قال: جربي أولا إقناع أهلك ونرى بعدئذ ما يكون.
ودعت هيفاء سليم بعد أن جرى بينهما هذا الحديث الطويل، وهي تود ألا تخرج من أمامه لولا خوفها من الفضيحة والعار، وكان هو أكثر منها قلقا؛ لأنه كان يعتقد أن وجودها في غرفته باعث للريبة مع أنه كان سعيدا جدا برؤيتها، مبتهجا بسماع كل كلمة من كلماتها.
مر عليه يومان كانا كأنهما سنتان، لم ير في خلالهما هيفاء ولا علم شيئا عن والده.
وفي صباح اليوم الثالث حضر الطبيب ونزع الرباط وطمأنه بأنه يستطيع أن يغادر العمروسة بعد أسبوع؛ لأن الكسر قد جبر وأنه يستطيع القيام قليلا في غرفته والمشي خطوة بعد أخرى، وبينما هو يحاول القيام، إذ لم يكن أحد في المنزل، شعر بحركة خارج الغرفة، ثم سمع صوتا لطيفا، يقول: «الحمد لله على السلامة.» فالتفت إلى الوراء ورأى هيفاء تبتسم له، وتقول: «شاء الحظ أن يخدمني اليوم أيضا، فأنا وحدي الآن هنا، وقد جئت لأرى ماذا تحتاج إليه من الخدمات، ولأرى إذا كنت رأيت شيئا في قريتنا حرك قريحتك الوقادة فأسمع منك ما يحلو ويطيب.»
قال: أي شعر ينظمه رجل متألم موجوع؟!
قالت: يظهر أن قريتنا لا تحرك القريحة الشعرية، ومن فيها لا يستحقون نظم الشعر، وسكتت قليلا.
فحار سليم في أمره، وقال: لا، بل أرجو أن تسنح لي فرصة أخرى أكون فيها صحيح الجسم والعقل، فأنظم في وصف العمروسة ومن فيها من الشعر ما يليق بالمنظوم لأجلهم، والآن ما لنا وللشعر، فالشعراء في كل واد يهيمون، وأنا الآن كطير في قفص لا يحلو له التغريد، فدعينا من الشعر وأخبريني هل نجحت مع والدتك ورضيت أن ترسلك إلى المدرسة؟
قالت: لا، بل إن والدي لم يسمحا لي بذلك، ولما فاتحت شقيقي بالأمر هزأ بي، وقال: إنه سوف يرسلني إلى مدرسة العالم أتعلم فيها الأمومة عند زوج غني، وأنا أعلم ذلك الزوج المقصود، فهو خامل الذكر مجرم أثيم، جمع من المال مبلغا كبيرا جله، اجتمع لديه من عرق الفلاحين المساكين الذين كانوا يشتغلون له ليلا ونهارا، ثم يأكل أجورهم وتعبهم متعللا تارة برداءة العمل، وأخرى بمحل الموسم أو الخسارة، وهو معروف بلؤم طباعه وخسته، ويقال: إنه كان في بادئ أمره سفاحا أثيما، فلما جمع ثروته أخذ يتظاهر بالوجاهة، وما هو إلا أفاك لئيم. - ولكن الناس إذا رأوا رجلا غنيا احترموه وأحبوه دون أن يعلموا أو يبالوا بمعرفة الطريقة التي توصل بها إلى غناه. - لا وقت لدينا الآن للإطلالة، فأنا أثق بك وأعلم أنك كأبيك صدقا وإخلاصا، وحيث إنني أطلعتك على سري فأرجو أن تمدني برأيك الصائب، ولا تتركني فريسة الأقدار؛ فإنني أفضل الموت ألف مرة على أن أكون زوجة لذلك الغني الشرير، أو بالأحرى عبدة لشهواته فيلتصق اسمه المخزي بي، وإنني أقول لك الحق الصراح، وهو أنك الوحيد الذي فاتحته بهذا الأمر الذي يتوقف عليه مستقبل حياتي، ولا أعلم ما جرأني على ذلك أو دفعني إلى مثل هذا العمل، ولكن ما سمعته عنك جعلني أن أثق بك وأعتمد عليك ، ففي كلمة منك سعادتي أو شقائي.
فأجاب سليم: «آه! ما أحرج مركزي الآن! فأنا بين عاملين؛ يدفعني الواحد لإنقاذك من هذه الحالة الوبيلة، ويجعلني الآخر أنظر إلى الأمور نظرة عملية وأترك المسألة لتدبير الله وشعور والديك، وما أخالهما يسمحان بشقائك إذا علما أن هذا الزواج لا يحلو في عينيك، ولا أظنهما يرغمانك على قبول هذا الزوج اللئيم.» - أنت لا تعلم العادات، فهما لا يرغمانني بالقوة، بل يجعلاني في حالة لا أستطيع معها التخلص من هذا الزوج السمج الفظ، الذي يظن أن النساء إنما خلقن لخدمة الرجل وإشباع شهواته، ولقد تزوج أربع نساء لا يستحق أن يكون خادما لإحداهن لو كان للأخلاق والصفات قيمة عندنا، وهن الآن يندبن حظهن العاثر، وطلق إحداهن منذ بضعة أيام بعد أن أشبعها إهانة وعذابا، ولعل ذلك تمهيدا لزواجه الجديد. - قاتله الله! فلن ينال قلامة ظفر منك.
قال سليم ذلك، وقد شعر بنار الغيرة تأكل قلبه، ودفعته الحماسة إلى أقصى حد؛ إذ تمثل لديه ذلك الملاك الطاهر في قبضة شيطان رجيم وفاجر شرير، يذل نفسها ويميت عواطفها الإنسانية، ويحط من أخلاقها العالية ويسبب لها الشقاء الأبدي. ثم عاد إلى نفسه، وقال: إنني أتداخل بما لا يعنيني، وهذا يجر إلي مشاكل لا مبرر لها. ثم نظر إلى هيفاء فرأى نور الذكاء يتوقد بين عينيها، وأثر الهمة والإقدام باديا عليها، فقال: وهل يليق أن تكون هذه الفتاة الفتانة امرأة رجل لا يرعى حرمة، ولا يحترم النساء ولا العواطف، ولا يعرف للطهارة والشرف معنى، ولم يعد يملك صوابه، فقال: لا تكونين - بإذن الله - إلا لمن تحبين وتريدين، ولمن يجل مقامك ويرعى حرمتك، ويحبك حبا يقرب من العبادة، فلا يكون له إلاك، وتكونين أنت ملاكه الحارس وفردوسه الأرضي، ومبعث سعادته وهنائه.
ناپیژندل شوی مخ