كان الأمر مخزيا، وكان بمثابة استجداء. لكن ما الضرر في ذلك؟ دوما نطرح على أنفسنا ذلك السؤال في مثل هذه اللحظات. وما الضرر في أي شيء؟ كلما ساء الأمر، كان أفضل. هذا ما نقوله لأنفسنا عند ركوبنا تلك الموجة اللامبالية من الطمع أو القبول الطامع. يد غريبة، خضراوات جذرية، أو أدوات المطبخ البسيطة التي يمزح الناس بشأنها، العالم مليء بالأشياء ذات المظهر البريء التي تنتظر اللحظة الملائمة للإعلان عن نفسها على نحو مراوغ وملزم. انتبهت روز لأنفاسها، لم تصدق ما كان يحدث؛ ضحية وشريكة في الجرم يحملها القطار مارا بمصنع جلاسكو للمربى وأنابيب معامل تكرير البترول الضخمة النابضة بالحركة. انحدر بعد ذلك القطار نحو الضواحي حيث رفرفت في إيحاء خبيث ملاءات الأسرة والمناشف المستخدمة في التخلص من بقع العلاقات الحميمية على حبال الغسيل، وحيث يمرح الأطفال ببذاءة في أفنية المدارس. تجلت أمام عينها كل هذه التصرفات الغريبة الخبيثة والمناظر المألوفة، وظهرت بوابات أرض المعارض وأبراجها، وحلقت القباب والأعمدة الملونة بشكل مذهل في السماء الوردية التي رأتها أسفل جفونها، ثم تفرقت معبرة عن الاحتفال. يشبه ذلك تجمع سرب من الطيور كالبجع البري أسفل إحدى القباب الضخمة، ثم إثارتها فجأة لتندفع محلقة في السماء.
حاولت روز جاهدة أن تمسك لسانها عن الكلام. وسرعان ما مر محصل التذاكر عبر القطار لتنبيه الركاب وإفاقتهم.
وفي الظلام الذي خيم على القطار بوصوله المحطة، أفاق قس الكنيسة المتحدة، وفتح عينيه، وطوى جريدته، ثم سأل روز إن كانت بحاجة لأية مساعدة في معطفها. عكست كياسته رضا عن الذات وإبعادا لروز وكأنه يصرفها عنه. أجابت روز قائلة: «لا.» بلسان متألم، فنزل من القطار مسرعا أمامها. لم تره في المحطة، ولم تره قط بعد ذلك في حياتها، لكنه ظل موجودا في ذاكرتها لسنوات طوال مستعدا للظهور في اللحظات المهمة دون أي احترام، فيما بعد، محل زوج أو حبيب. ما الذي كان يزكيه لديها؟ لم تستطع فهم ذلك أبدا. ربما بساطته، أو تعجرفه، أو افتقاره للوسامة على نحو جذاب، بل وللذكورة الناضجة أيضا. فعندما نهض بجانبها، لاحظت أنه أقصر مما كانت متصورة، وأن وجهه وردي ولامع، وكان به شيء يعلن عن عدائية وفجاجة ولكنه في ذات الوقت شيء طفولي.
هل كان قسا حقا؟ أم ادعى ذلك؟ تحدثت فلو عن رجال ليسوا برجال دين، لكنهم يرتدون ملابسهم، لكنها لم تذكر شيئا عن رجال دين لا يرتدون ملابس القساوسة، أو الأغرب من ذلك من ليسوا قساوسة حقيقين، لكنهم يدعون أنهم كذلك ولا يرتدون ملابس القساوسة. إلا أن اقترابها بهذه الدرجة مما حذرتها منه فلو جعلها تشعر بالانزعاج. سارت روز في محطة «يونيون ستيشن» شاعرة بالمحفظة المحتوية على عشرة دولارات وهي تحتك بجسدها، وعلمت أنها ستظل تشعر بها طوال اليوم.
لم تتوقف عن تذكر رسائل فلو لها، حتى بعد أن حدث ذلك الأمر. وهي في محطة «يونيون ستيشن»، تذكرت وجود فتاة هناك تدعى ميفيس كانت تعمل في متجر الهدايا عندما كانت فلو تعمل في المقهى. عانت ميفيس من بثور في جفنيها بدت وكأنها ستتحول إلى دمل العين، لكنها لم تفعل واختفت. ربما تكون قد أزالتها. لم تسألها فلو عن ذلك. كانت جميلة للغاية بدون هذه المشكلة وأشبه بإحدى نجمات السينما آنذاك، وهي فرانسيس فارمر.
فرانسيس فارمر. لم تسمع روز عن تلك الممثلة قط.
كان ذلك اسمها. اشترت ميفيس لنفسها قبعة كبيرة أمالتها فوق إحدى عينيها، وفستانا مصنوعا بالكامل من الدانتيل، وذهبت في إحدى إجازات نهاية الأسبوع إلى خليج جورجيان، وحجزت بالمنتجع باسم فلورنس فارمر لتوحي للجميع بأنها فرانسيس فارمر الحقيقية، لكنها ادعت الاسم فلورنس لتستمتع بإجازتها دون أن يتعرف عليها أحد. كان لديها مبسم سجائر صغير أسود اللون ومصنوع من عرق اللؤلؤ. قالت فلو إنه كان من الممكن إلقاء القبض عليها لجرأتها.
اقتربت روز من متجر الهدايا لترى ما إذا كانت ميفيس لا تزال هناك، وإذا كانت ستتمكن من التعرف عليها أم لا. رأت روز ذلك شيئا لطيفا حقا؛ أن تتحول على هذا النحو، وأن تملك الجرأة على الفعل وتفلت من العقاب، وأن تدخل عالم المغامرات المنيع بشخصك، لكن تحت اسم جديد تماما.
المتسولة
أحب باتريك بلاتشفورد روز، وصار ذلك الحب فكرة مترسخة بداخله، بل ومسيطرة عليه أيضا. أما في نظر روز، فمثل ذلك الحب مفاجأة متواصلة لها. أراد باتريك الزواج بها، وكان ينتظرها لحين انتهائها من المحاضرات، ثم يتوجه إليها، ويسير بجوارها ليدرك وجوده أي من كانت تتحدث معه. وعند وجود أولئك الأصدقاء والزملاء حولها، لم يكن يتحدث، وإنما يحاول لفت انتباهها ليعبر بنظرة باردة متشككة عن شعوره إزاء حوارها مع أصدقائها. منح ذلك روز شعورا بالإطراء، لكنه أصابها بالتوتر في الوقت نفسه. ذات مرة، أخطأت صديقة لها تدعى نانسي فولز في نطق اسم «مترنيخ» أمامه، فسأل روز فيما بعد: «كيف تصادقين أشخاصا كهؤلاء؟»
ناپیژندل شوی مخ