أبو الطيب المتنبي، وماله وما عليه
هو - وإن كان كوفي المولد - شامي المنشأ. وبها تخرج، ومنها خرج. نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر، في صناعة الشعر، ثم هو شاعر سيف الدولة المنسوب إليه، المشهور به، إذ هو الذي هو الذي جذب بضبعه رفع من قدره، ونفق سعر، وألقى عليه شعاع سعادته، حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر، وسافر كلامه في البدو والحضر، وكادت الليالي تنشده، والأيام تحفظه، كما قال وأحسن ما شاء (من الطويل):
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعرا اصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا ... وغنى به من لا يغني مغردا
وكما قال (من المتقارب):
ولي فيك ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا
وعندي لك الشرد السائرات ... لا يختصصن من الأرض دارا
إذا سرن من مقول مرة ... وثبن الجبال وخضن البحارا
هذا من أحسن ما قيل في وصف الشعر السائر، وأبلغ منه قول علي بن الجهم حيث قال (من الطويل):
ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت من الشعر
1 / 30
فسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب هبوب الريح في البر والبحر
فليس اليوم مجالس الدرس، أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الأنس. ولا أقلام كتاب الرسائل، أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل، ولا لحون المغنين والقوالين، أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين، وقد ألفت الكتب في تفسيره، وحل مشكله وعويصه، وكسرت الدفاتر على ذكر جيده ورديئه. وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفضاح عن أبكار كلامه وعونه وتفرقوا فرقا في مدحه والقدح فبه والنضح عنه، وتفرده عن أهل زمانه، بملك رقاب القوافي،
ورق المعاني، فالكامل من عدت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته وما زالت الأملاك تهجى وتمدح وأنا مورد في هذا الباب ذكر محاسنه ومقابحه، وما يرتضي وما يستهجن من مذاهبه في الشعر وطرائقه. وتفضيل الكلام في نقد شعره، والتنبيه على عيونه وعيوبه، والإشارة إلى غرره وعرره، وترتيب المختار من قلائده وبدائعه، بعد الأخذ بطرف من طرق أخبار ومتصرفات أحواله، وما تكثر فوائده وتحلو ثمرته، ويتميز هذا الباب به سائر أبواب الكتاب كتميزه عن أصحابها بعلو الشأن، في شعر الزمان، والقبول التام، عند أكثر الخاص والعام.
ذكر ابتداء أمره
ذكرت الرواة أنه ولد بالكوفة في كنده سنة ثلاث وثلاثمائة، وأن أباه
1 / 31
سافر إلى بلاد الشام، فلم يزل ينقله من باديتها إلى حضرها، ومن مدرها إلى وبرها، ويسلمه في المكاتب، ويردده في القبائل. ومخايله نواطق الحسنى عنه. وضوامن النجح فيه، حتى توفي أبوه وقد ترعرع أبو الطيب وشعر وبرع. وبلغ من كبر نفسه وبعد همته أن دعا إلى بيعته قوما من رائشي نبله على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده، وحين كاد يتم له أمر دعوته تأدى خبره إلى والى البلدة، ورفع إليه ما هم به من الخروج. فأمر بحبسه وتقيده، وهو القائل في الحبس قصيدته التي أولها (من المتقارب):
أيا خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود
ومنها استعطافه ذلك الأمير والتنصل مما قذف به:
أمالك رقي، ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند انقطاع الرجا ... ء، والموت منى كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلى ... وأوهن رجلي ثقل الحديد
ومنها:
وقد كان مشيهما في النعال ... فقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود
تعجل في وجوب الحدود ... وحدي قبل وجوب السجود!
