ولا يمنعها كل علمها من خفض جناح الذل لمن فضلهم الله عليها، ولتحترس من تقليد الرجال في خشونة الألفاظ أو تكون عديمة الحياء أو قليلته، ظنا أنها تبلغ بذلك كمالات الرجال، غير عالمة أن الشيء إنما يحسن في محله، وأن الغراب إذا حسد البلبل على حسن صوته وتغنى ليضاهيه كره الناس سماعه ورجموه بالحجارة؛ لينأى عنهم، وأن الفتاة لا يتم كمالها إلا بالتحلي بصفات النساء الممدوحة، مثل الحياء وغض الطرف، وحسن الألفاظ، ولين الجانب.
هذا، ولا يحسن أن تقتصر الفتاة على ما يؤهلها لإدارة المنزل فقط، بل يلزم أن يكون لها إلمام تام ببعض الفنون التي يسهل على السيدات القيام بها، ومشاركة الرجال فيها، مثل علم الطب والتعليم والخياطة، فربما احتاجت في المستقبل إلى اكتساب ما تقتات به.
والدهر ذو دول بالناس ينتقل
فالعلم جمال ما دامت غنية عنه وحفظ من الفاقة إن احتاجت إليه، هذا فضلا عن أن اشتغال الفتاة بهذه الفنون يفيد غيرها من السيدات فائدة أدبية عظيمة، وخير الناس أكثرهم نفعا. (14) الفتاة والدجاج
يحكى أن رجلا أرسل ابنته إلى المدرسة، ولم تكد تعرف مبادئ القراءة والكتابة، حتى أخرجها منها، واكتفى بما تعلمت، ظنا أنها بلغت من العلوم درجة يمكنها معها إعمال الفكر فيما ينفعها.
أما الفتاة، فلما رأت أنها تعرف ما لا تعرفه والدتها الجاهلة من قراءة وكتابة الرسائل أعجبت بنفسها، وظنت أنها بلغت من العلوم شأوا بعيدا لا تتنازل معه إلى النظر في تدبير المنزل، وظلت في معزل عن ذلك، تأنف أن ينسب إليها معرفة شيء منه، كأن العلم بذلك عار ونقيصة، ولبثت على ذلك سنين حتى توفيت والدتها، وصارت هي رئيسة المنزل، فاستعملت الغلظة وسوء الخلق مع خدمها حتى اضطرتهن إلى ترك منزلها، وطلب الرزق من غيره.
واتفق أن زار والدها بعض أصدقائه، ولم يكن في المنزل إلا الفتاة وخادمة لها صغيرة، لا تحسن صنع شيء من الأطعمة، فضاق الرجل ذرعا بذلك وقال لابنته: لو أمكنك أن تصنعي لنا ولو طعاما بسيطا لا يحتاج إلى التأنق لكفانا ذلك شر الاحتياج إلى المآكل المصنوعة في السوق، مع عدم ثقتنا بنظافة صانعيها، وانتخابهم أحسن الأشياء لصنعها، وقد أحضرت لك بعض دجاجات، فما عليك إلا أن تنظفيها جيدا وتصنعي لنا بمرقها ثريدا. قالت الفتاة: لا بأس بذلك، وسأريك نشاطي في العمل كما رأيته في العلم، فسر الرجل بذلك وقامت الفتاة لصنع الطعام.
حتى إذا كان وقت الغداء، ووضعت المائدة، قال الرجل لضيوفه: لا يخفى عليكم أن ابنتي صرفت كل زمنها في العلم، ولم تلتفت إلى تدبير المنزل؛ لعدم اكتراثها به، وقد تركت الخادمات منزلنا حديثا، وأملي أن أحضر غيرهن. لذلك اضطررنا أن نصنع لكم ثريدا، وهو طعام سهل الهضم مغذ، مع ثقتنا بنظافته لما أعهده في ابنتي من النشاط والتيقظ. قال الضيوف: نعم الطعام صنعتم، ولم يستتموا حديثهم حتى أحضر الخادم الطعام، فابتدروا يأكلون، ومد صاحب المنزل يده إلى دجاجة وقطعها ليقدمها لضيوفه، وما كاد يفعل ذلك حتى فاحت رائحة كريهة، وتبين للحاضرين أن الفتاة لم تخرج أمعاء الدجاج قبل طبخه، فاشمأزت نفوسهم، وندموا على تناول بعض لقيمات من الثريد.
قال أحدهم، وكان فطنا لبيبا: قد زعمت يا صاحبي أن فتاتك قد صرفت كل وقتها في العلوم، وأراها جاهلة حتى بالأشياء البديهية، ولو أعملت الفكرة لعلمت أنه لا بد للدجاجة من أمعاء تحتوي على فضلات غذائها، وإلا فأين يذهب غذاء الدجاجة، فغلطة فتاتك غلطة جاهلة، لا تدري شيئا، حتى ولا في تكوين جسمها، وهو أقرب إليها من مضيق جبل طارق وغيره، ولو تعلمت العلم الصحيح، واستضاء عقلها بالمعارف لأفلحت في كل ما قامت به من الأعمال، ولعرفت أنفع الأشياء إليها، فاهتمت به، فالعلم نور يهدي صاحبه إلى معرفة الحقائق، وهو جمال أينما كان، فلا تنسب إليه ما وقعت فيه ابنتك من خيبة الجهل، وأتم تعليمها، فربما ترى منها ما يسرك، فإن ما تعلمته مبادئ أولية لا يراد منها إلا وصول الإنسان إلى غاية محمودة، أما أنت فقد جعلت ذلك نهايتها فأخرجتها من العلم والعمل، فلا هي تعلمت فاستفادت كيف تستنتج من الأمر الواحد أمورا، ولا هي بقيت في المنزل فتعلمت ما عرفته والدتها بالتجربة والتلقين من أسلافها.
فخجل الرجل، وانصرف الضيوف يلعنون الجهل وعاقبته. (15) جمال الفتاة أدبها
ناپیژندل شوی مخ