أصيب الزوج بالذهول، لكنه أدرك تقليد فلو لسيدتها، فسار معها إلى المنزل، وسأل زوجته عما إذا كانت قد قالت ما نقلته فلو بالفعل. كان رجلا ضخم البنيان، وسيئ المزاج للغاية، فأجابت أخت القسيس بأن ذلك ليس صحيحا، وأن هذه الفتاة ليست سوى كاذبة ومثيرة للمشكلات. واجهته حتى تراجع، وعندما اختلت بفلو ضربتها بعنف لتدفع بها عبر الغرفة نحو إحدى الخزانات؛ فأصيبت بجرح في فروة رأسها شفي بمرور الوقت دون غرز (فلم تستدع أخت القسيس الطبيب لعدم رغبتها في أن يعلم أحد بالأمر)، ولا تزال هناك ندبة بفروة رأس فلو إثر ذلك الحادث.
ولم تعد فلو للمدرسة بعد ذلك قط.
وقبل بلوغها الرابعة عشرة بفترة وجيزة، فرت من المنزل. كذبت بشأن سنها، وحصلت على وظيفة في مصنع القفازات في هانراتي، لكن أخت القسيس تمكنت من معرفة مكانها والوصول إليها، وأخذت تزورها بين الحين والآخر، مرددة على مسامعها بعض عبارات من قبيل: «نحن نسامحك يا فلو. لقد هربت وتركتنا، لكننا لا نزال نعتبرك ابنتنا وصديقتنا. ومرحبا بقدومك في أي وقت لقضاء اليوم معنا. ألا تحبين قضاء يوم في الريف؟ إن مصنع القفازات ليس مكانا صحيا على الإطلاق لشابة مثلك؛ فأنت بحاجة للهواء. لماذا لا تأتين لزيارتنا؟ لماذا لا تأتين اليوم؟»
وفي كل مرة كانت فلو تقبل فيها هذه الدعوة تكتشف أن عملا ما ينبغي إتمامه، مثل حفظ الفاكهة أو صنع الصلصة الحارة، أو تغيير ورق الحائط، أو تنظيف المنزل في فصل الربيع، أو بدء أعمال درس الحنطة. واقتصرت مناظر الريف التي كانت تراها على تلك التي كانت تلمحها أثناء تخلصها من ماء غسل الصحون من فوق السور. لم تستطع قط فهم السبب وراء ذهابها أو بقائها هناك. كان طريق العودة للبلدة طويلا، فقد كانت تعود سيرا على قدميها، وكان أولئك القوم لا حول لهم ولا قوة وحدهم. فكانت أخت القسيس تحتفظ ببرطمانات حفظ الأطعمة متسخة، وعند إحضارها من القبو بعد ذلك، يكون هناك بعض العفن بداخلها، وكتل من الفاكهة النتنة بقعرها. هل يسع المرء سوى الإشفاق على أناس كهؤلاء؟
حين دخلت تلك المرأة المستشفى عند احتضارها، تصادف وجود فلو في المستشفى أيضا لإجراء عملية المرارة، الأمر الذي تمكنت روز من تذكره. علمت أخت القسيس بوجود فلو في المستشفى، وطلبت رؤيتها، فوضعت فلو نفسها على كرسي متحرك، ودفعوها عبر الرواق. وما إن وقعت عيناها على السيدة في سريرها - امرأة طويلة ذات بشرة ناعمة، أصاب جسدها الهزال، وغطت بشرتها البقع، مخدرة ومصابة بالسرطان - بدأ أنفها ينزف نزيفا شديدا، وكان ذلك النزيف الأول والأخير الذي أصيبت به في حياتها. أخذت الدماء الحمراء تتدفق من أنفها بغزارة؛ هكذا وصفت فلو ما حدث.
ركضت الممرضات من كافة الاتجاهات بالرواق لمساعدتها، وبدا كما لو أنه ما من شيء سيوقفه. عندما رفعت السيدة المريضة رأسها، اندفعت الدماء إلى سريرها، وعندما خفضتها، تدفقت الدماء على الأرض؛ لذا انبغى على الممرضات استخدام أكياس الثلج معها في النهاية، ولم تسنح لها الفرصة لتوديع المرأة المحتضرة. «لم أتمكن من توديعها قط.» «هل كنت ترغبين في ذلك؟»
ردت فلو: «نعم، كنت أرغب في ذلك حقا.» •••
اعتادت روز إحضار كومة من الكتب كل يوم إلى المنزل، وتنوعت تلك الكتب بين اللغة اللاتينية، والجبر، وتاريخ العصور القديمة والوسطى، واللغة الفرنسية، والجغرافيا. كان هناك أيضا «تاجر البندقية»، و«قصة مدينتين»، و«قصائد قصيرة»، و«ماكبث». عبرت فلو عن عدائها لتلك الكتب، كحالها مع جميع الكتب ، وبدا أن تلك العدائية كانت تزيد بزيادة وزن الكتاب وحجمه، وقتامة التغليف وكآبته، وطول الكلمات في عنوانه ومدى صعوبتها، فأثار كتاب «قصائد قصيرة» غضبها؛ إذ عندما فتحته وجدت قصيدة تمتد لخمس صفحات.
أخطأت فلو في نطق عناوين الكتب، واعتقدت روز أنها تعمدت فعل ذلك. ومن أمثلة ذلك نطقها لعنوان «الإلياذة والأوديسة»، والذي يوحي للمستمع بأن بطل الملحمة كان سكيرا أو شيئا من هذا القبيل.
كان على والد روز النزول على السلم للذهاب إلى دورة المياه؛ فاتكأ على الدرابزين، وأخذ يتحرك ببطء، لكن دون توقف. وكان يرتدي رداء حمام من الصوف بني اللون ذا عقدة مزينة بالشراشيب. تجنبت روز النظر في وجهه. لم يرجع السبب في ذلك إلى ما طرأ على مظهره من تغيرات تسبب فيها المرض، وإنما لما كانت تخشى رؤيته في وجهه من رأيه السيئ فيها. ولا ريب أن والدها كان هو السبب الذي جلبت من أجله روز الكتب إلى المنزل، فأرادت أن تتباهى أمامه. ألقى والدها نظرة على تلك الكتب بالفعل؛ فما كان بإمكانه المرور بأي كتاب في العالم دون التقاطه والاطلاع على عنوانه، لكنه اكتفى بقوله: «احذري من الذكاء الذي قد يضر بك.»
ناپیژندل شوی مخ