أي: إنما تجب الحدود على البالغ، وأنا صبي لم تجب على الصلاة بعد، ويجوز أن يكون قد صغر سنه وأمر نفسه عند الوالي، لأن من كان صبيًا لم يظن به اجتماع الناس إليه للشقاق والخلاف
1 / 32
ونم شعره في الحبس ما كتب به إلى صديق له قد كان أنفذ إليه مبرة (من المسرح):
أهون بطول الثواء والتلف ... والسجن والقيد، يا أبا دلف
غير اختيار قبلت برك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف
يشبه قول أبي عيينة (من مخلع البسط):
ما أنت إلا كحلم ميت ... دعا لي إلى أكله اضطرار
(رجع)
كن أيها السجن كيف شئت فقد ... وطنت للموت نفس معترف
لو كان سكناي فيك منقصة ... لم يكن الدرسا كن الصدف
ويحكي أنه تنبأ في صباه، وفتن شرذمة بقوة أدبه، وحسن كلامه. وحكى أبو الفتح عثمان بن جني قال: سمعت أبا الطيب يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي (من الخفيف):
أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله ... وغريب كصالح في ثمود
وفي هذه القصيدة يقول:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
ومازال في برد صباه إلى أن أخلق برد شبابه، وتضاعف عقود عمره، يدور حب
الولاية والرياسة في رأسه، ويظهر ما يضمر من كامن وسواسه، في الخروج على السلطان، والاستظهار بالشجعان، والاستيلاء على بعض الأطراف، ويستكثر من التصريح بذلك في مثل قوله (من البسيط):
لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لأتركن وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم
1 / 33
(والطعن يحرقها والزجر يقلقها ... حتى كأن بها ضربا من اللمم
قد كلمتها العوالي فهي كالحة ... كأنما الصاب مذرور على اللجم)
بكل منصلت مازال منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم
ومن قوله (من الطويل):
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كانهم من طول ما التثموا مرد
ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعوا ... كثير إذا شدوا، قليل إذا عدوا
وطعن كأن الطعن لا طعن بعده ... وضرب كأن النار من حره برد
إذا شئت حفت بي على كل سابح ... رجال كأن الموت في فمها شهد
وقوله (من الطويل):
ولا تحسبن المجد زقًا وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك، وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دويا كأنما ... تداول سمع المرء أنملة العشر
وقوله (من البسيط):
وإن عمرت جعلت الحرب والدة ... والسمهري أخا، والمشرفي أبا
بكل أشعث يلقي الموت مبتسمًا ... حتى كأن له في قتله أربا
قح يكاد صهيل الخيل يقذفه ... من سرجه مرحًا للعز أو طربًا
الموت أعذرلي، والصبر أجمل بي، ... والبر أوسع، والدنيا لمن غلبا
وكان كثيرًا ما يتجشم أسفارًا بعيدة أبعد من آماله، ويمشي في مناكب الأرض، ويطوي الناهل والمراحل، ولا زاد إلا من ضرب الحراب، على
1 / 34
صفحة المحراب. ولا مطية إلا الخف أو النعل، كما قال (من المنسرح):
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها، ومشفرها ... زمامها، والشسوع مقودها
وإنما آلم في هذا المعنى بأبي نواس في قوله (من الطويل):
إليك أبا العباس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحضرمي الملسنا
قلائص لم تعرف حنينًا على طلا ... ولم تدرما قرع الفنيق ولا الهنا
وكما قال في شكوى الدهر ووصف الخف (من الكامل):
أظمتني الدنيا فلما جئتها ... مستسقيا مطرت على مصائبا
وحبيت من خوض الركاب بأسود ... من دارش فغدوت أمشي راكبا
وكما قال في الاعتداد بالرحلة، والقدرة على الرجلة (من المنسرح):
ومهمه جبته على قدمي ... تعجز عنه العرامس الذلل
