قلوب الرجال! كيف تكتم عني مثل هذا الخبر؟ والآن يجب أن أذهب حالا إلى حيث يكون ابني وآتي به بأول فرصة ممكنة، فلا يقيم بين أولئك القساة القلوب.

قال: «بل هم أعطف من أهله عليه وأطيب الناس أخلاقا، ومتى عرفت الحقيقة من سليم تجدين أن الجماعة الذين أقام بينهم هم مثل أهله يعاملونه كما نعامله نحن لو كان بيننا.» فأصرت على الذهاب، وأخيرا رضخ لإرادتها راجيا أن تنتظر إلى صباح اليوم التالي ريثما يدبر أشغاله، ويرسل خبرا لسليم وأصحاب الدار التي يقيم فيها، ويعد عربة توصلهما إلى أقرب نقطة تسير فيها العربة، ويوصي على جوادين يقابلونهما إلى هناك، واشترى سمعان هدايا فاخرة لصاحبه يوسف وأهل بيته، وأرسلها مع المكاري.

وفي صباح اليوم التالي ذهب مع امرأته إلى العمروسة، وكان سليم ينتظرهما على أحر من الجمر، فلما وصلت والدته ووجدت دلائل الصحة والعافية بادية عليه سري عنها، وشكرت أهل البيت لعنايتهم به.

وأقبل أهل القرية للسلام على سمعان وامرأته، فكان الرجال يقصدون علية كبيرة فرشت بالسجاد، ووضع على أرضها طنافس مختلفة وما يسمونه في تلك الجهة «طراريح» كثيرة حول الغرفة وقرب العامود الذي يتوسطها، وكانت النساء في مقصورة الحريم التي يفصلها فاصل خشبي عن محل إقامة الرجال، فلقي والد سليم ووالدته من الإكرام ما جعلهما يشكران أهل القرية، وشعرت والدة سليم بعطف خاص نحو أهل تلك القرية، وأحبت امرأة يوسف الهلالي وابنتها اللطيفة حبا جما، ولما اجتمعت في المساء بزوجها وابنها على انفراد أعربت عن سرورها، وقالت: إنها لم تكن تظن أنها ستجد في تلك القرية النائية عن العمران مثل هذا النظام والتدبير في المنزل، وكانت قد شاهدت بستان صاحب الدار الكائن أمام منزله، وهو يروى من ماء نبع غزير يمر في وسطه، فأعجبها تنسيق الأشجار، ولحظت الفرق بين هذا البستان في ترتيب الأشجار وعدم الإكثار من الزرع وحسن الذوق في اختيار المتناسبات وبين بقية البساتين التي مرت بها في الطريق، وكانت قد سمعت عن الشيخ صالح وماله من التأثير على أهل قريته، فقالت: لا بد أن يكون لهذا الرجل الصالح نفوذ أدبي كبير على أهل قريته فهو بعلمه وفضله وسعة اطلاعه وما شهده في الخارج كان أكبر معوان لأهل القرية على إصلاح أمورهم وانصرافهم للأعمال المنتجة مستعينين بأفضل الطرق وأتمها نظاما.

وأعجبت أم سليم بامرأة مضيفها وابنتها، ولم تكن تعلم بأية علاقة بين الفتاة وابنها، فانفردت به يوما، وقالت: لم أكن أظن يا بني أنك تقيم بين قوم متمدنين، بل كنت أحسب أهل هذه القرية فلاحين قذرين - كما يظن أكثر الناس - ولكنني وجدت أهل هذا البيت على خلاف ذلك، فهم لا يفرقون في شيء عن أهل زحلة من حيث النظافة وحسن الضيافة، وإن اختلفوا عنهم قليلا في العادات، وامتدحت أمامه صاحبة الدار وابنتها التي قالت: إنها أحبتها كواحدة من أهلها، وشعرت من أول نظرة أن هنالك جاذبا قويا يربطها بها، وأخبرته أن الفتاة تميل إلى دخول المدرسة، وأنها أقنعت والدتها بفائدة ذلك، ووعدتها أنها إذا قبلت تأخذها معها إلى بيروت، وتجعلها تحت عنايتها مدة إقامتها هنالك كما لو كانت ابنتها، فطربت الفتاة لذلك، وأما أمها فبقيت صامتة، ولكنها شكرت أم سليم لاهتمامها بالأمر.

نزلت هذه الكلمات على قلب سليم نزول المطر على الأرض العطشانة، وأصبح أمله كبيرا بأن تفوز هيفاء بأمانيها وتحقق رغائبها، وتسنح لها الفرصة التي ترتجيها للدخول إلى المدرسة، فتظهر عبقريتها وما فيها من ذكاء.

وفي اليوم التالي لهذا الحديث برح سمعان إلياس وزوجته وابنه العمروسة شاكرين أهلها - وخصوصا آل الهلالي - لما لقوه في منزلهم من الكرم والإكرام، وتمنوا لو كان لهم حظ أوفر بالبقاء أياما في تلك القرية الجميلة، ودعوهم أخيرا للذهاب إلى زحلة؛ حيث يكونون أعز الأضياف عليهم وأقرب الناس إليهم.

المدرسة

في أوائل شهر أكتوبر قبل افتتاح المدارس ببضعة أيام، بينما كان سمعان إلياس وأهل بيته جالسين في صباح ذات يوم على شرفة منزلهم، يتناولون قهوة الصباح، وإذا بهم ينظرون رجلا وامرأتين مسلمتين من بعيد، وهم يدنون نحو منزلهم، فنهض سليم لفتح البوابة، وكان قلبه دليله، وقامت والدته لإعداد ما يلزم، ولما تبين أهل الدار القادمين خف سمعان إلياس نحو صديقه يوسف الهلالي، فحياه ورحب به وبمن معه، ودعاهم للدخول إلى المنزل، ثم أقبلت أم سليم ترحب بالسيدتين، وأدخلتهما على الرحب والسعة، وأظهر جميع أهل البيت مزيد السرور بالضيوف الكرام.

ناپیژندل شوی مخ