وهل حاول الراوي أن يتودد إلى جمهور الناس أو أن يتملقهم أو يداريهم؟ فهنالك عقائد دينية وعادات اجتماعية وأمور أخرى، قلما يجرؤ على مخالفتها أو إهمالها فرد من الأفراد، وهذه مراسلاتنا الشخصية، فإنها قد تتضمن الشيء الكثير من عبارات التودد والإخلاص والمحبة لمجرد المجاملة والانقياد للعرف، وقد لا نجد، حتى بين أفراد العامة، من ينكر علينا هذا الأمر، ولكننا ننسى أو نتناسى هذه الحقيقة الناصعة، عندما نرجع إلى بعض الأصول لتأييد رأي من الآراء. فنقول مثلا بتواضع المقامات الإكليريكية العالية، في العصور الوسطى؛ لأنهم لدى انتخابهم لتبوء عرش من العروش الكنيسية، امتنعوا عن القبول بداعي العجز والتقصير وعدم الاستحقاق. نقول هذا القول وننسى في الوقت نفسه، أن العادة والعرف في العصور الوسطى قضيا بمثل هذا التواضع، وإذا فلا بد من التردد والتبصر، مرة أخرى قبل الاعتماد على رواية الراوي في مثل هذه الظروف. فقد يكون مخلصا فيما يقول ويفعل وقد لا يكون، وعلى كل فإنه يحسن بالمؤرخ المدقق أن يتعرف إلى الراوي؛ ليتأكد من الجمهور الذي يخاطب، ويجدر به أن ينعم النظر في أحوال الجمهور المخاطب، ليقف على عرفهم وعوائدهم. (6)
ومما يترقبه المؤرخ المدقق ولا يغفله، طرفة عين، الأسلوب الأدبي في الرواية؛ وذلك لأن الأدب فن، وكفن لا يتطلب صاحبه فيه الحقيقة كما هي، بل كما يريدها أن تكون؛ ولذا فإن الأديب يتعمد مداعبة الألفاظ والتراكيب للتأثير في النفس، وقد يتطلب ذوقه الفني ما لا يتفق مع الحقيقة. فمن زيادة بسيطة هنا إلى تقديم أو تأخير هناك، وما إلى ذلك من أساليب الفن مما يزعج المؤرخ العالم ويدفعه للتيقظ. فيتعقب خطوات الراوي الأديب ويراقب حركاته وسكناته. ثم يسعى ما أمكنه للتعرف إلى أدب العصر الذي عاش فيه الراوي، فيطلع على بدائعه وروائعه لعله يقف على المثل العليا التي أثرت في أسلوب الراوي. فيسهل عليه عندئذ أن يتفهم الرواية ويقدرها حق قدرها.
ولا نرى بدا في هذه المناسبة من مصارحة المؤرخ المستجد بأن شكنا في عدل الراوي، يتناسب أحيانا كثيرة مع تفوقه في الإبداع الفني الأدبي. فكلما ازداد الراوي إبداعا في أسلوبه الأدبي ازددنا شكا في عدله، وقل اطمئناننا إليه، وما يصح عن النثر في هذا الباب أحيانا ينطبق كل الانطباق على الشعر في غالب الأحيان.
وهنالك سلسلة ثانية من الأسئلة العلمية يتذرع بها المؤرخ للتوصل إلى فهم الراوي وإدراك مقدار ضبطه، وهي كالسلسلة الأولى مما أجمع عليه المؤرخون المعاصرون، وأبدع في عرضه والتعبير عنه المؤرخ الإفرنسي الشهير الأستاذ شارل لانجلوا، وإليك أهمها: (1)
هل كان الراوي يتمتع بحواس سليمة وعقل صحيح؟ أم كان عرضة للخطأ من هذا القبيل كما أبنا ذلك في القسم الأول من هذا الباب؟ فقد يشاهد الراوي ما يروي وينوي الصدق والإخلاص، ولكن حواسه تخطئ في نقل الخبر إليه، أو عقله يتوهم غير الواقع، أو ذاكرته تخونه من حيث لا يدري.