(بصارمي مرتد، بمخبرتي ... مجتزئ، بالظلام معتمل)
1 / 35
إذا صديق نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
وشتان ما بين حاله هذه والحال التي قال فيها (من البسيط):
وعرفاهم بأني من مكارمه ... أقلب الطرف بين الخيل والخول
وكان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب، ويصطاد ما بين الكركي والعندليب. ويحكى أن على بن منصور الحاجب لم يعطء على قصيدة فيه التي أولها (من الكامل):
بأبي الشموس الجانحات غواربا ... (اللابسات من الحرير جلاببا)
ومنها:
حال متى علم أبن منصور بها ... جاء الزمان إلى منها تائبا
إلا دينارا واحدا، فسميت الدينارية. ولما انخرط في سلك سيف الدولة، ودرت له إخلاف الدنيا على يده. كان قوله فيه (من الطويل):
تركت السري خلفي لمن قل ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
وقيدت نفسي في هواك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
وهذا البيت من قلائده، وإنما ألم فيه بقول أبي تمام (من الكامل):
هممي معلقة عليك رقابها ... مغلولة، إن الوفاء إسار
ولكنه أخذ عباءة وردها ديباجا، وأرسلها مثلا سائرا، وكرر هذا المعنى فزاد فيه حتى كاد يفسده في قوله (من الكامل):
يامن يقتل من أراد بسيفه ... أصبحت من قتلاك بالإحسان
1 / 36
نبذ من أخباره
لما أنشد سيف الدولة قصيدته التي أولها (من البسيط):
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلباه قبل الركب والإبل
وناوله نسختها وخرج فنظر فيها سيف الدولة، فلما انتهى إلى قوله:
يا أيها المحسن المشكور من جهتي ... والشكر من جهة الإحسان، لا قبلي
(ما كان نومي إلا فوق معرفتي ... بأن رأيك لا يؤتي من الزلل)
أقل أنل أقطع عل سل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل
وقع تحت أقل: قد أقلناك، وتحت أنل: يحمل إليه من الدراهم كذا، وتحت أقطع: قد أقطعناك الضيعة الفلانية ضيعة ببلاد حلب، وتحت أحمل: يقاد إليه الفرس الفلاني، وتحت عل: قد فعلنا، وتحت سل: قد فعلنا فاسل، وتحت أعد: أعدناك
إلى حالك من حسن رأينا، وتحت زد: يزاد كذا وتحت تفضل: قد فعلنا، وتحت أدن: قد أدنيناك، وتحت سر: قد سررناك. وتحت صل: قد فعلنا. قال ابن جني: فبلغني عن المتنبي أنه قال: إنما أردت سر من السرية، فأمر له بجارية. قال: وحكى لي بعض إخواننا أن المعقلي - وهو شيخ كان بحضرته ظريف - قال له - وحسد المتنبي على ما أمر به -: يا مولاي قد فعلت به كل شئ سالكه، فهلا قلت له لما قال لك هش بش: هه هه هه، يحكي الضحك، فضحك سيف الدولة، فقال له: ولك أيضًا ما تحب، وأمر له بصلة. وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز في كتاب (الوساطة) أن أبا الطيب نسج على منوال ديك الجن فقال (من الخفيف):
احل وامرر وضر وانفع ولن واخشن ... ورش وابر وانتدب للمعالي
1 / 37
وحكى ابن جني قال: حدثني أبو على الحسين بن أحمد الصنوبري، قال: خرجت من حلب أريد سيف الدولة، فلما برزت من السور إذا أنا بفارس متلثم قد أهوى نحوي برمح طويل، وسدده إلى صدري، فكدت أطرح نفسي عن الدابة فرقا، فلما قرب مني ثنى السنان وحسر لثامه فإذا المتنبي، وأنشدني (من الطويل):
نثرنا رءوسا بالأحيدب منهم ... كما نثرت فوق العروس الدراهم
ثم قال: كيف ترى هذا القول؟ أحسن هو؟ فقلت له: ويحك! قد قتلتني يا رجل، قال ابن جني: فحكيت أنا هذه الحكاية بمدينة السلام لأبي الطيب، فعرفها وضحك لها، وذكر أبا علي من التقريظ والثناء بما يقال في مثله. قال وأنشدت أبا علي ليلا قصيدة أبي الطيب التي أولها (من البسيط):
واحر قلباه ممن قلبه شبم
فلما وصلت إلى قوله فيها:
