أما جيرار فإنه دخل إلى داغير فوجده جالسا على مقعد فأحسن استقباله، وقال له: لقد حسنت حالي كما ترى فإني برحت الفراش.
قال: ذلك؛ لأن نفسك أشد من جسمك، وقد تغلبت إرادتك على آلامك؛ لأنك تحاول الفرار وتضليل الحكومة.
قال: ما أعجب اتفاقنا في الأفكار! فهذا الذي كنت أحدث نفسي به قبل أن يخطر لك؛ لأني عولت على ألا أبقى ساعة في فرنسا حين تشتد قواي، ليس لأني مشكك بوعدك من كتمان سري، بل لخوفي أن تبدر منك بادرة عن خطأ يزج بي إلى أعماق السجون أو يرفعني إلى المشنقة.
والآن قل لي يا بني: هل باحثت أمك بشأني؟ - إنها اعترفت لي بكل شيء. - هل بقي لديك شك بأني أبوك؟ - كلا، وا أسفاه، ولكن أصغ إلي؛ فإنك خدعت أمي وما أردت زواجها إلا طمعا بثروتها، ثم مكرت بها حين وثقت من ضياع الثروة، فكنت أنا ابن الجريمة، أما أنت فهل ندمت حين علمت أنك صرت أبا، وأنك قضيت على شرف تلك المنكودة عندما وثقت بك؟ ثم إنه كان بوسعك أن تعود إليها وتتزوجها، وتجعلني ولدا شرعيا، فكيف تريد أن أبر بك؟ وكيف تطمع أن أحبك؟ - إني لا أطمع إلى هذا الحد. - وقد كان من الممكن أن أشفق عليك لو كنت تركت في قلب أمي ذرة من الرفق بك، ولكنك لم تخلف في قلبها غير البغض والاحتقار، كلا إني لا أستطيع أن أنظر إليك نظر الابن إلى أبيه، بل إني أشفق على الغريب أكثر من إشفاقي عليك؛ لأنك قاتل مجرم، وإذا كتمت سرك فلا أكتمه لأنك أبي، بل لأن واجبات مهنتي تقضي علي بالكتمان.
وقد أتيتك اليوم أرجو أن تكون هذه آخر مرة أراك فيها لأخبرك بما أريد؛ كي لا أكون أخللت بشيء من واجبي. - إني أرفض مقدما ما ستقوله؛ لأن شروطك لا يمكن أن تكون مقبولة. - ربما، ولكن لا بأس من أن تسمعها، فاسمع؛ إنك مجرم تستحق العقاب، وبوفور بريء، وهو متهم بجريمتك، فاهرب من فرنسا، ولكن بشرط أن تعترف بالجريمة اعترافا خطيا، وإني أعاهدك على أن لا أظهر اعترافك هذا إلا بعد أن تصبح في مأمن خارج فرنسا، فينجو بوفور وتنجو أنت. - هذا محال؛ فإنهم لا يطلقون سراح بوفور. - لماذا؟ - لأن برهان إقرار الجاني وحده لا يكفي لتبرئة المتهم، ولا تنتقض البراهين التي ضده حتى تكون براهين تبرئته قوية متوفرة. - أنا أقدم عندئذ البراهين التي لا تدحض؛ إذ أكون قد أصبحت في حل من يميني، ولا سيما حين ترشدني إلى المال الذي سرقته من قتيلك فأرده إلى ورثته. - لا تعتمد علي بإرجاع المال فهذا محال. - ولكن إرجاعه يدل على ندمك. - أما قلت لك إني أرفض شروطك سلفا، وإنها غير مقبولة، فأية فائدة من البحث في هذا الموضوع؟ - لم يبق في قلبك شيء إنساني حتى لا تخاف وعيدا ولا تتأثر لرجاء؟ إني لا أراك بعد الآن، ولكن ثق أني لا أغفل عنك طرفة عين، وسأكون لك أتبع من ظلك حتى يفتضح أمرك بصدفة الأقدار فاحذر. - أشكرك؛ لأنك نبهتني وسأحذر. - إني أتوسل إليك لآخر مرة. - وأنا أقول لك إنك تضرب في حديد بارد. - إذن لتكن مشيئة الله، فأنت الذي أردت.
وقد نهض يحاول الانصراف، فلما وصل إلى الباب تراجع؛ إذ سمع كلوكلو ينشد النشيد الدال على وجود الرقيب.
ورأى داغير ما كان منه فقال له: ما هذا؟
قال: هذا يدل على أنهم يراقبونني، وأنهم دروا بأني دخلت إلى هنا أو أنهم يشكون، وأنهم ينتظرون خروجي ليكونوا على ثقة. - ألعلك خنتني؟ - كلا، فما أنا من أهل الخيانة، ولكن يظهر أن قاضي التحقيق ذكر كلامي فخامره الشك.
فاصفر وجه داغير، وقال له: لا تخرج وانتظر. - أرأيت مبلغ خوفك ولم يحدث بعد سوى أنهم يراقبونني؟ فماذا يكون منك لو خامرهم الشك فيك وراقبوك؟ تمعن في الأمر واكتب لي كتاب الإقرار الذي طلبته منك والله يغفر لك. - كلا. - إذن لا تلم إلا نفسك عما قد يصيبك. - إنك تتمنى بملء قلبك أن يتحقق هذا الخطر الذي يتوعدني. - لا أنكر عليك أنك تقول الحق. - ومع ذلك فإني لم أسئ إليك. - لأنك لم تجدني في طريقك. - لا تنس أنه يوجد بيننا صلة مقدسة؛ فإنك ولدي. - وأنت لا تنس أني أحتقر نفسي حين أذكر أنك أبي؛ فإني حين أفتكر بك أفتكر بأني ابن التي خدعتها أيها السافل، والذي رأيته وأراه أنه لا فائدة من استمالتك. - هو ذاك. - لا يوجد دليل على سفالتك أعظم من هذا الدليل. - إذن سأدافع عن نفسي، ولكن دفاع القانطين؛ أي كدفاع وحش مفترس يعلم أنه سيموت. - وأنا أحب أن تكون كذلك.
وقد تركه ومشى إلى الحديقة مشي المحترس واختبأ بين أشجارها، فلم يطل وقوفه حتى سمع كلوكلو ينشد نشيد زوال الخطر فخرج من الحديقة إلى الشارع، ولقي كلوكلو فأخبره بكل ما اتفق له مع الرقيب، وسار الطبيب عائدا إلى المنزل بعدما أوصى كلوكلو أن يأتي إليه في الصباح.
ناپیژندل شوی مخ