ومما له علاقة بالموضوع نفسه أهواء الراوي وأغراضه، فإنها قد تؤثر عليه من حيث لا يقصد، فيظن أنه يروي الحقيقة ويكون بعيدا عنها، فيتذرع المؤرخ عندئذ ببعض الأسئلة التي أوردناها لإظهار العدالة، ويتمكن بها أحيانا كثيرة من اكتشاف أهواء الراوي وأغراضه.
بيد أنه لا بد من الإشارة بهذه المناسبة إلى طريقة السؤال والجواب في نقل بعض المعلومات التاريخية. فقد يستدعي شكل السؤال شكلا خصوصيا للجواب مما يؤدي أحيانا إلى الضلال والتضليل، ولا سيما وإن السائل في بعض الأحيان يجهل ما يسأل عنه، فيبتعد كل البعد عن الحقيقة التي ينشد. (2)
هل تمتع الراوي بجميع شروط المشاهدة العلمية؟ وهي ما يلي: أولا: أن يكون الراوي في مكان يتمكن فيه من مشاهدة الحوادث مشاهدة صحيحة، وثانيا: أن يكون الراوي في أثناء المشاهدات بعيدا عن الغرض، وثالثا: أن يدون ما شاهده في أثناء وقوع الحوادث المروية، ورابعا: أن يوضح بجلاء تام طريقته في المشاهدة والتدوين. فقد يشاهد الراوي ما يروي، ولكنه يكون في مكان أو ظرف لم يتمكن فيه من التدقيق في النظر والسمع، وقد يشاهد ما يروي وينقصه الاستعداد الفني لفهمه، وقد يشاهد أيضا، ولكنه يتأخر في التدوين فتخونه الذاكرة، وتؤثر عليه ظروف مستجدة، فلا ينقل إلينا الخبر اليقين، وإذا «فالذكريات» التي لا تدون عادة إلا بعد مرور الزمن، هي في عرفنا من أضعف الروايات. (3)
وهناك حقائق كان بإمكان الراوي أن يشاهدها ويفهمها لو كلف نفسه مئونة البحث عنها. فقد يروي لنا تفاصيل لم يشاهدها، ولكنه تكاسلا أو إهمالا منه تخيلها أو استنتجها دون أن يتحققها بنفسه، ومثال ذلك يروي أحيانا عن تفاصيل حفلة دعي إليها الراوي، ولكنه لسبب ما لم يحضرها. فاكتفى بوقائع الحفلة وتخيل أو استنتج الباقي. (4)
وهل روى الراوي ما لا تكتمل معرفته بمجرد المشاهدة الشخصية؟ فقد تتعلق روايته بحقيقة عامة تشمل عددا كبيرا من النفوس، أو بلادا واسعة من البلدان، مما لا يتيسر لفرد واحد من الناس أن يدقق فيها، وينقل إلينا الخبر اليقين عنها. فمن كلام إجمالي عن عادات قوم من الأقوام، إلى تعميم عن تطور عقيدة أو رأي في عصر من العصور، وما إلى ذلك من الإجمال في الكلام والتعميم في المعنى، مما يستلفت النظر ويوجب التبصر. فيترتب على المؤرخ في هذه الأحوال أن يذكر أن مثل هذا التعميم، إنما هو استنتاج في أساسه لا مشاهدة، فينظر عندئذ في عدد الحقائق المفردة التي بنى الراوي استنتاجه عليه، ويلتفت بصورة خاصة إلى مقدرة الراوي في الاستنتاج، ولا بد من درس الراوي في جميع مؤلفاته للتعرف إلى عاداته في التفكير والاستنتاج، وإذا ما ذكرنا بهذه المناسبة أن العقل البشري يتأثر بالعادة في التفكير، أدركنا إمكانية التوصل إلى نقد الراوي من هذه الناحية، وتقدير تدقيقه في التفكير والاستنتاج.
ناپیژندل شوی مخ