وشر ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم
أعجب جدًا به، ولم يزل يستعيده، حتى حفظه، ومعناه: إذا تساويت ومن لا قدر له في أخذ عطاياك فأي فضل لي عليه؟ وما كان من الفائدة كذا لم أفرح به، وإنما أفرح بأخذ ما تختص به الأفاضل قال: وحدثني المتنبي قال: حدثني فلان الهاشمي من أهل حران بمصر،
1 / 38
قال أحدثك بطريفة، كتبت إلى امرأتي وهي بحران كتابا تمثلت فيه ببيتك (من البسيط):
بم التعلل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟
فأجابتني عن الكتاب، وقالت: ما أنت والله كما ذكرته في هذا البيت، بل أنت كما قال الشاعر في هذا القصيدة:
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ... ثم استمر مريري وارعوي الوسن
قال: ولما سمع سيف الدولة البيت الذي يتلوه وهو قوله:
وإن بليت بود مثل ودكم ... فإنني بفراق مثله فمن
قال: سار وحق أبي قال: ولما سمع قوله لفنا خسرو (من المنسرح):
وقد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتى رأيت مولاها
قال: ترى هل نحن في الجملة؟
سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كان أبو الطيب المتنبي قاعدًا تحت قول الشاعر (من الطويل):
وإن أحق الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل
وإنما أعرب عن عادته وطريقته في قوله (من الطويل):
بليت بلي الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
فحضرت عنده يوما بحلب وقد أحضر مالا من صلات سيف الدولة، فصب بين يديه على حصير قد افترشه، ووزن وأعيد في كيس، وإذا بقطعة كأصغر ما يكون من ذلك المال قد تخللت خلل الحصير، فأكب عليها بمجامعه ينقرها ويعالج
استنقاذها منه، ويشتغل بذلك عن جلسائه حتى توصل إلى إظهار بعضها، فتمثل ببيت قيس بن الخطيم (من الطويل):
1 / 39
تبدت لنا كالشمس بين غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
ثم استخرجها، وأمر بإعادتها إلى مكانها من الكيس، وقال: إنها تحضر المائدة وسمعته يقول: لما انشد المتنبي عضد الدولة قصيدته فيه التي أولها (من الوافر):
مغاني الشعب طيبًا في المغاني
وانتهى إلى قوله فيها
وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيرا تفر من البنان
قال له عضد الدولة: لأقرنها في يديك، ثم فعل. قال: ولما قدم أبو الطيب من مصر بغداد، وترفع عن مدح المهلبي الوزيرا، ذهابًا بنفسه عن مدح غير الملوك، شق ذلك على المهلبي، فأغرى به شعراء بغداد، حتى نالوا من عرضه، وتباروا في هجائه، وفيهم ابن الحجاج وابن سكرة (محمد بن عبد الله الزاهد) الهاشمي، والحاتمي، وأسمعوه ما يكره، وتماجنوا به، وتنادروا عليه، فلم يجبهم ولم يفكر فيهم، وقيل له في ذلك، فقال: إني فرغت من إجابتهم بقولي لمن هم أرفع طبقة منهم في الشعراء (من الوافر):
أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمل الداء العضالا
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرًا به الماء الزلالا
وقولي (من الطويل):
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ... ضعيف يقاويني قصير يطاول
لساني بنطقي صامت عنه عادل ... وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل
1 / 40
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وما التيه طبي فيهم غير أنني ... بغيض إلى الجاهل المتعاقل
وقولي (من الكامل):
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل
قال: وبلغ أبا الحسين بن لنكك بالبصرة ما جرى على المتنبي من وقيعة شعراء بغداد، واستحقارهم له، وكان حاسدا له، طاعنا عليه، هاجيًا إياه، زاعمًا أن أباه كان سقاء بالكوفة فشمت به وقال (من البسيط):
قولا لآهل زمان لا خلاق لهم ... ضلوا عن الرشد من جهل بهم وعموا
أعطيتم المتنبي فوق منيته ... فزوجوه برغم أمهاتكم
لكن بغداد جاد الغيث ساكنها ... نعالهم في قفا السقاء تزدحم
قال: ومن قوله فيه (من الخفيف):
متنبيكم ابن سقاء كوفان ... يوحي من الكنيف إليه
كان من فيه يسلح الشعر حتى ... سلحت فقحة الزمان عليه
ومن قوله أيضًا فيه (من المجتث):
ما أوقح المتنبي ... فيما حكى وادعاه
أبيح مالا عظيما ... حتى أباح قفاه
يا سائلي عن غناه ... من ذاك كان غناه
إن كان ذاك نبيًا ... فالجاثليق إله
ثم إن أبا الطيب المتنبي اتخذ الليل جملا، وفارق بغداد متوجها إلى حضرة
1 / 41
أبي الفضل بن العميد مراغما للمهلبي الوزير، فورد أرجان، وأحمد مورده، فيحكي أن الصاحب أبا القاسم طمع في زيارة المتنبي إياه بأصبهان، وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان، إذ ذاك شاب وحاله حويلة، ولم يكن استوزر بعد، وكتب إليه يلاطفه في استدعاء، وتضمن له مشاطرته جميع ماله، فلم يقم له المتنبي وزنا، ولم يجبه عن كتابه ولا إلى مراده، وقصد حضرة عضد الدولة
بشيراز، فأسفرت سفرته عن بلوغ الأمنية، وورود مشرع المنية، واتخذه الصاحب غرضا يرشقه بسهام الوقيعة، ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعى عليه سيئاته، وهو أعرف الناس بحسناته، وأحفظهم لها، وأكثرهم استعمالا إياها وتمثلا بها في محاضراته ومكاتباته، وكان مثله معه كما قال الشاعر (من الرجز):
شتمت من يشتمني مغالطًا ... لأصرف العاذل عن لجاجته
فقال: لما وقع البزاز في ... الثوب علمنا انه من حاجته
وكما قال الآخر (من الطويل):
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... ولم أر كالدنيا تذم وتحلب
وكما قال الآخر (من البسيط):
نبئت أني إذا ما غبت تشتمني ... قل ما بدا لك فالمحبوب مسبوب
حل الصاحب وغيره نظم المتنبي
قطعة من حل الصاحب وغيره نظم المتنبي
واستعانتهم بألفاظه ومعانيه في الترسل
فصل له من رسالة في وصف قلعة افتتحها عضد الدولة: وأما قلعة (كذا) فقد الدهر المديد، والأمد البعيد، تعطس بأنف شامخ من المنعة، وتنبو بعطف جامح على الخطبة، وترى أن الأيام
1 / 42
قد صالحتها على الإعفاء من القوارع، وعاهدتها على التسليم من الحوادث، فلما أتاح الله للدنيا ابن بجدتها، وأبا بأسها ونجدتها، جهلوا بون ما بين البحور والأنهار، وظنوا الأقدار تأتيهم على مقدار. فما لبثوا أن رأوا معقلهم الحصين ومثواهم القديم، نهزة الحوادث، وفرصة البوائق. ومجر العوالي، ومجرى السوابق. وإنما ألم بألفاظ بيتين لأبي الطيب أحدهما (من
الكامل):
حتى أتي الدنيا ابن بجدتها ... فشكا إليه السهل والجبل
والآخر (من الطويل):
تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
وفصل له - لئن كان الفتح جليل الخطر، عظيم الأثر، فإن سعادة مولانا لتبشر بشوافع له، يعلم معها أن الله أسرارًا في علاه لا يزال يبديها، ويصل أوائلها بتواليها. وهو من قول أبي الطيب (من الطويل):
ولله سر في علاك، وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
فصل - ولو كان ما أحسنه شظية في قلم كاتب لما غيرت خطه، أو قذى في عين نائم لما انتبه جفنه. وهو من قول أبي الطيب (من الطويل):
ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
وقول نصر (من السريع):
ضنيت حتى صرت لو زج بي ... في ناظر النائم لم ينتبه
ومنه أخذ ابن العميد قوله (من الكامل):
فلو أن أبقيت في جسدي قذى ... في العين لم يمنع من الإعفاء
فصل للصاحب في التعزية - إذا كان الشيخ القدوة في العلم وما يقتضيه،
1 / 43
والأسوة في الدين وما يجب فيه. لزم أن يتأدب في حالات الصبر والشكر بأدبه، ويؤخذ في ثارات الأسى والأسى بمذهبه. فكيف لنا بتعزية عند حادث رزيته، إلا إذا روينا له بعض ما أخذناه عنه، وأعدنا إليه طائفة مما استفدناه منه. وإنما هو حل من قولي أبي الطيب (من الخفيف):
أنت يا فوق أن يعزي عن الأحباب ... فوق الذي يعزيك عقلا
وبألفاظك اهتدى فإذا عزاك ... قال الذي له قلت قبلا
وفصل له - وقد أثني عليه ثناء لسان الزهر، على راحة المطر وهو من قول أبي الطيب (من الكامل):
وذكى رائحة الرياض كلامها ... تبغي الثناء على الحيا فيفوح
والأصل فيه قول ابن الرومي (من الخفيف):
شكرت نعمة الولي على الوسمي ... ثم العهاد بعد العهاد
فهي تثني على السماء ثناء ... طيب النشر شائعا في البلاد
من نسيم كأن مسراه في الأرواح ... مسرى الأرواح في الأجساد
ومما أورده من أبيات أبي الطيب كما هي قوله في كتاب أجاب به ابن العميد عن كتابه الصادر إليه عن شاطئ البحر في وصف مراكبه وعجائبه:
1 / 44
وقد علمت أن سيدنا كتب وما أخطر بفكرة، سعة صدره، ولو فعل ذلك لرأى البحر وشلالا يفضل عن التبرض، وثمدًا لا يكثر عن الترشف (من الطويل):
وكم من جبال جبت تشهد أنني الجبال ... وبحر شاهد أنني البحر
وله من رسالة في التهنئة ببنت أولها - أهلا بعقيلة النساء، وكريمة الآباء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، ثم يقول فيها (من الوافر):
ولو كان النساء كمثل هذي ... لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
وهما لأبي الطيب من قصيدة في مرثية والدة سيف الدولة إلا يقول:
ولو كان النساء كمن فقدنا
وللصاحب من كتاب تعزية - وقلنا: قد أخذ الزمان من أخذ، وترك من ترك، فهو لاشك يعفو عن القمر، وقد أسلم الشمس للطفل ولا يصل الصروف بالصروف، ولا يجمع الكسوف إلى الخسوف، فأبي حكم الملوين، وقد غبنك إذ قاسمك الأخوين، إلا أن يعود فيلحق الباقي بالفاني، والغابر
1 / 45
بالماضي (من البسيط):
وعاد في طلب المتروك تاركه ... إنا لنفعل والأيام في الطلب
ما كان أقصر وقتًا كان بينهما ... كأنه الوقت بين الورد والقرب
أقول: هذا كعادة المصدور في النفث، وشكوى الحزن والبث، وإلا فما يعجب السفر من تقدم بعض، وكل بين الراحلة والرحل، لا يترك الموت ساعيا على وجه الأرض، حتى ينقله إلى بطن الترب من (من السريع):
نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لابد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من تربه
وهذا غيض من فيض ما اغترفه الصاحب من بحر المتنبي، وتمثل به من شعره. ولو ذكرت نظائره لامتد نفس هذا الباب. وليس هو بأوحد في الاقتباس من كلامه، هذا أبو إسحاق الصابي رسيله في ذلك وزميله، وقد قرأت له غير فصل فيما أشرت إليه، ونبهت عليه: فمنه ما كتب في تقريظ - شاب مقتبل الشبيبة، مكتهل الفضيلة، ولقد آتاه الله في اقتبال العمر جوامع الفضل وسوغه في عنفوان الشباب محامد الاستكمال، فلا تجد الكهولة خلة تتلافاها بتطاول المدة، وثلمة تسدها بمزايا الحنكة. وإنما هو حل نظم أبي الطيب، وإن كان في معنى آخر (من المنسرح):
لا تجد الخمر في مكارمه ... إذا انتشى خلة تلافاها
وأخذ من قول البحتري (من الطويل):
تكرمت من قبل الكؤوس عليهم ... فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرما
ومنه ما كتب إلى ابن معروف تهنئة بقضاء - منزلة قاضي القضاة
1 / 46
تجل عن التهنئة، لأن ما تكتسبه الولاة بها من الصيت والذكر، ويدرعونه فيها من الجمال والفخر، سابق لها عنده، وحاصل قبلها له، وإذا مد أحدهم إليها يدا تجذبها إلى سفال، جذبتها يده إلى المحل العالي، فكأن أبا الطيب المتنبي عناه أو حكاه بقوله
(من الكامل):
فوق السماء وفوق ما طلبوا ... فإذا أرادوا غاية نزلوا
ومنه ما كتب - وعاد مولانا إلى مستقر عزه عود الحلي إلى العاطل، والغيث إلى الروض الماحل. وإنما هو من قول أبي الطيب (من المتقارب):
وعدت إلى حلب ظافرا ... كعود الحلي إلى العاطل
وإذا كان هذان الصدران المقدمان على بلغاء الزمان يقتبسان من أبي الطيب في رسائلهما، فما الظن بغيرهما؟ وما أحسن قول الشاعر (من الطويل):
ألا إن حل الشعر زينة كاتب ... ولكن منهم من يحل فيعقد
وممن يحذو حذوهما الأستاذ أبو العباس أحمد إبراهيم الضبي، وما أظرف ما قرأت له في كتابه إلى أبي سعيد الشبيبي: وقد أتاني كتاب شيخ الدولتين فكان في الحسن، روضة حزن بل جنة عدن. وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب. وهو من بيت أبي الطيب (من البسيط):
كأن كل سؤال في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب
وفصل لأبي بكر الخوارزمي - وكيف أمدح الأمير بخلق ضن به الهواء،
1 / 47
وامتلأت من ذكره الأرض والسماء، وأبصره الأعمى بلا عين، وسمه الأصم بلا أذن. وهو حل نظم أبي الطيب (من المنسرح):
تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسن ما لهن أفواه
إذا مررنا على الأصم بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه
ولأبي بكر من رسالة - ولقد تساوت الألسن حتى الأبكم، وأفسد الشعر حتى أحمد الصمم. وهو قول أبي الطيب (من البسيط):
ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
وهذا ميدان عريض، وشوط بطين، وفيما ذكرته كفاية.
ولاستراقات الشعراء من أبي الطيب باب هذا مكانه.
أنموذج لسرقات الشعراء منه
١ - قال المتنبي (من الوافر):
وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السقم المحاقا
أخذ أبو الفرج الببغاء فلطفه وقال (من الكامل):
أوليس من إحدى العجائب أنني ... فارقته وحييت بعد فراقه
يا من يحاكي البدر عند تمامه ... ارحم فتى يحكيه عند محاقه
٢ - وقال أبو الطيب (من البسيط):
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمي، وألف في ذا القلب أحزانا
أخذ المهلبي الوزير وقال (من الطويل):
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على عبرة تجري
1 / 48
٣ - وقال أبو الطيب وهو من قلائده (من الطويل):
وكنت إذا يممت أرضًا بعيدة ... سريت فكنت السر والليل كاتمه
أخذ الصاحب وقال (من الطويل):
تجشمتها والليل وحف جناحه ... كأني سر والظلام ضمير
٤ - وقال أبو الطيب، وهو أيضًا من قلائده (من الوافر):
لبس الوشي لا متجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا
أغار عليه الصاحب لفظًا ومعنى فقال (من الطويل):
لبسن برود الوشي لا لتجمل ... ولكن لصون الحسن بين برود
وإنما فعل ببيتيه ما فعل أبو الطيب ببيت العباس بن الأحنف (من الكامل):
والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحير ما لديه قائد
فقال (من المنسرح):
ما بال هذي النجوم حائرة ... كأنها العمي ما لها قائد
وهذه مصالتة لا سرقة وهي مذمومة جدا عند النقدة.
٥ - وقال أبو الطيب، وهو من فرائده (من الطويل):
سقاك وحيانا بك الله، إنما ... على العيس نور والخدور كمائمه
أخذه السري بن أحمد، قال ابن جني: أنشدني لنفسه من قصيدة يمدح بها أبا الفوارس سلامة بن فهد، وهي قوله (من المنسرح):
حيا به الله عاشيقه فقد ... أصبح ريحانة لمن عشقا
ولم أجد أنا هذه القصيدة في ديوان شعره، والبيت نهاية في العذوبة وخفة الروح،
٦ - والسري كثير الأخذ من أبي الطيب في مثل قوله (من الوافر):
1 / 49